الفصل العشرون
المؤمن تحرَّر من الشريعة
7: 1- 6
يطرح الفصل السابع من روم سؤالاً هاماً: ما هو الدور الذي تلعبه الشريعةُ في كل هذا؟ هذه الشريعة بدت عاملاً متشعّباً في 5: 20- 21، وبرزت في وجهة مشكّكة لليهوديّ التقي. وقفت بجانب الخطيئة والموت، وما كانت وسيلة نعمةٍ من أجل الحياة. بدأ بولس يوضح بعض الشيء، الدورَ المتواصل للخطيئة والموت في علاقتهما بالمؤمن، مع إشارة سريعة إلى الشريعة (6: 14- 15). وها هو يعود الآن إلى الشريعة نفسها. هذه الشريعة حكمت بالموت على المؤمن الذي تخلّص منها. يتوقّف الرسول عند شريعة موسى، ولكنه لا يحصر نفسه في وجهات زائلة في هذه الشريعة، مثل الختان والنظم الطقسيّة والفرائض الطعاميّة. فالشريعة في نظره شريعة خلقيّة جاءت من الله وفرضت نفسها من الخارج. رسمت للمؤمن الطريق التي يتبع، ولكنها لم تمنحه القوّة. لهذا استغنى عنها المسيحيّ، وطلب شريعة أخرى هي شريعة المسيح.
1- دراسة النصّ وبنيته
إن آ 1- 6 تجمع ما قيل في ف 6 مع عودة إلى الشريعة. وآ 5- 6 تعودان إلى 2: 28- 29. هي تقابل بشكل خاص 6: 1- 11. أما آ 5- 6 ففيهما الفكرة الرئيسيّة التي يتوسّع فيها ف 7- 8. إن التطبيق في آ 14 للمبدأ (آ 1) الذي يصوّر في آ 2- 3، يعود بنا إلى ألفاظ استعملت: مات عن الناموس (6: 2). بجسد المسيح (6: 3- 6). لتصيروا لآخر (6: 17- 18). أقيم من بين الأموات (6: 8- 10). تجنون ثمراً لله (6: 22). في آ 5، نعود إلى 6: 12 و6: 21. وفي آ 6، نعود إلى 6: 4.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (7: 1- 6)
جاء هذا النصّ في مقطعين. في الأول (آ 1- 3 )، عاد بولس إلى الشرع يستقرئه. ما دام الانسان حياً، فهو يخضع للشريعة. ولكن حين يموت، لن يعود خاضعاً لها. ذاك هو وضع المسيحيّ الذي مات مع المسيح، وبالتالي مات عن الشريعة (آ 4- 6). إذن، لم يعد خاضعاً لها ولأعمالها بعد أن صار في نظام الروح الجديد.
أ- سلطة الشريعة (آ 1- 3)
«أنتم لا تجهلون» (آ 1). رج 6: 3. للمرّة الثانية يسمّي بولس قرّاءه: الاخوةَ. «نوموس». هي الشريعة اليهوديّة، التوراة (2: 14). ثم المبادئ العامّة في كل شريعة. في آ 2- 3 سيذكر الرسول الشريعة الرومانيّة. نشير هنا إلى أن الشرائع اليهوديّة كانت معروفة في المملكة الرومانيّة، ولا سيّما عند خائفي الله الذين اعتادوا أن يؤمّوا المجامع. نذكر هنا ما كُتب على قبر في أفامية (سورية): «إن عمل أحد عكس هذه التوجيهات يعرف شريعة اليهود». هذا يعني حقّ اليهود بأن ينظّموا أمورهم حسب شريعة موسى إلى حدّ ما.
«لا سلطة للشريعة». (كيرياواين): ساد. رج 6: 9، 14 في استعمال الفعل عن الموت والخطيئة. بعد أن ذكر الرسول في 6: 22- 23 ما قال عن سيادة الخطيئة والموت في 5: 21، ها هو يعود إلى العنصر الثالث الذي هو الشريعة. والتوازي مع 6: 9، 14 يدلّ على أن دور الشريعة سيّئ، وأنه علامة تقيّد بالدهر الحاضر. هذا لا يعني احتقار بولس لضرورة دور الشريعة في المجتمع. ولكن الصور الآتية، تتضمّن أنه رأى طبيعة الشريعة وطابعها في تنظيم العلاقات الاجتماعية كتعبير عن وضع الانسان الساقط. «وهو حي». رج مر 2: 19؛ 1 كور 7: 39. ولا ننسَ فكرة المعلّمين التي تتحدّث عن الموت الذي يحرّر من الشريعة.
«فالمرأة المتزوّجة» (آ 2). يفكر بولس كيهوديّ في الشريعة اليهوديّة. بهذه الشريعة ترتبط المرأة بزوجها ما دام حياً. فالرجل وحده له الحقّ أن يطلقها حسب تث 24: 1. أما في الشريعة الرومانيّة، فالزوجان يحقّ لهما بالطلاق. بعد الموت، تبقى المرأة الرومانيّة في حزن على زوجها عشرين شهراً، وإلاّ خسرت ما يمكن أن يكون لها من زوجها. نقرأ «هيباندروس»: تحت سلطة الرجل. أي متزوّجة. رج عد 5: 20، 29؛ أم 6: 24، 29؛ سي 9: 9؛ 41: 21. «شريعة الرجل». يعني الشريعة التي تعطي السلطة للزوج على زوجته.
«وإن صارت إلى رجل آخر» (آ 3). «مويخاليس» زانية. ما زلنا في نظرة يهوديّة. واللفظة ترد فقط في التقليد اليهوديّ المسيحيّ. في السبعينيّة: أم 18: 22 أ؛ 24: 55 (في الماسوري 30: 20)؛ حز 16: 38؛ 23: 45؛ هو 3: 1؛ ملا 3: 5؛ وص لاوي 14: 6. ق مت 12: 39؛ 16: 4؛ يع 4: 4؛ مر 8: 38؛ 2 بط 2: 14. لا يرد اللفظ إلاّ هنا في رسائل بولس. بما أن الزوج له مثل هذه السلطة على امرأته في الشريعة اليهوديّة وفي المجتمع (آ 2)، فاللفظ يتضمّن الخزي والخجل لدى شخص خان وكذب. «خريماتيزو»: تسمّى. رج أع 11: 26.
«فإذا مات تحرّرت». لا من زوجها، بل من الشريعة (6: 18- 22). الشريعة تخصّ حقبة آدم مع الخطيئة والموت. لهذا، لا بدّ من التخلّص منها.
ب- متّم عن الشريعة (آ 4- 6)
«وهكذا أنتم» (آ 4). أراد بولس أن يستخلص نتيجة في مبدأ قاله في آ 1 وتوسّع فيه في آ 2- 3. وذكر الرسول «الاخوة». فالكلام عن الشريعة أمر دقيق وحسّاس. «مُتّم عن الشريعة». حرفيا: أُمتّم. في المجهول. هذا ما يدلّ على المبادرة الالهيّة (المجهول الالهيّ). رج 6: 3- 6. هو عمل قام به الله، وجاءت مشاركة الفرد كنتيجة لهذا العمل. هنا نتذكّر أن صورة الموت عن الخطيئة والموت للمسيح أوسع من العماد (6: 2). وهي إن تضمّنت العماد فلا تنحصر فيه. ثم أراد بولس أن يدلّ على مسافة بين التوسّع وتطبيق المبدأ (آ 1): موتُ الزوج في الحالة الطبيعيّة ليس مثل موت المؤمن بيد الله، وإن يكن الموتان يشدّدان، في شكل مختلف، على نقطة واحدة هي نهاية سيادة الشريعة. «وأنتم أيضاً» (رج آ 2- 3). فما يقوله الرسول في آ 4 ليس تطبيقاً لما في آ 2- 3، بل عرضاً آخر لما في آ 1.
إن للعودة إلى الشريعة ذات المعنى الذي نجد في الآيات السابقة: الشريعة المسلّطة على الانسان في حياته، في هذا الدهر. ولكن موت المسيح وضع حداً لها في نفسه (6: 10) وفي الذين تشبّهوا به (6: 3- 6)، بحيث إن من عاش تحت الشريعة (6: 14) تنكّر لمدلول حقبة موت المسيح. غير أن هذه الشريعة لم تحلّ محلّ الخطيئة. هي، في سلطتها، حليفة الخطيئة. «بجسد المسيح». بالنظر إلى التوازي مع نظرة 6: 2 ي، من الواضح أن بولس يفكّر في المسيح المصلوب (كو1 : 22: صالح في جسده البشريّ عبر الموت؛ عب 10: 5، 10؛ 1 بط 2: 24). أو: صار مشابهاً لجسد المسيح. هناك من رأى إشارة إلى الافخارستيا (1 كور 10: 16) مع ما في هذه النظرة من خطر. أو إشارة إلى الكنيسة كما في 12: 5. إذ يشارك المؤمن في هذا (وإن لم يتمّ)، يُقال أنه أميت بالنسبة إلى الشريعة المسلّطة على هذا الدهر. «لتصيروا لآخر». هو الهدف مع «آيس» (لكي). استعمل بولس الصور لكي يعبّر عن انتقال السيادة (آ 3؛ رج 2 كور 5: 15).
«أقيم من بين الأموات». هذه العبارة ليست اعتباراً حول اللغة الليتورجيّة، بل تشير إلى أن فاعليّة عمل المسيح لم يكن فقط موته (عن الخطيئة والموت)، بل قيامته أيضاً. لقد تمّ الخلاص إذ شارك المؤمنون في موت المسيح كما في قيامته. هنا نلاحظ كما في 6: 4، بأن التوازي بين مشاركة المؤمن في موت المسيح وخبرة قيامته، ليس كاملاً. هو يتشبّه بالمسيح في موته. ولكنه ما تشبّه بعدُ كلَّ التشبّه بالمسيح المنبعث. «فتُثمروا لله». هنا اتخذ بولس استعارة جديدة (6: 21- 22). في استعارة العبوديّة، استعارة حمل الثمر، تدلّ على النتيجة (1: 13؛ 6: 21)، والنتيجة الخلقيّة. أن تكون الثمار لله، يعني أن السوتيريولوجيا (الكلام عن الخلاص) البولسيّة تتركّز على الله. يشير بولس إلى الأمم الذين صاروا ثمار رسالته (1: 13؛ فل 1: 22؛ كو 1: 6).
«فحين كنا نحيا في الجسد» (البدن، اللحم والدم) (آ 5). عاد الرسول إلى خبرة سابقة للمسيحيّة. العبارة تدلّ على الوجهة البشريّة (2 كور 4: 11؛ غل 4: 14؛ كو 2: 1) لدى الانسان بما فيه من ضعف (7: 18؛ 8: 3)، ومن رفض لله (8: 8، 9؛ فلم 16). هكذا تكون الخليقةُ بعيدة عن الخالق. والكلام عن «الجسد» لا يشير إلى الشخص الفرد. بل إلى الشعب اليهوديّ في سقطته وضعفه. وثق بالجسد. افتخر بالجسد (فل 3: 3- 4؛ غل 6: 13). نظروا إلى الختان في الجسد كشيء يميّزهم عن الأمم، لأنهم شعب الله المختار. عاد بولس إلى صيغة المتكلّم، فذكر خبرتَه قبل أن يلتقي المسيح المنبعث، وميّز التقوى اليهوديّة على أنها في الجسد، فلم تفهم الثقة بعضويّتها في شعب العهد (هناك تعارض بين الحرف والروح، وبين الجسد والروح).
«الأهواء الشريرة». أو: أهواء الخطايا. «باتيما». استُعمل اللفظُ 9 مرات بمعنى الألم أو الحظّ التعيس (8: 18). وهنا كما في غل 5: 24، بمعنى العواطف، الأهواء. إن حياة تحرّكها الأهواء ستكون آلة تتلاعب بها الخطيئة (1: 24، إبيتيميا). العبارة: الأهواء التي هي خطايا أو الأهواء التي تعبّر عن نفسها بالخطايا. «التي أثارتها الشريعة» (أو التوراة، آ 1). يعود بولس إلى خبرته كيهودي تقي، فيرى فيها ظرفاً يقود إلى الموت. «بواسطة الشريعة». هي وظيفة جعلها الله للشريعة، بحيث تتوافق مع إرادة الله (2: 12؛ 3: 20، 27؛ غل 2: 19- 21). هكذا يفهم بولس دور الشريعة الحقيقيّ. وهكذا بعد أن أبعدها عن عدم الفهم لدى معاصريه اليهود (2: 21- 29؛ 3: 27- 31؛ 4: 13- 16)، ها هو يعود إلى تحديد دورها بدقّة أكبر. في الواقع، أعطى الله الشريعةَ أن تكون عاملاً في خدمة الخطيئة والموت (7: 21- 2 3؛ 8: 2). والاستعمال السيّئ للشريعة كان مثالاً دلّ كيف أن الشريعة انتجت أهواء الخطيئة، فجعلت اليهوديّ يفتخر افتخاراً يستبعد الأمم كأمم من النعمة.
«تثمر للموت». قد تكون أمام الهدف أو التتمّة، بحيث تثمر. ذاك هو مخطّط الله: أن لا تؤمّن الشريعةُ الوسيلة بحيث نثمر للموت. أو بأن لا تمارس الخطيئة بعد قوّتها عبر الموت.
انتهى شرّ الخطيئة في الجسد، في هذه الحقبة، بحيث يتحرّر الجسد الذاهب إلى الموت من الخطيئة بواسطة الحياة والقيامة. «كاربوفوريو»، حمل ثمراً. رج 7: 4؛ كو 1: 6، 10. والموت (تاناتوس). هو قوّة قادت الانسان في تلك الحقبة (تجاه الله، آ 4). وهو الثمرة نفسها وآخر نتاج الأهواء الخاطئة (6: 21، 23). ظلّ الرباطُ حاضراً بين الخطيئة والموت، بل برز بروزاً واضحاً (5: 12، 21؛ 6: 20، 23). هنا نلاحظ بُعد بولس عن العالم اليهوديّ مع 4 عز 9: 36- 37: «من نال الشريعة وخطئ هلك... غير أن الشريعة لا تَهلك، بل تظلّ في مجدها» (رج 4 عز 3: 20- 22).
«ولكننا الآن تحرّرنا» (آ 6)، حُرّرنا، حرَّرنا الله. رج آ 2- 3. الحياة في الحقبة القديمة والحياة تحت الشريعة، كما تُرتّبها الشريعة (والنظرة الإيجابيّة). والحياة التي تسودها الأهواء الخاطئة إلى الموت كما تحدّدها الشريعة (النظرة السلبيّة). ولكننا تحرّرنا من الشريعة. «لأننا متنا». متنا عن الشريعة، لا عن الانسان القديم، عن الجسد. «يقيّدنا». هذا ما يعود بنا إلى صورة العبد. فالعبدُ ليس سيّد وضعه مثل السجين. إن الذين لم يدركوا أنهم دخلوا في حقبة موت المسيح وقيامته، ما زالوا في الخطّ الذي يقود إلى الموت. وهكذا جمع بولس هنا ما قاله على ثلاث دفعات في غل 2: 19؛ 3: 23- 26؛ 4: 1- 3: الاهتداء موت عن الشريعة. ووضع اسرائيل قبل الإيمان هو وضع المقيّد والعبوديّة.
«حتّى نعبد الله». هي النتيجة. إن التحرّر من الشريعة يجعلنا عبيداً لله (دولاواين). فيمنعنا من حياة منفلتة أو حريّة نختارها بنفوسنا. فالانسان «عبد»، وإن حسب نفسه سيّداً. صيغةُ المتكلّم الجمع تفهمنا أن خبرة الشريعة تشبه خبرة العبوديّة التي منها حرّرنا الانجيلُ. «الروح الجديد». هنا نعود إلى التناقضات القديمة. في 2: 29؛ «ختان القلب بالروح لا بالكتاب». 6: 4، 6: «نسلك في حياة جديدة... عالمين أن الانسان القديم قد صُلب». هذا التقابل بين الحرف والروح، بين القديم والجديد، مهمّ جداً في نظر بولس. الحقبة القديمة هي التي قبل المسيح. حقبة القيد. وفُهم برّ الله فهماً سطحياً حيث الختان لا ينفصل عن البرّ (حرف الشريعة). والحقبة الجديدة، الحقبة الاسكاتولوجيّة، هي حقبة المسيح التي يدلّ عليها الروح، يعطيها الروح فتصبح الحياة في الروح. هذا التوازي الذي توسّع فيه بولس في 2 كور 3 مع نقيضة الحرف والروح، والتمييز بين العهد القديم والعهد الجديد، فربطه بالخدمة (2 كور 3: 6- 9) مع الوعد النبويّ في إر 31: 31- 34؛ حز 36: 26- 27، هو أساس رائع. يرى بولس هنا مسؤوليّة خلقيّة في حياة تتعارض مع مثال حياة «بحسب الروح أو الكتاب». ترتيب الحياة في الخط الفريسي بالنظر إلى الشريعة، هو خبرة مدمّرة: الحرف يقتل (2 كور 3: 6). هذا ما يقابل «المسيرة حسب الروح» (6: 4؛ 7: 6؛ 8: 4) التي هي خبرة محرِّرة ومحيية. في مثل هذا الكلام، هناك خطر الحماس الواسع. هنا نلاحظ أن بولس يتكلّم عن «خدمة» الروح، لا عن خبرات روحيّة.
3- خلاصة لاهوتيّة
من المهمّ أن نفهم أن ليس من نفع في خضمّ البراهين هنا. فالكلام عن «السيادة» في آ 1، وتواصلُ الكلام عن «الموت»، وصورُ «حمل الثمر» في آ 4- 5، والعبوديّة في آ 6، كل هذا يعود بنا إلى المواضيع المسيطرة في القسم الثاني من ف 6. إلاّ أن مرحلة جديدة بدأت في 7: 1 مع «أتجهلون» وادخال «الشريعة». حاول بولس أن يستغلّ الاستنتاجات الخلقيّة والانشداد الاسكاتولوجيّ، فتحدّث عن الخطيئة والموت، كما عن الخطيئة والنعمة، الموت والحياة: مات المسيح عن الخطيئة وقام إلى الحياة. وأنتم شاركتم الآن في هذا الموت، وستشاركون في القيامة مع أن ملء مشاركتكم في قيامة المسيح لم تتمّ بعد. نحن نعيش على ضوء مشاركة مثلثة: الماضي، الحاضر، المستقبل. فالحياة هي حياة في النعمة.
ولكن جاءت الشريعة مع الخطيئة والموت فتعقّدت الأمور. في ف 5، توسّع بولس في مفهوم الخطيئة والنعمة، الموت والحياة، بدون عودة إلى الشريعة، قدر الامكان (5: 15- 19)، وقبل أن يُدخل الشريعة إلى اللوحة. وكذلك في ف 6، حاول أن يصوغ استنتاجات خلقيّة وانشداداً اسكاتولوجيّاً ضمنياً في الانجيل مع أقل ما يمكن من عودة إلى الشريعة. هو ما اعتبر أن الشريعة لا تليق بهذه المواضيع، بل رأى أن الشريعة تُعقّدها بسبب نظرة اليهود إلى الشريعة (ف 2). فحين وُضعت الاستنتاجات الخلقية في الإيمان بالمسيح، في تعارض بين الخطيئة والنعمة، بين الموت والحياة، جُعلت الشريعة بجانب الخطيئة والموت (5: 20؛ 6: 14- 15). ولكن إذا كانت التعارضات لا تستبعد بعضها بعضاً، وإن وجب على المؤمن أن يرى واقع الانشداد الاسكاتولوجي، وإن كانت الخطيئة حاضرة في أمانة المؤمن، والحياة لم تغلب الموت لدى المؤمن (لأنه لا يشارك بعدُ ملءَ المشاركة في القيامة)، هل يجب أن تدخل الشريعةُ لتزيد الأمور تعقيداً؟ في الواقع هذا ما فعله بولس.
توجّه بولس حالاً (آ 1) إلى قرّائه الرومان على أنهم يعرفون الشريعة. الشريعة اليهوديّة. هذه الشريعة يخضع لها الانسان ما دام حياً. وهكذا نعود إلى لغة «السيادة». الشريعة تسود، شأنها شأن الخطيئة والموت. ولكن المسيح الذي مات مرّة واحدة، لم يعد خاضعاً لسلطة الخطيئة والموت. والمسيحي صار بين موت المسيح وقيامته، بحيث إنه لم يتفلّت كلّياً من وضع تسيطر عليه الخطيئة والموت. ونقول الشيء عينه عن الشريعة. فهي تسود عليه ما دام حياً. لهذا هو يعيش في الرجاء ولم يصل بعد إلى ملء الواقع.
ووضّح الشريعة بحال المرأة المتزوّجة (آ 2- 3). تزوّجت في حكم الشريعة اليهوديّة فخضعت لزوجها. ولا سبيل لها أن تقطع هذا الرباط قبل الموت. فبعد الموت فقط تتحرّر من شريعة تربطها به. وسلطةُ الشريعة واضحة حين تُحسب المرأةُ زانية إن هي تعلّقت برجل وزوجها بعدُ حيّ. وتزول سلطة الشريعة حين تفعل العمل عينه بعد موت زوجها فلا تُحسب خائنة ولا كاذبة. فالموت هو الذي يحرّر من سيادة الخطيئة (6: 9- 10، 18). وهو أيضاً يحرّر من سيادة الشريعة.
ويطبّق بولس هذا المبدأ (آ 4)، حيث الموت يحرّر من سلطة الشريعة. فينتقل المؤمن من حالة إلى أخرى. «مُتّم عن الشريعة بجسد المسيح». أي المسيح في جسده الذي صلب، نتخلّص به من الخطيئة والموت (6: 7، 9). وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشريعة. فالمؤمن يتحرّر من «جسد الخطيئة» (6: 6) ومن الشريعة حين يتشبّه بالمسيح في موته. ولكن لم يقل النصّ إن المؤمن قام مع المسيح. المسيح مات، وكل مؤمن مات عبر جسد المسيح. والمسيح قام من بين الأموات ولكن المؤمنين ما قاموا بعد. لهذا نقول: وحده المؤمن الذي مات يستطيع أن يتّحد بالمسيح.
وتستعيد آ 5- 6 ما قيل في ف 3. هو توضيح لدور الشريعة التي دخلت الآن. ولكن بولس أدخل «الجسد»، كما سبق له وتحدّث عن «الانسان القديم» وعن «جسد الخطيئة» (6: 6). هكذا يميّز وضع قرّائه قبل الاهتداء. وهكذا ذكّر بولس مؤمني رومة أنهم صاروا اليوم «خارج حكم الجسد» مع أهوائه (6: 12) والشريعة (6: 14- 15). ما عدنا نحمل ثمر الموت (6: 21) في أعضائنا (6: 13، 19). دخلت الشريعةُ هنا بدورها الفاعل والمتفاعل مع الخطيئة والموت: إن أهواءنا الخاطئة التي عبر الشريعة، صارت فاعلة في أعضائنا لتحمل ثمر الموت. أجل، هذه الأهواء أتت بواسطة الشريعة.
ما أراد بولس أن يتحدّث عن الشريعة كقوّة سلبيّة يتخلّص منها المؤمن. بل هو أشار إلى أنها ينبوع الأهواء الخاطئة. فالشريعة هي التي طبعت هذه الأهواء بطابع الخطيئة. لعبت دوراً. كانت الواسطة. وهكذا قادت المؤمن إلى الموت.
ولكنّنا الآن تحرّرنا. مُتنا، فما عدنا مقيّدين بالشريعة. غير أن هذه الحريّة تبقى مسؤولة. تركنا خدمة لتأخذ بخدمة أخرى. تركنا الحرف وما فيه من قديم، لنأخذ بالروح الذي يجعلنا في النظام الجديد. حين نتشبّه بالمسيح في موته، نتحرّر من شهوات الخطيئة، من الموت، لنخدم في «جدّة الروح». هي عودة إلى الروح القدس كطابع الحقبة الجديدة والسمة التي تميّز الذين ينتمون إليها (5: 5؛ 8: 9- 15؛ غل 3: 1- 1 4). هذا ما يقودنا إلى الكلام عن تجدّد الروح في الانسان. ولكن هذا لن يتمّ إلاّ بقدرة الله (الروح) الذي يعمل في الإيمان وبواسطته. إن الحقبة الجديدة تحرّرت من الشريعة، فما عادت مرتبطة بحرف مكتوب. فالروح هو الذي يوجّه المؤمن بحيث تصبح طاعتُه من القلب (6: 17)، ويتجدّد عقلُه فيتميّز إرادة الله (12: 2).
الخاتمة
كانت المعموديّة علامة موت الانسان الطبيعيّ ليولد كائنٌ جديد. وكان هذا الموت تحرّراً من عبوديّة الخطيئة. عند ذاك اكتشف الانسان أنه مدعوّ لكي يحيا في حريّة حقيقيّة هي خدمة الله، لكي يطلب القداسة. فالانسان الذي يحرّره الانجيل يصبح طبيعة جديدة. وجاء تشبيه مع الشريعة الرومانيّة يبيّن أن الموت يجعل الرباط بالشريعة وكأنه غير موجود. هذا ما يحدث للمرأة التي يموت زوجها، وهذا ما يحدث للمؤمن الذي مات عن الشريعة ليحيا لله. فما عاد للشريعة من سلطان عليه. وقابل الرسول بين الماضي، ساعة كنا نحيا حياة الجسد، ساعة كنا مائتين، ضعفاء، مدفوعين إلى الشرّ، وبين الحاضر الذي فيه متنا مع المسيح فتحرّرنا، لا لنخدم الشريعة في حرفيّتها، بل الروح. ولكن يبقى السؤال المطروح: أي دور يُعطى بعدُ للشريعة؟ هذا ما نجيب عليه في الفصل التالي مع كلامنا عن الشريعة والخطيئة.