الفصل التاسع والعشرون: اختيار الله الحرّ

الفصل التاسع والعشرون
اختيار الله الحرّ
9: 6- 13

بعد هذا الغنى الذي نعِمَ به بنو اسرائيل، يتوقّف الرسول عند ثلاث محطات. الأولى، نداء الله. هي تشدّد على طابع اختيار الله وما فيه من حرّية، وتعلن أن الله ظلَّ أميناً وما خان شعبه. وتعلن أن الذين ما اختارهم الله، ما زالوا داخل قصد الله، بحيث لا يستطيعون أن يقولوا إن الله جائر. ومهما تكن ردّة الفعل، فالجميعُ هم مدعوّون، من يهود وأمم، كما تقول النبوءة. المحطة الثانية، كلمة الإيمان. هي تشدّد على أن بني اسرائيل لم يفهموا برّ الله، بل تجاهلوا هذا البرّ، وهذا ما أعلنه موسى. توقّفوا عند البرّ الآتي من الشريعة، وما بلغوا إلى البرّ الذي ينبع من الإيمان. لهذا فشل بنو اسرائيل وما جاءوا إلى الانجيل. والمحطة الثالثة، سرّ أمانة الله. ما زالت نعمةُ الله حاضرة وأمانتُه فاعلة. ومع أن بني اسرائيل لا يُعذَرون، إلاّ أن بقيّة بقيت منهم، وهذا ما يجعل عودة الجميع ممكنة. من أجل هذا، ينتهي كلام بولس هنا بنشيد لغنى الله وحكمته وعلمه. ونحن نتوقّف هنا في المرحلة الأولى (9: 6- 29) عند طابع اختيار الله الحرّ (9: 6- 13).

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 6 نجد «هوتي» (لأن). حاولت البردية 46 والسريانيّة البسيطة أن تزيلا الغموض، فألغتا «هوتي».
في البازي و010، و011، كانت محاولة لإزالة اللبس في النصّ. قرأوا اسرائيل بدل «بني اسرائيل».
في آ 11 نقرأ «شراً». في اليونانيّة: فاولون. حاولت البردية 46 والكودكس البازي و010، و011، وغيرهم أن يحلّوا محلّها كلمة معروفة «كاكون».
في نسخات حديثة (نستله، جمعية الكتاب) تبدأ آ12 مع «قيل لها» (قيل لرفقة، قال الله لرفقة)، لا مع «على دعوته لا على الأعمال».
في آ 13، كما، على ما (كاتوس). جعل الفاتيكاني مكانها: كاتابر (المعنى نفسه).
ب- بنية النصّ
هنا ندرس 9: 6- 29 والمقطع الذي نتوقّف عنده جزء من متتالية عنوانها: نداء الله أو دعوة الله إلى شعب اسرائيل كما إلى جميع الشعوب.
كرّر بولس وعلّم في هذه الرسالة، بشكل ضمنيّ وشكل صريح، أن الانجيل الذي يُعلنه للأمم، هو ملء عهد الله كما وُعد لاسرائيل. ولكنه لم يوضح بعدُ فشل اسرائيل ليتجاوب مع الانجيل. الطريق التي أخذها بولس ليعبّر عن هذا الفشل في ف 9- 11، توازي (لا بطريق الصدفة) طريقة بولس لكشف هويّة محاوره اليهوديّ خطوة بعد خطوة في قلب ف 2. هنا اختار بولس أن يمضي مباشرة إلى المسألة اللاهوتيّة التي تطرح فشل اسرائيل: اتهامه اليهودي في ف 2: أمانة الله لوعوده التي أعطاها لاسرائيل (آ 6؛ 3: 3). وجاء التعبير الأقوى لثقة الإيمان في 8: 28- 39. وطُرح السؤال الملحّ: لماذا لا تتساوى الأمانة مع كلمة الوعد لاسرائيل؟ فالمسألة ليست في لاأمانة اسرائيل، بل في صدقيّة الله.
إن قلب جواب بولس الأول هو أن لدعوة الله وجهة إيجابيّة ووجهة سلبيّة. في الوجهة الايجابيّة، أوجز الرسول برهانَه السابق في ف 2- 4: دعوة الله تتمّ في لغة الوعد، لا في لغة تحدّدٍ طبيعي (الوطنيّة أو الاثنيّة أو العرقيّة) (آ 7- 9). ويحدّدها قصدُ الله في رحمته، لا أعمالٌ تدلّ على الانسان الذي هو عضو العهدِ وبالتالي يهودي (آ 10- 18). في الوجهة السلبيّة، بعضُ اختيار الله هو أنه رذل الآخرين. هنا ينتقل بولس من جدال عرفناه في البرهان السابق (الزرع، الأعمال) إلى مسألة الأرض. استعاد لغةَ الجدال في آ 19 ي (يتوجّه الآن إلى اعتداد الخليقة بأن تسأل عن قصد الله) فأعطاه وظيفتين كما في 3: 1 ي: أطلقه بانتظار أن يكشف الحلّ في 11: 25- 32. ثم واجه المخرج القاسي الذي طرحه حين عاد إلى الأقوال الأساسيّة حول الله (في 3: 1- 8 كالديّان، هنا كإله الرحمة). واللافت في برهانه كلّه، توسيع المنظار ليجعل فكرة الاختيار في فكرة الخلق وليهيّئ (آ 18- 23؛ 11: 25- 32) الطريقة للذروة الأخيرة. وقوّةُ هذه المواجهة الأولى بين رحمة الله وغضب الله خُفّفت حالاً، حين ذكّر بولس قرّاءه أن آنية الرحمة تضمّ الأمم واليهود، وإن تطلّعت الكتبُ الواردة إلى بقيّة اسرائيل التي خلصت (آ 24- 29).
أما هذا المقطع فجاء في شكل تصالب
أ- آ 6- 9: كلمة، اسرائيل، تُدعى، زرع، أولاد (الله)
ب- آ 10- 13: دعا، أحبّ
ج- آ 14- 18: رحم، أراد
ج ج- آ 19- 23: أراد، الرحمة
ب ب- آ 24- 25: دعا، أحبّ
أ أ- آ 26- 29: تدعى، أبناء (الله)، اسرائيل، الكلمة، الزرع.
إن الاعلان الأول بأن كلمة الله ما فشلت، يتوقّف في سلسلة من ايرادات العهد القديم في جسم المقطع (آ 7، 9، 12، 13، 15، 17، 20) مع مقاطع خاتمة (آ 25- 29). كل هذا يدخل في إطار المدراش الذي هو درس وتأمّل في النصوص الكتابية من أجل هدف معيّن.
وإذ عدنا بشكل خاص إلى آ 6- 13، فالسمات الأسلوبيّة البارزة هي انقطاع آ 10- 13 حيث بقيت آ 10 غير كاملة. وجاءت آ 11- 12 أ بشكل معترضة. وجاءت آ 12 ب كشميلة تكمّل الاثنين. وكما هو الأمر مراراً عند بولس، خاتمةُ المقطع (آ 13) تلعب دور مقدِّمة للمقطع التالي (رج آ 20- 21).

2- تحليل النصّ الكتابي (9: 6- 13)
أترى فشل الله وخابت كلمته، لأن اليهود لم يؤمنوا بالانجيل؟ الجواب كلا (آ 6- 8). فاسرائيل الحقيقيّ ليس أبناء الجسد، بل أبناء الوعد. وهؤلاء تجاوبوا مع نداء الانجيل (آ 9- 13) في خط اسحق، لا في خط اسمعيل. في خط يعقوب، لا في خطّ عيسو.
أ- ما خابت كلمة الله (آ 6- 8)
«لا أبداً» (آ 6). «إكببتو». سقط (الزهر، أي 14: 2؛ 15: 30، 33؛ إش 28 : 1، 4؛ 40: 7؛ يع1 : 11؛ 1 بط 1: 24). سقطت القيود (أع 12: 7). فشلت السفينة (أع 27: 17، 26، 29). رج سي 34: 7؛ 1 كور 13: 8. «كلمة الله» هي الانجيل. رج لو 5: 1؛ 8: 11، 21؛ 1 كور 14: 36؛ 2 كور 2: 17؛ 4: 2؛ فل 1: 14؛ كو 1: 25؛ 1 تس 21: 3. وهنا هي كلمة الله لا في المبدأ (عد 28: 19؛ مز 119: 89؛ اش 31: 2؛ 55: 10- 11) بل كلمة الله الخاصة، أي وعده لاسرائيل. هي كلمة الاختيار. ما يوازي هذه العبارة مع فعل «ببتو» (سقط)، نقرأه في يش 21: 45؛ 23: 14؛ طو 14: 4؛ يه 6: 9: إن كلمة الله (= الوعد لاسرائيل) تمَّت في كلمة الله (انجيل المسيح). لهذا سوف ترد النصوصُ الكتابيّة الكثيرة.
«فما كل بني اسرائيل». أو: كل الذين من اسرائيل ليسوا اسرائيل (آ 4). كان اتجاه طبيعيّ يرى في التحدّر من الآباء كفالة الخلاص (مت 3: 9= لو 3: 8. المشناة، سنهدرين 10: 1). ولكن طُرحت مسألةُ اليهود اللاأمناء تجاه الأبرار والأتقياء ومختاري اسرائيل ومختاري البرّ (1 أخن 1؛ حك 2- 5؛ مز سل 3 3؛ وثص 2: 16- 4: 12؛ 5: 15- 6؛ 11؛ مد 2: 6- 37؛ 4: 5- 27).اسرائيل الثاني لا يعني المؤمنين الذين يعارضون اسرائيل الوطني، ولا الكنيسة. لا يرى بولس دوماً، أمام الرب فقط، القسمَ المختار في اسرائيل. بل يحاول أن يكتشف كيف يعمل اختيارُ اسرائيل. اسرائيل الله هو شعب عهد الله: ما فهمه بنو اسرائيل (لا كلّهم)، ودخل فيه الأمم.
«ولا كل الذين» (آ 7). يُذكر هنا اسحق، لا اسمعيل (تك 16: 15؛ 17: 15- 21؛ 21: 10، 12)، ولا سائر الأبناء الذين ارتبطوا بابراهيم في حياته (تك 25: 2). لا لأنهم ليسوا زرع ابراهيم وهم كلهم أولاده. إن وارثي ابراهيم الحقيقيّين لا يُعرَفون على المستوى الوطني أو القانوني (الشريعة). أراد بولس هنا أن يصوّر موضوع الوعد وشكله. «بل باسحق». رج تك 12: 21 حسب السبعينيّة. ق عب 11: 18. جاء الفعل في المضارع. هذا ما سوف يتم. وفي المجهول، ليس ابراهيم هو الذي يدعو، بل الله.
«فما أبناء الجسد» (آ 8). حرفيا: أي، يعني. سيأتي الشرحُ والتوضيح (مت 27: 46؛ مر 7: 2؛ أع 1: 19). نبدأ جملة جديدة. أبناء الجسد ليسوا أبناء الله. هذا ما كان عليه اسمعيل. أبناء اللحم والدم. أما اسحق فكان إبن الموعد (ابانغاليا). رج 4: 13، 14، 16، 20؛ 9: 4، 8، 9. يُقال (لوغيزستاي). رج 4: 3- 6، 8- 11، 22- 24؛ 9: 8: تعارض الجسد والوعد. ذاك هو طابع تاريخ الخلاص. من جهة، الجسد والشريعة. ومن جهة ثانية، الوعد والروح (2: 28- 29؛ 4: 13- 18؛ غل 4: 22- 31).
ب- كلمة الوعد (آ 9- 13)
«الوعد» (آ 9). جُعل في البداية بارزاً. لوغوس (كلمة). رج آ 6. «سأعود». هي آية تضمّ تك 18: 10 مع تك 18: 14: في مثل هذا الوقت من السنة المقبلة أعود إليك ويكون لسارة ابن. الوقت محدّد في سفر التكوين. أما في روم، فيقال: في الوقت المناسب. الله هو الذي يختاره. فتتمةُ الوعد ترتبط بفعل إلهي أو بظهور مقبل. هنا، كما في غل 14: 28، فُهمت ولادةُ اسحق وظروفها في شكل نمطي، تيبولوجيّ.
«ليس فقط بل» (آ 10). ما هذا كل شيء. فالفكرةُ تتواصل. رج 5: 3. تُذكر رفقة، زوجة اسحق. رج تك 25: 21. «كُويتي» تعني السرير (لو 1: 7)، الفراش الزوجي (عب 13: 4)، المجامعة الزوجيّة (حك 3: 13، 16؛ 13: 13). هو الفعل الزواجي. ونشير إلى أن عيسو ويعقوب كانا في الحشا معاً. أما اسحق واسمعيل فهما ابنا ابراهيم دون أن يكونا توأمين. عادة لا يُذكر اسحق وحده في التقليد اليهوديّ والمسيحيّ، بل يُذكر كواحد من الآباء مع ابراهيم ويعقوب، ومع ابراهيم على أنه ابن الوعد الذي قَبِل أن يكون ذبيحة بيد أبيه.
«وقبل أن يُولد» (آ 11). هنا نتذكّر أن بولس يكتب إلى أناس يعرفون الكتاب. «غاناوو» (ولد). لا يرد إلاّ هنا في روم. رج غل 4: 23- 24، 29. «براسو» (عمل). رج «بويايو» في المعنى نفسه. لا يشدّد النصّ على العمل، بل على شيء من الشرّ أو الخير عمله عيسو ويعقوب. اغاتوس / كاكوس: خير وشر. رج 2: 9- 10؛ 3: 8؛ 7: 19؛ 12: 21؛ 13: 3- 4؛ 16: 19؛ ق 1 تس 5: 5. أما هنا فاستعمل النص «فاولوس» لا «كاكوس». «وليتمّ». إكلوغي: اختيار بين واحد وواحد من أجل الخدمة. لا ترد في السبعينيّة، بل عند أكيلا (اش 22: 7) وعند سيماك وتيودوسبون (اش 37: 24). يتطلّع بولس هنا إلى الاختيار الالهيّ (إكلكتوس، 8: 33). «بروتاسيس» (قصد، تدبير). رج 8: 28. السؤال: كيف يتمّ قصد الله في اختياره، لأن اسرائيل الله يبقى دوماً اسرائيل الله؟ لا، ما انتهى اختيارُ اسرائيل كشعب، كما يقول البعض. ولكنهم ليسوا وحدهم المختارين.
«لا من الأعمال» (آ 12). هنا تعود الأعمال في محطّة هامة، وستعود أيضاً في 11: 6. قال بولس لقومه: لا يرتبط اختيار اسرائيل بأمانته للأعمال، أعمال الشريعة. هذا هو الأمر المهمّ في حواره مع اليهود، كما مع ماضيه. فتواصلُ مخطّط الله كما مع يعقوب، يرتبط فقط بدعوة الله المستمرّة (10: 3). في هذا الإطار، عرض فيلون تك 25: 23 عائداً إلى معرفة الله المسبقة لأعمالهما (= عيسو ويعقوب) وخبرتهما (استعارات الشرائع 3: 88). «كاليو» (دعا). رج 1: 1؛ 4: 7؛ 8: 30. نلاحظ تواصلاً في فكر بولس بين عملِ الله في الخلق وعمله في التبرير (4: 7). فالله الذي يتعامل مع الانسان هو هو من البداية إلى النهاية، ولا تمييز بين دعوة إلى «واجب» ودعوة إلى «الخلاص».
«قيل لها». صيغة المجهول. الله قال لها. في سفر التكوين نقرأ: قال الربّ. رج تك 25: 23 حسب السبعينيّة. هناك الصغير والكبير، الشاب والعجوز. القول التام يتحدّث عن الولدين على أنهما أمّتان (ملا 1: 3). بل هما نموذجان في نظر بولس. ولكن ما يهمّ الرسول هو أنه وجد في ولادة عيسو ويعقوب أن الأولويّة لا ترتبط بترتيب الولادة. نحن هنا أمام مثل، لا أمام برهان سوف يأتي في آ 13. وفي الوقت عينه، هذا يتضمّن توسعاً في مصير تاريخيّ للأمّتين، ويضمّ كل الذين ينتمون إلى اسرائيل وهم أولاد الله (آ 6، 8). هناك من جعل عيسو رمزاً للمجمع، ويعقوب رمزاً للكنيسة (رج اسحق واسمعيل في غل 4: 21 ي).
«على ما ورد» (آ 13). كما كُتب. رج 1: 17. هو النصّ البرهان. نلاحظ أن بولس يعطي وزناً لنصّ يأخذه من الأنبياء، فيتفوّق على نصّ يأخذه من الأسفار الخمسة. «أحببتُ يعقوب». رج ملا 1: 2- 3 حسب السبعينيّة. يقول التقليد اليهودي إن الله أبغض عيسو بسبب أعماله (كعب 32: 5). ولكن بولس تحدّث عن اختيار ورفض للاختيار. فالمبادرة تعود كلّها إلى الله، لا إلى أعمال عيسو (أو: أدوم). هذه الخاتمة (آ 13) ستكون قائدنا في القسم التالي. «ميسايو» (أبغض). تقابل «أغاباوو» (أحبّ). هو تعارض عرفه التقليد اليهوديّ (تث 21: 15؛ 22: 13؛ 24: 3؛ قض 14: 16؛ ق أم 13: 24؛ 15: 32). هناك من استنتج من هذا الكلام تعليماً عن المصير المسبَق، ساعة أراد بولس أن يُبرز اعتداد اسرائيل لأنه اختير، ولأن أدوم رُذل. ثم إن الله رذل اسرائيل في شكل موقت، ليكمّل اختياراً أوسع يضم اسرائيل مع الأمم.

3- خلاصة لاهوتيّة
شدّد بولس (آ 6) على تواصل بين إخوته حسب الجسد، وإخوته في المسيح. بين بركات أعطيت لشعبه الخاص، وبركات إنجيله. ولكن أبناء قومه رفضوا الانجيل، وهنا الصعوبة. إذا كان انجيل برّ الله هو إنجيل أمانة الله، أما يكون عبور الله فوق اسرائيل حالة شكّ على تعليم بولس كله؟ لا يكفي القول إن كلمة الله إلى الشعب اليهوديّ أعلِنت إلى الأمم وإلى اليهود، وأن مقصد الله في عهده لاسرائيل يتمّ في انجيل المسيح، كما قال بولس مراراً. السؤال هو: هل الكلمة التي أعطيت لاسرائيل فشلت؟ فقد يكون تواصل مع تحوّل وتبدّل؟ أما هذا الذي يعنيه بولس حين يتكلّم عن التتمّة؟ هل أن مخطط الله لاسرائيل فشل، لأن اسرائيل وعاء فارغ لمرحلة أولى من قصد الله؟ وهناك تواصل يتوسّع ويمتدّ. مثلاً، حين تنمو الشجرة تنال أعضاناً جديدة. أو تُطعّم عليها أغصان. لا يلغي الجديدُ القديم، بل يصبر القديم والجديد جزءاً من الكلّ (ف 11). ولكن اسرائيل رفض هذه المرحلة الجديدة، فبدا وكأنه أنكر هذا التواصل. لهذا جاء السؤال: هل خسرت كلمةُ الله قوّتها؟ هل فشل قصدُ الله؟
جاء الجواب: كلا. والتوضيح: لا يكفي أن يُولد الواحد في اسرائيل بحسب الجسد ليكون من اسرائيل الحقيقيّ. لا يكفي رباط الدم، ولا الافتخار بالبركات والامتيازات.
وأوضح بولس (آ 7) ما قاله في لغة بشريّة. عاد إلى الكتاب المقدس وإلى شخص اسحق تجاه عيسو وما يمثّله من شعب هو أدوم. تحدّر من ابراهيم اسمعيلُ واسحق. ولكن الاختيار تمّ فقط على اسحق. وتحدّر من اسحق عيسو ويعقوب. والثاني هو الذي اختير، لا الأول. والله قادر أن يخرج من الحجارة أبناء لابراهيم. إذن، المستفيدون من بركات العهد (آ 4- 5) لا يُعرفون بلغة علاقة الدم وقرابة الجسد. نسل ابراهيم هو نسل الموعد الذي يمثّله اسحق. يدعو الله اسحق والذين في خط اسحق. هذا وحده زرع ابراهيم.
ويفسّر الرسول قوله (آ 8) حول «أولاد». هو تمييز بين أولاد (ابراهيم) وزرع (أو نسل) ابراهيم. فأبناء اسمعيل هم أبناء ابراهيم أيضاً. ولكن أولاد اسحق هم الأولاد وهم الزرع. ويأتي تمييز آخر بين «أبناء الجسد» و«أبناء الله»، أي الذين وُلدوا ولادة طبيعيّة والذين وُلدوا داخل عهد وعلاقة مع الله. والتمييز الثالث، بين «أبناء الجسد» و«أبناء الوعد» (أو أبناء الله). أبناء الوعد هم وحدهم أبناء ابراهيم (4: 13- 21). رأى اليهود علاقة بين الأمّة والعهد والشريعة. ولكن ما نعرفه عن الآباء يعارض هذا المفهوم. فعهد الله وبركاتُه لا ترتبط بعلاقة الدم أو بالشريعة، بل بالوعد.
هذه الكلمة التي قالها الربّ هي وعد (آ 9). هذه العودة إلى ابن يُعطى لابراهيم يوم كان بلا ولد، تستعيد قوّة ما قيل في ف 4 (مدراش حول تك 15: 6): الإيمان الذي به تبرّر ابراهيم هو فقط ثقة بقدرة الله واستسلام لوعده (4: 18- 21). ما أورد بولس هنا الإيمان ولا الشريعة، ولكنَّ خطّ برهانه واضح: الكتاب يُثبت شرح بولس. اختيار اسرائيل لم يكن وليد النسل الطبيعيّ ولا الشريعة، بل الوعد والإيمان. لهذا لا يستطيع اليهود أن يكونوا موضوع انجيل بولس. إن فعلوا ذلك، أساءوا فهم «إنجيلهم» حول الاختيار.
ما كان حتّى الآن تلميحاً ضمنياً ( آ 10) يعود إلى برهان ف 4، صار واضحاً في آ 10- 13. فمحاورُ بولس فهم وضعَه كشعب الله في لغة الوطنيّة والشريعة. إنه عضو في عهد تحدّده الولادة، ويطبعه الختان وأعمال الشريعة اللاحقة بحيث يتميّز على أنه الشعب المختار. في آ 6- 9، بيّن أن القسم الأول من البرهان لا يقوم (العضو تحدّده الولادة). في آ 10- 13، عاد إلى الكتاب ليعارض القسم الثاني (عضو يتميّز «بأعمال الشريعة»). ولدت رفقة ولدين. اختار الله واحداً منهما. واختار الأصغر. فخطُّ تسلسل العهد تكوّن قبل أن يولدا، وقبل أن يعملا خيراً أو شراً. هذا يعني أن مقصد الله لا يبدأ بالاختيار، بل يتواصل أيضاً بلغة الاختيار (آ 10). وأن تواصله لا يرتبط بالطاعة للشريعة (انطبع بطابعها اسرائيل حسب الجسد) كشعب مختار، بل بنداء الله من البداية إلى النهاية (آ 12).
ما اختار الله يعقوب (آ 11) بل عيسو، لأنه رآه أهلاً للاختيار. فالله يختار بدون عودة إلى أي سلوك لاحق يرضى عنه الله أو لا يرضى. بما أن اختياره تمّ قبل أن يُولَدا، فسلوكهما اللاحق لا يربط اختيارَ الله. وعلى بني اسرائيل أن يعرفوا أن اختيارهم كشعب الله هو فقط موضوع اختيار حرّ من قبل الله، وأن هذا المخطّط يتواصل كما يحدّده الله.
فيجب على اليهود (آ 12) أن لا يحاولوا أن يفهموا اختيار اسرائيل بلغة حِفْظ الشريعة. إن اختيار اسرائيل هو قبل ولادته فلا يرتبط بأعمال الشريعة (الختان، الأطعمة، السبت، الأعياد). هو يرتبط فقط بدعوة الله، وهذه الدعوة تحافظ على العهد وتعطيه ميزته. إن شدّد اليهود على «أعمال الشريعة» على أنها علامة لا بدّ منها تدلّ على شعب الله المختار، فهم لا ينكرون الانجيل فقط، بل اختيارهم نفسه. إن هذا وضع لا يُطاق لمن أراد أن يكون أميناً لإرثِهِ اليهوديّ ولوحي المسيح.
والإيراد الأخير (آ 13) من النبي ملاخي، يستعيد المرحلة الأولى من البرهان الذي بدأ في آ 6 (ما فشلت كلمة الله). لا، ما فشلت، بل فُهمت فهماً سيّئاً. أساء فهمها شعبٌ أعطيت له الكتب المقدسة. فكلام الله كان دوماً في لغة الاختيار، وقصدُ الله تمّ باختيار حرّ، لا في لغة قرابة طبيعيّة ورباط الدم، ولا بجماعة تربطها أعمال طقسيّة تحدّدها الشريعة. كلمة الله ما فشلت، وأكبر برهان على ذلك نجاح الانجيل. اسرائيل حسب الجسد هو الذي فشل. شدّد ملاخي على طابع العهد، عبر يعقوب، كعلاقة أعطاها وحافظ عليها اختيارُ الله الحرّ. ولكن دخل عنصر آخر: إن اختيار يعقوب كان أيضاً ضدّ عيسو. هذه النتيجة السلبيّة في اختيار عيسو ويعقوب، قد تضمّنتها آ 7- 12. ولكن بولس سوف ينطلق منها ليقدّم المرحلة اللاحقة من برهانه.

الخاتمة
تلك كانت بداية توسّع الرسول حول اختيار الله. ما فشلت كلمةُ الله. واختيار شعب اسرائيل ليس خبر مخطّط مات في الحشا. وما ألغيَ قصدُ الله من أجل شعبه. ولكن ليس النسل حسب الجسد هو الذي يكوّن اسرائيل. وابراهيم خير مثال على ذلك: ما عاد يستطيع أن ينجب الأولاد، لهذا كان النسل الذي أعلنه الله تتمّة لموعد، لا حسب سنّة البشر. وخبر وُلادة اسحق ليس استثناء: فقبل أن يرى الولدان النور، وقبل أن يكون سببٌ يبرّر الاختيار، أعلن الله أنه اختار يعقوب، لا عيسو، ليواصل على الأرض مسيرة الشعب المختار. يا ليت اليهود يعودون إلى الكتاب المقدّس ليقرأوا عمل الله في العالم!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM