الفصل السادس والعشرون: مخطّط الخلاص

الفصل السادس والعشرون
مخطّط الخلاص
8: 26- 30

الخليقة تئنّ من مثل أوجاع الولادة. والمؤمنون يئنّون منتظرين التبنّي وافتداء الأجساد. والآن الروح يئنّ فيجعلنا نصرخ إلى الله: أبّا، أيها الآب. ذاك المجد الآتي الذي نتطلّع إليه جميعنا، قد بدأ بفعل الروح العامل في الكون. فالله بدأ يعمل فينا، يعمل معنا من أجل خيرنا. أما المثال فهو يسوع المسيح صورة الآب التامّة. هذه الصورة تنطبع لدى جميع الذين يشاركونه في بنوّته، في تحوّل داخلي ومتواصليّ، الذي لن يكون كاملاً قبل المجيء الثاني. كان الانسان صورة الله في الخلق الأول فسقط. فجاء المسيح، بخلق جديد، يعيد إلى البشريّة الساقطة هذه الصورة التي شوّهتها الخطيئة. وإذ يطبع يسوع فينا صورته، يعيدنا إلى الانسان الجديد، كما يعيد لنا الحقّ بأن نشارك في مجدٍ يمتلكه هو، إلى أن تنطبع فينا صورةُ الانسان السماويّ. من أجل هذا، هيّأ الله كلّ شيء لمجد الذين هيّأهم فاختارهم، ودعاهم فبرّرهم في المعموديّة، فلبسوا المسيح لكي يكونوا على صورةِ صورته الكاملة.

1- تحليل النصّ الكتابيّ (8: 26- 30)
في الفصل السابق توقّفنا عند دراسة النصّ وبنيته (آ 18- 30). وها نحن ندخل في تحليل ما قال بولس الرسول عن مخطّط الخلاص. الروح يُعين ضعفَنا (آ 26- 27). الله يعمل مع الذين يحبّونه (آ 28- 30). دعانا الله واختارنا لنكون إخوة ذاك الذي هو بكرنا، الابن الوحيد الذي هو الصورة الكاملة للآب.
أ- الروح يعين ضعفنا (آ 26- 27)
«ويجيء الروح» (آ 26). يبدأ النص: وبالطريقة عينها أيضاً. رج مر 14: 31؛ لو 20: 31؛ 1 تم 5: 25. تعود الآية إلى آ 23 مع لفظ «الروح» (بنفما). إن الأنين هو جزء من تعبير عن حضور الروح (سمة أساسيّة في الانشداد الاسكاتولوجيّ). الفعل «ساعد» أنجدَ، يعني في العالم القديم: حمل معه، ساعده، مدّ له يده، جاء لعونه (نلاحظ «سين»، مع). رج خر 18: 22؛ عد 11: 17 (السبعون شيخاً الذين يساعدون موسى)؛ لو 10: 40. هي مشاركة في مسؤوليّة، في واجب. وصورة الروح الذي يحمل ثقلاً يجعله ضعفُنا علينا. رج مز 89: 21. الروح يُعيننا لا في التجربة وحسب، ولا في ضعفنا في الصلاة فقط، بل في وضعنا البشريّ كله (فساد الجسد) الذي يشكّل المؤمن جزءاً منه والذي يعبّر عنه بعدم إمكانيّة الصلاة.
«فنحن لا نعرف». هم ينتمون إلى حقبتين، ولا يعرفون ما هي إرادة الله لهم ولمجتمعهم. ليس الكلام عن الصلاة كصلاة. بل عن الصلاة التي تُفهمنا ارتباطَنا كخليقة بالخالق. «كما يجب». نعبّر عن إرادة الله. رج 2 مك 6: 20؛ 2 تم 2: 6، 24. فالله له مقصد في خلقه، والصلاة تحاول أن تكتشف هذا المقصد، كما يجب، أي بحَسب الله (آ 27). «ولكن الروح». الروح القدس، روح الله. لا يُلغي الروح عدم أهليّة المؤمن ليحافظ على الحوار بين الله والانسان. بل هو يعمل في ضعفنا وبواسطة ضعفنا. الكلام عن الروح كالمتشفّع موضوعٌ مسيحيّ. أما اليهود فعرفوا الملاك المتشفّع. رج أي 33: 23- 26؛ طو 12: 15؛ 1 أخن 9: 3؛ 15: 2؛ 99: 3؛ 104: 1؛ وص لاوي 3: 5؛ 5: 6- 7؛ وص دان 6: 2. هي قوّة الله تساند المؤمنين في عمق ضعفهم. «بأنّات». ستانغموس: أنّ، تأوّه. ألاليتوس: لا تقدر أن تتكلّم. تقابل «لاليتوس» يتكلّم. أي 38: 14. هي أنّات لا نعبّر عنها بالكلام. فيبقى على الروح أن يقول فينا ما لا نستطيع نحن أن نقوله.
«والذي يُرى» (آ 27). العالمُ اليهوديّ يصوّر الله كذلك الذي يعرف قلوب الناس. رج 1 صم 16: 7؛ 1 مل 8: 39؛ مز 44: 21؛ 139: 1- 2، 23؛ أم 15: 11. الذي يمتحن القلوب. رج مز 17: 3؛ 26: 2؛ إر 11: 20؛ 12: 3؛ 17: 10. «إراوناوو» بحث. هو قريب من «دوكيمازو» (رؤ 2: 23) فحص. «يعرف». رج آ 6 (معرفة روح الحياة). يُصوّر الروحُ عادة على أنه يبحث عن حضور الله (مز 139؛ حك 1: 7) أو معرفة الله (1 كور 2: 10- 11). هنا يختفي الروح في قلب الخليقة الضعيفة فيعرفه الله وحده. لأنه يتشفّع (سببيّة). أو: هو يتشفّع (تفسيريّة). الله نفسه يعبَّر عنه كقاعدة لما هو خير لشعبه. أو إرادة الله هي التعبير عن الله. هو الله حين يعمل. «القديسين». رج 1: 7.
ب- الله يعمل مع الذين يحبّونه (آ 28- 30)
«ونحن نعلم» (آ 28). رج 2: 2. هي معرفة الإيمان. نحن هنا في الارث اليهوديّ. هي خبرة شخصيّة، خبرة شعب الله. «أغاباوو» (أحبّ). يرد هنا للمرة الأولى في روم (رج 5: 8،5 ). الذين يحبون الله: اليهود الأتقياء. الذين يحفظون وصايا الله. خر 20: 6؛ تث 5: 10؛ 6: 5؛ 7: 9؛ يش 22: 5؛ وثص 19: 2؛ مد 16: 13. ونجد رباطاً بين العنصرين في سي 2: 15- 16؛ مز سل 14: 1- 2؛ وص يساكر 5: 1- 2؛ ق 1 يو 5: 2. فالله يريد جواباً حراً. والحبّ المكرَه ليس بحبّ. هؤلاء يعمل الله معهم. «سينارغايو». يشاركهم. إن اليهوديّ التقيّ يرجو أن يكون كلُّ شيء لخيره (تك 50: 20؛ جا 8: 12؛ سي 39: 27). نُسب إلى رابي عقيبة قول: «ليعتد الانسان أن يقول: كل ما يفعله القدير يفعله للخير». ولكننا مع بولس لا نتوقّف على مستوى الأرض، لأن الخير (أغاتوس) يعود بنا إلى زمن النهاية (14: 16).
«أولئك الذين دعاهم». «بروتاسيس»: قصد الله. رج 9: 11؛ أف 1: 11؛ 3: 11؛ 2 تم1 : 9؛ فيلون، موسى 2: 61. يقابل هذا اللفظ في العالم اليهودي «ع ص ه» (بولي في اليونانيّة). الله يحرّك التاريخ من أجل هدف هيّأه. رج مز 33: 11؛ أم 19: 21؛ اش 51: 9؛ حك 6: 4؛ 9: 13، 17؛ نخ 1: 8، 10، 13؛ مد 6: 10- 11. «كليتوي». المدعوون. يقابل «هاغيوي»، القديسين (آ 27). رج 1: 7. هنا نقابل بين 8: 28 (مدعوون حسب قصد) و9: 11 (حسب اختيار القصد). فقصدُ الله ودعوة الله وجهان لصورة واحدة. هذا ما يُقال عن المؤمنين (أمم ويهود): ميراثُ اسرائيل فُتح أمام الجميع، وهذا ما جعل اختيار الله على المحك بالنسبة إلى اليهود. وهذا ما يقودنا إلى ف 9. دُعوا في الماضي ويُدعون اليوم، وفُتح أمامهم الميراثُ ويُفتح اليوم.
«فالذين سبق فاختارهم» (آ 29). الله يعرف خاصته قبل أن يكونوا. «بروغينوسكو». عرف مسبقاً. عرف قبل الحدث (أع 26: 5؛ 2 بط 3: 17). ثم إن المعرفة في العبريّة تدلّ على علاقة وخبرة مشتركة (1: 21). رج تك 18: 19؛ إر 1: 5؛ هو 13: 5؛ عا 3: 2؛ مد 9: 29- 30. وهذا واضح عند بولس. رج 1 كور 8: 3؛ 13: 12؛ غل 4: 9؛ 2 تم 2: 19. «بروأوراوو». رأى مسبقاً، عيّن. رج «بروتاسيس» (القصد). الذين عرفهم الله أنهم خاصته كانوا في يده منذ البدء. ذاك كان الفكر المسيحيّ الأول. 11: 2؛ 1 بط 1: 2، 20؛ أع 2: 23 (علاقة بين عرف مسبقاً وعيّن مسبقاً). وهكذا ضمّ بولس الزمن والتاريخ من البداية إلى النهاية، في آ 29- 30. إن المؤمنين يتأكّدون أن حصّتهم في شعب الله ليست عرضيّة ولا بنت الصدفة. هي جزء من مخطّط الله العامل من البدء. كل هذا بُني على الفكر اليهوديّ (إر 1: 5؛ وص موسى 1: 14) وعبر اللاهوت المسيحيّ (أع 4: 28؛ 1 كور 2: 7؛ أف 1: 5، 11).
«على مثال صورة ابنه». في هذه المسيرة، يستعمل بولسُ ما استعمل من كلام في فل 3: 21 (الفعل مع «سين» مع) ثم «ايكون» (صورة) في 1 كور 15: 49 فعاد إلى قيامة الجسد. «ليكونوا على مثال». رج 2 كور 3: 18. هناك الأداة «مع» (سين) ثم «مورفي» (صورة). هنا نصل إلى النتيجة النهائيّة للمسيرة (تشابه لموت المسيح، تحوّل كامل إلى صورته). ونجد عودة إلى المعموديّة أيضاً: صار المؤمن مثل المسيح في الموت والقيامة. الانسان هو على صورة الله. رج تك 1: 26- 27 (آدم). رج سي 17: 3؛ حك 2: 23؛ وص نفتالي 2: 5؛ رؤ موسى 10: 3؛ 12: 1؛ 33: 5؛ 4 عز 8: 44. هو عملُ تحوّل يتمّ في الانسان. المسيح هو صورة الله والنموذج الكامل. هذا ما كان على آدم أن يكونه. الكلام هو عن يسوع الممجّد، لا عن يسوع كما كان على الأرض. ففي نهاية مخطّط الله في الخلق، هي القيامة لا التجسّد. رج 1 كور 15: 49؛ 2 كور 3: 18؛ 4: 4، 6.
«حتّى يكون بكر». بروتوتوكوس. رج كو 1: 18؛ رؤ 1: 5 (بكر المائتين). قيامة يسوع هي نموذج البشريّة الجديدة في الدهر الأخير. والمسيح هو بكر النسل الجديد للشعب الاسكاتولوجيّ، الذي فيه يتمّ مثالُ الله منذ بداية الخلق. رج عب 4: 6- 10 حيث يكمّل يسوع ما قصده الله لآدم (أن يكلّل بالمجد)، عبر ألم الموت ليحمل الأبناء (كما عبر الألم والموت) إلى المجد. وهكذا كمل عبر الألم.
«وهؤلاء الذين سبق» (آ 30). نعود إلى «برو» سبق، كما في آ 29. «دعاهم». رج «كليتوس» المدعوّين في آ 28. لسنا أمام دعوة يمكن أن نرذلها. فالله لا يجعل مخطّطه عرضة للظروف، بل يريده ناجعاً. وينظر بولس إلى المسيرة في نتيجتها الناجحة. فالذي افتُدي يعلن بفرح أن مجيئه إلى الإيمان هو كلّه عمل الله. رج 1: 1؛ 4: 17؛ 1 كور 1: 9؛ 7: 17- 24؛ غل 1: 6، 15؛ 5: 8. «والذين دعاهم». ديكايووو (برّر). رج 1: 17؛ 2: 13. بعد أن دعا، ها هو يكمّل عمل الاهتداء، عمل الخلاص. «والذين برّرهم». دوكسازو» مجّد. أشركهم في مجد الله كالهدف الأخير في مخطّط الله في الخلق والفداء. لم يُستعمل فعل «مجّد» بعد 1: 21. هذا ما يجعلنا في بداية مسيرة الخلاص وفي نهايتها. ما أراد الانسان أن يمجّد الله في البدء، فمجّد اللهُ الانسانَ في النهاية. المجد هو ما هيّأه الله للانسان (مز 8: 5؛ عب 2: 8- 10). وصيغة الماضي الناقص تدلّ على أن هذا التمجيد تمّ في المعموديّة. وإذا كانت مسيرة التمجيد هي كلها أمام عيوننا (2 كور 3: 18)، فهذا يعني نظرة إلى النهاية والتتمّة (تتمّة الخلاص). وهكذا ننطلق من النهاية، فنرى مقصد الله الخالق الذي يكمّل ما سبق ونظر إليه حين خلق الكون.

2- خلاصة لاهوتيّة
إذا كان بولس (آ 26) لم يركّز على الحاضر (آ 22- 23) ولا على المستقبل (آ 24- 25)، فلكي لا يُبعد قرّاءه عن واقع بين اثنين: بين باكورة قيامة المسيح وتحرير الكون كله، وبين باكورة الروح وافتداء الجسد. فالروح كخبرة (وتأكيد) لقبول أبوّة الله (آ 15- 6) وحبّه المفاض في القلوب، يهب الثقة بالنظر إلى المستقبل، ويُسندنا في الضعف الحاضر. فالرجاء والضعف لا يتعارضان في نظر بولس (الرجاء ليس شيئاً نظرياً ولا عقلياً في مواجهة واقع الخطيئة بقوّتها على الضعف المستمرّ للجسد)، بل يرتبطان في خبرة واحدة بالنسبة إلى المؤمن. وهي خبرة الروح، خبرة العون والمساندة في الضعف. حيث لبثت الشريعة ضعيفة في هذا الوضع (آ 3)، لأن القوّة واجهت الأفراد في هذا الضعف عينه، ضعُفَ الجسد، فكان الروح قوّة جاءت لعون الفرد في هذا الضعف. وما كان شفيعاً بعيداً، آتياً من السماء (مثل الملائكة مثلاً في العالم اليهوديّ)، صار عوناً حاضراً في داخلنا. ثم إن الروح لا يغلب ضعف الجسد ويمضي. فالمؤمن كمؤمن يمتلك الروح. والروح يبقى في الجسد وبالتالي في الضعف. والخلاص يعمل في الحاضر عبر الضعف البشريّ، وقوّة الله ناجعةٌ حيث لا قوّة للانسان (2 كور 12: 9- 10).
هذا التأهيل الالهيّ يعبّر عن نفسه في الصلاة. صلاة لا تلهم طلباً يسبق ارادة الله. لا تعطي بلاغة تشبه بلاغة الشعراء. بل «أنّة» انسان لا يعرف ماذا يقول، ولا يقدر أن يعبّر عن حاجته قدّام الله إلاّ في انشداد اسكاتولوجيّ. هو يتطلّع إلى النهاية وافتداء الجسد. صلاة المؤمن تعبّر عن ارتباط الخليقة بالخالق. هي صلاة إكرام وشكر واعتراف وعبادة (1: 21، 25، 28)، دخول في إرادة الله الذي يعرف ماذا يريد الانسان. ولكن حاضر المؤمن لم يتمّ إصلاحه بحيث لا يعرف كيف يصلّي وماذا يقول في صلاته. هو يكتفي بأنات لا توصف، لا تعرف أن تتكلّم، فيعبِّر عن ارتباطه بالله. من أجل هذا يأتي الروح لعوننا.
وهذه الثقة (آ 27) التي يمنحها الله عبر الظواهر والكلمات، توضح ما لم نستطع أن نوضحه. أي الاتجاه الأساسيّ نحو الله والمتعلّق به. ما هو للروح يتعارض مع ما هو للجسد، ولكنه لا ينفصل عن الجسد، بل يعبّر عن نفسه في ضعف الجسد. وما هو للروح يجد سنداً له في انشداد اسكاتولوجيّ لجسد ما زال أسير الخطيئة وخاضعاً للموت. ويؤكّد بولس أن ما هو للروح ليس الموقف البشريّ التام، ولكنه موقف تؤهّله نعمةُ الله وتُسنده قدرة الله في قلب ضعفه وارتباطه بالخالق. هذا لا يعني أن الضعف البشري هو علامة نعمة الله، بل الضعف البشريّ الذي نقرّ به هو الموضع الذي تسيطر فيه الخطيئة. إلاّ أن الاقرار بارتباطنا بالله، هو الذي يشكّل الصلاة الحقّة. عندئذ يعمل الله فينا بإرادته.
يتذكّر قرّاء بولس (آ 28) تواصُلَ فكره منذ الآيات السابقة التي فيها دخلت آلامُ الخليقة مخاضَها، وهو يقدّم لهم خبرة بشر (مؤمنين). هي ليست خبرة يأس، لأن الله هو أيضاً إله الخلق. ومخطّطه أن يواصل هذا الخلق عبر الخليقة. لهذا يقدر شعبه أن يثق بأن مكانه في مخطّط الله يتناسق مع تاريخ الخلق. فالذين أحبّوا الله هم الذين عرفوا أنهم خليقة، ووثقوا بالله الذي هو خالق وأب. فيصلي المؤمنون ويئّنون، لأنهم لا يقدرون أن يتكلّموا. فلا بدّ أن يأتي الروح لعونهم لكي ينضجوا ويُميتوا أعمال الجسد.
الذين أحبّوا الله هم أيضاً «القديسون» (آ 27) و«المدعوّون». كتب بولس هذا، فعاد إلى بداية الرسالة (1: 7)، وتوخّى أن يبيّن أن من ينتمي إلى المسيح يعيش في تواصل مع الشعب الأول. هي محبّة الله وعمل الله. ويميّز لا اليهود عن الأمم، ولا الكاهن عن الشعب، ولكن الذين امتلكوا الروح عن الذين ما زالوا يعيشون في الجسد، سواء كانوا يهوداً أم أمماً. هذا يعني أن مبادرة الله لم تكن قراراً مفاجئاً وبنت الساعة. ودعوته للأمم لم يسبّبها رذلُ اسرائيل. فمخطّط الله حاضرٌ منذ البدء. فالله هو خالق وهو مخلّص. ومشروعه جاء قبل ابراهيم.
بعد أن كشف بولس التعارض الذي يواجهه المؤمنون (آ 29- 30)، عاد إلى البرّ: ماذا يعني هذا في واقع الوجود اليوميّ؟ بدأ فأكّد أن الله فوق الجميع ويحيط بالجميع، وهدفه أن يصل بالخليقة إلى الملء الذي هيّأه لها دون تراجع. والهدف الذي جعله لشعبه في منتصف الزمن، هو أن يأتي بالخليقة كلها إلى ملء العلاقة معه: هي تخصّه، وهو يسندها، ويعطيها أن تشارك في مجده. ترك بولس كل «إذا» وكل «بل» في ف 6- 8، وأكّد على تتمّة مخطّط الله في الخلق والخلاص.
وهدف الخالق والمخلّص يعبَّر عنه بخلق أول يُنقل إلى شكل اسكاتولوجيّ. هو تحوّل الانسان المؤمن إلى صورة الله التي خسرها الانسان العاصي. وهو مشاركة في مجده مع انسان خلقه وما دخل بعدُ دخولاً كاملاً إلى هذا المجد (3: 23). وهذا صار ممكناً، لأنه في انسان واحد، يسوع المسيح، كان التعبير الكامل عن صورة الله، لا ليسوع فقط، بل كعلاقة يشارك فيها مع الآخرين. هنا عاد بولس إلى آ 15- 17 حيث قال بأن هدف الله تمّ فقط في المسيح وعبر المسيح. لهذا كانت لغة المشاركة في البنوّة (بكر اخوة كثيرين) صدى لما قيل في بداية الرسالة: المسيح هو آدم الاسكاتولوجيّ، آدم نهاية الزمن، المسيح القائم، الذي في قيامته كلِّل بالمجد والكرامة، وأعطي السلطان على كل شيء (هذا كان في الأصل لآدم، مز 8: 4- 6). بهذه القدرة (وهذا الامتياز) يشارك بها اخوتَه لأنه البكر. والخلاص الذي يقدّمه، هو مسيرة لنكون على مثال هذه الصورة، صورة آدم الاسكاتولوجيّ، عبر الألم معه ومشاركته في موته حتى الموت الأخير لجسد الخطيئة. ونحن متأكّدون أننا نشاركه منذ الآن، في ملء القيامة والحياة: ؛كما أن آدم بعصيانه جاء بالكثيرين إلى الموت، كذلك المسيح جاء بالكثيرين إلى الحياة. ولكن الآن مع سيادة الخطيئة والموت واستغلالهما للشريعة عبر ضعف الجسد، بدت الخاتمةُ الأولى قاتمة (5: 20- 21). ولكن الظلام سيُطرد، فينتصر مخطّطُ الله. لهذا انتقل الرسول من تحليل مظلم لفشل آدم الذي سبَّب الدمار، إلى نجاح آدم الثاني الذي يمنح الحياة.

الخاتمة
ماذا نلنا في باكورة الروح؟ التبنّي الذي يجعلنا أبناء الله، وخلاص الجسد. وهذه الباكورة هي واقع حاضر وإن كان بعدُ في بدايته. نحن خلصنا، هذا ما لا شكّ فيه. ولكننا خلصنا في الرجاء. وهذا الرجاء أبعد من اندفاع يوجّهنا نحو المستقبل. إنه قبول أخذناه بملء حرّيتنا، وهو يدوم لأنه متين. وما الذي أعطاه هذه المتانة؟ الروح الذي فينا. ونحن لا نُعطى فقط، في هذا الخطّ، كسرة من الآخرة. فالروح هو حقاً فينا. ولكن ما كان أنيناً بالنسبة إلى الخليقة، صار صلاة موجّهة إلى الله. وهذه الصلاة التي هي صلاة الروح، هي حقاً حسب الله: إنها تتلاقى مع إرادة الله الذي يرغب في أن يؤول كلُّ شيء لخير الذين يحبّونه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM