الفصل الثاني عشر: الإيمان بيسوع المسيح

الفصل الثاني عشر
الإيمان بيسوع المسيح
3: 21- 31

نبدأ هنا قسماً جديداً فيه ينتقل بولس من اتهام الجميع، اليهود واليونانيين، ليقدّم إنجيله بكل غناه. ولكن هذا الانتقال لا يعني انقطاعاً في الفكر. لذلك يجب أن نتذكّر السياق السابق إذا أردنا أن نفهم فهماً تاماً عرض بولس لانجيله. هذه النقطة التي تحمل بعض التكرار تقول: إنجيله هو الخبر الطيّب في وضع يصوّره 1: 18- 3: 20، هو خبرُ عمل الله من أجل الانسان، من أجل المؤمن وفي المؤمن، ليجعله مع الله في علاقة قطعها شرُّ الانسان (آدم) ومزّقها شعب اسرائيل حين فهم الشريعة فهماً خاطئاً.
يتوزّع النصّ في مقطعين. الأول: برّ الله في موت يسوع (آ 21- 36). ذاك هو البرهان الحاسم. الثاني: الله إله اليهود والأمم (آ 27- 31). هكذا نستخلص النتيجة من البرهان، بحيث يعرف الشعبُ اليهوديّ موقعَه داخل مخطط الخلاص. المقياس ليس الشريعة، بل الإيمان الذي يبرّر اليهوديّ وغير اليهوديّ.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 22: عبر الإيمان. هناك من يضيف أل التعريف على الاسم. نشير إلى أن العبارة سقطت عرضاً من الكودكس الاسكندرانيّ.
في آ 26، تضيف بعض المخطوطات «المسيح» بعد يسوع، فيصبح النصّ: «يؤمن بيسوع المسيح».
في آ 27، تقرأ بعض المخطوطات الغربية الضمير (سو، فخرك) مع «الفخر». وقد توخّت أن تجعل الحوار واضحاً.
في آ 28، هناك تقليد متين (الفاتيكاني، البازي) يجعل «إذن» (أون) بدل «ف» (غار). ظنّ الناسخ أننا أمام خلاصة: إذن نحن نعتقد.
في آ 29، تحوّل الظرف إلى صفة: «إله اليهود وحدهم» (فقط) صار «الاله الواحد» أو «إله اليهود» (في الفاتيكاني).
ب- بنية النصّ
إن مركزيّة هذا المقطع (آ 21- 31) الذي يوسّع برهانَ بولس، واضحة في عودة اللفظين المفتاحين في الموضوع الأساسيّ في 1: 17: البرّ (ديكايوسيني، 3: 21، 22، 25، 26)، الإيمان (بستيس، 3: 22، 25، 26، 27، 28، 30، 31). والسمة اللافتة هي البنية الشاملة في آ 24- 26 مع اسم الفاعل في بداية آ 24 (ديكايومانوي: مبرَّرون)، وتَوالي الجمل التي تحمل الفكرة ولا توضح ترابط الجمل: بين بعضها أو هي ترتبط بما في آ 25 أ.
هناك بعض الاتّفاق بأن آ 25- 26 أ (صبر الله) هما عبارة سابقة لبولس بسبب وجود أكثر من مراحدة (هيلاستيريون، كفّارة). أدخل بولس «عبر الإيمان»، وكوّن الجملة الثانية من أجل التوازي بين الماضي والحاضر وبين برهان وبرهان. وماذا نقول عن آ 24؟ هل هي أيضاً عبارة سابقة؟ ربّما. وقد يكون كيّفها بولس لكي تدخل في فكره. وهكذا جاءت النتيجة بسيطة: إن موت يسوع الذي هو ذبيحة هيّأها الله بحسب الشريعة، هو وسيلة إلهيّة من أجل امتداد البرّ إلى جميع الذين يؤمنون، بمن فيهم الذين هم خارج الشريعة. نحن هنا أمام اعتراف إيمانٍ في الكنيسة الأولى.
مع آ 27 نعود إلى الأسلوب الجداليّ وإن كانت المواجهة أضعف مع صيغة المتكلّم الجمع (نحن نفتخر). إن خاتمة 3: 20 (تبرير الله لا يفعل بالنظر إلى متطلّبات الشريعة، وهذا ما يدلّ على هويّة اليهوديّ) تكتمل بقول مركزيّ في آ 21- 26: الله يبرّر بالإيمان (آ 28). لم يعد هنا من مكان للافتخار (على مستوى اليهوديّ والأمميّ) كما في 2: 17، 23. لا افتخار بالشريعة على مستوى أعمال تدلّ على أن اليهوديّ هو عضو في شعب الله المختار. بل بالشريعة على مستوى الإيمان (آ 27). هكذا يحافظ هذا الاعتراف الأساسيّ بالله على معناه (آ 29). فالشريعة التي تُفهم على أنها تُميّز اليهوديّ عن الأمميّ، تجعل من الله واهبَ الشريعة، وإلهَ شعب الشريعة وحده. أما الشريعة التي تُفهم بلغة الإيمان، فتعني أن واهب الشريعة هو إله المختونين واللامختونين، لأن برّه لا ينحصر في المختونين بل يمتدّ إلى جميع الذين يؤمنون (آ 30). في هذا الخطّ، الشريعة التي أعطاها الله الواحد (إله اليهود، وإله الأمم) تُفهَم حقاً، تقوم، تثبت (آ 31).

2- تحليل النصّ الكتابيّ (3: 21- 31)
جاء النصّ في مقطعين كبيرين. الأول (آ 21- 26) يتحدّث عن برّ الله في موت يسوع. هذا البرّ ظهر حين نلنا الفداء. والثاني (آ 27- 31) يُفهمنا أنه إن كان التبرير بالإيمان، لا بأعمال الشريعة، فالله الواحد هو إله اليهود وإله الأمم.
أ- برّ الله في موت يسوع (آ 21- 26)
أولاً: ظهر برُّ الله (آ 21- 23)
«ولكن الآن» (نوني دي) (آ 21). هذا ما يميّز أسلوب بولس فيدلّ بعضَ المرات على تعارض منطقيّ (7: 17؛ 1 كور 12: 18؛ 13: 13). نحن هنا أمام انتقال له مدلوله، وأمام تعارض مع ما قيل من قبل (1: 18- 3: 20). انتقال لا قبل وبعد اهتداء الفرد (كما في 6: 22؛ 7: 6؛ كو 1: 22؛ 3: 8)، بل انتقال من حقبة إلى أخرى (على مستوى الزمن، رج 15: 23، 25؛ 2 كور 8: 22؛ فلم 9: 11)، حيث العنصر الجديد الحاسم يحوّل الظروف التي ذُكرت سابقاً (كما في 5: 9- 11؛ 8: 1؛ 11: 30- 31). أي «الآن» الاسكاتولوجيّ.
«من دون (خوريس) الشريعة». هناك توازٍ بين آ 21- 22 وآ 27- 28. وهكذا نجد في آ 28 «بدون أعمال الشريعة». رج 4: 6 (بدون أعمال). هذا يعني: دون أن نحصر نفوسنا في الشريعة بما تقدّمه من ديانة خاصة وأسلوب حياة.
«برّ الله» هو عمله الخلاصيّ من أجل شعبه. ولكن هذا يتمّ من دون الشريعة، وهذا ما يشكّك اليهوديّ الذي يربط بين البرّ والشريعة. «ظهر» (فانيروو). هناك انتقال من تاريخ خلاص في إطار يهوديّ ضيّق إلى تاريخ خلاص يضمّ اليهود والأمم. ليس الكلام عن التجسد، بل عن حدث الخلاص في موت المسيح وقيامته. هذا ما تقوله آ 25؛ 4: 24- 25. وكلّ هذا عُرف في الانجيل (1: 16- 17).
في آ 19- 20 تحدّث بولس عن الشريعة. وهو هنا يذكر «الشريعة والأنبياء». رج مت 11: 13؛ لو 16: 16؛ أع 13: 15؛ 24: 24. إن مخطّط الله يسير مسيرته في الكتب المقدّسة كلها. وهكذا يصل الرسول إلى الانجيل. إن قصد الله الخلاصيّ عبر اسرائيل لا ينحصر في تواصل عرقيّ أو وطنيّ.
هو «برّ الله» (آ 22). لا وجود للفعل هنا، وهذا ما يعطي الجملة الاسميّة قوّتها. «عبر الإيمان». هو إيمان المؤمنين. البرّ يعمل بالإيمان دون الحاجة إلى الشريعة. والإيمان هو الموقف الذي يعارضُ أعمال الشريعة (رج 1: 17). في غل 2: 16 نجد أيضاً التعارض بين «أعمال الشريعة» و«الإيمان»، «كل من يؤمن»، وهكذا يصل قصدُ الله الخلاصيّ وعملُه إلى جميع البشر. الإيمان هو الذي يميّز، لا طقوسُ الشريعة. «لا فرق» بين يهوديّ وأمميّ. لا مكان لتمييز شعب على شعب. وهكذا فُتحت الطريق لعرض إيمان هو الوسيلة الوحيدة لمن يتقبّل برّ الله.
«كلّهم خطئوا» (آ 23). ويتكرّر لفظ «كلّ» (3: 4، 9، 12، 19، 20). استعمل الماضي الناقص، لأن النصّ يدلّ على الدينونة الأخيرة (2: 12) أو على الطابع الشامل لسقطة الانسان (5: 12). «هيستاراين» (نقص) يقابل «باريساواين» (رج 3: 7؛ زاد). رج 1 كور 1: 7؛ 8: 8؛ 12: 24؛ 2 كور 11: 5، 9). ارتبط النقص بمجد الله فلمّح إلى سقطة آدم. مثلُ هذه الفكرة عرفها العالم اليهوديّ. في رؤ موسى (21: 6) يتّهم آدم حواء: «حرمتني من مجد الله». في النهاية سيعود هذا المجد (رؤ موسى 39: 2؛ 1 أخن 50: 1؛ 4 عز 7: 122- 125).
ثانياً: تبرير بالفداء (آ 24- 26)
«ولكن الله» (آ 24). التركيب غامض، ولكن المعنى واضح (آ 24). إن برّ الله يفعل فعله عبر الإيمان بيسوع المسيح. هذا يعني أن الذين خطئوا وحُرموا مجد الله هم الذين تبرّروا (5: 20). صيغة المجهول تدلّ على أن الله هو الذي برّرهم. رج 3: 26؛ 4: 5؛ 8: 33. استُعملت صيغةُ الحاضر لكي تلغي المسافة الزمنيّة بين حقبتين حاسمتين في تاريخ الخلاص: موت يسوع التكفيري (آ 25)، والدينونة الأخيرة (آ 20). كان هذا التبريرُ عطيّة مجانيّة. هو نعمة (خاريس) تدلّ على طابع عمل الله غير المشروط. تحدّث العالمُ اليهوديّ أيضاً عن عهد أعطي بنعمة من عند الله (فيلون، ذبيحة هابيل وقايين 57). ولكن بولس رأى كيف تأثّرت هذه المجانيّة بالشريعة فما عادت واضحة.
«عبر الفداء» (افتداهم). عبر تحرير (آ 25). هناك صورة العبد أو أسير الحرب الذي يحرَّر (يوسيفوس، العاديات 12: 27: ابوليتروسيس). هذا الفداء يتمّ في المسيح يسوع (رج 6: 11، 23؛ 8: 1، 2؛ 9: 1. ترد العبارة 80 مرّة). هو عمل المسيح الحاسم. موته وقيامته. هكذا بدأت حقبةٌ جديدة حدّدها واقعٌ يقول إن يسوع مات وقام. وهذه الحقبة تتميّز أيضاً باستمراريّة سيادة المسيح.
«جعله» (بروتيتيمي). قال أع 2: 23- 24: قتله (اليهود) ولكن الله أقامه. أما هنا فنفهم مبادرة الله في عهد جديد مع موت المسيح وقيامته. «كفّارة». نقرأ فقط في السبعينيّة (هيلاستيريون). رج عب 9: 5؛ 4 مك 17: 22؛ يوسيفوس، العاديات 16: 182. في أساس هذا الكلام نظنّ أن موت يسوع كان ذبيحة. يُذكر هنا دمُ المسيح. إذ لم يكن موتُ المسيح دموياً في التقاليد الأولى، فالكلام عن الدم هنا يُشرح في إطار التقليد اليهوديّ. «دم الذبيحة». نحن أمام طقس عيد التكفير، لا في فلسطين فقط بل في جماعات الشتات (مر 14: 24 وز؛ عب 9: 11- 14؛ 1 بط 1: 19).
مع أن لاهوت الذبيحة غامض في العالم اليهوديّ، نستطيع أن نقول بعض الشيء عن لاهوت الذبيحة عند بولس. (1) استعمالُ اللغة الذبائحيّة للكلام عن موت المسيح. (2) أخذٌ بالصور الذبائحيّة في الكلام عن لاهوت الاستشهاد. (3) مشاركةُ الرسول لنظرة معاصريه وقرّائه (رج 3: 25؛ 4: 25؛ 8: 3): إن ذبيحة الخطيئة ترتبط بالخطيئة. فخبرُ الذبيحة يرتبط، في معنى أو في آخر، بالخطيئة، أو يبعد خطيئة الذابح. إن ذبيحة الخطيئة تمثّل المقدّم في خطيئته، الخاطئ على أنه خاطئ. ذاك هو مدلول ما يفعله مقدّمُ الذبيحة حين يضع يديه على رأس الذبيحة (لا 4: 4، 15، 24، 29، 33). وهكذا يتماهى الخاطئ مع حيوان الذبيحة أو يدلّ على أن هذا الحيوان يمثّله. بمثل هذا الفهم نكتشف المعنى الكافي «للتبادل» في الذبيحة، الذي هو سمة أساسيّة لفهم بولس لموت يسوع. يحيا الخاطئ وتموت امكانية الخطيئة. هذا يعني أن خطيئة الخاطئ انتقلت إلى ذبيحة لا خطيئة فيها، وحياة الذبيحة التي لا خطيئة فيها انتقلت إلى الخاطئ (2 كور 5: 21؛ روم 8: 3؛ غل 3: 13؛ 4: 4).
«بالإيمان». في العهد، يتطلّع اليهوديّ إلى أعمال الشريعة، إلى فعل التكفير. أما بولس فشدّد على الإيمان الذي لا يرتبط بممارسة عباديّة، بل يكون قبولاً لذبيحة حاسمة هيّأها الله، «ليظهر برَّه». نحن هنا أمام عمل الله تجاه الذين التزم معهم (1: 17؛ 3: 5). وهو يُظهر برّه حين يقدِّم ذبيحة تُتمّ عهده مع اسرائيل (ذبيحة خطيئة، 8: 3). وعارُ موت الصليب يمكن أن يقدَّم على أنه تعبير عن نعمة الله الخلاصيّة، وهكذا نكون أمام مثَل به يحوّل الانجيلُ قيماً بشريّة عاديّة.
«باراسيس»: التغاضي. نحن على المستوى القانونيّ. ترك (الله) الخطيئةَ وما فرض العقاب. عفى الانسان ممّا عليه. ما هي العلاقة بين «ظهر» و«تغاضى»، سواء تطلّع بولس إلى الماضي أو إلى الحاضر، سواء كان الغفران موقتاً أو مؤخّراً؟ ساعة كان النظام الذبائحيّ طريقة شرعيّة للتعامل مع الخطيئة في الماضي، فهو لا يشكّل جواباً كافياً لمسألة الخطيئة والخطأ. وحدها ذبيحةُ المسيح تستطيع أن تفعل ذلك (مع قيامته، تزول قوّةُ الخطيئة بالاتحاد به). ولكن في أيّة لغّة تحدّث بولس عن شرعيّة الذبيحة في الماضي؟ هل لها قيمة موقّتة؟ هل عُلّق الحكم إلى مجيء المسيح حيث موتُ المسيح هو وحده الذبيحة الفاعلة (عب 9: 25- 26؛ 10: 12، 14)؟ أو هل نظر إلى هذه الذبيحة كفاعلة في الماضي، ولكنها لم تعد ضروريّة بالنظر إلى فاعليّة موت المسيح؟ كل هذه الأسئلة تبقى بدون حلّ. ويبقى أن بولس أراد أن يستعمل لغة يفهمها قرّاؤه، دون العودة إلى اللغة الذبائحيّة كما في العالم اليهوديّ.
«في صبر الله» (آ 26). هذا يعني أن الله لم يُسرع في عقاب الخطايا الذي اقترفها شعبُ العهد في الحقبة السابقة. مثلُ هذا القول يبدو غريباً في أذن يهوديّة. رج خر 34: 6- 7. كما يعارض مفهوم غضب الله. «يُظهر برّه في الزمن الحاضر». تتكرّر العبارةُ عمداً كما في آ 25 ب. فموتُ المسيح يشكّل محور التاريخ مع برّ الله الذي يفعل في الماضي وفي المستقبل. «كايروس». لا يعني وقتاً في الزمن ولا عبورَ الزمن، بل وقتاً مليئاً بالمدلول، الوقت المحدّد، الوقت المؤاتي الذي فيه تحدّد القراراتُ والأعمالُ المستقبلَ. رج 13: 11؛ 1 كور 7: 29؛ 2 كور 6: 2؛ غل 6: 10. «الزمن الحاضر» هو الزمن الاسكاتولوجي (8: 18؛ 11: 5؛ 2 كور 6: 2). يقع بين موت المسيح وقيامته، والتتمة أي الزمن الذي فيه تتحقّق المواعيدُ تحقّقاً كاملاً.
الله بار، عادل، لا لأن عمله يوافق مثالَ برِّ وعدالة، بل لأنه يُتمّ ما أخذه على نفسه بالنظر إلى عهده مع شعبه. وبما أن النصّ يعود بشكل مباشر (أو غير مباشر) إلى موت يسوع ككفّارة، فهذا يعني أن موت يسوع الذبائحيّ كان طريقةَ الله في التعامل مع خطيئة شعبه (هل تغاضى؟ هل عمل حسب عهده؟). «ويبرّر». يصل التبرير إلى «من يؤمن بيسوع». هذا ما لم يعرفه العهدُ الأول. ما أراد بولس أن يبيّنه، هو أن في موت المسيح تمّ العهدُ القديم وتوسّع. فعاملُ الوحدة والتواصل هو موت يسوع كذبيحة والإيمان بيسوع هذا. لا موت يسوع وحسب، بل موته كذبيحة في إطار العهد. ولا الإيمان وحسب، بل الإيمان بيسوع الذي فيه وصلت الظروفُ إلى كمالها. وكما قالت غل 3، موت يسوع وواقع قيامته الحاضر، أتمّا العهد الموعود به، وفتحا الطريق للأمم دون خسران طابع العهد الذي وُعد به.
استعمل بولس هنا اسم «يسوع» وحده. هذا ما نجده في مقاطع تعود إلى موت المسيح وقيامته (8: 11؛ 2 كور 4: 10- 11، 14؛ غل 6: 17؛ 1 تس 1: 10). «من يؤمن». هو ذاك الذي حياتُه حدّدها فعل إيمان (وثقة) بيسوع (الربّ). وهذا ما يميّز موقف الاستسلام ليسوع. رج 4: 16؛ غل 3: 7، 9.
ب- الله إله اليهود والأمم (آ 27- 31)
أولاً: لا بالأعمال، بل بالإيمان (آ 27- 29)
«أين الفخر» (آ 27)؟ التلميح إلى 2: 17- 23 واضح. ما ينظر إليه بولس، ليس ثقة الانسان التقيّ بنفسه. فبولس يهاجم اليهوديّ كيهوديّ لأنه يستند إلى نفسه. كما يهاجم الافتخار بالله على أنه إله اسرائيل، وبالشريعة التي تفصل اليهود عن الأمم. الهجوم يصيب الافتخار بالشريعة ولا يصيب التوراة التي هي كلام الله. رج 15: 17 حيث يتخذ الافتخار معنى إيجابياً.
صار هذا الافتخار غير ممكن. استُبعد (غل 4: 17). صيغة المجهول تدلّ على الله: إن موت المسيح كتكفير، بدّل علاقة الله بالخطيئة حين حطّم العلاقة مع اسرائيل إذ صار يوم التكفير طقساً خاصاً ومميّزاً في الشريعة اليهوديّة. وفي الحاضر الاسكاتولوجيّ، موتُ المسيح التكفيريّ يدلّ على أن برّ الله هو لكل من يؤمن. هكذا لم يعد من مجال للافتخار. «بأي شريعة»؟ شريعة الإيمان أو مبدأ الإيمان. رج 7: 21، 23؛ 8: 2؛ غل 6: 2. شريعة الأعمال تدلّ على التوراة ومتطلّباتها. فالسؤال المطروح: أي فهم للشريعة هو هذا الفهم؟
«الأعمال». مفتاح الشرح هنا يقع في ثلاثة أقوال تجمع في الفكر اليهوديّ بين الفخر الوطنيّ بشعب العهد، بالشريعة كسبب لهذا الافتخار، بأعمال الشريعة كتعبير عن ارتباط اليهود بالههم وشريعته. لسنا هنا أمام الأعمال الصالحة (استُبعد الفخر بسبب عدم كفاية الأعمال الصالحة)، بل أمام أعمال تدلّ على ما يطلب العهد وما يميّزه. مثل هذه الشريعة إن حُفظت (فل 3: 6) لا تستبعد الافتخار.
«بشريعة الإيمان». هي التوراة (نوموس). لا يعني الرسول الشريعة كشاهدة للإيمان، ولا تلك التي تحثّ على الإيمان، ولا تلك التي تنحصر في بعض أعمال طقسيّة، ولا الشريعة في المعنى المتاويّ (مت 5: 17- 20؛ غل 6: 2). ينظر بولس إلى الشريعة في حدّ ذاتها، إلى الشريعة ككلّ. الشريعة التي تُفهم بلغة الإيمان. هناك طريقتان للنظر إلى الشريعة: حين نفهمها بلغة الأعمال، فهي تميّز اليهوديّ ولا سيّما على مستوى الختان. وحين نفهمها بلغة الإيمان، لا يعود لها الطابع اليهوديّ. والأعمال تصبح ثانويّة، ولا يمكن أن تُطلَب من الأمميّ دون أن تسيء إلى طابع إيمانه. شريعة الإيمان هي التي تتوجّه إلى الإيمان وتتمّ في الإيمان.
«فنحن نعتقد» (آ 28؛ رج غل 2: 16). نحن نقرّ، نعرف. داخل الجماعات المسيحيّة، هناك الاعتقاد والنتائج العمليّة، لا مجرّد قرار في العقل (6: 11؛ 14: 14). أعمال الشريعة هي خاصة باليهوديّ، تجعل حدوداً بينه وبين الأمميّ. أما الإيمان فهو الذي يحمل التبرير.
وتطرح آ 29 السؤال: هل الله هو إله اليهود وحدهم؟ ويأتي الجواب: بل إله الأمم أيضاً. تشير الشريعة إلى اليهود كواعين أنهم شعب الله ومميّزين عن «الأمم». هذا يعكس ما قرأناه في 2: 12- 14. يستغلّ بولس الانشداد في الفكر اليهوديّ بين الله الخالق (إذن، ربّ الجميع) والله ربّ اسرائيل. هنا نقرأ رابي شمعون بن يوحاي: «تكلّم الربّ إلى بني اسرائيل: أنا الله فوق كل ما جاء إلى العالم. ولكن باسمي جُمعتُ فقط معكم. لا أسمّي نفسي إله أمم العالم، بل إله اسرائيل». رج 1 أخن 48: 2؛ يوب 15: 31- 32. هناك نصوص تقول إن الله سلّم الأمم إلى الملائكة، ولكنه احتفظ باسرائيل لنفسه (تث 32: 8- 9؛ سي 17: 17). فالعلاقة الخاصة بالله، تلغي شموليّة عبادة الله الواحد. والتبرير بالإيمان (آ 30) هو أكبر ضمان لمونوتاوية (عبادة الله الواحد) شاملة.
ثانياً: فالله واحد (آ 30- 31)
ليس هناك إلهان، واحد لليهود وآخر للأمم. بل هو واحد، كما يقول قانون الإيمان في شعب اسرائيل (تث 6: 4؛ رج مر 12: 29؛ 1 كور 8: 6؛ يع 2: 19). عاد بولس إلى الله الخالق، فتجاوز تاريخ الخلاص في اسرائيل (اختاره الله)، ليتحدّث عن خلاص يجمع البشريّة ولا ينحصر في اختيار شعب واحد.
«لأن الله واحد» (آ 30). أسلوب هذا الاله في العمل هو واحد. موقفه الأساسيّ واحد. وعلاقته بالبشريّة واحدة: الإيمان. بالنسبة إلى المختون وبالنسبة إلى اللامختون. ذاك هو ارتباط الخليقة بالخالق. وهذا يصوَّر أيضاً كالإيمان بيسوع، لأن موته يعلن أن الله هو الفادي وهو الخالق ويفتح الطريق إلى نداء يتجاوز اسرائيل بحسب الجسد. ولكنه يصوَّر فقط كإيمان لأنه ارتباط الخليقة بمن هو الخالق وبمن هو الديّان.
«نبطل الشريعة» (آ 31). نحن هنا في خاتمة آ 27- 31، وفي بداية ف 4 مع إيمان ابراهيم وأمانته. الفعل «كاترغايو»: ألغى، أبعد. هو يقابل «هستانو»: ثبّت، أكّد. في العبريّة: «ب ط ل» (أبطل) و«ق و م» (أقام، أتمّ). قد يكون «اليهودي» رأى بولس يدمّر الشريعة، لأن الشريعة ترتبط بهويّته كيهوديّ وتدلّ على أن شعبه مميّز. هذا ما نقرأ في 4 مك 5: 25: «بما أننا نعرف أن الشريعة أقامها الله، نعرف في طبيعة الأشياء أن خالق الكون حين أعطانا الشريعة دلّ على تعاطفه معنا». وحين يُلغي بولس الرباط الخاص بين اسرائيل والشريعة، فهل يجعل الشريعة نافلة وبدون قيمة؟ «كلا». حاشا وكلاّ. لا سمح الله. «نُثبت الشريعة». نقيم الشريعة. نجعلها في موقعها الحقيقيّ عبر الإيمان. ما أراد بولس أن يتصرّف وكأن الشريعة لم تكن. بل حين ثبّتها في وجهها الشامل، ثبّتها في وظيفتها الحقّة. توجّهت إلى الإيمان، لا إلى الأعمال، فاقتادت البشر إلى الخالق، ولم تفصل اسرائيل عن الأمم. وهكذا برز دورُ الشريعة في العهد الاسكاتولوجيّ (الزمن الحاضر). حين نُقرّ بدور الشريعة الشامل، فهي تستطيع أن تُتمّ دورها الخاص، على أنها كلمة الخالق لخلائقه حين يطلب منهم جواب الخليقة فيدينهم جميعاً، يهوداً وأمماً. تلك هي «شريعة الإيمان» (3: 27). لا، ما أراد بولس أن يلغي الشريعة، بل وظيفتها حين تفصلُ اليهوديّ عن غير اليهوديّ.

3- خلاصة لاهوتيّة
أ- برّ الله في موت يسوع
مع الأداة «الآن» (آ 21) نفهم أن بولس انطلق في توسّع جديد، على مستوى الخلاص الاسكاتولوجيّ، وهو الوقت الذي فيه يحقّق الله قصدَه الأخير من أجل اسرائيل ومن أجل البشريّة (2 كور 6: 2). أما صيغة الكامل، فتدلّ على أن الوضع الجديد بدأ بعمل حاسم في الماضي، وما زال تأثيره حاضراً. لقد جعل الله برّه منظوراً في العمل، وهو ظاهر الآن. وهذا العمل المفارق هو برّ الله الذي كُشف في يسوع المسيح: تمّ خلاص الله عبر يسوع المسيح، فوجّهَنا إلى الإيمان بيسوع المسيح.
هذه الفكرة ليست بغريبة على اليهوديّ، لأن عمل خلاص الله الاسكاتولوجيّ يرتبط بمجيء المسيح (اش 11: 5؛ 42: 6؛ 61: 3). ولكن بولس ميَّز فهمه لبرّ الله حين وضع العبارة التالية: «من دون الشريعة». أجل، لا حاجة بعدُ إلى الشريعة، والشريعة كما يفهمها اليهوديّ. والوضع الجديد يتّضح حين نعلن أن الله خلّصنا بيسوع المسيح، لا لأننا يهود. لم نعد في إطار تحدّده الشريعة، بل ارتبطنا بعمل يسوع المسيح.
ولكن حين ألغى بولس الرباط بين برّ الله والشريعة، كما يفهمها اليهوديّ في عصره، عجّل فشدّد على التواصل بين انجيله حول برّ الله والشريعة (أو التوراة). هذا ما قاله في البداية: «انجيل الله الذي وَعد به في الأنبياء» (1: 2). وهكذا أوضح الرسول أن الشريعة تتمّ حين تُفهَم داخل الكتب المقدّسة كلها، فتضمّ إليها الأنبياء. هذا ما كان في الماضي، وهو الآن أيضاً (صيغة الحاضر). فالشريعة لا تُعطي فقط معرفة الخطيئة، بل تشهد أيضاً للانجيل. إن تفسير «من دون الشريعة» الذي ينسى أن الشريعة تحمل شهادة، هو ناتج عن تصوّر خاطئ لبرّ الله.
مع آ 22، «برّ الله» (تتكرّر) هو برّ الله عبر الإيمان... إلى الإيمان (1: 17). وهذا الإيمان هو إيمان بيسوع المسيح. أي الإيمان الموجّه إلى يسوع المسيح (الأمين) كموضوعه. هذا يعني استسلام المؤمن للمسيح، الطاعة له. إن أساس العلاقة بالمسيح لا يرتبط بطقس خاص، بل يتوجّه بشكل مباشر إلى المسيح القائم من الموت، بدلاً من أن يستند إلى الشريعة، إلى أعمال الشريعة. ولما حدّد بولسُ أولئك الذين يشاركون في هذه العلاقة مع المسيح على أنهم «يؤمنون»، أكّد أن الإيمان ولا شيء آخر يميّز مجموعة المسيحيّين الأوّلين (لا الشريعة). هذا الموقف هو بداية العلاقة مع المسيح، وهو يتواصل طوال الحياة (غل 3: 2- 3).
تكرّر لفظ «كل» (آ 23) فقادنا إلى معترضة في 22 ج- 23: لا تمييز. كلّهم خطئوا، كلّهم حرموا. اليهود والأمم. إذاً، تجاه «كل الذين آمنوا». ليس هناك طريقان للخلاص، واحد لليهوديّ وآخر للأمميّ. كلهم خطئوا، ونتيجة الخطيئة ما زالت حاضرة. وذلك منذ آدم الذي خسر المجد الذي كان له منذ البداية. أترى اليهوديّ لا يرتبط بآدم؟ هل يريد أن يتخلّص من وضعه كخليقة؟
وتستعيد آ 24 العرض عن «برّ الله» (آ 22). الله برّرهم الآن (صيغة الحاضر)، فارتبطوا به برباط سيظهر كاملاً في ذلك اليوم (فل 1: 6). برّرهم بنعمته، بالإيمان. وعملُه هو عطيّة مجانيّة. هو نعمة على أساس الفداء الذي في يسوع المسيح. ومع الفدية كان كلام عن التكفير (آ 25). والتكفير بالدمّ. والله هو الذي قدّم المسيح «كوسيلة تكفير». ويوضح بولس لاهوته فيقول إن موت المسيح الذبائحيّ يرتبط بالماضي وبالحاضر. فمخطّطُ ذبيحة المسيح التكفيريّة توخّى قبل كل شيء، أن يبرهن عن عمل الله الخلاصيّ: بصبره لم يعاقب الخطيئة. كان ذلك بالنسبة إلى اسرائيل. ويكون بالنسبة إلى الأمم.
ثمّ إن موت المسيح التكفيريّ بيَّن برّ الله في الزمن الحاضر (آ 26)، بحيث يبرّر كلَّ من يؤمن بيسوع. فموت يسوع فاعلٌ في الخطيئة الحاضرة. لأن التماهي بين يسوع والمؤمن، يعني أن موت المسيح تعامل مع خطايا المؤمن فدمّر قوّة الخطيئة عندَ من هو «في المسيح». وفي الوقت عينه، بيَّن أن برّ الله (وهدفه الخلاصيّ الناجع) يتعامل الآن مع قوّة الخطيئة، ويدمّر الموت، ويعيد بناء الوحدة مع الله بالنسبة إلى ذاك الذي تماهى مع المسيح الذي مات وقام، فسلّم نفسه إليه.
تحمل آ 21- 26 مدلولاً خاصاً في برهان بولس كما توسّع به في إنجيله. كرّر لفظ «البرّ» ولفظ «الإيمان». وإذ رأى جميعَ البشر تحت الخطيئة، تكلّم عن يسوع كفدية وذبيحة تكفيريّة. ثم إن عمل الله الخلاصيّ هو في تواصل تام مع الوعد لاسرائيل. ونحن ننعم ببرّ الله بواسطة الإيمان. نحن واثقون أن فدية المسيح وذبيحته التكفيرية ناجعتان. كما نثق بيسوع نفسه. وبما أن الجميع يحتاجون إلى برّ الله، فالطريق هي واحدة، طريق الإيمان.
ب- الله إله اليهود والأمم
في آ 27- 31 نفهم أن الإيمان هو فهم خاص للشريعة (آ 27)، والإيمان هو أساس لا غنى عنه للعمل بالشريعة. «فأين الفخر». هذا ما يعود بنا إلى اليهوديّ الفخور بالاختيار والشريعة (2: 17، 23). هذا هو الواقع اليهوديّ. ولكن بولس يعلن أن عمل الله الخلاصيّ يتوجّه إلى كل من يؤمن، ولا يميّز (آ 22). هذا ما يدفعنا إلى الشكر والثقة. فموت المسيح يُلقي بضوئه على الشريعة. إذن، لا مجال للفخر. فالثقة لا تكون لأننا ننتمي إلى الشعب المختار. الثقة الحقّة بالله تقوم في التعلّق المتواضع بعمل الله الخلاصيّ عبر المسيح.
هل نستند بعد إلى شريعة الأعمال؟ لقد استُبعد أيضاً مثلُ هذا السند. هنا نلاحظ أن بولس لا يعارض الإيمان بالشريعة، بل الإيمان وأعمال الشريعة. ويمكن أن نصوّر الإيمان بلغة الشريعة فنقول «شريعة الإيمان» (1: 5). فبولس يرى انجيلَه في تواصل تام مع وحيٍ وهبَه الله لاسرائيل، ومع الشريعة. ولكن اسرائيل فهم الشريعة فهما خاطئاً، وهذا ما يجب أن يُلغى.
ويأتي شرح ما في آ 27 في آ 28: الانسان يتبرّر بالإيمان. اليهوديّ والأمميّ معاً. ولكن إذا كان الانسان يتبرّر بالإيمان، وبدون أعمال الشريعة، فما معنى اختيار الله لاسرائيل وإعطائه الشريعة من دون البشر؟ هنا لا بدّ من التمييز بين أعمال الشريعة وتتمة الشريعة.
فموقف أعمال الشريعة، يصل بنا إلى القول بأن الله هو فقط إله اليهود، لا إله الأمم (آ 29- 30). إن كان الله رضي عن اسرائيل، فهو أيضاً يحسب حساب الأمم. الله واحد هو. إنه خالق جميع البشر، ويبرّرهم جميعاً. فإن لم يبرّر الله البشريّة كلها، فلا يمكن أن يُحسَب إله اليهود وإله الوثنيّين. ترك بولس قول اليهود مع الاعتداد بحقوقهم قدّام الله، وعاد إلى مبادئ تتفرّع من انجيله حول الاله الخالق الذي يحفظ خليقته كلَّها في الوجود.
ويتلخّص برهان هذا المقطع في آ 31: علاقة الشريعة بالإيمان هي تلك التي أراد بولس أن يوضحها. طرح السؤال: هل تبطل الشريعةُ بالإيمان؟ هذا ما ظنّه عدد من اليهود الذين ماهوا الشريعة مع نظرة وطنيّة. أجاب بولس بأن الإيمان يلغي الشريعة إذا كانت فقط شريعة اليهوديّ وشريعة الأعمال (ولا سيّما الختان). ولكن إن حُسبت «شريعة الإيمان» فتوجّهت إلى الأمم أيضاً، فهو تقوم وتكون شرعيّتها ثابتة. فالله لا يلغي عطيّة الشريعة لليهود، بل يبيّن أن هذه العطيّة تصل إلى الأمم أيضاً. وتُفهم هذه الشريعةُ فهماً حقيقياً حين يستطيع الأمميّ أن يعمل بها، شأنه شأن اليهوديّ، دون أن يصبح يهودياً. وهذا يكون بالإيمان. توخّى برهانُ بولس أن يقطع الطريق على اليهوديّ الذي يريد أن يحتفظ بالشريعة لنفسه، ويؤكّد أن وحي الله قدِّم في كتبٍ مقدّسة تمّت في المسيح.

الخاتمة
تلك كانت مسيرة بولس حتّى الآن: كشفَ الله برّه فما تقبَّله البشر. فسمع الوثنيّون صوت الخليقة تُحدّثهم عن الخالق، وصوتَ ضميرهم يَدلّهم إلى الخير. أما اليهود الذين وهبهم الله شريعته (وكلمته)، فقد جعلوا منها أداة لكي يبرّروا نفوسهم دون أن ينتظروا تبريرهم من الله. فالكتاب بيّن أن لابارَّ سوى الله، كما بيّن للانسان خطيئته. وهذا أيضاً لم يسمعه البشر. عندئذ طُرح السؤال الأخير: كيف يتحقّق برّ الله الذي أعلن أنه كلمة الله الحاسمة، بحيث يُصبح حقيقةً تدرك الانسان؟ فكان الجواب: برّ الله هو وحي. هو برّ المخلّص لا برّ الديّان. وتأتي الشريعة بعد ذلك فترافق الانسان المخلّص. وهذا البرّ هو بالإيمان، ويقدَّم للجميع دون أن يكون مُلك أحد. فنحن لا نستطيع أن نقول إننا نمتلك الإيمان. وبما أن الجميع خطئوا، فجميعهم يحتاجون إلى الإيمان. وإن هم لبثوا على الخطيئة حُرموا مجد الله. غير أنهم يبرَّرون بنعمة الفادي بحيث يكون التبريرُ جواب النعمة على شقاء الانسان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM