الفصل الخامس عشر
إيمان ابراهيم وإيمان المسيحيّ
4: 17- 25
ويتواصل البرهان، فينتقل القارئ إلى نقطة جديدة وهي المرحلة الثالثة في عرض ما يقوله تك 15: 6: آمن ابراهيم بالله. ما أراد بولس أن يقسم عرضه ثلاث مراحل كما فعلنا. فالعرض واحد، وكل مرحلة تتعلّق بالمرحلتين الأخريين. فإن آ 11- 12 تفرضان برهان آ 13- 17. وآ 17 ب تقدّم مبدأ أساسياً للبرهان في آ 18- 21. وتحديدُ إيمان ابراهيم الذي يتوسّع فيه النصّ الآن، سبق له فميّز بين الشريعة والإيمان كما في آ 13- 16. لم يعرف إيمانُ ابراهيم الضعف، بل كان ثقة بقدرة الله. وهكذا يكون إيمانُ المسيحيّ ليكون حقاً ابناً لابراهيم.
1- تحليل النصّ الكتابيّ (4: 17- 25)
توقّفنا في فصل سابق عند شرح آ 17 أ، وها نحن نبدأ مع آ 17 ب. هو الانتقال إلى مرحلة جديدة في البرهان، حين يربط بما يأتي، وصفَ الله الذي آمن به ابراهيم. فقد أراد بولس أن يؤسّس الملاحظة الأخيرة حول تك 15: 6، على الكلام عن الله كما في ديانة أحاديّة. قدّم بولس تحديداً أساسياً عن الله الذي يعبد، عن الاله الذي آمن به ابراهيم. فإذا فهمنا فهماً صحيحاً الإله الذي يؤمن به ابراهيم، نستطيع أن نفهم أيضاً معنى العبارة: آمن ابراهيم بالله. طابعُ إيمان ابراهيم يحدّده طابعُ الاله الذي به آمن. وهكذا نقرأ في هذا النصّ مقطعين. الأوّل (آ 17- 22) يتوقّف عند إيمان ابراهيم. الثاني (آ 23- 25) عند إيمان المسيحيّ. فيجب أن يتكيّف الكتاب مع واقع المؤمن في زمن بولس.
أ- إيمان ابراهيم (آ 17- 22)
في آ 17 ب، يبدأ بولس فيحدّثنا عن الله الخالق، كما في بداية الكتاب المقدّس، ويذكر الصفات التي تميّز أفضل تمييز، قدرةَ الله في عطيّة الحياة، وفي نقل الكائن من اللاوجود إلى الوجود. كل هذا يهيّئنا لكي نعرف أن الذي خلق هو الذي أقام يسوع من بين الأموات (آ 24).
«آمن بالرجاء» (آ 18). رج 4: 1. ذُكر الإيمان في آيتين كصدى إلى ما في تك 15: 6، فلفت الانتباه إلى طبيعة إيمان ابراهيم، وتحوّل العرضُ إلى المرحلة الأخيرة. «الرجاء» (إلبيس). «بارا» على خلاف، ضدّ: ما يستطيع الانسان أن يرجوه على المستوى البشريّ. أما إيمان ابراهيم، فتميّز (وتأسّس) على رجاء حدّده وعدُ الله وحده. هنا نميّز بين الرجاء في العالم اليونانيّ وفي العالم اليهوديّ. عند اليونان، اللايقين بالنسبة إلى المستقبل هو أساس مدلول الرجاء الذي يعني عادة الانتظار. أما فعل «إلبيزو» (ترجّى) فيدلّ على خوف من الشرّ. في العهد القديم يختلف الرجاء عن الخوف، وعن الرجاء كانتظار لما هو صالح. هو يرتبط بالثقة، بالرجاء الواثق، بالرجاء المتّكل على الله. تبع بولس هنا الخطّ اليهوديّ: ترك رجاء يدلّ عليه اللايقين والخوف من الآتي المجهول، وتحدّث عن ثقة ثابتة بالله. هكذا كان إيمان ابراهيم بذاك الذي يحدّد المستقبل بحسب ما وعد. يلعب الرجاء دوراً هاماً في هذه الرسالة. رج 5: 2، 4- 5؛ 8: 20، 24؛ 12: 12؛ 15: 4- 13.
«فصار أباً». ماذا كان مضمون رجاء ابراهيم؟ مخطّط الله. عملَ اللهُ كما أراد، فحدّد الطريق التي فيها يصير ابراهيم «أباً لأمم كثيرة». وهذه الطريق هي طريق الإيمان. ورد النصُّ الكتابيّ هنا حرفياً، كما في السبعينيّة. دلّ بولس على برهانه، ففسَّر تك 15: 5- 6 على ضوء التعبير اللاحق للوعد (تك 17) أو الأمانة المفروضة (تك 22). شدّد بولس هنا على أن مدلول تعبير تك 17: 5 يتحدّد مع ما في تك 15: 5 حيث يُروى قبولُ ابراهيم للعهد، ويُعبّر بوضوح عن الوضع اللاحق أمام الله، كما عبّر عنه تك 15: 6. رج فيلون، تبدّل الأسماء 177- 178 الذي يرى أن تك 17: 17 يجب أن يُفهم على ضوء تك 15: 6.
«وما ضعف إيمانه» (آ 19). مع أنه نظر إلى جسده الذي مات: «استانايو» (ضعف). استعمل عن الضعف الدينيّ أو الخلقيّ، فقط عند بولس. رج 14: 1- 2، 21؛ 1 كور 8: 11- 12؛ 2 كور 11: 29. إيمان ابراهيم قويّ، لأنه نظر فقط إلى الله وما تعلّق بالامكانيّات البشريّة. هذا لا يعني أن الإيمان يجهل الواقع التاريخيّ (فما ضُعف)، بل أخذ ابراهيمُ بعين الاعتبار هذا الواقع (فكّر، تك 17: 17). لهذا دُعي إيمانُه قوياً. يضعف الإيمان حين يرتبط بقدرة البشر، أو بما يستطيع الانسان أن يفعل. لم يكن ذاك إيمان ابراهيم. ورد فعلُ «مات» فذكّرنا بذاك الذي يُحيي الموتى (آ 17). عمر آدم (100 سنة). رج تك 17: 1، 17؛ 21: 5. لم يعد من امكانيّة بأن يكون أبا أبناء. نشير هنا إلى أنّنا فقط أمام زرع الوعد.
«ما شكّ في وعد الله» (آ 20). مرّة أخرى سعى بولس لكي يُبرز إيمان ابراهيم من خلال نقيضة. وهنا نجد نقيضتين. الأولى سلبيّة. (1) ما شكّ إيمان ابراهيم بالنسبة إلى وعد الله. «دياكرينستاي»: تردّد، رج تك 14: 23. فالإيمان يعني قبول وعد الله والارتباط به. (2) الإيمان هو ما يقابل «أبستيا». ليست اللاأمانةَ في حفظ الشريعة، بل الضعف في قبول وعد الله إلى جميع الأمم بالإيمان. عندئذ تصبح «أبستيا» رفض الإيمان، التخلّي عن وعد الله.
والنقيضة الثانية هي إيجابيّة. (1) «ما ضعف في إيمانه». المجهول يدلّ على عمل الله. ما أضعفه الله، فكان قوياً بالنظر إلى إيمانه. فكّر بولس بالثقة بالله، وسواء هو الإيمان الذي ضعُف أو ما كان وسيلة إضعاف، فالأمر هو هو: ارتباط ابراهيم بالله صار أقوى. هذا يعني أن هذا الإيمان يمكن أن يقوى ويمكن أن يضعف. (2) «مجّد الله». ق 1: 21 (ما مجّدوا الله). عمل ابراهيم ما لم يعمله الانسان في الخطيئة الأول. «بستيس» (الإيمان) مقابل «أبستيا» (اللاإيمان). الإيمان هو جواب الخليقة للخالق. وباللايمان ترفض الخليقةُ أن ترتبط بالله.
«واثقاً» (آ 21). «بلا روفورايستاي»: وثق ملء الثقة، اقتنع كل الاقتناع. رج جا 8: 11. ق كو 22:؛ 1 تس 1: 5؛ عب 6: 11؛ 10: 22 (ملء الإيمان). «الله قادر». رج تك 18: 14 (جواب الربّ إلى سارة التي ضحكت). تحدّث فيلون (الأحلام 2: 136؛ يوسف 244؛ الشرائع الخاصة 1: 282) عن الثقة بقدرة الله ليفعل كلَّ شيء، وبولس عن قدرة الله في 9: 22؛ 11: 23؛ ق مر 10: 27 وز؛ 14: 36 والكلام عن قدرة يسوع. آمن ابراهيم بالله الذي وعد، لا بما وعد به.
«فلهذا» (آ 22) (ديو). هذا يعني أن الأمر واضح ولا يحتاج إلى برهان. وأننا وصلنا إلى خلاصة العرض. ويرد هنا تك 15: 6 (رج آ 3). ما حُسب لابراهيم هو إيمانه بظروفه (آ 9- 12) وموضوعه (آ 13- 17) وطبيعته (آ 17- 21). كلُّ هذا توضّح.
ب- إيمان المسيحيّ (آ 23- 25)
هنا تأتي الخاتمة بالنسبة إلى ابراهيم كما في تضمين (آ 22)، مع التطبيق على المسيحيّ.
في آ 23، عاد بولس إلى ابراهيم كنموذج لوارثيه، حيث يقبل به اليهوديّ والمسيحيّ. استطاع أن يركّز على آية واحدة (تك 15: 6)، لا لأنها عرفت توسّعاً في العالم اليهوديّ، بل لأنه قرأ هنا «الإيمان» و«البرّ»، فاكتشف مدلولاً نموذجياً يُوضح العلاقة بين هذين اللفظتين. ولأن الوعد الذي ارتبط بإيمان ابراهيم ونتج عن برّه يعني النظر إلى أبوّته (أمم كثيرة). فمع أنه قرأ المقطع الكتابيّ على ضوء إيمانه بالمسيح، لم يكن اختيار النصّ اعتباطياً، وما حاول الرسول أن يكتشف فيه معنى ليس فيه.
نظريّة «الكتاب» التي نجدها هنا تحمل سمتين اثنتين. الأولى: كُتب من أجلنا (نحن، الأمم واليهود، زرع ابراهيم، آ 11، 12، 16، 17). هذا ليس اعتقاداً بأن الكتاب هو خارج الزمن بحيث ينطبق على كل ظرف. فالرباط بين النص والسياق البولسيّ رباط خاص. على المستوى الاسكاتولوجيّ. ما حدث في حقبة اسرائيل السابقة والعهد، كان صورة سابقة عن زمن النهاية (15: 4؛ 1 كور 9: 10؛ 10: 11). الثانية: كُتب من أجل ابراهيم. أي حَفظ ذكرى ابراهيم وميّزه في هذا الطريق (سي 44: 10- 15). ولكن إن كان فكرُ بولس آنياً، حين أورد تك 15: 6 (تميّز ابراهيم حين حُسب باراً). وإن كان الكتاب لم يحدّد ب «من أجلنا»، فهذا يعني أن بولس رأى في الكتاب تجسيداً لحدث تاريخيّ. نحن نقرأه في النصّ. ولكننا لا نقرأه فقط في النصّ. نحن أمام تفسير نمطيّ فيه يصل الوعدُ إلى التتمّة.
«بل من أجلنا أيضاً» (آ 24). «مالو». فعل يدلّ على عمل يتبع مخطّط الله وقراره. يجب. سيكون بالتأكيد. و«حُسب» يدخل في وضعنا كما في وضع ابراهيم. والعودة إلى المُقبل الاسكاتولوجيّ (الدينونة الأخيرة) تكشف حسبان الله للبرّ في بداية القبول كما في الدينونة الأخيرة، وفي الوقت الذي يفصل بين الاثنين. الفاعل في آ 22 و23 لم يُذكر وإن كان واضحاً (ابراهيم المؤمن). ولكن بما أن بولس ما ذكره، فقد دفع القارئ أن يرى في ابراهيم المؤمن نموذجاً للمؤمنين. طلب الرسول من القارئ أن يستنتج، فأدخله في فكره.
«الذي أقام ربّنا». نحن هنا أمام أقدم إعلان إيماني في المسيحيّة الأولى (أع 3: 15؛ 4: 10). بالنسبة إلى «يسوع» رج 8: 11؛ 10: 9؛ 1 تس 1: 10. و«كيريوس» (الربّ). رج 1 كور 6: 14؛ 2 كور 4: 4. ما قال عن قيامة يسوع يقابل على المستوى الاسكاتولوجيّ ما قاله عن موت حشا سارة. في الحالتين، هي قدرة الله الخلاّقة. ماذا نلاحظ في هذا التعبير اللاهوتيّ والكرستولوجيّ؟
أولاً: يصوَّر الإيمانُ المسيحيّ كإيمان بالله وإيمان بالمسيح. والإيمان بالله يُعطى لنا بالنظر إلى المسيح (1 تس 1: 8- 10). لسنا هنا أمام مرحلتين تأتي الواحدة بعد الأخرى، بل أمام وجهتين للإيمان الواحد. ثانياً: التعبير الأول (الله أقام يسوع) سابق للتعبير «قام يسوع» (1 تس 4: 14). كلّ هذا يجعل حدثَ قيامة المسيح داخل مقصد الله. ثالثاً: كيريوس هنا ليس وضعاً ينتج عن قيامة يسوع (رج 1: 4؛ 10: 9)، بل هو يتحدّث عن القائم من الموت. نحن هنا أمام نظرة موحّدة لا تترك مكاناً للتمييز بين يسوع الأرضيّ والربّ الممجّد. فيسوع الذي صُلب وقُبر هو الربّ. رابعاً: الله أقام الربّ. مع كل الوضع الالهيّ الذي يتضمّنه كيريوس (1: 7، 8؛ 10: 9)، يبقى الوضع مختلفاً وخاضعاً لله. فالله أقامه على أنه الربّ (1 كور 15: 20- 28).
«أسلم من أجل معاصينا» (آ 25). هي عبارة مختلفة عمّا نجد في المسيحيّة الأولى (8: 32؛ غل 2: 20؛ أف 5: 2، 25). السمة المميّزة هي المجهول (العمل الالهي): الله أسلمه. نحن هنا أمام موقعين في التقليد: خبر الحاش والآلام. ثم تفكير مسيحيّ حول موت يسوع مع قراءة اش 53. «باراديدومي» (أسلم). يضمّ في نظرة واحدة فكرتين: خيانة يسوع على يد يهوذا (مر 9: 31؛ 10: 33؛ 14: 1- 2؛ مت 10: 4). تسليم يسوع بيد الله (أع 3: 13؛ روم 4: 25؛ 8: 32؛ 1 كور 11: 32). إن صيغة المجهول تضمّ الانشداد بين عمل يهوذا الشنيع (مر 14: 21) ومخطّط الله الكامل (أع 2: 23).
«وأقامه من أجل تبريرنا». هي صيغة المجهول: أقيم من بين الأموات. رج 6: 4، 9؛ 7: 4؛ 1 كور 25: 12 (الفعل: اغايرو). ونقرأ «ديكايوسيس» (تبرير). نجد هنا تأثير موت يسوع وتأثير قيامته. كما نجد المدلول السوتيريولوجي (على مستوى الخلاص) لقيامة يسوع بحيث لا ننظر إليها فقط على مستوى التبرير الذي يحمله يسوع (7: 4؛ 8: 34؛ 1 كور 15: 17).
2- خلاصة لاهوتيّة
نبدأ مع آ 17 ب (الله الذي يُحيي الأموات). هذا الموضوع هو الثاني في المباركات الثماني عشرة، وقد اعتاد اليهوديّ التقيّ أن يصلّيه كلّ يوم. هو قانون إيمان في اليهوديّة الهلنستيّة وقد استعمله فيلون. وهكذا اهتمّ بولس بأن يؤسّس عرضه على مثل هذا اللاهوت. لسنا أمام فهم جديد لله به يترك بولس الإيمان اليهوديّ والعهد. هو ما أراد أن يكون عرضُ إيمان ابراهيم تجديداً يبرّره الوحي الجديد وابتعاداً عن أولى كلمات العهد. بل إن فهْمَه لإيمان ابراهيم يتوافق مع فهم اسرائيل لله، وينبثق منه. رأى بولس الآن طابع إله اسرائيل فاستطاع، أن يرى طابع عهد اسرائيل مع الله. وبما أن معنى الوعد لابراهيم وزرعه يحدّده طابع إله ابراهيم، لهذا جاء الواحد يتداخل في الآخر ويقوّيه.
وهناك واقع آخر هام: تصويرُ الله كالخالق. بما أنه الخالق فهو يعطي الحياة ويُسند الحياة. إن الفكر المتحدّث عن الله كمعطي الحياة للموتى (ظهوره الاسكاتولوجي كقوّة تعطي الحياة) هو أسمى مثَل عن قوّة الخلق. هذه القوّة تعطي الحياة في البداية وفي النهاية. والقوّة التي تعطي الحياة للموتى تعطي الانسان الثقة بحيث لا ييأس في هذه الحياة. ويعلن الرسول: ما لم يكن موجوداً صار موجوداً بقدرة الله الخلاّقة.
كل هذا يتضمّن علاقة الخليقة بالخالق. فكما أن الخالق خَلق بدون شرط مسبق، فهو يهب الحياة حيث كان الموت، ويدعو إلى الوجود حيث لم يكن شيء. وبالتالي، ما خُلق يجب أن يرتبط بالخالق الذي أعطاه الحياة. هكذا تُفهَم العلاقةُ بين الله والجنس البشري، بما فيها الخلاص والفداء. فالمبدأ هو هو في النظر إلى الله الخالق وإلى الله المخلّص: هو يفتدي كما يخلق. هو يبرّر كما يُحيي. هذا يعني أن خلاصه لا يرتبط بشيء فيه خلُص. وأن الانسان يرتبط بنعمة الله غير المشروطة في العهد كما في الخلق. هذا الارتباط بالله نساه الانسان. ووقع معاصرو يسوع، اليهود، في الخطأ عينه، فاعتقدوا أن العهد مع ابراهيم يرتبط بأمانة للعهد. يبقى عليهم أن يعرفوا الطابع الأساسيّ لله الذي يخلق والذي يُحيي.
وجاء النصّ المرتبط بابراهيم (آ 18) يرسم هذه العلاقة بين الخالق والخليقة، بين إناء العهد مع الله ومعطي العهد. لقد عرف ابراهيم أن تتمّة الوعد لا ترتبط بحياة له ولا بقدرة منه. فلا أساس للرجاء في ذاته، ولا في وضعه البشري. فكل ما له هو من الوعد. والوعد الذي أعطاه الله كان بلا شرط. وآمن ابراهيم بالوعد. وهذا الإيمان حسبه باراً.
في آ 19 نرى أهمية تك 15: 5- 6 في تفسير ما صار واضحاً، حين نفهم أن ما يتعلّق بإيمان ابراهيم، يعود إلى تك 17. على ضوء تك 15: 5- 6، لا يرتبط فهم تك 17 بما في آ 9- 14 (فريضة الختان)، ولا بوعد أعطي لسارة بأن يكون لها ولد (آ 15 ي). بل شدّد بولس على اللارجاء في الوضع البشريّ (تك 17: 17)، وعلى ضعف الانسان أمام قدرة الله. فهذه القوة ليست في جسده ولا في جسد سارة. بل في إيمانه. هذا ما وعاه ابراهيم حين رأى أن جسده (وجسد سارة) مات. ففهم أن معطي الحياة وحده يُتمّ وعده ويمارس قوّته. وقوّة إيمانه أفهمته أن لا شيء فيه يصل بالوعد إلى الله، وأنه يثق فقط بالله الذي يقيم الموتى ويدعو غير الموجود إلى الوجود.
ما شك ابراهيم بوعد الله (آ 20)، بل تقوّى، أو بالأحرى قوّاه الله في إيمانه. تعلّق بكلمة الله، وكان ذلك كافياً لأن هذه الكلمة تحمل وعدَ الخالق. ويتكرّر الكلام عن إيمان ابراهيم الذي لا يسنده شيء، لا الأمانة ولا العهد. ما كان لابراهيم شيء يعمله سوى الثقة بالله، وليس شيء آخر.
ثقة ابراهيم كانت غير مشروطة، وتخلّت عن كل عون، فتمجّد الله. وهكذا تحوّل ابراهيم من مثال اليهودي التقيّ إلى مثال الخليقة، إلى مثال رجل الإيمان الذي يرتبط كل الارتباط بمن أعطاه الحياة، والمثال لكل من يؤمن سواء كان من اليهود أم من الأمم.
ويدور العرض حول عنصرين اثنين: إيمان ابراهيم، وقدرة الله على تتميم الوعد (آ 21). ويتكرّر الكلام عن الإيمان في ضوء إيمان ابراهيم القويّ. لسنا هنا أمام انفعال قدريّ (ليكن هذا، لأننا لا نقدر أن نفعل شيئاً آخر)، ولا أمام خوف من إله مجهول أو عناية عمياء. بل ثقة بالله واعتراف بقدرته كالخالق. عرّف ابراهيمَ بمخطّطه، فوثق ابراهيم وما طرح سؤالاً ولا وضع شرطاً. لهذا لن يُنظر إلى إيمان ابراهيم كأمانة للعهد. فالإيمان ثقة بصدق الله الذي وحده يجعل وعده يتمّ تماماً كاملاً.
في آ 22، عاد بولس إلى نقطة البداية: بالإيمان تبرّر ابراهيم. لا بأي عمل، ولا سيّما بالختان. إيمانٌ يتجاوب مع وعد يتجاوز النظرة إلى شعب الشريعة. إيمان هو ثقة عارية بقدرة الخالق. بما أن هذا الإيمان يقبله الله، تبرّر ابراهيمُ بالنعمة. هناك قدرة الله وضعف الانسان. هناك وعد الله المجانيّ والثقة بالشريعة أو بالنسل. أين يقف مؤمنو رومة؟
في آ 23- 24 طبَّق بولس هذه النتيجة. ما كُتب تك 15: 6 ليحدّثنا عن ابراهيم الذي تبرّر، بل ليقدّم نموذجاً لنسله. إن إيمان ابراهيم هو النموذج الأول لإيمان المسيحيّين في علاقتهم بيسوع. هناك عنصران: الإيمان بالله. والله الذي يعطي الحياة للموتى. وقدّم الرسول توازياً بين ذاك الذي أخرج الحياة من حشا سارة المائت (آ 19)، وذاك الذي أقام يسوع من الموت. طبّق بولس نموذج ابراهيم الذي تبرّر فقال: «نحن الذين نتبرّر». هو الله الواحد الذي خلق، خلّص، برّر، فما يكون موقف الانسان سوى الإيمان كما فعل ابراهيم.
وانتهى «المدراش» أو الدرس والتأمّل في النصّ الكتابيّ، مع آ 25. وضع بولس جسراً بين التبرير وقيامة يسوع، بعد أن تحدّث عن تبرير ابراهيم حين آمن بالله الذي يُحيي الموتى. وسوف يضع جسراً بين الموت والمعاصي في 5: 15- 20. إن الكلام عن يسوع الذي أسلِم، يجد جذوره في الكنائس الأولى على ضوء اش 53. إن جزئي العبارة هما وجهان لقول لاهوتيّ واحد. فبولس ما أراد من قرّائه أن يميّزوا بين موت يسوع وقيامته وكأنهما نتيجتان منفصلتان. فالتمييز هو تمييز بلاغيّ. وفي الوقت عينه من الطبيعيّ أن نربط معاصي البشر بخيانة يسوع وموته، لا سيّما وأن المقولات الذبائحيّة هي جزء من فهم طريقة الله في التعامل مع الخطيئة. نجح بولس في فصل إيمان ابراهيم عن أعمال العبادة، فما تحدّث عن موت يسوع في إطار الذبيحة وأعمال العبادة. والرباط بين التبرير وقيامة يسوع أبعد في العرض السابق. فنعمة الله المبرّرة هي واحدة مع الخلق والقدرة على إعطاء الحياة. وثقة ابراهيم ستكون باطلة إن لم يعطِ الله سارة ابناً. وكذا يكون إيمان المسيحيّين لو لم يُقم الله يسوع. إن قيامة يسوع هي البرهان الإيجابي بأن القوة التي أعطت الحياة لسارة وابراهيم ما زالت تعمل في البشريّة. يُعرف الإيمان أنه مقبول، لأن لقبوله ذات القوّة الفاعلة التي أقامت يسوع وسوف تقيم الموتى (8: 11) بالروح الساكن فينا.
الخاتمة
ابراهيم هو أبونا، وقد آمن بالله الذي يقدر أن يُحيي الموتى. ففي نظر البشر، لم يعد لابراهيم قدرة أن يلد بحسب الجسد، فهو كأب قد مات. ولكنه آمن أن الله يقدر أن يعطيه نسلاً، وكلمةُ الله ووعده كانا له أهم من الطبيعة ونواميسها. فالخالق يقدر دوماً أن يخلق. وهو أيضاً المخلّص الذي يقدر أن يهب الحياة للمائتين وأولهم يسوع المسيح. وابراهيم لا يؤمن بالحتميّة. كما يرفض نظام الشريعة التي تنظّم كل شيء. فقد جعل في قلبه فتحة يدخل فيها الربّ. وها هو الله يعده أيضاً بحيث لا يستطيع أن يحسب حياته وكأنها جُمّدت. نحن هنا في نقيض الحكمة البشريّة التي لا تؤمن إلا بالحتمية. أما الإيمان فيختار الله الذي يقدر على كل شيء، الذي يصنع العجائب إن هو شاء. وهذا الاله ينظر إلى المؤمن كخليقة مبرّرة، كانسان حقيقيّ أمام إلهه. هذه هي الخليقة الجديدة. قيل كل شيء لابراهيم، وقيل أيضاً للمسيحيّ الذي يؤمن بإله يقيم الموتى، بإله أرسل ابنه: بموته كفّر عنا، وبقيامته برّرنا.