الفصل الرابع عشر: تبرّر ابراهيم من دون الختان والشريعة

الفصل الرابع عشر
تبرّر ابراهيم من دون الختان والشريعة
4: 9- 17

آمن ابراهيم فحُسب له إيمانه براً. تلك كانت المحطّة الأولى في كلام الرسول عن ابراهيم. هو ما تبرّر بالأعمال، بل تبرّر بالإيمان. ما كان له «حقّ» على الله، وما وجبتْ له أجرة. ما أعطاه الله، أعطاه إياه مجاناً، جعله له هبة. اكتفى بإيمانه فبرّره. وها نحن ننتقل إلى المحطة الثانية: لا حاجة إلى الشريعة التي جاءت بعد ابراهيم بزمن طويل. وهكذا يعود بولس إلى نقطه الانطلاق: كل ما نلناه هو عطيّة، وليس أجراً لأننا مارسنا الشريعة. ونحن نتقبّله في الإيمان بشخص يسوع وبعمله الخلاصيّ.

1- تحليل النصّ الكتابيّ (4: 9- 17)
نقرأ هنا مقطعين في معرض كلامنا عن البرّ الذي ناله ابراهيم بالإيمان: في الأول (آ 9- 12)، نفهم أن إيمان ابراهيم لم يرتبط بأي عمل من الأعمال. ولا سيّما الختان. في الثاني (آ 13- 17)، نفهم أن العهد الذي وُعدنا به ارتبط بالإيمان، لا بالشريعة. لا مكان للختان، لا مكان للشريعة، بل للإيمان وحده من أجل التبرير.
أ- لا مكان للختان (آ9- 12)
نبدأ فنقرأ الأحداث في حياة ابراهيم (آ 9). «السعادة» (مكارسموس). هذا ما يربطنا بما في آ 6 من إيراد مز 32، مع تكرار تك 15: 6. لقد ربط بولس الايرادين الواحد بالآخر: بركة الغفران ترادف حسبان البرّ (هذا كان واضحاً في آ 6). ثم إن مز 32: 1- 2 شارك تك 15: 6 ليدلّ على قوّة «حُسب»، لا بسبب قيمته في حدّ ذاتها (فداود نال البركة حين كان مختوناً). هي المرّة الثالثة يرد تك 15: 16 (آ 3، 5، 6) مع الاسم (بستيس) الذي حلّ محلّ الفعل (إبستوسان) كما في آ 5. ولكن التلميح إلى تك 15: 6 في آ 6، أوضَح أن الإيمان هو البرّ، ولا يحلّ محلّه فقط. فكما رأى اليهوديّ برّ العهد في أمانته للعهد (أعمال الشريعة)، هكذا رأى بولس البرّ الذي حسبه الله في لغة الإيمان، الذي هو ارتباط تام وثقة بالله كما في مثَل ابراهيم (4: 17- 21).
وجاء الكلام عن المختونين (2: 26) أي عن اليهود والأمم، عن الذين في الشريعة والذين خارج الشريعة (2: 12). من اللافت أن بولس لم يطرح السؤال في عودةٍ إلى ابراهيم. ففي نظره، هو مختون ولا مختون. جاء الطقس فثبّت هوية مجموعة، وفصلها عن مجموعة أخرى. أما الاختلاف بين اليهوديّ والأمميّ، فحُصر في عمل طقسيّ واحد هو الختان. هذا الطقس مهمّ لكي يفهم اليهوديّ هويّته، ويعرف أنه شعب الله المميّز، وأنه يختلف عن سائر الشعوب بأعمال الشريعة. ما يميّز اليهود هو أنهم خُتنوا (آ 12). ما قال بولس: المختونون أو اللامختونون. بل جعل واو العطف بين الفئتين. لا شكّ في أن البركة (البرّ، الغفران) وصلت إلى المختونين. كما وصلتْ إلى اللامختونين. لا، لا تُحصر البركة في اليهوديّ كيهوديّ، بحيث لا يستطيع الأمميّ أن ينالها دون أن يدخل في شعب العهد بواسطة الختان.
«ولكن كيف حُسب له ذلك» (آ 10)؟ تعود بنا سلسلة الأسئلة في آ 9- 10 إلى ابراهيم، وتُركّز على الظروف التي عرفها. هل بُرِّر يوم كان مختوناً أم يوم كان لامختوناً؟ إن الأهميّة النموذجيّة لعلاقة ابراهيم بالله، هي في خلفيّة هذا الكلام بحيث لا يناقشه بولس اليهوديّ ولا قرّاؤه عابدو الله (4: 2). الجواب: قبل الختان لا بعده. فإن تك 15: 6 يسبق تك 17 بعدد من السنين (يقول التقليد اليهوديّ 29 سنة). جاء البرهان قريباً ممّا في غل 3: 15- 18 حول المسافة بين الوعد لابراهيم وعطيّة الشريعة. هذه الشريعة تركّزت على أعمال خاصة مثل الختان، فطُرح السؤال بين اليهود: إلى أي مدى يرتبط الوعد بالختان؟ ما جادل بولس (آ9)، بل أراد أن يبرهن أن الله قَبِل ابراهيم يوم لم يكن بعدُ مختوناً.
«نال علامة الختان» (آ 11). ليست آ 11 أ معترضة. فإن آ 11 ب- 12 تتحدّثان عن علاقتين فيهما يقف ابراهيم تجاه المختون الذي آمن واللامختون الذي آمن. لهذا يجب أن تَشرح آ 11 أ مدلولَ ختان ابراهيم بالنظر إلى إيمان ابراهيم. إنه أبو المختونين بعد أن صار ختانُه ختمَ إيمانه. «سيمايون»: علامة، أشارة مميّزة، بها يُعرف الانسان. هذه العلامة هي الختان. رمز طقس الختان. رج تك 17: 11 حيث يصوَّر الختانُ على أنه «علامة العهد»، أي العلامة التي يحملها من هو عضو في العهد (يوب 15: 26- 28: الختان علامة تدلّ على أن المختونين ينتمون إلى أبناء العهد). ما من يهوديّ ينسى هذا. ما استعمل بولس هنا كلمة «عهد». غير أن المقطع يشير إشارة واضحة إلى أن العهد كسياق للختان، هو جزء من الأفكار التي يعالجها بولس. ولكنه يُعيد كتابتَها: لم يعد الختان علامة العهد بل علامة برّ ناله ابراهيم بالإيمان. هذا يعني أن برّ العهد لا يرتبط بالختان بل بالإيمان. ونلاحظ الدور الإيجابيّ للختان في 2: 25.
«ختم برّ الإيمان». الختم يدلّ على سلطة ووضع. هناك تمييز ممكن بين «العلامة» (تتوجّه إلى العالم الخارجي) والختم (يتوجّه إلى المؤمن). حين يصف بولس الختان كختم، فهو يعكس استعمالاً لدى معاصريه. ويتحدّث عن ختانة القلب (تث 30: 6)= الشريعة المكتوبة في القلب (إر 31: 33) أو القلب الجديد والروح الجديد (حز 36: 26؛ يوب 1: 23). كل هذا يتمّ في عطيّة الروح (2 كور 3: 3، 6)= ختم الروح (2 كور 1: 22). هناك من رأى في الختم (رج 2 كور 1: 22؛ أف 1: 13؛ 4: 30) إشارة إلى العموديّة. غير أن بولس يرى عطيّة الروح مساوية لتتمّة الختان. والختان بدون الأيدي (كو 2: 11) قد يشير إلى الروح أيضاً (2 كور 5: 1- 5).
«برّ الإيمان». يحكي أيضاً عن العلاقة بين البرّ والإيمان (آ 3، 5، 6، 9). هذه العلامة أساسُها الإيمان، والتعبيرُ عنها نجده عند ابراهيم. هو أبٌ للذين يؤمنون عبر اللاختان. لا شكّ في أن ابراهيم هو أبو الأمم حين يهتدون إلى الله. هذا ما يقوله اليهوديّ. أما بولس فيجعل ابراهيم أبا اللامختونين في لاختانهم: هم يشاركونه إيمانه. وهكذا يتمّ التمييزُ بين الإيمان وأعمال الشريعة بالاستناد إلى تك 15: 6. «غير المختونين». لقد قُبل ابراهيمُ لينعم بالوعد قبل الختان. وهكذا يقبل الله اللامختون على أنه لا مختون. أجل يبرّر الله الأمم ولا يحسب إن هم اهتدوا أو قبلوا متطلّبات (أعمال) الشريعة.
«وأبو المختونين» (آ 12). إن إيمان ابراهيم كان عاملاً حاسماً في عطيّة الوعد وقبوله، بحيث إن الإيمان جعل من ابراهيم أباً ومن المؤمن ابن ابراهيم. لا ينكر بولس أبوّة ابراهيم بالنسبة إلى الشعب اليهوديّ (4 إر). ولا يقول: لا ختان، بل: ليس فقط الختان. فهو يرى أن الختان يواصل دوره كعلامة في الشعب اليهوديّ. والترتيب الذي نقرأ في آ 11 ب- 12 (اللامختونون ثم المختونون) ليس رفضاً لتاريخ الخلاص لدى اليهود. فالترتيب هو ترتيب ظروف حياة ابراهيم. كان لا مختوناً ثم خُتن. إن النظرة إلى تاريخ الخلاص لا تلغي أن يكون بولس نظر إلى ابراهيم كنموذج لواقع الإيمان الاسكاتولوجيّ، كما نظر أولاً إلى الأمم قبل اليهود (آ 13- 17).
إذا كان ابراهيم نال الختان، فلماذا لا تحذو الأممُ حذوَه؟ أجاب بولس: خُتن ابراهيم لكي يكون أيضاً أبا المختونين. حُطّت قيمة الختان بالنسبة إلى الإيمان. فجاء كلامُ بولس في خطّ الأنبياء (2: 28- 9). إذا كان الإيمان أهم من أي طقس خارجيّ، إذن يرتبط البرّ بالإيمان لا بالطقوس الخارجيّة، ويُعطى للذين يؤمنون من دون طقس خارجيّ. اليهوديّ الحقيقي هو في الباطن، والختان هو ختان القلب بالروح (2: 29). ويبقى الختان مهماً لتحديد هويّة اليهود الذين يسيرون في خطى ابراهيم (2 كور 12: 8؛ 1 بط 2: 21). الإيمان شيء ناشط ويتضمّن عنصر الطاعة (1: 5: طاعة الإيمان).
ب- لا مكان للشريعة (آ 13- 17)
«فالوعد الذي وعده» (آ 13). هنا نصل إلى علاقة الإيمان بالوعد (إبانغاليا). رج آ 13، 14، 16، 20. حين يتحدّث بولس عن الوعد، ينظر إلى الوعد المعطى للآباء (9: 4، 8- 9؛ 15: 8؛ غل 3: 14- 29؛ 4: 23، 28). اللافت هو أن الوعد حين يبرز، يَخضع للشريعة، أو يمرّ بواسطة الشريعة. رج 2 مك 2: 17- 18 الذي يتكلّم عن الميراث «كما وُعد به بواسطة الشريعة». ويصلّي مز سل 12: 6: «ليت تقيّ الربّ يرث مواعيد الربّ» (رج سيب 3: 768- 769). إن بولس لا يُلغي مواعيدَ العهد. فأولويّة العهد صارت له مفتاح تفسير النصّ.
«ونسله» (وزرعه). الوعد هو أيضاً لزرع ابراهيم (نسله). رج تك 12: 7؛ 13: 15- 16؛ 15: 5، 18؛ 17: 7- 8، 19؛ 22: 17- 18). نسل ابراهيم يضمّ كل الذين يؤمنون، لا بالشريعة، بل ببرّ الإيمان (4: 11). فالبرّ هو من الإيمان (لا من الأعمال)، والعلاقة مع الله تتميّز بالإيمان.
«يرث العالم». فكرة الميراث أمرٌ أساسيّ في فهم اليهود للعهد كعلاقة بالله. وأول ميراث هو أرض كنعان التي وُعد بها ابراهيم (8: 17). وتوسّع الوعدُ فوصل إلى الكون كله (سي 44: 21؛ يوب 17: 3؛ 22: 14؛ 32: 19). هذا المقطع هو مثَل عن امتداد فكر بولس الذي عُرف في اللاهوت اليهوديّ، في أيامه (مت 5: 5؛ عب 1: 2). أخذ بولس الشكل الواسع للوعد، لا لأنه يتضمّن سيطرة شعب اسرائيل على العالم، بل لأنه يركّز تاريخ الخلاص في رسمة الخلق. فالبركة التي وُعد بها ابراهيم وزرعه (الأمم أيضاً)، هي إعادة بناء النظام الذي خلقه الله، وعودة الانسان إلى وضع يكون فيه القيّمَ على الخليقة. والوعد بالأرض يتمّ في المسيح. والروح هو الذي يكفل هذا الميراث. ويرى بولس مع «الوعد» (غل 3: 4) و«الختم» (4: 11)، التتمّةَ الاسكاتولوجيّة في كلام حول الروح الذي يُعطى للإيمان. ذاك هو برّ الإيمان. رج 4: 11.
«فإن كان الميراث» (آ 14). طرح بولس السؤال: من يرث الوعد المُعطى لابراهيم؟ والجواب المرفوض: المختونون فقط (آ 9- 12) هم ورثة ابراهيم= زرع ابراهيم= شعب اسرائيل (آ 13- 17). هنا ينظر بولس إلى موقف نموذجي لدى اليهود: يرون مشاركتهم في الميراث الذي وُعد به ابراهيم متماهياً مع عضويّتهم في شعب العهد، في شعب الشريعة (ب ن ي. هـ. ت و ر ه).
هم «من الشريعة»، لأن حياتهم كيهود ما زالت تصدر عن الشريعة. فالشريعة هي ما يميّزهم فيجعلهم شعب الله (6: 14). هم «من أعمال الشريعة»، لأن الأعمال هي ما تطلبه الشريعة من «اليهوديّ» مع الختان الذي يميّزهم (3: 20). «عبثاً» (كانوو): أفرغ، دمّر، جعله لافاعلاً. لا يظهر هذا الفعل إلا عند بولس. رج 1 كور 1: 17؛ 9: 15؛ 2 كور 9: 3؛ فل 2: 7. الإيمان هنا هو إيمان ابراهيم كما في تك 15: 6. إذا كانت الشريعة عاملاً حاسماً، صار قبولُ ابراهيم للوعد بغير معنى.
«والوعد باطلا». «كاتارغايو». رج 6: 6. لا يحدّد الرسول «الوعد». فالوعد يجب أن لا يكون مشروطاً، وإلاّ ليس بوعد. هنا نتذكّر الوعد الذي أعطي في أكثر من ظرف. رج تك 12: 1- 3؛ 17: 1- 14؛ 22: 15- 18. وفي آ 16، صارت «حسب النعمة» نتيجة «بواسطة الإيمان»، لا من الوعد. لا يرتبط بولس بوعد مخفيّ لا تستطيع الشريعة أن تحتفظ به. بل يقول: إن إيمان ابراهيم كان تاماً والجواب للوعد مرضياً (وإلاّ لما حُسب باراً). فإن طلبنا أكثر من الإيمان في تك 15: 6، نُلغي الوعد في تك 15: 5.
«الشريعة تُسبّب الغضب» (آ 15). بعد أن أنكر الرسول دور الشريعة في تحديد من هو وارث الوعد، واجه اعتراضاً: ما هو دور الشريعة إذن؟ رج غل 3: 18- 19. ربط الشريعة بغضب الله، لا بوعد الله. رج الكلام عن غضب الله في 1: 18- 32. جاء كلام بولس هجومياً على الذين يرون في الشريعة مصدر حياة (2 با 38). فأعلن: وظيفة الشريعة هي أن تجعل غضبَ الله فاعلاً، وتُقنع الانسان بخطيئته. ذاك هو دور الشريعة في علاقتها بالعهد.
قد يكون بولس فكّر هنا ببعض أقوال قانونيّة (مثلاً: لا عقاب بدون قانون). عمّم دورَ الشريعة، فصوّرها كمنفّذة للغضب، وهذا ما لا يُدهش القارئ الذي ماهى بين الحكمة الكونيّة والتوراة (10: 6- 8). الشريعة هي التجسيد الملموس لنظام اله الخلق في الكون ككلّ (2: 12- 16).
بما أن الدور الذي أعطي للشريعة يعارض الدور التقليديّ (يحدّد شعب العهد بالوعد)، فتصبح الأعمال وسائل للمحافظة على العهد، فما نقرأ في آ 15 أ، لا يُعتبر وضعاً تاماً لوظيفة الشريعة الإيجابي (8: 4؛ 13: 8- 10). في هذا الإطار من الجدال، في ف 4، يؤكد بولس أن وظيفة الشريعة لا تتوخّى أن تحدّد النظرة إلى الوعد، بل أن تجعل الذين تحت الشريعة يعون خطأهم فيرتبطون بالله بعد أن تركوه (1: 19- 52). وهكذا لا تفصل الشريعةُ اليهوديّ عن الأمميّ، بل تجعله مع الأمميّ حيث يفهم حاجته إلى نعمة الله.
«حيث لا شريعة». لا معصية، لا تجاوز للشريعة. قد تكون الجملة معطوفة (الواو) أو تابعة (لهذا). في أي حال، هي تدلّ على الطريقة التي بها يعمل الغضب. لسنا فقط أمام عصيان أو عمل يُفسد الانسان، بل اختيار حرّ، بأن يحيا الانسان بوسائله ناسياً (أو منكراً) وضعه كخليقة (1: 18- 32). مع الشريعة التي تصنع إرادة الله بطريقة أوضح مما كان لابراهيم في البدء، فجوابُ شعب العهد ليس افتخاراً بامتلاك الشريعة بل وعيٌ أكبر للمعصية وارتباط بالنعمة على مثال ابراهيم «الأمميّ» (3: 20؛ 5: 13). مثل هذا التحديد للشريعة لا يُزعج أذن اليهوديّ. فالإزعاج يأتي في 5 : 20 و7: 5 مع جواب بولس الواضح في برهانه (6: 1ي؛ 7: 7ي).
«على الإيمان» (آ 16). تبدأ الآية مع «ديا توتو»، لذلك. بما أن الشريعة ليست وسيط الوعد كما فهمها اليهود حصراً، ما استطاعوا أن يجيبوا على عملها في الغضب. أو لهذا السبب... وهكذا نصل إلى النعمة. نجد هنا تقابلاً (كما في آ 4- 5) بين «الإيمان» و«النعمة». هذه النعمة يتقبّلها الانسان حين ينفتح على حنان الله ولا يضع شروطاً. فمن انغلق ونسي طابع الإيمان كقبول وارتباط بالله، أنكر هذه النعمة. «من (إك) الإيمان» يقابل «من الشريعة». كما يقابل «بالإيمان» (ديا). رج 3: 30؛ 4: 13. هناك مثلّث سلبي: الشريعة، المعصية، الغضب. ومثلّث إيجابي: الوعد، الإيمان، النعمة.
«ويبقى الوعد». أي بحيث... اعتقد بولس (كما في غل 3) أن وعد الله لابراهيم نظر دوماً إلى الأمم (لا إلى اسرائيل وحده). هو يشدّد على هذا الأمر، لأن معاصريه جعلوا الوعد محصوراً بهم. إن الله حسب ابراهيم باراً فقط على أساس إيمانه، بحيث لا يرتبط الوعد بأيّ أساس آخر. «بابايوس»، أكيد، ثابت. لفظ قانونيّ يصوّر الإيمان، ويعارض «كاتيرغيتاي» في آ 14 (أبطل). ونلاحظ: «النسل كله». لا بعضه.
«لا على أهل الشريعة وحدهم». نظر بولس إلى الوعد الذي يصل إلى الذين هم من الشريعة، دون أن يقولوا إنهم يشاركون في إيمان ابراهيم (آ 12). لا يرفض بولس أن يكون الوعدُ لنسل ابراهيم قد نظر إلى الشعب اليهوديّ. وإن هو وصل إلى المسيحيّين (لنا جميعاً)، فهو ينطلق من هنا ليُلقي الضوء على فكره. عاد إلى العضو في الشعب اليهوديّ، فقال «ليس فقط». فبالرغم من حصر فهم الشريعة داخل العالم اليهوديّ، يبقى بالامكان الكلامُ عن وعد أعطيَ لليهود. «أب لنا جميعاً». هي المرة الثالثة يذكر بولس ابراهيم على أنه أبو القرّاء أو المؤمنين بشكل عام (آ 1، 11- 12، 16- 18). لفظ «كل» في آ 11 وآ 16 يردّ على الذين يحسبون ابراهيم أبا اليهود وحدهم. تكرارُ الموضوع يرتبط بما يسبقه في المرحلة الأولى من البرهان (آ 9- 12) وبما يتبعه من ايراد كتابيّ في آ 13- 17أ.
«كما كُتب» (آ 17). رج 1: 17. «جعلتُك أباً لأمم كثيرة». الأمم هنا تقابل اليهود (3: 29). يعود الإيراد إلى تك 17: 5 كما في السبعينيّة. ما تردّد بولس في العودة إلى تك 17 الذي يستند إليه اليهود ليتحدّثوا عن ضرورة الختان كعلامة العهد (تك 17: 11). (في غل عاد إلى تك 12: 3 و18: 18). إن تك 15: 6 لا يُفصل عن تك 17: 5. الأمم الكثيرة تدلّ على المهتدين الجدد أو وارثي العالم (آ 13) الذين يرون زرع ابراهيم مسيطراً على سائر الأمم (سي 44: 19- 21).
«يُحيي الأموات». يتكلّم بولس عن قدرة الله. رج مز 71: 20؛ طو 13: 2؛ حك 16: 13؛ وص جاد 4: 6. الله هو من يعطي الحياة. رج 8: 11؛ 1 كور 15: 22، 36، 45 (زوؤوبوياين). ق يو 5: 21؛ 1 بط 3: 18. إنه يشير إلى قيامة يسوع (آ 24- 25). ولكن بولس يفكر بالأحرى، بموات جسد ابراهيم وحشا سارة (آ 19). إذن، نحن أمام عمل الله الخلاّق. فعطيّة الحياة تُفهم معجزةً تُنسَب مباشرة إلى الله. وإذا كانت قدرة الله المحيية هي التي تُشرف على فكر بولس، فلأنها ذات القوّة الحاضرة في عمل الخلق الأخير الذي هو جزء من الأول. وهكذا يكون كلام بولس صدى للّغة الليتورجيّة أو اللاهوتيّة.
«يدعو غير الموجود». رج فيلون، يوسف 126، «كالايو»: دعا، بل أمر بقوّة. يرى العالم اليهوديّ أن عمل الخلق هو نداء فاعل (اش 41: 4؛ 48: 13؛ حك 1: 25؛ فيلون، الشرائع الخاصة 4: 187). كما يرى أن الله خلق الكل من لا شيء (2 مك 7: 28؛ يوس 12: 2). يقول فيلون: الله هو الكائن الذي يأتي باللاكائن ليصبر كائناً (خلق العالم 81). وهكذا يأخذ بولس كلامه من الفكر اللاهوتيّ اليهوديّ في المحيط الهليني.
ترك بولس اتجاهاً يجعل الخلق في تعارض مع الخلاص. فمخطّط الله الفدائي عبر ابراهيم، يدلّ على ذات القوّة التي خلقت فجاءت بما لا وجود له إلى الوجود. ربط حسبان الله لابراهيم باراً مع عطيّة الحياة لمّا لم يكن موجوداً، فثبّت العلاقة الوثيقة بين برّ الله وقدرته كخالق، وبيّن الفهم الجذري لوضع الانسان كخليقة أمام الله. في هذا المجال، تُصوّر وصيّةُ جاد (41: 6، 7) الحب الذي «أراد أن يعيد الموتى إلى الحياة» على أنه عمل «شريعة الله... من أجل خلاص الجنس البشريّ». ويرى بولس أن قدرة الله في الخلاص وفي الخلق، تعمل بشكل مباشر من أجل الانسان (غل 3: 19- 22).

2- خلاصة لاهوتيّة
بعد أن عرفنا معنى «حُسب»، نتعرّف هنا إلى معنى «آمن» (آ 9). فكل ما عمله بولس حتى الآن، هو أن يبيّن أن معنى تك 15: 6 لا يجد حلّه بالعودة إلى فعل «حُسب». فرِضى الله على الانسان هو موضوع رضى سخيّ. فالانسان لا يستطيع أن يجعل الله مديناً له. فلا بدّ من العودة إلى المفتاح الثاني: آمن. كان مز 32: 1- 2 مناسبة لطرح السؤال بشكل مختلف: إلى من (وكيف) أتت البركة (أعطي الغفران، حُسب الانسانُ باراً)؟ هنا عاد بولس إلى ابراهيم، وشدّد على المخرج المركزيّ في إيمانه.
أول خطوة (آ 10) فيها عرف بولس «ابراهيم الذي آمن بالله»، كانت لتبيّن في وضع ابراهيم، أن الإيمان لمن حُسب باراً قد تمّ من دون عمل من قبل ابراهيم. هذا يعني أن تك 15: 6 يتكلّم عن الإيمان لا عن الأمانة للعهد.
إن السؤال في آ 9 عاد إلى تك 15: 6: كيف وصلتْ إلى الآخرين البركةُ التي تحدّث عنها داود؟ حينئذ جاء مز 32: 1- 2 ليُوضح فعل «حُسب»: ما اختبره ابراهيم يحدّثنا عن بركة داود. فالبركة بغفران الذنوب وسرّ الخطايا هي ذات البركة بأنِ يُحسب الانسانُ باراً. ولكن كيف جاءت البركة إلى ابراهيم؟
لو تحدّث عن الأعمال أو عدم الأعمال (آ 11- 12)، عن الختان أو اللاختان، لكان انتُقد. ففي نظر اليهوديّ التقيّ، المفتخر بتميّزه الدينيّ والوطنيّ، الختانُ هو عمل صادق تجاه العهد (2: 25- 29). لهذا كان الانقطاع في الرسالة لدى الأمم سبب جدالٍ في الجيل المسيحيّ الأول. وكان أمر لابراهيم، فبيّن الطابع الالهيّ للختان كعلامة لشعب العهد في كل الأزمان (تك 17: 9- 14). عاد بولس إلى ابراهيم تاركاً داود، لأن الغفران لداود لم يكن مستقلاً عن الختان (هي وظيفة شعائر العبادة). إن البركة التي صوّرها داود يمكن أن يختبرها الانسان، كما فعل ابراهيم، من دون الختان. هذا لا يعني أن البرّ يُحسب دوماً خارج الختان، خارج الأعمال. أي هو لا يحتاج أن يبيّن أن داود نال الغفران من دون الختان وممارسة شعائر العبادة. كل ما أراده هو أن يبيّن أن البركة التي تكلّم عنها سفر التكوين وداود هي خارج العهد وأعماله، كما حصل في وضع ابراهيم نفسه.
وجاء جواب بولس مباشراً (آ 9): الحدث الذي يتكلّم عنه تك 15: 6 يسبق الحدث المذكور في تك 17: 23- 27، فشدّد على الفصل في مراحل ما حسبه اليهوديّ (وبولس في ما مضى) كأنه وحدة تامّة. فأمانة ابراهيم لا تبدأ في تك 17. بل في تك 12: 1- 5 مع أول اعلان للعهد الموعود به. وذبيحةُ اسحق هي مثَل عن أمانة ابراهيم وعرض لما في تك 15: 6 (1 مك 2: 52؛ يع 23) وطاعته لله. ولكن بولس قال إن ابراهيم حُسب باراً وقُبل في عهد يربطه بالله قبل أن يُختَن، وقبل أي حديث عن الختان. هذا ما يُثبت أن برّ الله لا يرتبط بأعمال الشريعة ولا بأية ممارسة عباديّة، في وضع ابراهيم. وإذا كان ابراهيم نموذجاً في علاقة الله بالجنس البشريّ وفي عهده مع زرع ابر اهيم، فهذا يعني أن قبول الله للانسان يتمّ «بمعزل عن الأعمال».
ذاك هو برهان الرسول. جاءه الختان بعد البرّ الذي يتميّز بإيمانه الذي حُسب له، قبل أن يُختَن. عُرف الختان أنه علامة وختم القبول الالهي الذي تم قبل ذلك الوقت بقليل، وتجاوب مع المبادرة الالهيّة (بعد 30 سنة)، وعلامة مميّزة أنّنا نخصّ الله. هذا يعني أن الختان ارتبط مسبقاً بقبول الله للانسان وحسبانه باراً.
استعمل بولس هنا لغة العهد. دعا الختان «علامة» (تك 17: 11)، هو علامة العهد وهو ختم العهد (نح 9: 38- 39). لا يحتقر بولس الختان، ولا يتردّد في أن يرى فيه جزءاً من عهد الله مع ابراهيم، ويربطه بتبرير الله لابراهيم. هو يهوديّ ويبقى يهودياً، ولا يتوخّى أن يتنكّر لعهد الله مع اسرائيل. أما هدفُه ففهمُ مدلول العهد: فعلاقة برّ الله مع ابراهيم بختانة ابراهيم لم تكن واضحة. فبرّ ابراهيم الآتي من الله لا يرتبط بختانه. بل الختان هو الاعلان بأن الله قبل ابراهيم. وما قبل فقط المختونين. هكذا بدا الختانُ ثانوياً في هذا المجال وليس جزءاً لا يتجزّأ من برّ ابراهيم. وفي الزمن الاسكاتولوجيّ الذي فيه يتمّ العهد، يكون الروح هو علامة ارتباطنا بالله (2: 28- 29؛ 2 كور 1: 22؛ فل 3: 3).
وهكذا ثبت أن تبرير ابراهيم ارتبط فقط بإيمانه، وسبق الختانَ، وتميّز عن أعمال الشريعة. هذا يعني أن إيمان ابراهيم كان الأساس في العهد ككلّ. وجاء الختانُ بعد ذلك. ويعني أن الوعد بالعهد يحدّده الإيمانُ لا الختان، وأن ميراث العهد يرتبط بهذا الايمان عينه ولا ينحصر في المختونين. وهكذا لا يكون ابراهيم فقط أباً للمختونين، بل لجميع الذين يؤمنون سواء خُتنوا أو لم يُختنوا. هو أبو المختونين ولكنهم لا يدخلون في البنوّة بدون الإيمان. هذا يعني أن الختان لا ينفعهم. واللامختونون الذين يؤمنون يقدرون أن يدعوا ابراهيم أباهم. تلك هي طريق الله، وإلاّ لما كان حُسب ابراهيم باراً من دون الختان.
في آ 13 يستعيد بولس عرضه عن إيمان ابراهيم، وينتقل إلى مرحلة أولى فيركّز على «الوعد». ما آمن به ابراهيم كان عهدَ الله لنسله. تكلّم تك 15: 6 عن برِّ حُسب لابراهيم بفضل إيمانه. أي حين قبل وعدَ الله. لم يُعطَ الوعد لابراهيم بالشريعة بل ببرِّ الإيمان.
ابراهيم «وارث العالم». هذا ما يعود بنا إلى الوعد (تك 12: 2- 3؛1 5: 5). إن زرع ابراهيم يرث الأرض. لهذا اختارهم الله أولاً من الشعوب الذين على الأرض، فتميّزوا عن الأمم المجاورة. هذا الوعد مع ابراهيم بما فيه من رنّة وطنيّة، قطع له بولس كل علاقة بالشريعة (لا برَّ بالشريعة). بما أن الشريعة هي ما يطلبه الله من الذين قطعوا عهداً معه، فعلى العهد أن يعمل «بالشريعة». ولكن هذا ما يرفضه بولس. تنطلق نظرتُه من الآيات السابقة: لم يُعطَ الوعدُ لابراهيم، بل تسلَّمه قبل أن يُطلَب الختانُ منه (رج غل 3: 17 والكلام عن الشريعة التي أعطيت في سيناء).
هنا استطاع بولس (آ 14) أن يُعيد تحديد العهد: وعدٌ يعملُ عبر برّ الإيمان. وفي امتداد مفهومَي ميراث العهد والشريعة، كان مفهومُ البرّ الذي يُسند رباط العهد بشعب الشريعة. لا ينكر بولس أن البرّ أساسيّ للحفاظ على علاقة العهد. ولكنه يشدّد على ما لا يقدر اليهوديّ أن يقبله: البرّ لا تحدّده الشريعة. هو برّ الإيمان. الانجيل الذي يكرز به هو امتداد وتكملة لوعد الله لابراهيم. ولكن وارثي ابراهيم ليسوا فقط أهل الشريعة. فقد أعلن تك 15: 6 أن الوعد يُعطى ويُقبل بالإيمان، من دون الشريعة كلياً أو جزئياً.
ولكن إذا كان شعب العهد هو الوارث، فهذا يعني أن إيمان ابراهيم صار فارغاً، والوعد المُعطى له بلا فاعليّة. «أهل الشريعة» هم الذين يحفظون الشريعة. هذا يعني هويّة وطنيّة، فيها يتماهى العهد والوعد، والأمّة والوطنيّة والشريعة. فعارض بولس كلّ هذا بخبرته للنعمة. الوعد هو وعد ولا يمكن أن يكون مشروطاً، والإيمان والوعد لا يتوافقان مع الشريعة. لهذا فُهم إيمانُ (ابراهيم) والوعد (لابراهيم) في علاقة مع شعب الشريعة.
إذا كانت الشريعة تسبّب الغضب (آ 15)، فهذا يعني أنها انفصلت عن البرّ. قال معاصرو بولس: الشريعة تقود إلى البرّ. فأعلن هو ارتباط البرّ بالإيمان. وإذ ربط الشريعة بالغضب، عاد الرسول إلى 1: 18 ي. وهكذا ترافقت الشريعةُ مع المعصية: حيث لا شريعة فلا معصية، وأول وظيفة للشريعة هي أن تحكم، لا أن تكون واسطة للوعد. فهذا الدور يَلعبُه الإيمان.
لهذا أعطى الله الوعد لابراهيم (آ 16- 17) في الشكل الذي أراد، فدلّ كيف يُفهم الوعد ومن يرثه. الوعد لابراهيم، بدون أي عمل، يدل على الأمانة للعهد. ويوم لم يكن أباً، كان عملاً مجانياً بحيث إن الوعد والذين نعموا به يعبّرون عن النعمة عينها. ووارث ابراهيم ليس ذاك الذي يقوم بأعمال تدلّ على أمانته للشريعة. ولا الذي هو عضو في شعب الشريعة. حين نحصر الوعد في اليهودي نُنكر كيف قُبِل ونقلِّل من قيمته. فهو من الله كما في تك 15: 6، هو وعد النعمة عبر إيمان يضمّ جميع الذين يقبلون هذه النعمة، سواء كانوا يهوداً أم أمماً، كما فعل ابراهيم.
هكذا يتمّ الوعد الذي أعطي لابراهيم بأن يكون «أباً لأمم كثيرة». ويعود بولس إلى تك 17: 5. فالأمم هم زرع ابراهيم بعدد كبير لم يصل إليه المهتدون الجدد. أراد اليهوديّ أن يفسّر أبوّة ابراهيم في إطار الختان وسيطرة شعب العهد. أما بولس فيرى أن الوعد لابراهيم لا يتمّ إن حدّده معيارٌ وطنيّ أو عباديّ. لم يعد السؤال: هل يُقبل الأممُ في نسل ابراهيم مثل اليهود؟ بل: كيف يُحسب الانسان، يهودياً أو أممياً، من نسل ابراهيم؟ فجاء الجواب: بالإيمان لا بأعمال الشريعة.

الخاتمة
سبق لبولس فذكر ابراهيم الذي آمن فحُسب له إيمانه براً، وذكر داود الذي نعم بعطيّة الغفران. ولكن الاثنين من اليهود. أترى تَصلح طريقُهما لهما وحدهما أم لجميع البشر؟ إن كان الجواب نعم، فهذا يعني أن الإيمان يشترط إطاراً دينياً. ولكن لا. أما الختان فهو علامة لاحقة وثانويّة بالنسبة إلى العهد، بالنسبة إلى الانتماء إلى شعب الله. هناك طريق خاطئة توصل إلى التبرير: طريق الجسد وأعماله. وطريق صائبة طريق الإيمان. وهناك أيضاً طريق الشريعة التي بها يستولي الانسان على الوعد. وهنا طريق الوعد الذي يجعل فينا انتظاراً، ويربطنا بالله ارتباط الخليقة بالخالق. لأن الشريعة تثير الغضب. فمن رفض أن يعيش العهد، يكون في حال الخطأ، وبالتالي عرضة لغضب الله. وبما أن في غياب الشريعة لامعصية، فهذا يعني أننا بالإيمان، لا بالشريعة، نصبح وارثي الموعد بحيث إن الإيمان يعني عيش الوعد. تلك هي النعمة التي يمنحها الله مجاناً ويمنحها لجميع البشر. هكذا نال ابراهيم الوعد بأن يكون أبا جميع المؤمنين، من يهود ويونانيّين. وهم يكونون أبناءه إن أخذوا الطريق التي أخذ: لا طريق الشريعة والأعمال، بل طريق الإيمان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM