الفصل الثالث عشر: تبرّر ابراهيمُ بإيمانه

الفصل الثالث عشر
تبرّر ابراهيمُ بإيمانه
4: 1- 8

بعد أن برهن الرسول عن دور الإيمان بالنسبة إلى الشريعة، ها هو يعطي مثلاً في شخص ابراهيم الذي تبرّر بإيمانه، لا بأعمال الشريعة. كان التقليدُ اليهوديّ قد رأى في ابراهيم نموذجَ المبرَّر بأعماله. لقد كان أميناً لله، وثابتاً في المحن التي تعرّض لها. أما بولس فعاد إلى إيمان ابراهيم كما في تك 12: 1 ليكتشف مبدأ برّه وأعماله كما في الرسالة إلى العبرانيّين (11: 8- 9 ). الفصل الرابع في روم (آ 1- 25) يتحدّث كله عن ابراهيم. أما نحن فقسمناه ثلاثة أقسام. وها نحن نتعرّف إلى أبي الآباء الذي تبرّر بإيمانه.

1- دراسة النصّ وبنيته
نعالج هنا ف 25 كله، بحيث لا نعود في الفصلين اللاحقين إلى ما سوف نتوسّع فيه هنا.
أ- دراسة النصّ
في آ 1 تقرأ الترجمات «باتارا» بدل «بروباتور»: أبينا. غاب الفعل «أوراكيناي» من الفاتيكاني (ما جرى له)، فاعتبر بعضهم أنه لا ينتمي إلى النصّ.
في آ9، أضيف «مونون» كما في آ 12، 16 (ليس فقط)، وذلك في النسخات الغربيّة.
في آ 11، ألغي العطف «كاي» (الواو) في عدد من المخطوطات. هناك انشداد في فكر بولس بين أولويّة مستمرّة لاسرائيل في مخطّط الله واعتقاده بأن العهد أعطيَ للأمم أيضاً: «اليهوديّ أولاً وأيضاً الأمميّ».
في آ 18 أضاف 09، 010، 011. عبارة أخذها من تك 22: 17: «مثل كواكب السماء ورمل البحر»، وأضافها إلى تك 15: 5 الواردة هنا.
في آ 19 جعل النصّ الغربي النافية أمام فعل «كاتانوئيسن»: كان ابراهيم قوياً في الإيمان، فما ضعف... إن إيمان ابراهيم حسبَ حسابَ الظروف الحاليّة.
في آ 22، هناك «كاي» (الواو) أو «ديو» لذلك، مع «لذلك». نبدأ الاستنتاج، ولهذا نحافظ على هذه الأداة.
ب- بنية النصّ
إن تواصل الفكرة والشك مع القسم السابق يظهر بوضوح مع «تبرّر بأعماله» (آ 2). ولكن هذا المخرج ليس فقط نظرياً: كيف يُثبت الإيمانُ الشريعة (3: 31)؟ بل هو عرضٌ للموضوع الأساسيّ في البرهان (كما لُخّص في 3: 28): الله يبرّر عبر الإيمان، اليهوديّ والأمميّ، ولا يحصر برّه الخلاصيّ بالمختونين. في هذا المجال، يقدّم ابراهيم حالة نموذجيّة ساعة فهمه العالمُ اليهوديّ كمثال أوّل لليهوديّ التقيّ الذي دلّ على أمانته للعهد حين حفظ الشريعة فحُسب باراً. قرّر بولس أن يركّز على تك 15: 6، لأنه رأى فيه الطريق ليكون مفهوماً في العالم اليهوديّ، فيصوَّر برّاً يسيرُ مع الأمانة لإله العهد. هو بُعدٌ أساسيّ في تاريخ الخلاص. فابراهيم في ف 4 ليس فقط مثالاً عن «الخاطئ المبرّر»، بل هو الأول في شعب الله. هناك من رأى قبل وبعد 3: 26 وشدّد على عدم التواصل. ولكننا لا نستطيع أن ننكر التواصل في برّ الله (الأمانة) في الحقبة الممتدة من ابراهيم إلى المسيح (أخِذ الموضوع من العهد القديم).
إن عرض تك 15: 6 في ف 4 يشكّل أفضل مثَل عن مدراش يهوديّ قريب منا في هذا المجال. هناك من قال بوجود هذا المدراش قبل بولس، ولكن يبدو أن بولس ألّفه بعد أن تبع نموذجاً من الوعظ التقليديّ، وضمّ إليه مواد عرفها العالم اليهوديّ (خصوصاً آ 13- 22)، وتوسّع فيها فيلون والرسالة إلى العبرانيّين (ف 11). بالإضافة إلى ذلك، أراد يع 2: 18- 24 أن يقدّم برهاناً مقابلاً لما في 3: 27- 4: 25، فقدّم لنا برهاناً آخر عن فهم تك 15: 6 مع كلام عن «أعمال» فُهمت الآن على أنها أعمال صالحة.
ونقدّم لوحة تقابل رسالة يعقوب مع الرسالة إلى رومة
روم يع
بين الإيمان والأعمال 3: 27- 28 2: 18
معنى القول: الله واحد 3: 29- 30 2: 19
ابراهيم كشاهد 4: 1- 2 2: 20- 22
ايراد تك 15: 6 4: 3 2: 20- 22
تفسير تك 15: 6 4: 4- 21 2: 3
الخاتمة 4: 22 2: 24
إن العرض الخاص في آ 3- 22 يحيط به إيرادٌ واضح (آ 3، 22) مع إيرادات (أو صدى وتلميح) داخل المدراش (آ 5، 6، 9، 11، 17، 18). وهو يتكوّن من شرح بولس لفعلين مفتاحين: «إلوغيستي» (حُسب). «ابيستوسان» (آمن). وما يميّز الشكل المدراشي هو استعمال مز 32: 1 لإيضاح نصّ من التوراة (آ 3، 7- 8) والمجيء بـ تك 17: 5 في العرض (آ 17) ليكون ابراهيم حاضراً في الموضوع الرئيسيّ (آ 1، 11- 12، 16- 18).
يقع المدراش داخل مراحل واضحة، وكلُّ مرحلة ترتبط بالكلمات التي هي في أساس الموضوع (الإيمان، الوعد) والتي تظهر خارج المرحلة التي تسيطر فيها.
آ 1- 2 مقدّمة الأسلوب الجدالي يتواصل.
آ 3 النصّ الذي سيُشرح: آمن ابراهيم بالله فحُسب له إيمانه براً.
آ 4- 8 معنى «حُسب».
آ 4- 5 في منطق العلاقة بين الله والانسان
آ 6- 8 مع استعمال مز 32: 1.
آ 9- 21 معنى «آمن».
آ 9- 12 ترتيب الأحداث، في وضع ابراهيم.
آ 13- 17 علاقة الإيمان بالوعد، في وضع ابر اهيم.
آ 17- 21 في طابع إيمان ابراهيم.
آ 22 خاتمة. النصّ الذي شُرح.
آ 23- 25 استنتاج: تطبيق أوسع لما فُهم من النصّ.
إن آ 24- 25 تستعملان عبارات تقليديّة، فتشدّدان على وظيفة موت المسيح الخلاصيّ (3: 25- 26) وعلى القيامة (1: 3- 4). كما تُعدّان القارئ إلى وجهتَي مسيرة الخلاص كما نتتبعهما في الفصول اللاحقة (5: 12- 21).

2- تحليل النصّ الكتابيّ (4: 1- 8)
يتوزّع النصّ في مقطعين. في الأول (آ 1- 3 ) يقدّم لنا بولس إيمان ابراهيم، ويعود إلى الكتاب المقدّس ليبرهن به لليهود نظرته إلى البرّ. في الثاني (آ 4- 8) يتوقّف الرسول عند فعل «حُسب». من الذي يحسبه الله باراً؟ والجواب: ذاك الذي يؤمن.
أ- المقدّمة والنصّ الكتابيّ (آ 1- 3)
«ماذا نقول» (آ 1). رج 3: 5. ليس الموضوع تبيان الحقيقة في حدّ ذاتها، كما نقرأها في 3: 31، بل بناء خاتمة ترتبط بكل 3: 27- 31. «وجد» أي وجد حظوة، نعمة. ترد العبارة 13مرّة في تك و4 مرّات في خر، 6 مرّات في 1 صم، 7 مرّات في سي. رج تث 24: 1؛ دا 3: 38؛ با 1: 12؛ 1 مك 11: 24. أراد ابراهيم أن يجد حظوة لدى الله (تك 18: 3).
«ابراهيم أبينا». ابراهيم هو أبو النسل اليهوديّ بسبب مكانته داخل تاريخ الخلاص (تك 12- 24). بين مؤسّسي الشعب، اتّخذ لقب «الأب» (يوسيفوس، الحرب 5: 38). ودُعي اسرائيلُ زرعَ ابراهيم (مز 105: 6؛ إش 41: 8). اعتبره العالم اليهوديّ في علاقة حميمة مع الربّ. هو «خليل الله» (2 أخ 20: 7؛ اش 41: 8؛ ق يوب 19: 9؛ فيلون، ابراهيم 273؛ يع 2: 23). حين يقول بولس «أبينا»، فقد يعني علاقته باليهود وحدهم (الحوار مع اليهودي) أو بالأمم أيضاً. «حسب الجسد». حسب اللحم والدم. نحن هنا في إطار أعمال الشريعة مع الختان.
«لو بُرِّر» (آ 2). لا يتحدّث بولس عن أعمال صالحة عملها ابراهيم، بل عن طاعته وأمانته لله. هنا يهاجم بولس طريقة التفكير اليهوديّ بالنسبة إلى ابراهيم. بما أنه أبو الأمّة، وخليل الله، فهو نموذج اليهوديّ التقيّ. وقد قيل عنه أنه مارس الشريعة التي لم تكن بعد مكتوبة (تك 26: 5؛ ق يوب 16: 28؛ 24: 11). حُسب ابراهيم خليل الله لأنه حفظ وصايا الله (وثص 3: 2)، وامتُحن ابراهيم أكثر من مرّة وخرج من المحنة منتصراً (يوب 17: 15، 18؛ 18: 16؛ 19: 8؛ يوسيفوس، العاديات 1: 223- 225؛ رج سي 44: 19- 21).
حين قدّم بولس هذا المقطع فكّر في مثل هذه المواضيع: ابونا ابراهيم، أولويّته، حفظُه للشريعة. العهد. اللحم والدم (أو الجسد). البركة التي وُعدتْ بها الأمم. الزرع أو النسل. ولكن يختلف بولس عن ابن سيراخ. ففي نظر ابن سيراخ، العهد الموعود به في بركة للأمم، ينتج عن أمانة ابراهيم، ويفترض تفوّق اسرائيل. غير أن بولس يقرأ التقليد عينه من وجهة مختلفة (4: 9- 21)، منطلقاً ممّا قاله ابن سيراخ.
ويوجز الرسولُ الموضوعَ الذي عرضه العالم اليهوديّ، مع «الأعمال» و«الافتخار». كما امتُحن ابراهيم، كذلك امتُحن اليهود في زمن المكابيّين، فظلّوا أمناء لله، ولبثوا في الحقبة الرومانيّة زرْعَ ابراهيم وأبناء اسرائيل وشعب الشريعة (الختان، طعام بحسب الشريعة، حفظ السبت). للوهلة الأولى، بدا كلام بولس وكأن هذا الافتخار أمام الله أمرٌ مسموح به، ولكنه جعله كفرضيّة لينكر إنكاراً تاماً التأكيد المركزي: لا مكان لهذا الافتخار، لأن البرّ لا يأتي من الأعمال. وهكذا رفض بولس التفسير اليهوديّ لحياة ابراهيم.
«يقول الكتاب» (آ 3). أي الكتب المقدّسة دون أن تحدَّد بعدُ اللائحةُ القانونيّة. نحن أمام متطلّبات كلام الله التي ستُسند برهان بولس. هكذا يكون تواصل بين إيمان ابراهيم والإيمان الذي يتحدّث عنه بولس الآن. في أي حال هو الإيمان بالله (آ 24).
«آمن ابراهيم». هكذا ورد النصّ الكتابيّ في السبعينيّة. الفرق الوحيد هو أن ابراهيم ما زال على اسمه الأول «ابرام». ما تبدّل اسمه حتى إبرام العهد مع الله في تك 17: 5. هذه النقطة لها مدلولها، لأن الوعد الذي وُعد به ابراهيم (بأن يكون أبا جمهور) سبق وأعطي له مرّات عديدة (تك 12: 2- 3؛ 15: 5؛ 17: 4- 5؛ 18: 18؛ 22: 17- 18). أما عطيّة العهد فوردت مرّتين (15: 18؛ 17: 2- 21).
إن تك 25: 6 هو المقطع الوحيد الذي يتكلّم عن إيمان ابراهيم في حدّ ذاته وعن البرّ الذي منحه إياه الله. وهكذا بدا من الطبيعيّ أن يشدّد بولس على هذا الأمر (لا يرتبط كلام الله بشعائر العبادة). والعرض اللاحق في آ 4- 21 سيشدّد على معنى فعلين: حسب، آمن. البرّ: أن يكون الانسان مقبولاً من الله. البرّ هو وضع يمنحه الله لشعب العهد لكي يسند من يُحسب بار اً، يُسند العضو المرتبط بشعب العهد. وقُرئ تك 15: 6 مع تك 22: 1 ي. سوف نلاحظ في الآيات اللاحقة كيف قدّم بولس العلاقة بين البرّ والإيمان: الإيمان كبرّ، أو يقود إلى البرّ (آ 5، 9). ثم: برّ الإيمان (آ 1، 11 5)، أو البرّ الذي يقوم بالإيمان. والبار هو من يؤمن.
ب- معنى الفعل «حُسب» (آ 4- 8)
«من قام بعمل» (آ 4). هو فعل «ارغازوماي»: عمل، قام بعمل. رج 2: 10؛ 1 كور 16: 10؛ غل 6: 10؛ كو 3: 23. «مستوس» هو الأجر، كما في الفكر المسيحيّ. رج مت 5: 12؛ 6: 1؛ مر 9: 41؛ لو 10: 7؛ 1 كور 3: 8، 14؛ رؤ 11: 8. وفعل «لوغيزاتاي» (حُسب) يرد 11 مرة في ف 4. حاول بولس أن يكتشف قوّة هذا الفعل في تك 15: 6. «حسب النعمة»، أي علامة رضى وإرادة طيّبة، مع تشديد على المجانيّة. هي نعمة من عند الله. هذا ما يعارض «حقّ، دَين» (هوفايليما). في آ 3، استعمل بولس فعل «آمن» مع المجرور. أما هنا فمع «إبي» (على) ليدلّ على الإيمان بشيء، بوعد الله، وعلى الإيمان بشخص (آ 17- 21).
ما استعمل تك 15: 6 «عمل»، بل «آمن»، وهذا ما يتضمّن، في علاقة الله بالانسان، أن الرباط بين الذين يظنّون نفوسهم متساوين، لا يسري هنا. فالمحاور اليهوديّ لن يقتنع في محاولة أولى لفصل تك 15: 6 عن أمانة ابراهيم. في تك 15: 6 الإيمان هو الذي يُحسب.
اللغة المستعملة هنا ليست وصفاً للعالم اليهوديّ في أيام بولس (العمل، حُسب، أجر). وبولس لا يلوم معاصريه اليهود حول لاهوت الاستحقاق والأجر. فالكلام المستعمل هنا يجعلنا في عالم الاتفاق والأجر. لا يقول الرسول: إذا ظننتم إيمان ابراهيم عملاً، فيجب أن تحسبوا برّه عملاً. فالتعارض هو بين العمل والإيمان، بين ما يتوجّب للعامل وما يُعطى له بشكل هبة. لا يرفض بولس مدلول الأجر وهو الذي قال إن الله يجازي كل انسان بحسب أعماله (2: 6- 10). وهو ما تردّد في استعمال لفظ «أجر» في سياق مماثل من تعليمه في رسالة أخرى (1 كور 3: 8، 14). ما يريد أن يقوله، هو أن مثل هذه اللغة لا توافق تك 15: 6. من جهة، العمل يُحسب ديناً. ومن جهة ثانية، الإيمان يُحسب هبةً. وحين ننظر إلى إيمان ابراهيم يُحسب البرّ نعمةً لا حقّاً.
«يبرّر الخاطئ» (آ 5). مثلُ هذا الكلام «مرفوض» في العالم اليهوديّ (خر 23: 7؛ أم 17: 15؛ 24: 24؛ إش 5: 23؛ سي 42: 2؛ وثص 1: 19). كيف يبرَّر الشرّيرُ الذي تمرّد على الله واعتبره غير موجود؟ هذا ما يسيء إلى العهد. هل ننسى أن الخاطئ هو خارج العهد (مز 1: 1، 5؛ 37: 4- 35؛ 58: 10؛ أم 11: 31؛ حز 33: 8- 11)؟ وضع بولس معاً مفهومين يستبعد الواحد الآخر: الله يبرّر (بواسطة العهد) الخاطئ (الذي هو خارج العهد، خارج مجال برّ الله الخلاصي). بالنسبة إلى ابراهيم، لم يكن الفكرُ هذا غريباً على آذانٍ يهوديّة. بما أن العهد بدأ مع ابراهيم، كان ابراهيم مثال المهتدي، كان الأمميّ الذي انتقل من عبادة الأوثان إلى عبادة الإله الواحد الحقيقيّ (يوب 12: 1- 21؛ يوسيفوس، العاديات 1: 155؛ رؤ أب 1 8- ). لقد مُدح ابراهيم لأنه مال عن الخطيئة، ودخل في برّ الله بالطاعة لوصايا الله. انطلق بولس من النقطة عينها، فوصل إلى نتيجة أخرى: الإيمان والتبرير كانا حاضرين قبل الأعمال. أما الأعمال فجاءت بعد ذلك. قدّم بولس مبدأ عاماً: الله يبرّر الخاطئ. وطبّقه على ابراهيم معارضاً التفسير العاديّ لابراهيم كمثال لعهد البرّ.
«كما يقول داود» (ا 6)، «كاتابار» (كما). ترد هذه الأداة عند بولس 16 مرّة، ولا ترد خارجاً عنه في العهد الجديد إلاّ في عب 4: 2. يُعتبر داود بشكل عام أنه صاحب المزامير. رج 11: 9 الذي يورد مز 69، وقد أعطيت كلماته معنى لاهوتياً. رج مر 12: 35- 37؛ أع 2: 25- 31؛ 13: 35- 37. هنا ورد اسم داود ككاتب المزامير، لا على أنه مثال آخر مثل ابراهيم. «يبرّره الله». فبولس ما زال يشرح الكلمات الأخيرة في تك 15: 6. هي صيغة المجهول: يبرَّر. هنا لا يظنّ بولس أن قبول الإيمان يحلّ محل البرّ. فالبرّ يُمنح في الوقت الحاضر. في الفكر اليهوديّ. يعامل الله انساناً على أنه مقبول، على أنه مشارك في ملء خيرات العهد. ولكن إن ارتبط القبول بالأعمال، فهذا يعني رفض ما يقوله الكتاب: لقد قبل الله ابراهيم قبولاً تاماً على أساس إيمانه. «بغير الأعمال». رج آ 2؛ 3: 20. أوضح بولس هنا ما تضمنته آ 3- 5، فعارض ما يقوله اليهود حول ربط الإيمان بالأعمال. أما في تك 15: 6، فالبرّ لا يرتبط بعمل يمكن أن يفتخر به اليهوديّ التقيّ. إن كان الختان تبع البر، فالبرّ حُسب قبل الختان.
في آ 7- 8 يرد نص من مز 32: 1- 2 كما نقرأه في السبعينيّة. «هنيئاً». طوبى. مبارك. سعيد هو. فهو قد نال رضى الله. هذا اللفظ نجده في العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ، كما نجده في العالم اليونانيّ. في السبعينيّة، نجده بشكل خاص في المزامير والأسفار الحكميّة. رج مز 1: 1؛ سي 14: 1- 2؛ 28: 19. ق روم 14: 22؛ 1 كور 7: 40. «أنوميا» (خارج الناموس). ما هو خارج العهد (مز 55: 3؛ 92: 7؛ 101: 8). تطلّع داود إلى غفران لا يمرّ في العهد ولا يرتبط بأعمال الشريعة. هناك بركة الغفران (آ 7)، وبركة من حُسب إيمانه براً (آ 6). فالغفران في المعنى الإيجابيّ يتماهى مع التبرير. هنا نتذكّر تعليم الأنبياء حول التوبة. أما المعلّمون فقرأوا مز 32: 1- 2 في ارتباط مع يوم التكفير. كان موقفٌ في زمن بولس: لا يحتاج الأبرار إلى توبة. فالتوبة هي للخطأة فقط. أما ابراهيم فما احتاج إلى توبة لأنه لم يكن خاطئاً (صلاة منسى 8؛ يوب 23: 10).
هي عبارات يراها بولس مترادفة: حسب باراً= غفر الذنوب= غطّى الخطايا= ما حسب الخطايا. هنا نتذكّر وثص 4: 9- 10: «حسب العهد الذي قطعه الله مع الآباء بأن يغفر خطاياهم، ها هو يغفر خطاياهم (أي الأبناء) أيضاً».

3- خلاصة لاهوتيّة
أعلن (آ 1) بولس أن إنجيله سبق ووُعد به في الأنبياء، وتشهد له الآن الشريعةُ والأنبياء (1: 2؛ 3: 21). هذا ما نقرأه أيضاً في العهد الجديد. فيسوع هو ابن داود الموعود، وقد توافقَ موتُه مع شريعة الذبيحة عن الخطيئة في يوم التكفير (1: 3- 4؛ 3: 24- 26). ولكنه أعلن أيضاً (فشكّك اليهود) أن برّ الله يمتدّ إلى الإيمان بيسوع المسيح إلى جميع الذين يؤمنون، بمعزل عن أعمال الشريعة (3: 21- 22، 27- 31). ولكنه لم يبرهن بعدُ عن ذلك انطلاقاً من الكتب. هنا صار انجيل بولس اعتراضاً على اليهود، الذين يتبعون الطرق القديمة والذين يؤمنون بالمسيح يسوع. فإذا أمل بولس أن يُقنع اليهوديّ محاوره (2: 1- 3: 8)، عليه أن يبيّن من الكتاب أن الانسان يبرَّر بالإيمان، لا بأعمال الشريعة (3: 28). وإلاّ ما استطاع أن يحافظ على التواصل بين الانجيل وإيمانه المركزيّ، وها هو الآن يقوم بهذا العمل.
وفي الحال، وجّه بولس نظره إلى ابراهيم. والسبب معروف: كان ابراهيم الأول بين الآباء، واعتُبر أسمى شخص في الأمّة (خليل الله). له أعطيت المواعيد التي أسّست الشعب، كما أعطي العهدُ والأرض والختان (تك 17). فإن وضح عملُ الله التبريري بالنسبة إلى ابراهيم، فنكون أمام نموذج للذين يعتبرون نفوسهم زرعه ووارثيه. وما كان بولس وحده في مثل هذه النظرة إلى ابراهيم. فاليهود في أيامه رأوا في ابراهيم مثالَ اليهوديّ التقيّ: دلّ على أمانته للربّ. «امتُحن فوُجد أميناً» (سي 44: 20؛ 1 مك 2: 52).
آمن ابراهيم بالله فاعتُبر باراً. هذا أمرٌ نفهمه في لغة الأمانة حين قدّم اسحق. ذاك كان قول اليهود الذين لم يُدهشوا حين شدّد على تك 15: 6. فإن لم يستطيعوا أن يفهموا هذا المقطع المفتاح، فتجذيرُه لانجيل البرّ بالإيمان في الشريعة نفسها، يكون فشلاً. فنحن هنا أمام أكثر من مثل عن انسان الإيمان، بل أمام نظرة إلى ابراهيم الذي هو مثال لليهوديّ المؤمن والذي يعارض انجيل بولس.
نلاحظ أن بولس كلّم جماعة رومة عن ابراهيم «أبينا». وهو أبونا «بحسب الجسد». هو يلخّص ما قاله لمحاوره اليهوديّ في 2: 1- 3: 8. أما المسيحيّون الآتون من الأمم، فيدعون ابراهيم أباهم (غل 3) على مستوى الإيمان، لا على مستوى الزرع البشريّ. ولكن القرابة «بحسب الجسد» ليست بكافية. فهناك قرابة من نوع آخر تصل إلى اليهود كما إلى الأمم. بعد أن طمأن اليهودَ (أبونا، الزرع الموعود)، فتح فهمهم على أن شعب العهد يتألف من اليهود والأمم دون التطلّع إلى هويّة تحدّدها الشريعة.
ماذا كان وضع ابراهيم (آ 2)؟ ما هو الجواب على آ 1؟ إذا كان ابراهيم تبرّر بالأعمال، فيحقّ له أن يفتخر. وكذلك اليهود الذين هم شعب اختاره الله فتميّزوا بموقعهم تحت الشريعة (2: 17، 23). هذا هو الجواب الذي ينتظره بولس من اليهوديّ. ولكن يقول بولس: حتّى إن كان الأمر هكذا، فلا يحقّ لهم أن يفتخروا بالنظر إلى الله. فافتخارهم بأنهم مميَّزون بين الأمم، صار افتخاراً أمام الله فخضع للدينونة عينها (1: 21- 22). ذاك كان الوضع المؤلم لدى اليهود: افتخروا بوضعهم الخاص (بأعمال الشريعة)، فما عرفوا أن الطريق الوحيد الذي يُتيح لهم أن يقفوا أمام الله، هو الإيمان المتواضع.
كيف نجد حلاً لهذا الجدال (آ 3)؟ بالعودة إلى الكتاب المقدس، إلى الشريعة، إلى التوراة. عاد بولس إلى تك 15: 6 كما فعل كثيرٌ من اليهود في أيّامه. على ضوء وحي المسيح، قرأ بولس هذا النصّ بطريقة اختلفت عمّا فعله اليهود، وحاول أن يُقنع بقراءته جماعةَ رومة، اليهود منهم والأمم.
بدأ بولس (آ 4- 5) فربط بين العمل والفكرة التي نجدها في «حُسِب». حين نجعل الاثنين معاً، نصبح على مستوى التعامل في المجتمع والأجر الذي يستحقّه العمل، لا على مستوى العطاء المجانيَّ. أما في تك 15: 6 فهناك علاقة بين «آمن» و«حُسِب». فإن لم يَقُم انسانٌ بعمل، بل يؤمن بالله الذي يبرّر الخاطئ، فإيمانه هو الذي يُحسِب براً.
جعل الرسول فكرة «العمل» بين «أعمال الشريعة» أو متطلّبات العهد، وبين «العمل» في المفهوم اليوميّ (العامل الذي ينال أجراً). ليس من الضروريّ القول بأن اليهوديّ يقبل بهذه المعادلة، ولا الاعتبار أن بولس يتّهم اليهوديّ بأنه يأخذ بهذه المعادلة. فالرسول يمنع تفسير تك 15: 6 كأعمال أمينة للعهد، وهكذا لن يعود مكانٌ للنعمة في المنطق العادي حول العمل اليومي الذي يطلب أجراً.
لهذا جاء كلام بولس مشككاً: الله يغفر للخاطئ. الله لا يحسب الذنوب. فالخاطئ لا يهتمّ بالشريعة ومتطلّباتها. إذن برّ الله لا تحدّده الأمانةُ للعهد. هذا يعني في الدرجة الأولى ابراهيم: أعلِن باراً قبل أن يُتمّ فريضة من فرائض العهد، وحين كان بعدُ خاطئاً. ثم اليهود الذين يعاصرون بولس، بدا لهم ابراهيم شاهداً. أجل، أعلِن ابراهيم باراً بمعزل عن الطقوس والفرائض. فبرّ الله يمتدّ إلى جميع الذين يؤمنون دون العودة إلى أي عمل من أعمال الشريعة.
وسار بولس في خطّ التأويل اليهوديّ (آ 6- 8 )، فانتقل إلى نصّ آخر يُلقي الضوء على فعل «حُسب». فداودُ المرتّل يصوّر بركة من لم يحسب له الربّ خطيئة (مز 32: 2). عدم حسبان الخطيئة يوازي غفران الذنوب والعودة بالتوبة. كل هذا يناله المؤمن دون أن يُحسَب حساب خطاياه بالنظر إلى الشريعة. والبركة التي ينالها البار لا تقع في حساب الأعمال. إن هذا المزمور يتكلّم عن الغفران دون العودة إلى ذبيحة التكفير. هذا يعني أن المغفرة هي عمل النعمة، والغفران لا يعادل عدد الخطايا التي اقترفناها، ولا الأعمال الطقسيّة التي قمنا بها. غير أن اليهوديّ سوف يجد انفصاماً، في فكر بولس، بين برّ الله ومتطلّبات العهد في شعب اسرائيل. ومع ذلك أعلن بولس أن عمل الغفران الالهيّ يوازي اعتبار الله الانسان باراً من دون الأعمال (آ 1). ولكن هذا ما يجب أن يُبرهَن عنه بعد.

خاتمة
انتهى البرهان في ف 3 بقول يعلن: أُعدّ برّ الله لجميع البشر، لا لبني اسرائيل وحدهم. فكل من وجد تبريره في الله وحده، هو بار مهما كان من قبل. فكما أنه ليس سوى إله واحد، كذلك ليس هناك سوى طريق واحد يقود الانسان إلى البرّ، سواء كان يهودياً أم أممياً. واتخذ الرسول مثَل ابراهيم، الذي هو النموذج الأول، والبرهان أن هذا البرّ وُجد منذ البدء، أن هذا البرّ هو إرادة الله الأولى. أما ابراهيم فهو أول من يعلنه الكتاب باراً. فما هو برّ الله، وهل نال شيئاً بحسب الجسد؟ كلا. بل إن ابراهيم آمن بالله فحُسب له ذلك براً. عرف إيمانُه أن الأسباب البشريّة لا قيمة لها بدون الرجاء، لأن البرّ الحقيقيّ هو الذي نتقبّله لأن الله يعطيه. وهكذا نكون على نقيض الحساب البشريّ وكبرياء الانسان، والبرهان البشريّ ،الذي يقدّم أعمال الانسان وكأنها هي التي تبرّر. لا تبرير بدون الإيمان، ولا سعادة إلاّ تلك التي يعطيها الله. كلّ هذا يعني علاقة مميّزة عرفها ابراهيم وهو الذي دُعي خليل الله وحبيبه. بإيمانه نال ما نال. ومثله يتبرّر الانسان.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM