الفصل التاسع
الختان والعمل بالشريعة
2: 25- 29
كان العنوان الأساسيّ لما في روم 2، دينونة الله. فالربّ يجازي كلَّ انسان بحسب أعماله. سواء كان يهودياً أو من الأمم. ولكن، ظنّ اليهوديّ أنه يمتلك الشريعة، أنه من الشعب المختار، وبالتالي أنه مميَّز عن الوثنيّ، فلا خوف عليه. هو مطمئنّ كلَّ الاطمئنان لخلاصه. ولكن بولس نزع منه هذا الاطمئنان. لا يكفي أن تمتلك الشريعة، بل يجب أن تعمل بحسب الشريعة. فعاد اليهوديّ يُعلن أنه مختون في اللحم، ومطبوع بطابع الشريعة. ولكن بولس ينزع منه أيضاً هذا الاطمئنان. فالختان لا يكفل شيئاً. والدينونة آتية رغم الختان.
1- دراسة النصّ وبنيته
تتوالى البراهين لكي تصل إلى الذروة. والعودة إلى موضوع الدينونة، يعود بنا إلى البداية حيث يتحدّث اليهوديّ عن الدينونة التي تنتظر الوثنيّ (آ 1- 3)، وينسى القول عن دينونة الله العادلة (آ 5، 12- 16)، مع قمّة أخرى حيث يحكم الأمميّ الحافظُ الشريعة، على اليهوديّ الذي ظلّ على مستوى الحرف (آ 27). إن الدرجة التي فيها يتوازى فكر آ 25- 29 مع فكر آ 12- 16، يؤكّد أن هدف بولس ليس تحطيم الأساس في كل مرّة وتقديم الاتهام على اليهود معاصريه. والتشديد على الختان هو مقياس الدرجة التي بها تتميّز هويةُ اليهوديّ، والخطر الذي يتعرّض له هذا اليهوديّ حين يجعل كامل ثقته بالختان. وتقييم الهوية العرقيّة والطقس الخارجيّ هو جزء من اعتداد نقرأه في 1: 22، بحيث يفهم المحاور شرّه ولابرّه. دُوّنت آ 28- 29 في أسلوب مكثّف (وهي واضحة)، فلعبت وظيفة ملخَّص للبرهان السابق كلّه. بُنيت في سلسلة من تناقضات، تداخلت فجاءت فاعلة.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (2: 25- 29)
يتوزّع هذا النصّ في مقطعين. في الأول (آ 25- 27)، نقرأ عن علاقة الشريعة بالختان. فالختان ليس بشيء إن لم نعمل بأحكام الشريعة. وفي الثاني (آ 28- 29)، نتعرّف إلى اليهودي بالاسم، وإلى اليهوديّ الحقيقيّ.
أ- الشريعة والختان (آ 25- 27)
«أن عملتَ» (آ 25). أخذ البرهان يضيق من كلام «عام» حول «عمل الخير»، عبر كلام خاص عن «العمل بالشريعة»، والآن إلى المخرج الوحيد مع الختان، في تطوّر لا يمكن لليهوديّ التقيّ إلاّ أن يقدّره. بعد أن انتهى النقاش في كل شيء، في ما يُرضي الله، والشريعة، وامتياز الشعب اليهوديّ، ها هو الرسول يُبرز مسألة الختان.
الأهميّة الأساسيّة للختان في زمن القديس بولس، معروفة جداً لدى اليهوديّ. هنا نتذكّر تك 17: 9- 14: هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم... يُختَن كلُّ ذكر منكم... فيكون هذا علامة العهد بيني وبينكم. فالختان يشهد على صدق الانسان تجاه العهد، ويميّز اليهوديّ في الحقبة المكابيّة (1 مك 1: 48، 60- 61؛ 3: 46؛ 2 مك 6: 10). من هنا ختان الأدوميّين والأيطوريّين بيد الحشمونيّين حين احتلّوا أرضهم وضمّوها إلى مملكتهم. فهم لا يستطيعون أن ينتموا إلى شعب العهد دون الختان (يوسيفوس، العاديات 3: 257- 258، 318). وكتاب اليوبيلات الذي دُوِّن في ذلك الوقت، على ما يبدو، تبع تك 17 فقال: «هذه الشريعة هي لجميع الأجيال إلى الأبد. هي فريضة أبديّة رُتّبت ودُوّنت على الألواح السماويّة. فكل من وُلد وما خُتنت غرلتُه في اليوم الثامن، لا ينتمي إلى أبناء العهد الذي قطعه الله مع ابراهيم، بل إلى أبناء الهلاك» (يوب 15: 25- 34).
وقد رأى الكتَّاب اليونان والرومان في الختان طقساً يهودياً خاصاً. وإن عُرف هذا الطقس لدى الساميين والعرب والمصريّين... فما عُرف عندهم كطقس يطبع الانسان بهذا الطابع. كان للختان المركز الرفيع الذي به يتحدّد تمييزُ اليهود على المستوى الوطنيّ والمستوى الدينيّ. في هذا الاطار، نفهم كيف أن بولس ميّز بين الختان واللاختان، وكأنه يقول اليهوديّ والأمميّ (أو غير اليهوديّ). رج 2: 26؛ 3: 30؛ غل 2: 7؛ كو 3: 11. كان خائفو الله يشاركون في عبادة المجمع، ولكنهم لا يُصبحون من شعب العهد إلاّ إذا خُتنوا.
ما شكّ المحاور اليهوديّ بأن الختان ضروريّ وأساسيّ، وهو السمة الأوضح التي تدلّ على شعب العهد، والخطّ الفاصل بين اليهوديّ والأمم، بين الذين هم داخل العهد والذين هم خارج العهد (4: 9- 11). «الختان مفيد إن عملتَ بالشريعة». «اوفالاين». رج 1 كور 13: 3؛ 14: 6؛ غل 5: 2. «براساين»، عمل، مارس. يرى اليهوديّ أن الختان جزء أساسيّ من ممارسة الشريعة. ويوافق بولس الرسول على قيمة الختان. ولكن الاختلاف يبدأ حول ممارسة الشريعة (والختان أيضاً) حسب طقس خارجي (آ 27- 29). نشير هنا إلى أن مسيحيّي رومة لم يمارسوا الختان، فلو فعلوا لما كلّمهم بولس بهذه الطريقة.
«ولكن إذا خالفت الشريعة». هذا الكلام عرفه الأنبياء ومزامير سليمان وكتابات قمران. فاليهوديّ المختون قد يخسر مكانه في العهد وفي بركات العهد الجديد. هذا ما قاله بولس، فاختلف عن تعليم الرابينيّين الذين اعتبروا أن الختان ينجّي من الجحيم. فقولُ بولس بأن الختان يُحسَب كلا شيء قد صَدَم عدداً من اليهود. ولكن الرسول أراد أن يزعزع ركناً في فهم اليهود لأنفسهم وعلى مستوى هويّتهم.
«وإذا كان» (آ 26). ذاك هو وضع المختون الذي قد يخسر الخير المرتبط بختانه. واللامختون (أكروبستيا) الذي يراعي أحكام الشريعة يُصبح وكأنه مختون. هذا اللفظ اليوناني يرد أكثر ما يرد في روم 2- 4. أما «ديكايوما»: حكم، قرار. رج 8: 4. «فيلاسو»: حفظ، راعى. رج أع 7: 53؛ 21: 24؛ غل 6: 13. هذا ما يعود بنا إلى تث 4: 40؛ 6: 2؛ 7: 11؛ حز 11: 20؛ 18: 9؛ 20: 18. إن آ 26 أ هي كتابة جديدة لما في 2: 14 مع طابع الختان ودرجة فرْض الختان الذي هو تعبير موجز عن الشريعة. هذا يقابل: الأمم الذين لا شريعة لهم هم لا مختونون. «يعتبرهم الله». صيغة المضارع قد تعني الزمن (الدينونة الأخيرة) أو قد تكون منطقيّة. نحن أمام برهان بشريّ. لا يريد بولس أن يبرهن أن الشعب يُعتبر مختوناً. فنحن نقرأ نظرته في 1 كور 7: 19؛ غل 5: 6؛ 6: 15. حين يوافق اليهوديّ على أعمال الشريعة (آ 15)، فعليه أن يقرّ بأن الله يقبل الذين يراعون ما تطلبه الشريعة (ما عدا الختان وسائر «أعمال الشريعة»). فغير اليهودي الذي تنقصه هذه العلامةُ في جسده (لم تكن موجودة عند خائفي الله)، يقابل في نظر الله عضواً كاملاً في شعب العهد (2: 13). وهكذا دُمّر التمييزُ بين الذين في العهد والذين خارج العهد، بين الذين يقبلهم الله والذين لا يقبلهم. لا شكّ في أن المعلّمين لا يقبلون بهذا البرهان. أما جماعة رومة فستُصغي بفرح إلى هذا التعليم البولسيّ.
«غير مختون الجسد» (آ 27). هو الوثنيّ. أما اليهوديّ فهو مختون. وهكذا يتماهى المختونون مع النسل اليهوديّ (غل 2: 15)، «تالايو»: كمَّل، أتمّ. لا يتحدّث بولس عن تتمّة الشريعة على مستوى الكمّ في كل متطّلبات الشريعة (ولا سيّما الختان)، بل على مستوى النوعيّة: على المستوى الأعمق (يع 2: 8). «يحكم» (كرينو). لا يشجّع بولس المسيحيّين الأمميّين على هذا الموقف ضد اليهود، وهو موقفٌ حكمَ عليه منذ البداية (2: 1، 3). فأسلوب بولس هو أسلوب الجدال مع تأثير من مت 12: 41- 42؛ لو 11: 31- 32. «غراما»، الحرف، الكتابة. ثم «باريتومي» الختان. جمع بولس الاثنين كوسيلتين لنقض الشريعة. هذا ما يدفعنا إلى التمييز بين ما هو سطحيّ وما هو حقيقيّ. عاد بولس إلى الشريعة المكتوبة، فرأى في الختان طقساً خارجياً.
ب- اليهوديّ وغير اليهوديّ (آ 28- 29)
هاتان الآيتان هما قمّة برهان بولس وخاتمتُه، ضدّ اليهوديّ النموذجيّ الذي تحدّثت عنه الآياتُ السابقة. وهكذا نفهم حزن بولس على اليهود معاصريه. لا شكّ في أنه يستعمل نقائض ومواضيع معروفة. رج 2: 16؛ مت 6: 4، 6 (الله يعرف حقيقة الانسان الخفيّة)؛ مر 4: 22؛ لو 8: 17؛ يو 7: 4؛ 1 كور 14: 25 (تمييز بين الظاهر والخفيّ). لا يريد الرسول أن يزيل التعارض بين الداخل والخارج، بل أن يُبرز الخفيّ في الانسان، بحيث لا يكتنفه الظلام حين ننظر إليه نظرة سريعة. ميَّز يو 1: 47 (رج رؤ 2: 9؛ 3: 9) بين اليهوديّ الذي من نسل يهوديّ، واليهوديّ الحقيقيّ.
هذا لا يعني أن التعارض الذي قدّمه بولس هو شكليّ أو مقولب. فنحن هنا أمام مواضيع وأقوال بولسيّة مختلفة. فوصفُ الختان «في اللحم» (في الجسد، ساركس)، يجعلنا في المناخ البولسيّ الواسع. من جهة، صار الختان طقساً جسدياً حيث يُقطع اللحم، ولكنه يعني في السياق، هويّة وطنيّة وقرابة على مستوى النسل (4: 1؛ 9: 3، 5؛ 11: 14). والتقابل بين «في الظاهر» مع «في القلب» يأخذ الطابع السلبيّ. مع أن الرغبة في ختانة القلب أمر معروف في الفكر اليهوديّ (تث 10: 16؛ إر 4: 4؛ 9: 25- 26؛ حز 44: 9)، والأمل في أن يتحقّق مرغوب فيه (تث 30: 6؛ ق يوب 1: 23)، إلاّ أن بولس اعتبر أن هذا الرجاء قد تمّ منذ الآن. هذا لا يعني أن الرجاء الاسكاتولوجيّ لعطيّة الروح قد تحقّق، بل هو أتمّ الشريعة كوعد، ووقف تجاه الشريعة كحرف (غراما، رج 7: 6؛ 2 كور 3: 6؛ فل 3: 3).
«القلب» (كارديا) هو مركز الاختبار، وما يدفع الانسان إلى العمل (1: 21). وهو مركز التجدّد (2: 15؛ 5: 5؛ 6: 17). «الروح» (بنفما) يعمل على تجديد الانسان ويجعل حياته مقبولة لدى الله (5: 5؛ 7: 6؛ 8: 4). كان هناك تقابل بين المعنى الحرفي في الشريعة (العهد القديم) والمعنى الروحيّ، ولكن الشرّاح تركوا مثل هذا التمييز. ونلاحظ هنا التعارضات: في الظاهر، في الباطن. في الجسد، في القلب. في الحرف، في الروح. كل هذا يعود إلى الختان. في الظاهر= في الجسد (أو في اللحم)= في الحرف (على مستوى الانسان). ثم في الباطن= القلب= في الروح (على مستوى الله).
هذا ما يشكّل انتقاد بولس لديانة وُلد فيها، وهي ديانة تشدّد على الظاهر والمنظور، على القرابة الجسديّة والطقسيّة، وبالتالي تنظر إلى الشريعة نظرة سطحيّة. فاليهوديّ الحقيقيّ، اليهوديّ الذي يمتدحه الله، لا يُقاس على مستوى الجسد والمنظور والطقوس. هو انسان الخفاء والباطن، انسان القلب والروح.
لا نقرأ هذه التعارضات كدفاع عن ديانة باطنيّة، ولا كهجوم على عالم الطقوس، ولا كإبراز الخلقيّة على ما هو قانونيّ. فبولس يتطلّع إلى اليهود (في أيامه) الذين تماهوا مع مجموعة عرقيّة. ديانُتهم ديانة وطنيّة. فهموها فهماً سيّئاً بشكل سمات ظاهرة وطقوس منظورة تطبع اليهوديّ بطابعها. اتّهم بولس العالم اليهوديّ وهو يبحث عن مدلوله الحاسم. إن هو تطلّع إلى «اليهوديّ» و«الختان» و«الشريعة»، فهو لا يتنكّر لها بالنسبة إلى شعبه. بالنسبة إليه، هذه في قلب اليهود، وهو عمل يسمو على الانقسام القديم بين اليهود والأمم، ويجعل بدون فائدة الحدود بين اليهوديّ والوثنيّ. وإذ وجّه الرسول إلى محاوره كلاماً على الختان، وجّه كلامه في الوقت عينه إلى الأمم المسيحيّة التي فرحت بعطيّة الروح. في النهاية، اليهوديّ الاسكاتولوجيّ هو، في المسيح، الأمميّ واليهوديّ معاً.
3- خلاصة لاهوتيّة
اتّخذ البرهانُ منحًى ضيقاً (آ 25)، فعاد إلى موضوع الختان الذي كان أهمّ عمل داخل العهد بين الله ونسل ابراهيم. عملُ الختان جعل العهدَ عهداً أبدياً. والتخلّف عن الختان يعني نقض العهد. وتقوّت أهميّةُ الختان في الحقبة الهلنستيّة، كردّة فعل على محاربة الهلنستيّة لهذا الطقس. ومع المكابيين، صار الختانُ التعبيرَ الجوهري عن هويّة اسرائيل الوطنيّة وعن ديانته. وحتّى هيرودسُ الأدوميّ جعل للختان قوّة لا تُنقض. وقرّاء بولس وجدوا العلاقة الفكريّة بدون صعوبة: الختان أمر أساسيّ لكي يفهم اليهوديّ نفسه، وعلامة تميّز الدين، وإشارة إلى الامتياز الوطنيّ، وختم عهد الله من أجل اسرائيل شعبه المختار. والثقة بأن الختان يؤمّن الخلاص لليهوديّ، هي ثقة مُحاور بولس الذي يستند إلى رضى الله (آ 24).
مثل هذه الثقة الكاذبة يهاجمها بولس: فالختان في ذاته لا يقيم اختلافاً بين انسان وانسان. والختان لا يكفي لكي يؤمّن الخلاص لمن تجاوز الشريعة. فقد يكون تناقضٌ بين الختان وحفظ الشريعة، وهذا ما يُزعج اليهوديّ التقيّ. ففي نظر محاور بولس، الختان هو حفظ الشريعة. وهو العمل الأساسيّ في العهد وفي الشريعة. فمن رفض الختان استُبعد من العهد. فحين يُختَن الانسانُ تختلف علاقتُه بالله: إنّ حفظ الشريعة دلّ على طريقة حياة داخل العهد. ولكن بولس يرى الأمور رؤية مختلفة. فحين يتجاوز اليهوديّ الشريعة، يصبح في وضع لا يختلف فيه عن وضع الأمميّ الخاطئ (الذي احتُقر وحُكم عليه، 1: 19- 2: 3). صار ختانُه لاختاناً، وهذا اتهام يشكك اليهوديّ التقيّ. أشار بولس إلى اليهود الذين حاولوا أن يُخفوا ختانتهم في الحقبة المكابيّة، فصاروا خارج العهد. ذاك هو وضع اليهود في زمن بولس، حين يتجاوزون الشريعة.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا نجهل أن بولس يحافظ على قيمة الختان إن حفظ الانسانُ الشريعة. لا يتخلّى بولس عن فكرة العهد كعلاقة بين الله وخلائقه. كما لا يتخلّى عن عهد قطعه الله مع ابراهيم ونسله وختمه بالختان. لا شكّ في أن هناك تواصلاً بين الشريعة وانجيل بولس، والشريعة تبقى مهمّة في نظره وإن لم يكن ترادفٌ بين حفظ الشريعة والختان بالنسبة إلى اليهوديّ.
ويعود الرسول إلى النقطة عينها في آ 26: ما يُحسَب هو حفظُ الشريعة. فالأمميّ الذي يحفظ متطلّبات الشريعة يُعتبر مختوناً، وبالتالي عضواً في شعب العهد وإن لم يُختَن. ترك بولس ما يقوله تك 17: 9- 14؛ خر 12: 43- 49، فرأى المؤمنون في رومة أهمية البرهان بالنسبة إليهم. وخائفو الله الذين اعتادوا أن يؤمّوا المجامع، فرحوا لأنهم صاروا أعضاء كاملين في العهد، ومشاركين ملء المشاركة في بركاتٍ وعدَ به الله شعبه، دون أن يُفرَض الختانُ عليهم.
مع آ 27 يصبح الاتهام قاطعاً. نجد هنا أيضاً التعارض بين الأمميّ الذي يحفظ الشريعة، واليهوديّ الذي لا يحفظها. ذاك الذي لم يُختن أتمّ الشريعة. فاتمام الشريعة هو أكثر من عمل طقسيّ وأحكام خارجيّة (13: 8). وتجاه هذا، يبقى محاور بولس متجاوزاً للشريعة عبر الحرف والختان. حين يبقى اليهوديّ التقيّ على مستوى الختان وممارسة الطقوس، وحين يثق بالشريعة، فهو يخالف الشريعة. فما يُعَدّ «العمل بالشريعة»، صار في نظر بولس تجاوز الشريعة. وهكذا لن يحكم اليهوديّ على الأمميّ الذي لا شريعة له (2: 1- 3). بل الأمميّ الذي يُتمّ الشريعة بإيمانه وحياته هو الذي يحكم على اليهوديّ الذي يتجاوز الشريعة. هذا ما يكشفه الله من خفايا البشر في يوم الدينونة (2: 16). وهكذا انقلب الوضع على محاور بولس الذي صار متّهَماً بعد أن أراد أن يدين الأمم.
والسبب في هذا التبدّل المدهش وهذا الطرح اللاهوتيّ، نجده ملخصاً في آ 28- 29. فعبر ف 2، اتّضح أن بولس ينظر إلى مختلف مستويات حفظ الشريعة، ويتحدّث في النهاية عن الختان في معنيين مختلفين. ولكن ما هو الختان الذي يمكن أن يُعطى للأمم بدون ختانٍ حاضر؟ وكيف يكون الختان بالجسد وسيلة لتجاوز الشريعة؟ حين يُختن الانسانُ في اللحم، فهذا لا يعني أن الشريعة تمّت إن هي لبثت على هذا المستوى. فالختان الذي يريده الربّ، هو ختان القلب كما سمّاه الأنبياء ووعدوا به فتمّ بواسطة روح الله. إن ختان القلب حلَّ محلّ ختان اللحم، وما جاء يكمّله فقط، لأن حفظ الشريعة يستقلّ استقلالاً تاماً عن شريعة طقسيّة يعتبرها اليهودُ أساسيّة مع كل سلطة موسى وراءها.
وما اكتفى بولس بأن يحرّك الشريعة والختان من عالم الافتخار اليهوديّ الوطنيّ والثقة بالنفس. بل طرح سؤالاً جذرياً حول لفظ «يهوديّ». هاجم بولس مفهوم حفظ الشريعة المرتبط بعضويّة الأمّة اليهوديّة (هذا يعني «البرّ» الوطنيّ) فربط بين «اليهوديّ» و«الختان» و«الحرف» أو الشرع المكتوب. ما سمح بولس لهذا الفهم الخاطئ لبرِّ عهد الله أن يحتفظ حتّى بلقب «يهوديّ». لا بدّ من إعادة تحديد أحكام الختان بحيث يصبح العملُ الخارجيّ غير ضروريّ. وكذلك تحديد لفظ «يهوديّ» بحيث لا نتوقّف عند ما يراه الناس، بل نصل إلى ما يكشفه الله من خفايا القلب. وهكذا نرى أن بولس لم يرذل العناصر الأساسيّة في فهم اليهود لأنفسهم، بل هو يؤكّدها ويطلب تجديدها بحيث يدخل فيها اليهوديّ والأمميّ كواقع للذين سمعوا هذا الكلام في جماعة رومة.
خاتمة
أرادت هذه الآيات أن تتحدّث عن اليهوديّ الحقيقيّ. فبعد أن ذكر الرسول امتيازات شعب اسرائيل وخطيئته، طَرح أسئلة: من هو شعب اسرائيل؟ من هو الشعب المختار؟ ما معنى هذا التذكّر القديم لتاريخ مجيد في رفقة مع الله؟ لا شكّ في أن الختان الذي هو العلامة الأولى للانتماء إلى الشعب، ليس بالشيء القليل. ولكن إن لم يكن لليهوديّ سوى العلامة الخارجيّة، فماذا ينتفع؟ بل هو يحتقر العهد، ويفتخر بالشريعة، لا بالله. يجعل افتخاره في اللحم والدم، لا في رجاء الانسان الجديد. مثلُ هذا المختون يحمل ظاهر الختان، يحمل علامة كاذبة. فالعمل هو الأهم. واللامختون الذي يحفظ الوصايا يكون كأنه مختون. فالشريعة والعهد والاختيار تنتظر ارتباط الشخص كله بالله، ولا تكتفي برباط خارجيّ. أما هذه النظرة الروحيّة فتتجسّد في طاعة الإيمان، في أمانة تامّة تشعّ فرحاً، ولا تحسب حساباً لما تطلبه الوصايا. فمن عاش هكذا لا يحتاج أن يبرّره البشر. فبرّه من الله تعالى الذي يجازيه بحسب أعماله.ِ