الفصل السابع عشر: آدم والمسيح

الفصل السابع عشر
آدم والمسيح
5: 12- 21

ورفع بولس نظره من المؤمنين كمجموعة (نحن) ليضمّ البشريّة كلها (كل انسان). بعد أن ذكر اتهامه الأول لافتخار اسرائيل في ف 2 (5: 11)، ها هو يُرسل فكره إلى الوراء، إلى المرحلة الأولى في برهانه (1: 18 ي). بما أن اتهامه الأول تركّز على البشريّة ككلّ، مع تلميح واضح إلى صورة آدم، ها هو الآن في خاتمة هذا القسم من برهانه، يعود أيضاً إلى نظرة إلى البشريّة راجعاً إلى ادم. وكما أن المسيح جعل الفرق بين افتخار مقبول لدى الله (5: 11) وافتخار غير مقبول لدى الله (2: 17)، هكذا كان هنا المعارضَ لآدم، وذاك الذي فيه يأخذ تاريخ البشريّة منعطفاً نحو الأفضل. في هذه الآيات، نستطيع القول أن بولس عرض تاريخ البشريّة في قسمين، في حقبتين يُشرف عليهما وجهان: آدم الذي حمل الموت. والمسيح الذي حمل الفداء.

1- دراسة النصّ وبنيته
نعطي بعض الملاحظات حول النصّ قبل أن نعود إلى البنية. في آ 12، أغفلت المخطوطات الغربية لفظ «موت» (وسرى الموت) الذي هو في الأصل. في آ 14، بعض المخطوطات الجرارة ألغت النفي فصار النصّ: الذين خطئوا. أما الأصل: الذين ما خطئوا. في آ 18، آ 19 أرادت بعض المخطوطات الجرّارة أن تحسّن النصّ فجعلت لفظ «انسان» مع «واحد». أو ألغت «يسوع المسيح» من آ 17.
ونعود إلى البنية. هذا المقطع (آ 12- 25) هو خاتمة القسم كلّه. والتواصل مع 5: 1- 11 يدلّ عليه تكرار «فكم بالأولى» التي تتكرّر في آ 9، 10، 15، 17. بدأ النص في آ 1- 2 حول التبرير، وانتهى كذلك في آ 15- 21. لهذا كان التوازي بين آ 11 وآ 25 في استعمال «بربّنا يسوع المسيح» كعبارة خاتمة، وبالأخص في قلب الموضوع الضمنيّ في آ 1- 11 إلى تعارض واضح بين آدم والمسيح. إلاّ أن اللافت هو الانتقال من لغة شخصيّة وفرديّة إلى صيغة الغائب، ضُمّت حركةُ التاريخ البشريّ في حقبتين تنظمتا حول آدم والمسيح.
بُني المقطع كلّه حول «كما أن... كذلك» (مقابلة). رج آ 12، 18، 19، 21. وأول مقابلة قُطعت بإيضاحين (آ 12 ج- 14 ثم آ 15- 17). وتتكرّر ألفاظ مفاتيح «واحد» (12 مرة). «نعمة، موهبة» (7 مرات). «انسان»، انتروبوس (6 مرّات). «الخطيئة» (6 مرات). «زلّة»، بارابتوما (6 مرات). «البرّ» (6 مرات). «ملك» (5 مرات). «كثيرون» (9 مرات). أما آ 20- 21 (كما هي العادة في روم) فهي انتقال إلى المرحلة التالية مع قوّتين تشرفان على الدهر القديم: الخطيئة والموت.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (5: 12- 21)
توزّع النصّ في أربعة مقاطع: في الأول (آ 12- 14)، رأينا دخول الخطيئة والموت بانسان واحد. ولكن هبة الله هي هنا لتردّ على خطيئة آدم (آ 15- 17). في الثالث تقف خطيئة واحدٍ، هو آدم، تجاه برّ واحدٍ، هو المسيح (آ 18- 19). وهكذا نفهم دور الشريعة تجاه الخطيئة (آ 20- 21).
أ- كما بإنسان واحد (آ 12- 14)
«لذلك» (ديا توتو). لا تعني خاتمة تخرج من البرهان السابق مباشرة (آ 12). فوظيفتُها أن تدلّ على خاتمة القسم كله. «هوسبار»، كما. تبدأ القسم الأول من التعارض الذي لن يتمّ إلاّ في آ 18. «انسان واحد» هو آدم، مع أن اسمه لن يذكر إلاّ في آ 14. انسان واحد، كل انسان. أي البشريّة كلها (آ 15- 17). عاد بولس إلى ابراهيم (ف 4)، ثم إلى موسى (مع التوراة)، وها هو يصل إلى آدم. هكذا يعود البرهانُ إلى نقطة الانطلاق (اتهام البشريّة الخاطئة، في كلام عن سقوط آدم، 1: 22) بحيث تتمّ حلقةُ البرهان. وكل هذا لكي يُبرز حركة خلاص الله بالمسيح. الله هو المخلّص (آ 9- 10) وهو الخالق (4: 17). وليس هو فقط إله اسرائيل.
«دخلت الخطيئة». دلّ بولس هنا أنه عارف بفكر معاصريه حول آدم وأصل الشرّ والموت في العالم. سي 14: 17؛ 25: 24 (بامرأة بدأت الخطيئة وبسببها نموت)؛ حك 2: 23- 24 (خلق الله الانسان للافساد... ولكن عبر حسد إيليس، دخل الموت إلى العالم فيختبره الذين يخصّونه)؛ 4 عز 3: 7، 21- 22؛ 4: 30؛ 7: 116- 118. ولكن بولس تميّز عن اليهود، فما تحدّث عن الطريقة التي بها دخلت الخطيئة إلى العالم: بواسطة إبليس، بواسطة المرأة، حواء (آدم وحواء 44؛ رؤ موسى 14: 32)، بواسطة القلب الشرير (4 عز 4: 30). وهناك النظرة الغنوصيّة بما فيها من ثنائيّة كونيّة. ومع أنه يشخّص الخطيئة والموت (1: 32؛ 3: 9)، إلاّ أن لغته لا تختلف عمّا في سفر الحكمة أو في يشوع بن سيراخ. لا يرى فيهما قوّتين كونيّتين، بل قوّتان في الواقع الوجوديّ. دخلت الخطيئةُ في عالم البشر (آ 12 ج: كل انسان؛ 7: 7- 12). تلك هي لغة الخبرة الشاملة، لا لغة التنظير الكونيّ (لا يهتمّ بولس بالبدايات، بل بالواقع الذي يعيشه).
ويقترب بولس من الفكر اليهوديّ في الكلام عن انشداد بين الخطيئة، كجزء من الطبيعة البشريّة ومسؤوليّة الخطيئة. والموتُ كان نتيجة الخطيئة، لا جزءاً من مخطّط الله في الكون (حك 1: 13؛ 2: 23- 24). وفي المفهوم اليهوديّ، لا تمييز بين الموت «الروحيّ» والموت «الجسديّ»، الضعف البشريّ (آ 6)، فساد الجسد (1: 3؛ 7: 5)، الموت. كل هذا جزء من تغرّب الخليقة عن الخالق. تظهر «الخطيئة» و«الموت» هنا للمرة الأولى كمقولتين مترابطتين، فتشرفان على الجدال في ف 5- 7 («الخطيئة» 42 مرة بين 5: 12 و8: 10. «الموت» 19 مرة بين 5: 12 و8: 6. الاثنان معاً، 5: 12، 21؛ 6: 16، 23؛ 7: 5، 13؛ 8: 2).
«وهكذا سرى الموت». لسنا هنا في جواب مع «كما أن». عبر انسان واحد هو آدم، جاء الموت إلى كل انسان. بدا بولس وكأنه يخرج عن الموضوع، ولكن هدفه كان أن يُبرز الدور الشامل للموت كنتيجة لكل أعمال البشر الخاطئة (آ 12 د) أو نتيجة للخطيئة البشريّة كخطيئة (آ 13- 14). الموضوع هو أصل الموت لا أصل الخطيئة. سرى، أي عبر الموت في كل طبقات البشريّة (حك 7: 24). «لأنهم كلهم خطئوا» (2 كور 5: 4؛ فل 3: 12؛ 4: 10). لسنا أمام الشخصيّة المتضمّنة حيث نتحدّث عن آدم، ونتحدّث في الوقت عينه عن البشر الذين يتضمّنهم «آدم». لقد أراد بولس أن يشدّد على شموليّة نتائج خطيئة آدم (آ 13- 14، 18- 19). بدأ في آ 12، وواصل (آ 15- 19) عبر تمييز بين «الواحد» و«الكل»، و«الكثيرين». لا تُشرح العلاقةُ بين الواحد والكلّ، ولكن التمييز يبدو واضحاً. الواحد ليس الكل، والكل لا يدخلون بكل بساطة في الواحد. هناك انشداد بين واقعٍ يرينا الانسان الذي لا يستطيع أن يُفلت من الخطيئة التي تفعل كقوّة ضاغطة، وبين الاعتراف بمسؤوليّة الانسان في الخطيئة. رج 4 عز 8: 35؛ 2 رؤ با 54: 15، 9 (مع أن آدم كان أول من خطئ وجاء بالموت إلى جميع الذين لم يكونوا في زمانه، فكل واحد منهم وُلد منه، هيّأ لنفسه العذاب الآتي).
«فالخطيئة كانت في العالم» (آ 13). «هامرتيا» (الخطيئة). رج 3: 9؛ 5: 12. «كوسموس» (العالم). هو عالم البشر والخبرة البشريّة. «نوموس» (الشريعة). هي التوراة. هناك حقبة بين آدم وموسى لم تكن أعطيت فيها التوراة، وهكذا عاد بولس سريعاً إلى الشريعة. فبولس يريد من اليهود أن يفهموا انجيلَ المسيح في علاقة مع ما يُبرزه العالمُ اليهوديّ.
«لا حساب» (إلوغايو). هي لغة التجارة. هي فكرة لوحة تُكتب عليها خطايا البشر، كما يقول اليهود (يوب 30: 17- 23؛ 1 أخن 104: 7). لم تعد «نوموس» الشريعة بشكل عام، بل التوراة. والخطيئة لم تعد قوة، بل صارت عملاً (3: 9؛ 5: 20). قال فيلون في «الله اللامتبدّل» 134: «ما دام العقلُ الالهي لم يأتِ إلى نفوسنا... فكلّ أعمالها غير مذنبة». والعقل الالهي هو الشريعة (فيلون، هجرة ابراهيم 130).
شدّد بولس على سيطرة الموت في الحقبة التي بدأت مع آدم. إن آ 13 هي شرح آ 12 ج. وآ 14 توضح آ 13. لا يتركّز الاعتراض على الخطيئة، لأن بالخطيئة دخل الموت. بل يتركّز على العلاقة بين الخطيئة والشريعة: لا تُحسب الخطيئة إلاّ إذا كانت تجاوزاً للشريعة. لهذا، حين تغيب الشريعة، ما من أعمال عُملت فتستحق الموت. وضع بولسُ هذا الاعتراض حين برهن، كما في ف 1- 2، بأن الذين هم خارج الشريعة عرفوا الله وإرادته بحيث يُدانون (2: 4). أو حين برهن أن الشريعة نفسها عُرفت ككلّ أو كجزء في الجنّة (7: 7). ما اختار موقفاً مع أنه كان باستطاعته، وهذا أمر له مدلوله. فقد أراد أن يُبرز دورَ الخطيئة والموت وقوّتهما بمعزل عن الشريعة (آ 13- 14). من جهة، فكّر ببرهان سيتوسّع فيه في ف 7 مع قول عن دور الشريعة الايجابيّ. ومن جهة ثانية، أراد أن يقود اليهود إلى امتلاك مميّز للشريعة: هي أعطيت لليهود لتجعلهم واعين للخطيئة (3: 20؛ 4: 15).
ماذا برز هنا؟ تمييزان اثنان. الأول: بين الإيمان كقوّة في الخبرة البشريّة لا يستطيع الانسان أن يُفلت منها، وبين الخطيئة كشيء نُحاكَم بسببه. بين الخطيئة التي هي قوّة الخطيئة في البشر، والخطيئة «المحسوبة» التي هي تجاوز فرديّ (آ 14). مرةً أخرى، وجّهنا الوضعُ البشريّ داخل حقبة آدم: الخطيئة كمعطى لدى البشر وفي المجتمع (كانت الخطيئة في العالم). والخطيئة كعمل يُحسب علينا ويدلّ على مسؤوليتنا الفرديّة (5: 12 د). بدا بولس وكأنه يفكّر في هذين العنصرين كأنهما حاضران، قليلاً أو كثيراً، في كل خاطئ. الثاني: بين الموت كجزء من الواقع البشريّ لا يستطيع الانسان أن يُفلت منه ولا يمكن أن يحمل مسؤوليّته، وبين الموت كنتيجة مسؤوليّة الفرد في معصيته (1: 32؛ 6: 32). غير أن بولس لا يجعل فرقاً: الجميع ماتوا مهما كان السبب. من جهة، عبّر بولس عن الانشداد بين موت لا مفرّ منه ومسؤوليّة فرديّة. ومن جهة ثانية، استطاع أن يميّز أنواع الدينونة (2: 7- 10؛ 1 كور 3: 12- 15): لا أحد يفلت من الموت كمصير محتّم. ولكن بولس ينظر إليه كشيء يمكن التحرّر منه (6: 7- 11).
«الموت ساد» (آ 14). «تاناتوس» هو قوّة. رج 1: 32؛ 5: 12. هي صورة الملك. الموت يسود. يجسَّد الموت هنا، يُعتَبر شخصاً. ولكن التشديد يبقى على الواقع الوجوديّ. هو يمارس سلطته على حياة الانسان الذي لا يقدر أن يُفلت منه. هناك الموت كنتيجة خطيئة الانسان، وهناك الموت كأجر للخطيئة (6: 23)، تسمّيه 1 كور 15: 26: آخر عدوّ. الحقبة بين آدم وموسى بدت «كعهد البراءة» (تك 6: 5)، وتحليل بولس هنا يعكس انشداد الفكر اليهوديّ بين الافتخار بالشريعة التي أعطيت لاسرائيل، وبالله على أنه إله اسرائيل، وبين الاعتقاد بأن هذه السيادة تصل إلى أقاصي الأرض.
«الذين ما خطئوا». استعمل فعل «خطئ» بشكل يعني أن هناك خطأ ليس معصيةً، ولكنه عمل مسؤول ينتج عنه الموت. «باراباسيس»: خطيئةٌ تُحسَب. تجاوزُ الشريعة (4: 25). كانت خطيئة آدم «باراباسيس»، لأنها كانت فعل عصيان لِما عرف آدم أنه أمر الله (تك 2: 16- 17). هي عصيان وصيّة مباشرة، هذا يعني أنه إن وُجد خطأ في الحقبة الواقعة بين آدم والمسيح، وهو لا يحمل طابع التمرّد الاراديّ على الله، فهو أيضاً شرير لأنه يعمل في الذي اقترفوه (1: 18- 32). لا يعني بولس أن كل خطأ بعد موسى هو «معصية». ولكن المعصية شيء أذنب فيه اسرائيل، لأن له الشريعة (2: 1- 3: 20).
«لمن سيجيء بعده». هو مثال، نمط (تيبوس). هو يترك علامة. المثال، النموذج (6: 17؛ فل 3: 17؛ 1 تس 1: 7؛ 2 تس 3: 9). هو مزمع. هذا ما يجعلنا في إطار اسكاتولوجيّ. هناك ما أتمّه المسيح منذ الآن (غل 3: 23؛ كو 2: 17) وما لم يَتمّ بعد (8: 18).
من أين جاء التوازي بين آدم والمسيح؟ لا من العالم الغنوصيّ كما قال تاريخ الديانات في القرن التاسع عشر. لهذا نعود إلى 1 كور 15: 46 حيث يهاجم بولسُ التمييز بين الانسان الروحيّ والانسان الطبيعيّ. ووُجد عند فيلون تمييزٌ بين تك 1: 27 (الانسان السماويّ) وانسان الطين في تك 2: 7 (استعارات الألسنة 41: 62- 63، 146- 147). كل هذا يعكس كلاماً عن الانسان الأول سابقاً للمسيحيّة. ولا ننسى أن المسيح هو الأول لا آدم. أن المسيح هو آدم الأخير. هذه الفكرة وُجدت في المسيحيّة الأولى فضمّت مز 110: 1 إلى مز 8: 6 فكانت كرستولوجيا مرتبطة بآدم. رج مر 12: 36؛ مت 22: 44؛ 1 كور 15: 25- 27؛ أف 1: 20- 22؛ عب 1: 3- 2: 8؛ 1 بط 3: 22. من أجل هذا قدّمها بولسُ وما احتاج أن يبرهن عنها.
ب- هبة الله وخطيئة آدم (آ 15- 17)
«ولكن هبة الله» (آ 15). المقابلة بين آدم والمسيح بدأت في آ 12، وعادت في آ 14 ج، وتوقّفت الآن لتشدّد على الاختلاف بينهما، ولكن مع عبارة: ليس كما .. هكذا أيضاً. عبارة تشبه: كما... كذلك، التي نجد في آ 12، 18، وتخفّف من حدّة الانقطاع الطويل (آ 12 ج). «بارابتوما» (الزلة). حلّت محلّ «باراباسيس» (معصية). الأولى تدلّ على زلَّة، زلّة قدم. ولكن يبقى الفرق بين الاثنين ضعيفاً. رج حز 18: 22، 24، 26. فالاثنان يعودان إلى عصيان آدم. وبما أن «باراباسيس» تحمل دوماً في روم قوّة التجاوز الاراديّ للشريعة، جاءت «بارابتوما» لتشدّد على مفهوم واسع للخطيئة (آ 12 د- 14). «خارسما» هي عمل ملموس من النعمة (1: 11). هنا يتميّز عمل يسوع كتجسيد للنعمة، لا في وقت محدّد، بل في كل وقت. «بزلّة واحد مات كثيرون». «الكثيرون» أي البشريّة كلها. رج آ 12، 18.
«نعمة الله». رج 1: 5. هو كلام عن عمل الله المجانيّ والقدير. هو نعمة وهو هبة. ويناله من يؤمن بالمسيح. «دورايا»، الهبة. هي هبة الروح بشكل خاص (5: 5) أو هبة البرّ (5: 17). ولكن الهبة والنعمة والبرّ والروح تترادف في وصف العمل الذي يُعمل للانسان. وهكذا يمكن أن نستعمل لفظاً بدل الآخر (3: 24؛ 5: 17، 21؛ 8: 10؛ غل 4: 4- 5؛ أع 2: 38؛ 10: 45؛ أف 3: 7؛ 4: 7). إن جواب الله على زلّة آدم لا يكتفي بأن يستعيد ما خُسِر، بل يكلّل المصير الذي لم يصله آدم حين سقط. عملُ النعمة لا يوازي فقط عمل الخطيئة، بل يتجاوزه.
«وهناك فرق» (آ 16). تبدأ الآية مثْل آ 15 مع «ليس كما». ولكن التعارض هو بين الهبة وما جاء عبر آدم، لا مع زلّة آدم كزلّة (آ 15). «الهبة» «دوريما». رج يع 1: 17. «كريما» الدينونة. أي الحكم على الانسان الخاطئ. وهنا هي «كاتاكريما» التي لا ترد في العهد الجديد إلاّ في 5: 18؛ 8: 1. وهكذا برزت وجهتا الموت: الموت كنتيجة حقبة بدأت مع آدم. والموت كحكم على عمل مسؤول. «واحد» يعود إلى آدم، أو إلى عمله، أو إلى الاثنين معاً. وعاد الرسول يتحدّث عن الواحد والكثيرين. واحد زلّ والكثيرون زلّوا. ولكن في النهاية، سيأتي عمل يسوع الذي يقود البشر إلى البرّ.
«إذا... بالأولى» (آ 17). هي المرّة الرابعة ترد هذه العبارة في 9 آيات (5: 15). «بزلّة واحد». رج ما قيل في آ 12، 14 وأهميّة التكرار. دلّت آ 14 على تركيز أساسيّ يقول إن زمن آدم كان مُلك الموت الشامل. فعاد الرسول وبيّن كيف أن مع «بالأولى» جاءت نعمة الله وحوّلته. صيغة الماضي الناقص تعود إلى دور السيادة الذي يمارسه الموت (عبر خطيئة آدم)، أو تنظر إلى حركة زمن آدم كما تلخَّص في فترة الموت الذي يجب أن يخضع له الجميع.
«فيض النعمة». ركَّز بولس هنا أيضاً على عظمة النعمة التي أُعطيت وقُبلت. «باريسايا»، فيض، وفر، زيادة. كلمة نادرة. فقط في 2 كور 8: 2؛ 10: 15؛ يع 1: 21. أجل، فاضت النعمة فيضاً تجاه نتائج الخطيئة. ونقرأ «هبة النعمة»، الموضوع الرئيسيّ في هذا القسم من روم، و«هبة البرّ» التي هي هبة نتقبّلها. وأن يكون الانسان مقبولاً لدى الله، يعني هبة الله. فالهبة ليست شيئاً نأخذه وكأنه ملكنا. هبة الله هي الله يهب نفسه لنا. «ينالون». يذكّر الرسول قرّاءه ماذا نالوا: النعمة (1: 5)، المصالحة (5: 11)، الروح (8: 15؛ 1 كور 2: 12؛ غل 3: 2، 14). حيث دور الموت يكون مفاجئاً وموقتاً، يكون عهدُ النعمة الجديد منفتحاً على المستقبل.
«تسود الحياة». صيغة المضارع تجعلنا في إطار اسكاتولوجيّ يميّز ف 5 (آ 2، 5، 9- 10). والحياة (زوئي) تعود إلى حياة المسيح التي بواسطتها نخلص ( آ 10). لقد نالوا النعمة، ولكنهم ما ملكوا بعد. فملكُهم يكون نتيجة تبريرهم الأخير (آ 16). انتظر الذين نالوا رضى الله أن يمارسوا الملك في الدهر الآتي. ذاك كان الرجاء اليهوديّ (دا 7: 22- 2 7؛ حك 3: 8؛ 5: 15- 16؛ ق نظح 12: 14- 15). ولكن بولس حوّل هذا: الذين نالوا النعمة وتبرّروا بالإيمان (لا الذين انضمّوا إلى اسرائيل)، يملكون مع يسوع المسيح، ولا يتسلّط واحد على آخر، لا يتسلّط اليهوديّ على الوثنيّ. مثلُ هذا التحوّل يميّز فهْمَ بولس لمخطّط عهد الله عبر الانجيل (رج ف 4).
ج- خطيئةُ واحد، برّ واحد (آ 18- 19)
«فكما... كذلك» (آ 18). «أرا أون»: هكذا إذن. تستعمل في البرهان (12 مرّة عند بولس، منها 8 مرات في روم). هكذا لخّص الكاتبُ النقطة الرئيسيّة في البرهان (آ 12) بعد أن توقّف (آ 12 د- 17) مع «كما وكذلك» في آ 12. أما الأسلوب المكثّف فهو قريب من آ 16.
«بزلّة واحد». نعود إلى واحد (آ 12، 16، 17) مع الزلّة (آ 15- 17)، وإلى كثيرين (آ 12) مع الحكم (آ 16). واحد هو كل انسان. كل من تجاوز الشريعة وأوّلهم آدم. وسيأتي واحد آخر هو يسوع المسيح (آ 15، 17، 19). يشدّد الرسول على ما فعله يسوع المسيح فدشّن حقبة جديدة. نحن هنا أمام نظرة شاملة إلى الخلاص (5: 19). «البرّ» (ديكايوسيس). رج 4: 25. هي تضمّ المسيرة كما تضمّ النتيجة. التبرير الأخير= الخلاص (آ 9- 10)= امتلاك الحياة في الزمن الآتي (آ 17). وهكذا يَبرز هنا الانشدادُ الاسكاتولوجيّ. فالمؤمنون اختبروا منذ الآن بعض الحياة الجديدة (6: 4، 11، 13)، وإن لم يتمّ بعدُ ظهورُها التام (6: 5، 22- 23؛ 8: 11، 13).
«فكما... كذلك» (آ 19). يعود البناء ذاتُه، ويكرّر ما سبق وقيل. «بمعصية انسان واحد». «باراكوي» (قابل «هيباكوي»). رج آ 15- 16. خطيئة آدم ومعصيته وزلّته تتماهى مع فعل عصيان، عدم طاعة، عدم سماع (رج تك 2- 3). «الكثيرون» أي البشر جميعاً. صاروا خاطئين، فصاروا تحت الحكم. واليهود أيضاً انجرّوا بمعصية آدم بواسطة الشريعة. كرّر الرسول ألفاظاً ترتبط بالشريعة (عصيان وطاعة، خطأة وأبرار) فهيّأ الطريق للكلام عن الشريعة في آ 20.
