الفصل التاسع عشر
المؤمن يحيا لله
6: 12- 23
طُرح سؤال في بداية ف 6: هل تدعو النعمة إلى الخطيئة، لأنها ترتبط بالشريعة في العالم اليهوديّ؟ وكان جواب أول: المؤمن مات عن الخطيئة، فكيف يعود إليها؟ مات جسدُ الخطيئة عنده مع موت المسيح، فتحرّر تحرّراً نهائياً من الخطيئة. تلك كانت النظرة السلبيّة في هذا البرهان الذي حاول فيه بولس أن يردّ على الذين طلبوا أن تكثر الخطيئة لكي تفيض النعمة. ويأتي الجواب الإيجابيّ: إذا كان المؤمن كذلك، فهو سيحيا لله. سينتقل من خدمة الخطيئة إلى خدمة البرّ (آ 12- 14). وسوف يتحرّر من الخطيئة، وإن لم يزل مقيماً في جسده الذي هو مركز الرغبات (آ 15- 19). وأخيراً، تبرز ثمارُ الخطيئة وثمار البرّ (آ 20- 23). ثمرة الخطيئة عاقبتها الموت. وثمرة البر والقداسة عاقبتها الحياة. لهذا بدأ الارشاد في أكثر من تمنٍ. ما قال: يا ليت الخطيئة، بل أعطى أمراً إلى المؤمنين: يجب أن لا يملك الموتُ بعدُ.
1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 12، بعض الشهود (ومنهم بردية 46) جعلوا صيغة المؤنّث (اوتي) فربطوا الضمير بالخطيئة، والأصحّ صيغة الحياد (أوتو): رغبات الجسد (سوما).
في آ 15: هل نخطأ. هناك من جعل الصيغة المصدريّة كما في 6: 1.
في آ 16: هناك من وضع «أو» (هي)؛ أو، ألا تعلمون؟ هكذا تكون الجملة مثل 11: 2؛ 1 كور 6: 2، 9، 16- 19. وألغى قليلٌ من الشهود «إلى الموت». هو تصحيح غير متعمَّد.
في آ 17، أضاف الاسكندراني «كاتاروس» (طاهر) على قلب، فصار النص: قلب طاهر. في آ 19 حاولت بعضُ المخطوطات أن تحسّن النصّ، فجعلت «دولاواين» (استعبد) بدل «دولا» عبيد. وألغى الفاتيكاني وغيره «للشرّ» أو في الشرّ.
ب- بنية النصّ
الانتقال من القول الرئيسيّ إلى الإرشاد الذي أشرنا إليه في آ 11، يميّز هذا المقطع، مع تعارض واضح فيه استُعملت صيغةُ المخاطب الجمع بشكل حصريّ. وشذّ عن ذلك سؤال في أسلوب جدالي في آ 15. أما السمات الأساسيّة فتبدو في سلسلة من النقائض:
آ 13 سلاحاً للشرّ في سبيل الخطيئة سلاحاً للخير في سبيل الله
آ 14- 15 في حكم الشريعة في حكم النعمة
آ 16 إما للخطيئة إلى الموت وإما للطاعة إلى البرّ
آ 18 تحرّرتم من الخطيئة استُعبدتم للبرّ
آ 19 عبيداً للدنس للشرّ عبيداً للبرّ للقداسة
آ 20 عبيد الخطيئة أحرار للبرّ
آ 22 تحرّرتم من الخطيئة استُعبدتم لله
آ 21- 22 العاقبة الموت العاقبة الحياة الأبديّة
آ 23 أجرة الخطيئة الموت هبة الله الحياة الأبديّة
نتج عن هذه البنية التعارضيّة، دون الوقوع في التكرار، أمران اثنان.
الأوّل: التنوّع في استعمال الكلمة المفتاح (ديكايوسيني، البرّ)، في معارضة مع الخطيئة (هامرتيا، آ 18- 20). وأيضاً: الشر (أديكيا، آ 13)، الموت (تاناتوس، آ 16)، والدنس (أكاترسيا، آ 19). وفي ترادف مع الله (تايوس) في تعارض مع الخطيئة (آ 13 و19، آ 18 و22). رج أيضاً آ 16 وآ 17. ق 6: 22. وفي جملة لافتة: طاعة البرّ (رج 6: 16) التي تقابل في وظيفتها «البرّ للقداسة» (آ 19). هذه المرونة كانت كافية لتحذر فرض تحديد ضيّق «للبرّ» في كلام بولس عن هذا الموضوع. «فالبرّ»، في نظر بولس هنا، يقابل قدرة الله ونعمته. يطلب المؤمن ويسنده، ويصل إلى التعبير الكامل في الحياة الأبديّة (5: 21؛ 6: 23).
الثاني: المحافظة على الانشداد بين ما حصل وما لم يحصل بعد. بين قبل وبعد. الارشاد في آ 12، 13 أ، 16، 19، 21. رج 15، 23 تأسّس على الصيغة الاخباريّة في آ 13 ب، 14، 17- 18، 22. قبل في آ 17- 18، 19 ب، 20- 21. بعد في آ 19 ب، 22. وهكذا حاول بولس المحافظة على الانشداد الاسكاتولوجيّ، فنتج عن ذلك أمر مهمّ: بما أن الكلام سلسلة من التعارضات والتوازيات، نخطئ إن أخذنا آية وجعلناها تسيطر على ما تبقَّى، أو على مجمل شرح الموضوع البولسيّ. ما من أية تفسَّر بمعزل عن الكل، وبدون عودة إلى تنوّع التعارضات والتوازيات. ولا أساس (كما قال البعض) بأن نرى في آ 13 وآ 19 حواشي جاءت بعد بولس.
إن استعادة ما في 5: 21 و6: 23 تُثبت أن آ 1- 23 هي وحدة موضوع، فيه خاتمة 5: 12- 21 استُعيدت لتلغي الغموض من 6: 1. فمسألة العلاقة المتواصلة بين المؤمن وبين الخطيئة والموت (ما مارست الخطيئةُ كلمتَها الأخيرة في الموت)، قد أعطت الجواب النهائي الأول، فوضحت الطريقُ لبولس ليلفت الانتباه إلى المسألة الرئيسيّة: تواصلُ دور الخطيئة (ف 7).
2- تحليل النصّ الكتابيّ (6: 12- 23)
يتوزّع النصّ في ثلاثة مقاطع. في الأول (آ 12- 4) مقابلة بين خدمة الخطيئة وخدمة البرّ. وهكذا يفهم المؤمنُ أن عليه أن يعمل للبرّ. لماذا؟ لأنه محرَّر من الخطيئة (آ 15- 19). ما عاد عبداً للخطيئة، فانتقل إلى عبوديّة البرّ، التي هي في الواقع حريّة. فلا يبقى على المسيحيّ إلاّ أن يكتشف، إلى أين قادت عبوديّةُ الخطيئة وما أعطت من ثمر، وإلى أين قادت عبودية البر (آ 20- 23).
أ- خدمة الخطيئة وخدمة البرّ (آ 12- 14)
«فلا تدَعوا الخطيئة تسود» (آ 12). بدأ النص مع «أون» (اذن)، فدلّ على خاتمة استُخرجت من البرهان السابق. لسنا أمام تفكير جديد بل موقف عمليّ. الكلام عن الخطيئة التي تسود يذكِّرنا بما في 5: 21 (رج 3: 9). ورغم ما قيل في آ 2- 11، فسيادةُ الخطيئة ليست فقط إمكانيّة. إنها واقع يجب أن نقاومه في كل وقت (لهذا صيغة الحاضر). «جسدكم الفاني (المائت)». لا يقابل الجسد البشريّ ولا هو كلام لاحتقار الجسد كما في العالم الغنوصيّ. فالخطيئة لا تخضع فقط على جزء من الانسان، بل عليه كلّه في انتمائه إلى هذا العالم وهذا الدهر. الانسان سريع العطب تجاه قوّة الخطيئة التي تعمل تجاه ضعفنا.
«فتنقادوا لشهواته». ذاك هو هدف الخطيئة حين تسعى إلى التأثير على الانسان. ولا تسود الخطيئة إلاّ إذا أطعناها. «هيبوكواين» (خضع). هو يرد هنا للمرة الأولى. وهناك الاسم. استعمالُ هذا الجذر قليل. لم يرد في 1 كور ولا في غل ولا في 1 تس ولا في الرسائل الرعائيّة. ورد 3 مرّات في 2 كور ومرة واحدة في فل ومرتين في كو. أما في روم فورد 11 مرّة. هذا يعني أهميّته. ينظر بولس إلى الطاعة، التي تتجاوب مع طاعة المسيح (5: 19) والتي ما زال تأثيرها حاضراً. «ابيتيميا» (رغبة، شهوة). رج 1: 24 (شهوات قلوبهم)؛ غل 5: 16 (شهوة الجسد، البدن، اللحم والدم). يرتبط بها الانسان فيسير إلى العبوديّة. ونحن نهرب من هذا الارتباط حين نتماهى مع المسيح. في هذا المجال، قال ابيكتات: «أنت لا تقتني الحريّة حين تُرضي رغبتك، بل حين تدمّر رغبتك». إن السقوط في الخطيئة، هو واقع ممكن للمسيحيّ. لهذا فقراره بأن يكون لله يتّخذ طابع الحرية وكأنه ما خضع لسلطان الخطيئة.
«ولا تجعلوا من أعضائكم» (آ 13). «باريستيمي»: أعدّ، هيّأ. يتكرّر الفعل هنا مرتين كما في آ 19، وفي آ 16 مرّة واحدة. رج 12: 1. هي صورة العبد تجاه سيّده (آ 16- 18)، أو الجندي تجاه قائده. هي طاعة عمياء. صيغة الحاضر تدلّ على أننا، كلَّ يوم، نقدر أن نرفض هذا الخضوع. «مالوس»، الجزء من الجسد، العضو. وهناك أيضاً العضو في الجماعة. رج 12: 14- 15؛ 1 كور 12: 12- 27؛ أف 4: 16، 25؛ 5: 30. نلاحظ هنا استعمال استعارة حربيّة (13: 12؛ 1 تس 5: 8؛ أف 6: 13- 17). «اديكيا»، الشر. لفظ واسع يدلّ على معارضة برّ الله. وهكذا تقوى قبضةُ الخطيئة وكأنها شخص حيّ. فحين يرغب الانسان في الاستقلال عن الله، يدلّ على خدمته للخطيئة في صراعه بين البرّ واللابرّ.
«بل كونوا لله». بما أنه لا بدّ أن نخضع لسلطة، لماذا لا نخضع للخالق خضوعاً يصبح في النهاية علاقة شخصيّة. بعد أن كنّا أمواتاً نصبح أحياء. إن حدثَ قيامة المسيح قد حصل، فمكّننا من تحويل موقفنا. والباعث على سلوك خلقيّ يرجع إلى تشبّهنا بالمسيح في موته وقيامته. هكذا نستطيع العيش في مشاركة مع حياة المسيح المنبعث. وهنا يأتي التعارض. قد نكون أداة للشرّ، للخطيئة، أداة للبرّ، لله. رج 5: 20 حيث «النعمة» تقابل «الخطيئة». لسنا أمام ثنائيّة بين الخطيئة والله. بل الخطيئة هي قوّة على الأفراد والجماعات ولا يستطيع إلا الله أن يقهرها، وهو يفعل بنعمته. تحدّث بولس عن قوّة الخطيئة وما تحدّث عن الشيطان (16: 20). «اللابرّ» هو الوسيلة التي بها تفعل قوّةُ الخطيئة، وتمارس سلطتها على الأفراد وبواسطة الأفراد. و«البرّ» هو قوّة الله التي تحفظ المؤمن تحت تأثير الله.
«يكون للخطيئة سلطان» (آ 14). استعمل بولس هنا صيغة المضارع. هذا ما سيكون للمؤمن إن هو شارك المسيح في قيامته. ولكن لسنا فقط أمام وعد فقط، بل وعد بدأ يعمل. وهكذا يكون التوازن بين عمل تمّ مرّة واحدة في تاريخ الخلاص وما ينتظر المؤمنين في النهاية. ولكن تبقى الخطيئة ممكنة، الآن وفي المستقبل.
«فما أنتم في حكم الشريعة». عاد بولس إلى الحاضر تجاه المضارع. فالمضارع هو وعد ثابت، بعد أن شارك المؤمنون منذ الآن في تاريخ الخلاص، فانتقلوا من حقبة سيطرت عليها الخطيئة إلى حقبة سيطرت عليها النعمة. فالذين جعلوا نفوسهم تحت سيادة المسيح، لن يخضعوا للخطيئة وللشريعة مع أن تأثير الخطيئة ما زال حاضراً في الموت (5: 12). «نوموس»، الشريعة، التوراة. ما زالت قوّةً تفرض سيطرتها. في 5: 20- 21 بدت الشريعة مع الخطيئة والموت كطريقة تصف الحقبة القديمة، حقبة آدم. «تحت الشريعة». ذاك هو الموقف اليهوديّ ككلّ (1 كور 9: 20؛ غل 3: 23؛ 4: 4- 5، 21). جعلوا نفوسهم تحت الشريعة كقوّة روحيّة وضعها الله بشكل «ملاك حارس». ذاك ما يميّز شكل حياة عرفه العالم اليهوديّ. وفي رسالة تحاول أن تدلّ على التواصل والانقطاع بين عهد أعطي لابراهيم (وعبر اسرائيل) وتتمّته الاسكاتولوجيّة، عبارة «تحت الشريعة» تميّز حقبة آدم. ويقابل عالم الشريعة عالم النعمة في غل 5: 18: تقابلٌ بين عالم الشريعة وعالم الروح.
ب- المسيحيّ محرّر من الخطيئة (آ 15- 19)
«فماذا إذن» (آ 15). عبارة تدلّ على أن البرهان ما زال حاضراً، ونحن نتابع. «أنخطأ». يرد هذا الفعل هنا فقط في ف 6، ويرد للمرّة الأخيرة في الرسالة. هو يدلّ على عمل مسؤول (2: 12؛ 3: 23؛ 5: 12، 14، 16). وهذا العصيان المسؤول ممكن حتّى خارج الشريعة (2: 12- 5؛ 14). لا مفرَّ من هذا العمل في حكم الخطيئة. ترك بولس المخاطب وأخذ بالمتكلّم، فبيّن أنه لا يطرح سؤالاً فقط على قرّائه. بل هو جعل نفسه معهم (نخطأ).
«ألا تعلمون» (آ 16). هو سؤال بلاغيّ يفضّله بولس على أسلوب «نحن نعلم». هو أمر معروف لا يحتاج إلى برهان. «إذا جعلتم أنفسكم عبيداً». هذا ما يقابل شطرَي آ 13. ولكن صورة العبوديّة التي تظهر الآن تُشرف على الفصل كلّه. عالم العبوديّة كان معروفاً في العالم الرومانيّ. والتمييز كان أساسياً بين العبد والحرّ. وكلام بولس معروف: أنتم تخصّون من تطيعون فتصيرون عبيداً لمن له تخضعون. والمؤمن يختار. أيختار الخطيئة، فتصل به إلى الموت؟ بدت «الخطيئة» وكأنها شخص يمارس قوّته (نلاحظ هنا الصورة في آ 12- 16). ويظهر «الموت» من جديد مع الخطيئة فيكتمل المثلّث: الخطيئة، الشريعة، الموت (آ 14- 16؛ رج 5: 20- 21). بدا الموتُ هنا التعبيرَ الأخير والنهائيّ لقبضة الخطيئة على الانسان. وسرّ الانجيل هو أن المسيح حوّل شرّ الخطيئة إلى انتصار الحياة (آ 7- 10).
أيختار المؤمن البرّ؟ وترد كلمة «طاعة» مع البرّ لا مع الله. في آ 16- 17، 4 مرات كلامٌ عن الطاعة، 3 مرات عن العبد (دولوس). فالعبوديّة والطاعة توأمان. بالنسبة إلى العبد، الطاعة هي الخيار الوحيد. الخطيئة هي قوة تسود الانسان، ولكنها أيضاً عمل يكون فيه الانسان مسؤولاً. والطاعة كمسؤوليّة الانسان ترتبط بمن نعطي ذواتنا له. ثم إن «البرّ» جاء يقابل الموت. فنقول: الطاعة التي تقود إلى البرّ. نحن بعيدون عن أعمال البرّ. لأن الطاعة هي هبة من الله (1: 17؛ 5: 17).
«ولكن شكراً لله» (آ 17). ويمكن أن يُرفع الشكرُ إلى المسيح. رج 1 كور 15: 57؛ 2 كور 2: 14؛ 8: 16؛ 9: 15، ونعود هنا إلى «عبد الخطيئة» والطاعة التي هي الخيار الوحيد للعبد. «صرتم طائعين» «بكل قلوبكم». طاعة القلب، لا طاعة خارجيّة مكرهة. هي طاعة مجذَّرة في العاطفة وفي الارادة. ذاك هو الواقع المسيحيّ الذي يكون جوابُه جوابَ القلب. رج 2: 15، 29؛ 5: 5؛ 10: 9- 10. «أطعتم التعاليم». هو التعليم المسيحيّ الذي بدأ يتثبّت. هناك مثال (تيبوس) سلِّم إلى المؤمنين، كما في تقليد انطلق من أورشليم وامتدّ إلى الكنائس.
«فتحرّرتم» (آ 18). يُذكر هنا للمرة الأولى موضوع هام: تحرّر المسيحيّ (8: 2) في إطار كلام عن العبوديّة (آ 18، 20، 22). ما اهتمّ بولس فقط بالتعارض بين العبد والحرّ في مجتمع عصره (آ 16)، بل بتشوّق العبد إلى الحريّة. من نظرة لاهوتيّة هناك حرّ يُستعبد، ثمَّ يتحرَّر بعد أن كان عبداً. إن لم يكن الانسان عبداً لله، سيكون عبداً للخطيئة. وإن لم يكن للمسيح سيكون لآدم، وما من خيار ثالث. أما الحريّة الوحيدة للانسان فهي أن يكون عبد الله، فيحيا حياةً يقرّ فيها أنه يرتبط به ارتباط الخليقة بالخالق.
«تعبيري بشري» (آ 19). هي معترضة: هذا ما يقوله الناس، كل يوم في الحياة اليوميّة. ولكن لفظ «ساركس» (اللحم والدم، الضعف، والميل إلى الخطيئة) يدلّ على تناقض بين ما هو بشريّ وما هو إلهيّ. وعى بولس أن استعارة العبوديّة لا تكفي للكلام عن العلاقة بالله. فالوضع البشريّ ضعيف ولا يقدر أن يعبّر عن ذاته، بل هو فاسد وخاضع لمختلف الرغبات. «فكما جعلتم من أعضائكم». هكذا يستعيد بولس المواضيع السابقة: أعضاء (آ 13)، جعل، عبد (آ 16). ثم «نجاسة، شرّ، قداسة» (5: 12، 18، 19، 21). وعبارة «كما... كذلك». هي صيغة الماضي الناقص. لا تدلّ فقط على ما فعل المؤمن في الماضي (جعلتم)، حين عاش في الحقبة الآدميّة، بل على الخضوع الحاسم للخطيئة الذي ميّز طريقة حياته قبل التجاوب مع برّ الله. ويحافظ بولس على التوازي بين المسؤوليّة البشريّة وسيادة قبضة قويّة. «دولا» (لا نجده كذلك إلاّ في اليونانيّة البيبليّة). صيغة حيادية مع «مالوس» (عضو، 6: 13). هكذا يَبرزُ وضعُ العبد. «الآن». هذا ما يجعلنا في إطار اسكاتولوجيّ، قبل وبعد الاهتداء الذي يدلّ على المشاركة في الانتقال من حقبة إلى أخرى.
الطابع اليهوديّ للعناصر الجديدة واضح: النجاسة، الشرّ، قدّس، القداسة. هذا ما يعود بنا إلى اصلاح عزرا الذي ميَّز شعب العهد من الأمم النجسين (عز 9: 10- 14). «أكارتسيا» (النجاسة). تذكّرنا بانتقاد اليهوديّة اليونانيّة لعبادة الأوثان والفجور لدى الأمم (1: 24). وهناك موضوع التقديس أو التكريس. فالشعب اليهودي يعتبر نفسه شعب كهنة (خر 19: 6). كل هذا انتقل إلى العالم المسيحيّ. فالمؤمنون هم مقدّسون. والقداسة ترتبط بما يقال عن العماد. هذا يعني أن بولس يكتب بشكل خاص إلى الأمم دون أن ينسى جذوره اليهوديّة.
ج- ثمر الخطيئة وثمر البرّ (آ 20- 23)
«وحين كنتم عبيداً» (آ 20). تستعيد هذه الآية آ 17- 18 وتوجزهما، لتصل إلى تعارض بين حالة المؤمنين الحاضرة في يسوع المسيح، والمكرّسة لله في الاهتداء والتدرّج مع المعموديّة، وبين حالتهم الماضي، مع تعارض بين «البرّ» و«الخطيئة» كقوّتين متقابلتين. وتتواصل الاستعارةُ. أن يكون الانسان تحت سلطة الخطيئة، هذا ما يدلّ على أن قوّة نعمة الله التي تعطي القوّة، لا تقيم التوازن. فلا نستطيع أن نكون تحت سيادة الخطيئة الكاملة، وفي الوقت عينه نسير في برّ الله. ففي الحياة اليوميّة، الخطيئة تستبعد البرّ، والبرّ يستبعد الخطيئة.
«فأي ثمر جنيتم» (آ 21). هي صورة الثمرة مع صورة العبوديّة. استعمالُها واسع ومدلولُها معروف (1: 13). «كربوس» (ثمر). يدلّ على المفرد وعلى الجمع. وفي اليونانيّة الجمع: التي. رج غل 5: 22. مقابلة بين: ما قبل... والآن. قبل الاهتداء وبعده. مع آدم ومع المسيح. لبث بولس في منظار يهوديّ. إن فعل «خجل» يرتبط في السبعينيّة بالفجور (1 صم 20: 30؛ أم 9: 13؛ اش 20: 4؛ 47: 3؛ حز 16: 36، 38). هو أسلوب اليهوديّة الهلنستيّة في انتقاد الأمم (1: 23- 27). هي مواضيع كثيرة قريبة من عز 9: 7- 15 مع: خجل، نجاسة، لا شريعة، عبوديّة، قداسة (الهيكل). «تالوس»، العاقبة، النتيجة في إطار اسكاتولوجيّ. رج 2 كور 11: 15؛ فل 3: 19؛ 1 بط 4: 17. الموت هو النتيجة النهائيّة، وبالتالي نهاية سلطة الموت. وهذا يعني أيضاً أن الموت هو نتيجة عصيان إرادة الله والتحوّل عن الخالق (1: 32). رج 5: 12.
«أما الآن» (آ 22). هذه الآية تجمع أيضاً المواضيع السابقة، فتُبرز صوَر آ 18- 21 لتعبّر عن غنى الحاضر بالنسبة إلى الماضي. «حُرّرتم». حرّركم الله. لا في المستقبل وحسب، بل الآن. فالبرّ هو تجلّي الله ليسند الشعب الخاطئ والخليقة الساقطة. هو ما يقابل النعمة في 5: 20 ي. ونعود إلى الثمرة مع كلام عن غرس البرّ في الكتابات اليهوديّة (اش 32: 15- 17؛ 60: 21؛ 61: 3؛ ق يوب 1: 16؛ 16: 26؛ 36: 6). لا شكّ في أن القداسة ترتبط بالمستقبل، إلاّ أن ثمرها حاضر الآن ومنظور. فمسيرةُ التقديس تسير ولا تتوقّف. وتجاه الموت كنتيجة الخطيئة، ها الحياة كنتيجة القداسة.
«أجرة الخطيئة الموت» (آ 23). وها هي صورة أخرى، صورة الأجر (اوبسونيون) الذي يأخذه الجندي (1 مك 3: 28؛ 14: 32؛ لو 3: 14؛ 1 كور 9: 7). والأجر بشكل عام (2 كور 11: 8). لقد نلنا أجر الموت. ولكن ما يكون الأجر الذي وُعدنا به؟ هذا الأجر هو دفع مستمرّ، يوميّ. وهكذا هو فعل الموت (5: 21). الموت هو الأجر الأخير للخطيئة، وليس فقط موت الجسد. بل الموت الأبدي تجاه الحياة الأبديّة التي يهبها الله لنا. كل هذا نناله بواسطة يسوع المسيح.
3- خلاصة لاهوتيّة
هناك من لم يرَ الانشداد الاسكاتولوجيّ في آ 1- 11، ففكّر بارشاد خلقيّ هنا (آ 12). ما دام المؤمن الذي يشارك المسيح في قيامته لم يتماهَ «بعدُ» مع المسيح في موته، يبقى هذا الكلام غامضاً. ما معنى هذا النصح إن كان المؤمن ما زال ميتاً للخطيئة؟ كيف يُطلب من انسان ميت أن يقوم بمجهود خلقيّ؟ لهذا نعود إلى التوازن في فكر بولس: سيادة الخطيئة تنتمي إلى الحقبة القديمة، حقبة آدم الساقط ونسله. من أراد أن يبرّر نفسه ارتبط بالانسان القديم. بدون النعمة. يختبر مثلُ هذا الانسان أنه لا يستطيع أن يقاوم رغباته.
أما المؤمنون الذين يعرفون مدلول حقبة موت المسيح وقيامته، فليسوا في هذا الوضع. فمع أن حياتهم هي في محيط العالم الحاضر، على المستوى البشريّ والاجتماعيّ (جسد الموت)، ما صارت كلها تحت سلطة المسيح المنبعث (8: 11). إلاّ أن الحاجة لإشباع رغباتهم لا تتطلّب بعدُ سيادة. فالانشداد الاسكاتولوجيّ حاضر. في نظر المؤمنين، ما زال الجسد مائتاً والشهوات تُحدّد طابعَ الحياة وأولوياتها. ولكن قوّة النعمة، قوّة المسيح المنبعث، تؤهّلهم للنهوض. فالتحوّل المسيحيّ ليس آلياً وكأنه تمّ بضربة ساحر. فعبر الاهتداء والتدرّج، هناك عمل لا رجوع عنه ندلّ عليه في الحياة اليوميّة. مسؤوليّة المؤمن كبيرة، وعليه أن يجعل النعمة تعبّر عن نفسها في حياته. إن المجهود الخلقيّ لا يعارض الإيمان، بل هو عمل الإيمان والتعبير عنه.
ويبقى بولس على مستوى الجسد (آ 13)، لأن المؤمن ما زال من هذا العالم بالجسد (أعضاء)، وعمل النعمة ما تمَّ بعد. إن استطاعت قوّةُ المسيح المنبعث أن تدلّ على نفسها في ملء العلاقات البشريّة، عندئذ يتأكّد انتصارُ النعمة. ولكن ما دمنا في هذا الجسد، فهناك أعمال من أجل اللابرّ، بحيث تكون فينا مناطقُ في خدمة الخطيئة. هنا يحذر المؤمن من أن يكون منقسماً: أن يكون سلاحاً (اناء) في يد الخطيئة وفي يد البرّ معاً. وقد تُستعمل بعضُ أعمالنا كأداة في يد الخطيئة لتقطع العلاقة بيننا وبين الله، بيننا وبين الآخرين.
ولكن هناك خياراً للمؤمنين: يستطيعون أن يختاروا، أن يجعلوا نفوسهم في تصرّف الله كأناس قاموا من بين الأموات، وأعضاءهم سلاحاً (أو: أدوات) للبرّ. يتذكّرون مدلول فعل المسيح البار من منظار موت المسيح وقيامته، ليختاروا ويفعلوا في خط ما أتمته قيامةُ المسيح (أن يفعلوا ما يفعلون في حضرة الله)، أن يفعلوا كأناس تجري فيهم حياةُ المسيح المنبعث. إن كلَّ عمل يتضمّن خياراً خلقياً، هو عمل تسليم يتجدّد فيه الاهتداء ويتحقّق. إذا عُمل كلُّ عمل لله كشيء يستطيع الله أن يستعمله لخير البشريّة، يستطيع المؤمن أن يثق أنه يسير في الحياة الجديدة.
السبب الذي لأجله (آ 14) يمكن للمؤمنين أن يتجنّبوا التسليم للخطيئة في حياتهم، هو أن الخطيئة لا تسود بعدُ في حياتهم، لأنهم ما عادوا تحت الشريعة، بل تحت النعمة. وهذا ما يتمّ شيئاً فشيئاً بواسطة موت المسيح وقيامته وتشبّههم بهما. فالنعمة هي القوّة الوحيدة التي تحطّم سيادة الخطيئة. ووحدهم المؤمنون العائشون تحت النعمة والخاضعون لله، يقدرون أن يهزموا قوّة الخطيئة.
والمنظار الوحيد الذي يريد بولس أن يقود فيه قرّاءه، هو خيار النعمة على الشريعة. لماذا أدخل بولس الشريعة في فصل يتحدّث عن الخطيئة والموت؟ لأن الشريعة لم تكن يوماً بعيدة عن فكر بولس، الذي يعلن أن انجيله ليس ضدّ الشريعة التي تلعب دوراً هاماً في مسيرة الخلاص. ولكن اللافت هو أن هذه الشريعة هي في الجهة التي لا يودّ أن يراها اليهوديّ التقيّ: فمن كان تحت الشريعة ارتبط بسيادة الخطيئة، فخضع للشرّ وأطاع رغبات جسده المائت. مثلُ هذا الجمع بين مفهومين، يُدهش اليهود الذين يرون أن الشريعة أعطيت بالنعمة لتمنع الخطيئة، أعطيت كسورٍ في وجه الشرّ، كوسيلة تواجه نجاسة الجسد. أما في نظر بولس، فالحياة تحت الشريعة هي حياة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالخطيئة.
هنا يصوّر بولس، للمرة الأولى في رسالته، الشريعةَ كقوّة تسيطر على الانسان، وبالتالي على اليهود كأمّة (غل 3: 23؛ 4: 4- 5؛ 1 كور 9: 20). هو أبعد من أن يتحدّث عن الشريعة كقوّة خيّرة للشعب اليهوديّ، بل إن تأثيرها باهت. رج ف 2، مع كلام عن الشريعة كقوّة تشجّع على الحكم على الآخرين (باسم العرق)، وكنظرة سطحيّة تمزج الأعمال الطقسيّة بعمل الروح. وعاد بولس إلى حياته كفرّيسيّ، فاستنتج أن الشريعة لا تربط الانسان بالله في طاعة واثقة، بل تفصله عن الله وتمنعه من قبول نعمة الله في ملء برّها («من دون أعمال الشريعة»). ويعارض بولس النظرة الوطنيّة إلى الشريعة، فيتحدّث عن برّ شامل يُفهم في لغة النعمة من البداية إلى النهاية.
«فماذا إذن» (آ 15). هي مرحلة ثانية في الجدال (آ 1). ولكن تكرار السؤال يجعل اليهوديّ يحسّ أن بولس يحتقر الشريعة. هي كارثة خلقيّة أن تُجعل الشريعةُ ضدّ النعمة. إن وُضعت النعمة موضع الشريعة، ابتعد الحاجز الموضوع ضد الخطيئة، وفُتحت الطريق أمام تيّار الخطيئة الجارف.
أجاب بولس (آ 16). ما قال شيئاً في البدء عن الشريعة. في ف 7 سوف يعرض دور الشريعة عرضاً كاملاً داخل إنجيله. أما الآن، فسعى أن يؤكّد أن إنجيله لا يحضّ على الخطيئة. ثم جعل المؤمن يفهم أنه في ما حصل عليه وفي ما لم يحصل بعد، في انشداد اسكاتولوجيّ: يخضع الانسان لسيّدٍ كعبد طائع. وهناك طاعة يوميّة. الاهتداء يُدخل المؤمن في علاقة جديدة مع الله، تحدّد كلَّ حياته وكلَّ علاقاته. ليس هو وضعاً بلا خطيئة ينكره ويدمّره الفعلُ الخاطئ. بل علاقة يمكن المحافظة عليها رغم أعمال العصيان التي يقترفها الفرد. في علاقة السيّد بعبده، يتسامح السيّد ويغفر التجاوزات. أما الخطيئة العادية فتدمّر العلاقة كعلاقة.
ووضع بولس خيارين: عبوديّة الخطيئة وعبوديّة الله (عبوديّة الطاعة، العبوديّة كطاعة لله. رج آ 13، 22). فالعلاقتان هما بين السيّد والعبد. فالانسان لا يمكن أن يكون مستقلاً. فمن رفض سيادة الله يصبح عبدَ الخطيئة. فمن يقود المؤمن؟ الله أم الخطيئة؟ لا خيار ثالثاً. ونتيجة عبوديّة الخطيئة والخضوع لرغبات الجسد المائت، هي الموت الذي هو النتيجة الأخيرة لمثل هذه العبوديّة. الموت هو نهاية الحياة على مستوى الجسد. وهناك وضعُ موت يتميّز بعدم جواب للقوّة الوحيدة القادرة على مساندة الحياة ضدّ الموت (قوّة الله التي تعطي الحياة). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نتيجة العبوديّة الطائعة لله هي البرّ، أي علاقة مع الله تسندُها قوّةُ نعمته من أجل الخير. لا ننس هنا أن «البرّ» و«الغضب» يقعان كلاهما في مسيرة اسكاتولوجيّة. هذا لا يعني أن المؤمن الطائع ينجو من الموت. فما ينجو منه هو الوضع كنهاية وحالة أخيرة. هو لا يزال يختبر الموت في جسده المائت، ولكن تشبّهه بالمسيح في موته يعني أنه يقدر أن ينظر، عبر الموت، إلى ملء العلاقة مع الله، عبر الموت. والبرّ في نظر بولس ليس علاقة منفعلة، بل يتضمّن الطاعة. حين أنكر الرسول بأن يكون المؤمن تحت الشريعة (آ 15)، حين اعتبر أن الشريعة تسير مع الخطيئة والموت، فهو ما استبعد الطاعة من جهة المؤمن. هو ترك الطاعة للشريعة، لا الطاعة لله، وهذه تختلف عن تلك كما سنرى في آ 17.
هي أولاً طاعة القلب (آ 17) التي نقصت في طاعة اليهوديّ للشريعة. وهي ثانياً طاعة للمسيح الذي يقدّم التعليم. يسوع هو آدم الجديد ويحمل نموذج التعليم ونموذج الطاعة ولا سيّما في حدث موته (5: 19؛ فل 2: 8)، بل في حياته كلها، بأقوالها وأعمالها، التي انتقلت إلى كل كنيسة (15: 1- 6؛ 1 كور 11: 1؛ كو 2: 6؛ 1 تس 4: 1- 2؛ 2 تس 3: 6). المثالُ الوحيد بالنسبة إلى المسيحيّين، هو المسيح الذي يوجّه حياة المؤمن. أما اليهوديّ فتُوجّهه الشريعة. جاءت صيغة المجهول هنا، فدلّت على انتقال المؤمن من سيادة إلى سيادة. في هذا الوضع لا يقول العبدُ شيئاً. مسؤوليّته تقوم في الطاعة لسيّده، أياً كان. يبقى على المؤمن أن لا يثق بسيّده القديم: كنتم عبيداً للخطيئة. والآن تعلّقتم بالمسيح. ويعود التوازن بين مبادرة الله وجواب الانسان، بين إيمان يقبل نعمة الله وإيمان يمارَس في مجهود خلقيّ. هذا الأخير هو على هامش فكر بولس.
ويذكّر بولس قرّاءه (آ 18) بأن اهتداءهم كان فعل تحرّر. تحرّر من الرغبات ومن العادات. صُوّر المؤمن «باراً» فارتبط بالله (آ 13). بالنعمة (آ 14- 15)، بالطاعة (آ 16)، بالمسيح (آ 17). وشُخّص البرّ كما شُخّصت الخطيئة، وكلاهما يوجّه الحياة في وجهة خاصة: الخطيئة نحو الفساد والموت (آ 12، 16). والبرّ يحوّل الانسان ليشارك مشاركة تامة في حياة القائم من الموت (آ 5،8).
وما رضي بولس بهذا التشبيه البشريّ (آ 19) لكي يتكلّم عن علاقة مع الله بواسطة المسيح. كل استعارة مأخوذة من الحياة اليوميّة لا يمكن أن تكون كافية. فالبشر ضعفاء وخاضعون لرغباتهم، فيبتعدون عن العلاقة بالله وعن «نموذج التعليم». واهتداؤهم لم يُتمّ بعدُ خلاصَهم. فلا بدّ من انتقالهم إلى سيّد آخر. لهذا يتوجّه إليهم الرسول في إرشاد يردِّد ما قال في آ 13، 16: «اجعلوا من أعضائكم عبيداً للبرّ». وهذا البرّ لا تحدّده الشريعةُ بل النعمة، وذلك من أجل القداسة.
وما استعدّ بولس ليترك استعارة العبوديّة (آ 20- 22). فالتعارض بين قبل وبعد الاهتداء يتكرّر، والانشداد بين الاهتداء الحاسم (كحدث تحرّر من سيادة الخطيئة) ومسيرة القداسة التي لم تتمّ بعد، بقي حاضراً. حين صوّر ما سبق اهتداءهم، دلّ أنهم كانوا عبيداً وصاروا أحراراً. فذكر قرَّاءه أن طريقة حياتهم الماضية أمرٌ يُستحى منه. هذا يتطلّب مجهوداً خلقياً بحيث لا نعود إلى سيادة الخطيئة. والتعارض في النهاية ينتج من عبوديتين (آ 16- 19). من عبوديّة أولى تَخرج ثمرةُ النجاسة والموت. ومن الثانية، القداسة والحياة الأبديّة.
ما استعمل بولس لفظ «الحياة» تجاه «الموت» لكي ينتهي بالكلام عن الحياة الأبديّة (آ 23). فما يقدّمه الانجيل هو القداسة التي تنتهي في حياة أبديّة. القداسة هي تحوّل من الداخل. فتكون القيامة الأخيرة مع المسيح تمام المسيرة كلها (2 كور 4: 6- 5: 5). إن البعد الغني للاهوت بولس (تحوّل المؤمن إلى صورة المسيح المائت والقائم)، قد لا يكون معروفاً لدى المسيحيّين في رومة، مع أنه جزء من كروستولوجيا ترتبط بآدم. ولكن الجميع سيعرفون أن الحياة الأبديّة التي يتكلّم عنها، هي حياة مع المسيح (آ 8). فالمسيح هو الوحيد الذي مات وقام ولن يموتَ بعدُ، بحيث إن الحياة الأبديّة هي مشاركة في حياة المسيح التي لا تنتهي. تحدّث بولس هنا عن «الحياة الأبديّة في المسيح يسوع ربّنا». وقبل ذلك تكلّم عن «الحياة مع المسيح». الفكرة هي هي. والتشبّه بالمسيح يبدأ بالاهتداء ويتواصل عبر الموت إلى القيامة.
خاتمة
كانت نقطة الانطلاق: يجب على المؤمن أن يحيا لله بعد أن نال النعمة وتحرّر من الخطيئة ومن الجسد المائت. ولكن هذا التحرّر لم يتمّ بعد. إنه يتمّ في النهاية، ساعة يموت جميع البشر في يسوع. ولكننا منذ الآن، نستطيع أن نتعرّف إلى البرّ وإلى الخطيئة من خلال ثمر كلٍّ منهما. حين يكون الموت هنا، نفهم أن الخطيئة هي السيّد. وحين تكون الحياة والقداسة، نعرف أن البرّ هو السيّد. غير أن الانتقال من سيادة إلى سيادة يبقى أمراً طويلاً. هو يبدأ بالاهتداء ويتواصل في تدرّج نعيش طقسه في المعموديّة. وهذا الاهتداء ليس عملاً منعزلاً وحدثاً عابراً تلاقت فيه الطاعة مع النعمة. فهذا العمل الأول يميّز كلَّ حياة المؤمن كمؤمن. وجدّة الحياة التي يدخل فيها، يتقبلها كعطيّة نعمة تتجدّد عبر حياته في جسده المائت، وبعد ذلك في ملء القيامة. والتشبّه بالمسيح في موته، يتواصل أيضاً وأيضاً إلى أن يلعب الموتُ ورقتَه الأخيرة فيعرف المؤمن أنه تشبّه بالمسيح في قيامته. والطاعة في الخطوة الأولى، تتكرّر في كل قرار له نتائج خلقيّة بحيث يصبح طاعةً للبرّ، وبراً للقداسة، وقداسة تنتج عنها الحياة الأبديّة.