تجاه معصية واحد، هناك طاعة واحد. تحدّث بولس عن موت المسيح كفعل طاعة، كفعل برّ (آ 18). حيث فعل آدمُ فتجاوز الوصيّة الالهيّة، فعل المسيحُ فوافق مشيئةَ الله التي كُشفت في الشريعة. رأى بعضُ الشرّاح في هذه الطاعة حياة يسوع كلّها. ولكن يبدو أن بولس نظر فقط إلى موت المسيح. (1) هذا الموت يعارض فعل عصيان آدم. (2) هذا الموت هو جواب على عصيان آدم، لأنه يواجه نتائج زلّة آدم: إذ صار ذبيحة عن الخطيئة، حطّم قوّة الخطيئة. إذ مات حطّم سلطان الموت. (3) موضوع طاعة المسيح يعود إلى خضوعه للموت (فل 2: 8؛ عب 5: 8). (4) مدلول «الواحد» هو جزء في كرستولوجية آدم والمسيح. فهذا يعني فكرة اتحاد مع المسيح. نشاركه في موته فنشاركه في قيامته. الحكم على آدم الأول قاده إلى الموت. والمسيح بموته وقيامته حطّم سلطان الموت، ودشّن بشريّةً جديدة لأنه آدم الأخير (1 كور 15: 21- 22، 45- 49).
«يصير البشر أبراراً». صيغة المضارع صيغة بلاغيّة. حياة المؤمنين الحاضرة. وأيضاً الموافقة عليها في الدينونة الأخيرة. ففي الموت يتمّ التوافق على زمن آدم، ويكون الجوابُ الأخير كاملاً مع التبرير الأخير. ونعود إلى «الكثيرين». لا يمكن أن نتصوّر قوّة النعمة من دون شموليّة اسكاتولوجيّة. هو خلاص محدود وخلاص شامل.
الموضوع الذي نقرأه هنا، هو تضامن «الكثيرين» مع الواحد، سواء في المعصية والحكم، أو في النعمة والبرّ. إذا، ليس اسرائيل وحده هو الذي يبرَّر، بل الكثيرون، اليهود والأمم. وإذا كان الموت حقاً نهاية الذين ينتمون إلى حقبة آدم (آ 12، 14، 17، 21)، فإن «الكثيرين» يدلّ على الذين يشاركون إيمان ابراهيم في الحياة التي يمنحها الله (4: 17، 23- 25) كما في الحياة بعد الموت (1 كور 15: 22).
د- الشريعة والخطيئة (آ 20- 21)
«وجاءت الشريعة» (آ 20). هي الشريعة اليهوديّة، التوراة (2: 12، 14). ضيّق بولس شموليّة عرضه، فأدخل العالم اليهوديّ الخاص. تحدّث عن حقبتين (آدم والمسيح). ولكن هناك حقبة لها مدلولها: تقليد الشريعة الدينيّ الذي طبع بطابعه الشعب الذي به يُتمّ الله مخطّط برّه وقصده الاسكاتولوجيّ (6: 14). واجه بولس دور تاريخ الخلاص الايجابيّ للشريعة. بل إن الشريعة جعلت واقع آدم خبراً وجودياً. استعمل صيغة المعلوم (لا المجهول الالهيّ، ق غل 3: 19)، ليجعل الشريعة بجانب الخطيئة والموت اللذين دخلا في الخبرة البشريّة (آ 12). قد يكون هذا عرضاً كافياً على المستوى السلبيّ. غير أن بولس أشار إلى أن الشريعة (تكثر الخطيئة) تلعب دوراً أقلّ من دور النعمة، أو أن دخول الشريعة جاء متأخراً وموقتاً بالنسبة إلى النعمة (5: 13؛ غل 3: 15- 29)، إذ إن دورها في إكثار الخطيئة ينتهي مع الموت والحكم، ولا يبلغ إلى الزمن الجديد من الحياة بعد الموت (7: 1- 6).
مع أن «الشريعة» تُعامَل كأنها قوّة مثل «الخطيئة» و«الموت»، فإن الأداة «هينا» (لكي) تدلّ أنها تخدم قصد الله. «بلايونازو» (كثر). رج سي 23: 3؛ مز سل 5: 16. يُنسب إلى الشريعة زلّة واحدة وزلاّت كثيرة (آ 16). هذا يشكّل تقويَةً للدور المعطى للشريعة في 3: 20 و4: 15. وهنا أيضاً الهجوم على تقييم اليهود للشريعة تقييماً تقليدياً، هو جوهر هذه النقطة: إن هدف الله من الشريعة، ليس أن يميّز اليهود الأبرار عن الأمم الخاطئين (آ 19)، بل أن يجعل اسرائيل يعي تضامنه في الخطيئة مع سائر زرع آدم. هذا لا يعني أن بولس يريد أن يحصر الناس في تأثير تجاوزات الشريعة المتنامية. في الماضي اعتقد بولس، حين كان يهودياً، أن الشريعة تُكثر خطايا الأمم فتكشف كم كانوا خطأة، أو تبيّن أن متطلّبات الشريعة كانت معروفة (1: 32).
«حيث كثرت الخطيئة». يوم تكاثرت الخطيئة، كان فيضُ النعمة في موت المسيح. كان كلامٌ عن تجسيد سلطة الخطيئة. وها نحن الآن مع فعل التعدّي نفسه (آ 3- 9). واستعمل الرسول «التفضيل» (هيبار) ليدلّ على الوفر الاسكاتولوجيّ هنا وفيما بعد.
«كما سادت الخطيئة» (آ 21). إن «هينا» (لكي) يترافق مع ما في آ 20 أ ويُدخل «كما... كذلك»، فيُتم المتتالية التي بدأت في آ 18. وعادت الخطيئة كقوّة سائدة. وحيث سبق لبولس وتحدّث عن سيادة الموت (آ 14، 17)، اختتم تعبيره بالعودة إلى هاتين القوّتين كما في آ 12 (الموت دخل بالخطيئة). وهنا، لقد مارست الخطيئة سيادتها بواسطة الموت، في دائرة الموت. إن قوّة الموت في حقبة آدم، تميّزت بتأثيرها الأخير، أي الموت (6: 16، 21، 23؛ 1كور 5: 56). بما أن العبارة، «سادت الخطيئة بالموت» ارتبطت بزلاّت تكثر (آ 20، رج آ 15، 17)، فإن «هينا» جعلت سيادة الخطيئة في مخطط الله. لا كتنازل، ولا كعامل خارج المخطّط، بل كجزء من بنية الله لعالم البشر: سيادة الخطيئة في الموت هي طريقة أخرى للكلام عن غضب الله. فمخطّط الله في الخلاص يضمّ الموت، بعد أن انتهت حقبةُ آدم في الموت، وتحطّمت قوّةُ الخطيئة (6: 7- 10).
«هكذا أيضاً النعمة». في آ 17 المقابلُ الاسكاتولوجيّ لسيادة الموت كان سيادة الأبرار. هنا تُعارض سيادةُ النعمة سيادةَ الخطيئة. كما أن الخطيئة (كقوّة وعمل) تميّز حقبة آدم، كذلك النعمة تميّز حقبة المسيح. نحن هنا في وضع البرّ، به تُكمِل النعمةُ مفعولها: الحياة الأبديّة. هكذا يبرز الطابع الاسكاتولوجيّ في تناقض بين حقبة تنتهي في الموت وحقبة نعمة الحياة. هنا يرى بولس تاريخ الخلاص. «بربّنا يسوع». يتواصل هنا التشديد على دور المسيح كوسيط حين يتمّ التحوّل من حقبة إلى أخرى. فيسوع هو التجسيد الكامل (والوسيط) للنعمة والبرّ.

3- خلاصة لاهوتيّة
بدأ بولس (آ 12) مع ما هو في الواقع ملخّص ف 1: حالة الانسان الذي رذل الله، فأدخل قائدين: الخطيئة والموت اللذين ظهرا، حتى الآن، ظهوراً سريعاً. ولكنهما الآن أخذا موقعاً مركزياً. هما قوّتان تمارسان سيادة على البشريّة. لا تحدَّد «الخطيئةُ»، ولكنها قوّة تدفع الخبرة البشريّة إلى العصيان والخطيئة. ولا تحديد «للموت»: يُفهَم في الكون على أنه قوّة تقهر وتُنهي الحياة التي هي الخير الرئيسيّ في الخلق وذروته.
الخطيئة، أول قوّة عدوّة، دخلت عبر انسان (آدم). جاء وراءها رفيقُها المشؤوم، الموت. وامتدّ الموت إلى الجميع. وهكذا دخلا معاً. لم تُوضَح علاقةُ الواحد بالآخر. ولكن قيل أن الموت هو تحت سلطة الخطيئة. هذا يعني أن الموت ليس نهاية الانسان. فهو كان جزءاً من البرنامج الأصليّ للبشريّة. بل كان دخولُ الخطيئة والنتيجة المدمّرة للانسان الذي رفض أن يعيش بارتباط بالله. لولا الخطيئة، ما كان على الانسان أن يموت.
في كل هذا، فكّر بولس في تك 3 مع فهم مشترك «للسقطة». فقرّاؤه يعرفون خبر آدم وحوّاء وصراعهما مع الشرّ والموت. ما تَميَّز به الرسول، ليس تحليل الوضع التعيس للانسان (مع الدور الذي لعبته الشريعة). بل الحلّ، في ما عمله المسيح ليعارض ما تركه آدم من ضرر. انطلق من واحد، هو آدم. فوصل إلى واحد هو المسيح. بين هذين الانسانين، نجد تاريخ البشر من البداية إلى النهاية. إن سقوط آدم هو طريقة تُصوّرُ وضعَ البشريّة في حقبة التاريخ البشريّ الذي امتدّ من بداية الجنس البشريّ حتّى الآن.
هنا لا نقول إن الفكر اللاهوتيّ البولسيّ يرتبط بآدم على أنه شخص «تاريخيّ»، أو يرتبط بعصيانه كأنه حدث تاريخيّ. مثلُ هذا الوضع لا يتبع بالضرورة ما قيل عن عمل يسوع الفريد (موته على الصليب). حين أدخل بولس «انسان واحد، الخطيئة، الموت، كل انسان»، لم يقدّم شرحاً عن علاقة الواحد بالآخر. أما التوضيح الأول فنقرأه في نهاية آ 12: «لأنهم كلهم خطئوا». ما من أحد يُفلت من سيادة الخطيئة والموت. والشرحُ يُبرز أن الموت هو نتيجة الخطيئة: كلّهم يموتون، لأنهم كلّهم خطئوا. وما زال الموت يسود البشريّة، ليس فقط بسبب عمل أول، بل بسبب تواصل أعمال الخطيئة في البشريّة، ممّا يدل على أنهم جميعاً تحت قوّة الخطيئة، بعيدين عن الله الذي يقدر أن يُعطي قوّة الحياة التي تقهر قوّة الموت. ولكن ما هي العلاقة بين الانسان الأول وجميع البشر؟ هذا ما لا يوضحه بولس. كلّ ما يريد أن يقوله، هو أن تلك الحقبة من التاريخ البشريّ يميزها ويحدّدها عملُ الخطيئة والموت (الجميع خطئوا والجميع ماتوا)، وقوّتهما الحاضرة منذ بداية الحقبة عبر انسان أول هو آدم.
والتوضيح الثاني (آ 13- 14) يشير إلى دور الشريعة. فكل من اعتاد على تحليل فكر بولس، لا بدّ أن ينتظر عمل الشريعة. سار في خطّ اللاهوت اليهوديّ، فتحدّث عن خطيئة آدم كتجاوز لوصايا الله، كوصف لخطيئة آدم على أنها معصية (آ 14). أما هنا فيحافظ على الزمن التاريخيّ: ما جاءت الشريعة حتّى موسى. لا شكّ في ذلك، بسبب ما قيل في ف 4 عن ابراهيم الذي تلقّى الوعد قبل الشريعة. ثم لأنه أراد أن يؤكّد الطابع الشامل للخطيئة وسيادة الموت: فالخطيئة والموت يمارسان قوّتهما بمعزل عن الشريعة، أي في بشريّة لا تمييز فيها بين يهوديّ وأمميّ. هذا الفكر يقابل ما في 7: 7- 11 (كنت حياً بمعزل عن الشريعة. فالشريعة لا تستطيع أن تمدّ سيادتها بدون الشريعة).
إن التوضيح الثاني يعني بالدرجة الأولى الخطيئة قبل الشريعة. في آ 12، استعمل بولس الاسم (خطيئة) والفعل (خطئ)، مع أن الخطيئة رادفت العمل الخاطئ. تلك العلاقة أراد بولس أن يوضحها. بدأ فميّز الخطيئة من الخطيئة «التي تُحسب» (آ 13)، أي الخطيئة كقوّة، الخطيئة كفعل.حينئذ فُهمت «الخطيئةُ» كقوّة. وظيفتُها سابقة لأعمال خاصة من الخطيئة. هذه القوّة يختبرها الانسان كمؤثّرة على رغباته وخياراته ليفعل عكس منفعته كخليقة الله. ثم يميّز بولس بين الأفعال الخاطئة التي تُحسَب كمعصية وتلك التي لا تحسب (آ 14): كلهم خطئوا حتّى قبل الشريعة، ولكن قبل الشريعة (وبمعزل عن الشريعة)، مثلُ هذه الأعمال الخاطئة لم تُحسب كمعصية كما كان الأمر بالنسبة إلى آدم. لم يحسب تجاوزاً لمنعٍ عرف أنه أمر الله.
هذا يعني أن كل البشريّة هي تحت سلطة الخطيئة بأعمالها الخاطئة (أعمال صُنعت متناسية الله ومجده كخالق، 1: 20- 23). ولكن ليس كلّ عمل خاطئ يحسبه الله معصية، بل فقط ذاك الذي اقتُرف بتجاوز إراديّ لوصيّة الله. لهذا ميّز بولس بين الموت كنتيجة الخطيئة، والموت كعقاب للخطيئة. رأى الموت كعقاب تستحقّه إرادة تطلب نفسها. ولكن في تحليل الوضع البشريّ، الموت هو أولاً نتيجة الخطيئة: نكون تحت سيادة الخطيئة لا سيادة الله. والنتيجة عيش في ارتباط بقوّة تقدر أن تفهم الموت. هنا نستطيع أن نرى عند بولس تعليماً عن الخطيئة الأصليّة، بمعنى أن كل انسان هو، منذ البدء، تحت سلطة الخطيئة مع الموت كنتيجة لها، لا تعليماً عن الذنب الأصليّ، لأن الانسان مسؤول فقط عن أعمال حرّة تُعارض الله وشريعتَه. وهذا يعني، بالمقابل، أن انجيل بولس ما نظر أولاً إلى الذين يعملون في الاحساس بالذنب، بل إلى جميع الخاضعين للموت والخطيئة. والحلّ الالهيّ الذي يقدّمه كان في المستوى الأساسيّ فداءً، قبل أن يكون عقاباً (3: 25- 26).
النظرة التاريخيّة التي نجدها هنا تأخذ امتدادها في تحليل ف 1- 2. هنا دخول الشريعة حوّل الخطيئة إلى معصية. أما في البداية، فقد بان الأممُ مذنبين لأنهم رفضوا الله ولم يعرفوا الشريعة كشريعة. لكن هذا يبقى مشكلة للذين شدّدوا على مقولات صعبة وسريعة. فبولس استعدّ لأن يتكلّم عن المعصية قبل الشريعة («حُسبت» معصية آدم)، أن يتكلّم عن الذنب الذي يناسب معرفة الله، مع أن هذه المعرفة سبقَتْ فأعطيت (لا كمعرفة الشريعة كشريعة). ولكن ما لا بدّ أن نتذكّر، هو أن بولس يعود دوماً إلى الشريعة، لأن هدفه أن يبيّن عدم فهم اسرائيل لموقعه قدّام الله. فأبرز قولَه: الشريعة تجلب معرفة الخطيئة (3: 20). والشريعة تحوّل الخطيئة إلى معصية (4: 15). والخطيئة تُحسَب فقط بالنظر إلى الشريعة (5: 13). هذا لا يعني أنه ينكر وجود معصية أو ذنب بمعزل عن الشريعة، بل لأنه يريد من اسرائيل أن يعرف أن امتلاكه للشريعة الآن يُكثر حاجته إلى الفداء. لا يُنكر بولس أن الشريعة تحمل الخير إلى اسرائيل. ولكن لأن اسرائيل ضخّم ذاك الخير، ضخّم بولس القول من جهته، فبيّن أن الشريعة تحوّل الخطيئة إلى معصية. تجعل خطيئة اسرائيل أكثر شناعة بحيث تستحقّ الحكم. وهكذا صار وضع اسرائيل أكثر خطراً من وضع الأمم.
بعد توضيح آ 12 د- 14 ب، أرادت الجملة الأخيرة في آ 14 أن تعود إلى المقابلة بين آدم والمسيح. حدّد بولس العلاقة بين آدم والمسيح: إن الأول هو نمط الآتي. هذا يعني أن آدم هو نموذج المسيح، لأن الاثنين هما صورتان عن حقبتين. بعمل حاسم واحد، حدّد طابعَ الحقبة الآتية للذين ينتمون إلى هذه الحقبة. كما حدّد آدمُ بمعصيته طابع الدهر الحاضر، هكذا حدّد المسيحُ طابع الدهر الآتي. لقد دشّن المسيحُ الدهر الجديد، وظلّ في علاقة مع الدهر الحاضر. والموضوع ليس ميلاد يسوع ولا رسالته العامّة، بل موته كردّ على خطيئة آدم: كما أدخلت معصيةُ آدم الموتَ، هكذا أدخل موتُ المسيح الحياة. فالمسيح السماويّ والقائم من الموت يميّز الدهر الآتي، كآدم الساقط الذي يميّز الدهر الحاضر. هنا نعود إلى 1 كور 15: 45- 49 حيث المسيح القائم من الموت هو آدم الأخير، والذي من السماء.
وجاء التعارض بين الزلة وعمل النعمة (آ 15). من زلّ أضاع طريقه. أما العاصي فيُحكَم عليه بسبب تمرّده الاراديّ. «الكثيرين» تقابل «الجميع» (آ 12). فبولس يتطلّع إلى جميع البشر. هنا نجد العلاقة بين معصية آدم وموت الكثيرين. هناك حقبة آدم والخطيئة. ثم حقبة النعمة وعمل الله المجانيّ: ما فعله المسيحُ (خضوعه للموت) فتجلّت نعمة الله في الأفراد، هو عودة إلى اهتداء المؤمنين في البداية (1 كور 1: 4- 5)، أو إشارة إلى عطيّة الروح القدس (أع 2: 38). هو النعمة ذاتها. في موت المسيح وقيامته. في تأوين هذه النعمة في حياة المؤمنين. هنا تحدَّد العلاقةُ بين بداية عمل انسان واحد، والخير إلى كل نسله. وهذه النعمة صارت وافرة للكثيرين. أجل، كان هذا التعارضُ حاضراً بين سقوط البشر ومبادرة الله ونعمته. تميّزت حقبةُ آدم بالموت. وحقبة المسيح بملء النعمة. لم يعد هناك من مكان للتشاؤم واليأس، لأن نعمة الله فتحت صفحة جديدة بها تضع حداً للموت.
وفي آ 16 يعبِّر بولس من جديد عن التعارض بين انسانين وبين حقبتين في أقوال مختلفة: ذاك الذي خطئ صار تجاه العطيّة التي جعلها المسيح ممكنة. وهناك تعارض آخر بين الواحد والكثيرين. عملُ انسان واحد حدّد مصير الكثيرين الذين حكم عليهم. ولكن جاء عملُ النعمة والتبرير وهكذا أوجز بولس التعارض بين الحقبتين على مستوى البداية وعلى مستوى النهاية. الانسان الذي بدأت خطيئتُه الزمنَ الحاضر وانتهت بالحكم. وعملُ النعمة بدأ الحقبةَ الشديدة مع التبرير الذي هو الكلمة الأخيرة.
بعد أن أوجز بولس لاهوت النعمة التي قبلناها، عاد إلى النقطة الأساسيّة في المقابلة بين آدم والمسيح (آ 17)، وإلى التعارض بينهما وبين حقبة كل منهما. واحد كان مسؤولاً عن إدخال الخطيئة والموت. وكان لخطيئته تأثير على البشريّة كلها، فسادَ الموتُ. وحقبةُ المسيح هي حقبة الحياة للذين نالوا فيض النعمة وموهبة الروح. فالبرّ هو موهبة، هو وضع (وعلاقة) تقبّلناه من الله. نظر بولس إلى الموت كنتيجة الأخرى. هذا يعني أن سيادة الموت لم تنتهِ (ما زال الجميع يختبرون الموت)، وأن الحقبة الجديدة بدأت. وأخيراً، إن آدم يقف في بداية حقبة مع أن عمله يحدّد سيادة الموت على الحقبة كلها (وهكذا نتكلّم عن آدم وكأننا نتكلّم عن البشريّة كلها). مقابل هذا، بدأ عهدُ المسيح وهو يتواصل في الزمن الحاضر. سقط آدم فما حقّق مخطّط الله للانسان (سيادة الحياة)، فخضع للموت. والمسيح الذي أتمّ بقيامته مخطّط الله، منح الذين يتبعونه أن يملكوا في الحياة معه.
مع آ 18- 19، أحسّ بولس أن المقابلة بين آدم والمسيح لم تتمّ في آ 12. فكانت آ 15- 17. والآن صار التقابل واضحاً، وبدا الرسول وكأنه يكرّر نفسه: عملُ انسان واحد حدّد مصير الجميع، البشريّة ككلّ. هو تقابل تيبولوجي، نمطيّ، بين انسان أول وانسان ثانٍ. والتعارض يبدو بين عمل كل منهما ونتيجته: عصيان آدم. عمل يسوع البار. نتيجة الأول هي الحكم. ونتيجة الثاني هي البرّ الذي يعطي الحياة. مع آ 19، هناك تعارض بين عصيان آدم وطاعة المسيح، فكان عددٌ من الخطأة في الحالة الأولى، وعدد من الأبرار في الحالة الثانية.
في مرحلة أولى، أوضح عملُ المسيح بعض الشيء: عمل النعمة. عمل بارّ. عمل طاعة انسان واحد. في هذه المرحلة، برزت سماتُ آدم الكرونولوجيّ مع عمل المسيح الذي صُوّر في تعارض مع عمل آدم. العمل الذي يتوافق مع مشيئة الله تجاه المعصية التي تدلّ على ضلال البشر. العمل الذي حُدّد كطاعة مقابل عصيان (عدم طاعة) آدم. عمل الحقبة الجديدة يعارض عمل القديم.
ونصل إلى آ 20- 21. يمدّ بولس المقابلة (والتعارض) بين آدم والمسيح. فالبرهان الذي بدأ في ف 1 مع اتهام آدم، يكمَّلُ الآن مع تشديد على مصير الانسان الذي واجهه عملُ المسيح المجاني ونتيجته، مع كل البشريّة، وكل التاريخ البشريّ في نظرة واحدة إلى الانسانين وإلى الحقبتين. وها هو بولس يستعدّ لكي يُنهي هذا القسم من توسّعه. ولكن خاف أن تكون الصورة ناقصة فذكر الشريعة، ونسب إليها ما يمكن أن يشكّك المؤمن اليهوديّ. في 3: 20- 22، أبعد الشريعة عن برّ الله بالإيمان، وأعطى في ذلك مثَل ابراهيم (ف 4). وها هو يجعل الشريعة تعارض النعمة. لا، ليست الشريعة جواباً على الخطيئة، بل هي تُكثر الخطيئة. ليست وسيلة في يد الله في حقبة النعمة، بل هي تنضمّ إلى الخطيئة والموت. بل هي قوّة مثلهما. وهي تشدّد قبضة الخطيئة والموت على نسل آدم.

خاتمة
بعد أن برّرنا الله الذي ننتظر منه تبريرنا وثقتنا، وأساس حياتنا، والسلام والمجد، ودعوتنا الأخيرة في العالم، نلنا الروح الذي يشهد لنا أننا في الخلاص. وهكذا بدأ الكلام عن آدم وخطيئته وموته، لا من أجل آدم، بل من أجل المسيح وعمله. فبما أننا خلصنا بيسوع المسيح، وبما أن الروح يقيم فينا، نستطيع أن نلقي نظرة إلى الوراء. هي خليقة جديدة وهي بشريّة جديدة في يسوع المسيح. من أجل هذا، من أجل ما نلناه، نستطيع أن نفهم تاريخ الانسان الذي أراد أن يقود نفسه بنفسه، فقاد البشريّة إلى الخطيئة والموت. كان آدم الأول المثال البعيد والمعارض لآدم الثاني. وكانت الخليقة الأول نموذج الخليقة الثانية. وكل هذا بيسوع الذي هو صورة الله ومجده الحاضر في العالم. وهو لا يأتي كالديان الذي يحكم، ولا كالمشترع الذي يهدّد من يتجاوز الوصايا، بل كالمخلّص الذي هو حبّ وعطاء. بانسان واحد عرفت البشريّة الموت، وبانسان واحد كانت لنا الحياة والنعمة. أما الشرّ الذي كان في العالم، فقد قهرَه الله حين أخذه على عاتقه، صلبه على الصليب، فحصل الخلاص للبشريّة كلها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM