الفصل الثامن: يا من تسمّي نفسك يهوديّاً

الفصل الثامن
يا من تسمّي نفسك يهوديّاً
2: 17- 24

بين العمل بأحكام الشريعة والختان، يعود الرسول إلى الجدال مع «اليهوديّ» الذي يسمّيه بشكل صريح، لا ضمنيّ. كان قد قال إن الأمم تصنع ما في الشريعة. وها هو يقول إن اليهود يتجاوزون الشريعة. غير أن هذا الاتّهام يبدو أكثر تشعّباً. فاليهوديّ الذي يتوجّه إليه بولس، ليس شخصاً فرداً ولا مجموعة من اليهود، بل هو اليهوديّ بشكل عام، اليهوديّ الواعي أنه من شعب خاص تميّز بالشريعة، أنه مختار من قِبَل الله وينتمي إلى شعب يختلف عن سائر الشعوب. واليهودي الذي يتّهمه بولس بالزنى والسرقة، ليس شخصاً فرداً، بل الشعب بشكل عام. فبولس يتذكّر الوصايا بحيث لا يعود اليهوديّ يفتخر بامتيازه وتفوّقه على الأمم، قدّام الله. ترك بولس وضع اليهوديّ كيهوديّ، ونظر إلى البشريّة بشكل عام، إلى اليهوديّ وإلى الأمميّ معاً (2: 9- 11).

1- دراسة النصّ وبنيته
مع 2: 17- 24، صارت هويّة مُحاور بولس واضحة. هو يهوديّ نموذجيّ يعرفه بولس من الداخل. وأسلوب الجدال الذي بدأ في آ 1 ي، يعود الآن فيقود اليهوديّ «إلى بيته» لينتقد اعتدادَه. يدلّ التفصيل أن الرسول لا يريد أن يتّهم اليهود، بل أن ينزع افتخارهم القائل بأن وضعهم كشعب شريعة الله يجعلهم في وضع مميّز بالنسبة إلى سائر البشر. فإذا اقترف اليهوديّ خطيئة يتّهم بها الآخرين، فالحكم يقع عليه أيضاً. الأمميّ الذي ليس له شريعة فيحفظها، ليس أقلّ من اليهوديّ الذي له شريعة ولا يحفظها. هو لا يجهل أن الشريعة كمقياس خلقيّ هي ما يُؤمر بها هنا (آ 21- 23)، كما لا نجهل كلام بولس على شريعة تريد أن تدلّ على اليهود وكأنهم فئة مميّزة عن سائر البشر (آ 25- 29).
على مستوى البنية، هذا المقطع يقع في جزئين (آ 17- 20. ثم آ 21- 23) مع آ 24 بشكل خاتمةٍ تُثبت البرهان الكتابيّ. إن آ 17- 20 بُنيت في شكل مزدوج: الأول في فعل والثاني في عبارة. وينتهي الاثنان في جملة مع اسم الفاعل
يا من تسمّي نفسك يهودياً
وتتّكل على الشريعة وتفتخر بالله
وتعرف مشيئته وتميّز ما هو الأفضل
بما تعلّمته من الشريعة.
وتعتقد في نفسك أنك
قائدٌ للعميان ونور لمن في الظلام
ومؤدّب للأغبياء ومعلّم للبسطاء
لأن لك كمال
المعرفة والحقيقة
في الشريعة.

كل «بيت» ينتهي بالشريعة، ويجعلنا الكاتب نرى الفكرة غير كاملة. هذا ليس ما يطلبه اليهوديّ من الشريعة، بل تمثُّلٌ يعبِّر عن نظرة اليهوديّ الرفيعة إلى الشريعة. أما الجزء الثاني (آ 21- 23) فيرد في أسئلة بلاغيّة مع اسم الفاعل (معلّم، مبشّر، قائد) مع ذروة تعود بنا إلى الشريعة (آ 23).

2- تحليل النصّ الكتابيّ (2: 17- 24)
نقرأ هنا ثلاثة مقاطع فيها يتوجّه بولس إلى اليهوديّ، ليجعله أمام مسؤولياته. هو يسمّي نفسه، يعتبر نفسه (آ 17- 20). ولكن يجب أن يعتبره الله. هو يريد أن يعلّم غيره ولا يعلّم نفسه (آ 21- 23). لذلك يَحكمُ عليه الكتاب (آ 24).
أ- يا من تسمّي نفسك (آ 17- 20)
«وأنت» (آ 17). الفعل «إبونومازوماي» لا يرد إلاّ هنا في العهد الجديد. «تسمّى». «اليهوديّ» في الأصل، هو ابن مملكة يهوذا في لغة الغرباء. ومع الوقت، دلّ على كل يهوديّ، فحلّ اللفظُ محل «الاسرائيليّ» أو «العبريّ». وهكذا يتميّز اليهوديّ عن الأمميّ أو عن غير اليهوديّ (1: 16؛ 2: 9- 10؛ 3: 9؛ 29؛ 1 كور 1: 22- 24). رج 2 مك 2: 21؛ 8: 1؛ 14: 38 مع دلالة على ديانة اليهود الوطنيّة الواعين لنفوسهم والمتعلّقين تعلّقاً كبيراً بالشريعة والتقاليد اليهوديّة. وهكذا افتخر معاصرو بولس، باسمهم اليهوديّ هذا، ووعوا تميّزهم عن سائر الأمم. إلى هؤلاء تكلّم بولس، فذكر يهودياً واحداً وكأنه المثال لكل اليهود. في «أعمال يوحنا» يتميّز اليهود عن المسيحيّين. أما هنا، فيتميّزون عن الأمم. إن بولس يتوجّه إليهم بشكل إجمالي، ولا يتوقّف فقط عند الرؤساء في الجماعات اليهوديّة، كما قال بعض الشرّاح.
«تتّكل» (إبانوباوو). المعنى الأساسيّ: ارتاح، وجد أساساً وسنداً، رضي. ذاك هو موقف اليهوديّ تجاه الشريعة. فامتلاكُها يدلّ دلالة أكيدة على رضى الله. ومع الشريعة، هناك طريقة حياة خاصة (غل 1: 14؛ فل 3: 6) تميّزُ اليهوديّ عن غير اليهوديّ، فتعطي اليهوديّ ثقة بنفسه. هذا ما يهاجمه بولس (2 با 48: 22- 24). «تفتخر». (كاوخاوماي). هناك أولاً المعنى السلبيّ. وهناك أيضاً افتخار مبرّر (مز 49: 6؛ 149: 5؛ سي 11: 4؛ 30: 2). نجد 37 استعمالاً للفعل في العهد الجديد، منها 35 في الرسائل البولسيّة. لا ينتقد بولس الافتخار بالله، بل قول اليهوديّ بأن الله هو له وحده (3: 27- 29). وهكذا يُصبح معنى الفعل سلبياً (2 كور 5: 12؛ 11: 18).
«مشيئته» (آ 18). نحن هنا في إطار يهوديّ مع «تاليما». معرفة ما يريد الله هي هدف التقوى اليهوديّة (مز 40: 8؛ 143: 10؛ ق وص يساكر 4: 3). أما بولس فيفكّر في 2 مك 1: 3- 4. هو لا ينتقد الرغبة في صنع مشيئة الله. فهذا أمرٌ أساسيّ بالنسبة إليه (1: 10؛ 15: 32). بل ينتقد معرفة مميّزة تعلّمُها الشريعة. رج با 4: 4: «هنيئاً لنا، نحن اسرائيل، لأننا نعرف ما يرضي الله» (رج حك 15: 2- 3؛ 4 عز 8: 12). أما في نظر بولس، فهذه المعرفة ممكنة على مستوى عميق عبر قلب تحوّل تحوّلاً عميقاً (12: 2).
«تميّز». توافق. تعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ. رج فل 1: 10. التمييز بين ما هو جوهريّ وما ليس بجوهريّ. تطلّع بولس إلى اليهوديّ الذي يعود إلى الشريعة ليجد الجواب. ولكن الشريعة لا تكفي. «كاتيخيو»، علّم. يشير الفعل إلى التعليم اليهوديّ، إلى الفقاهة. فمعرفة إرادة الله والسلوك الحياتي ترتبط بتعلّم الشريعة ولا سيّما في المجمع (يوسيفوس، ابيون 2: 183). نحن أمام تماهٍ بين الشريعة والشعب، وهذا ما يرفضه بولس.
في آ 19- 20 تتوالى جملٌ تميّزُ موقفَ اليهوديّ النموذجيّ في نظر بولس، كما في المصادر اليهوديّة. وينظر الرسولُ إلى يهود الشتات (مع العمل الرسوليّ والدفاعيّ) لا إلى يهود فلسطين. يتكرّر هذا أربع مرّات للتمييز بين من مُيّز كثيراً ومن مُيّز قليلاً، لا على مستوى الاختيار أو عهد الله وأمانته. مثلُ هذا التمييز بين العهد والشريعة، ليس تمييزاً حقيقياً. فشريعةٌ تشير إلى كل أهداف وجود اسرائيل، هي العهد. ولكن، في نظر بولس، تماهت الشريعة مع شعب الله ككيان وطنيّ، مع سمات وطنيّة مميّزة تمنع العهد والوعد من الانفتاح على الأمم. هذه الجُمل تعبّر عن وضع مميّز ضد الأمم، لا عن مسؤوليّة تجاه الأمم.
«تعتقد». تثق. ما قال بولس «تعرف»، لأنه يرى في موقف اليهوديّ اعتقاداً شخصياً، لا معرفة من عند الله (2 كور 10: 7). «قائد العميان». رج إش 42: 7؛ ق 1 أخن 105: 1؛ سيب 3: 195. «نور لمن في الظلام». رج إش 42: 6- 7؛ 49: 6. وهذا النور يأتي من الشريعة (مز 119: 105؛ حك 18: 4). «مؤدّب». نحن هنا على مستوى الأدب اليهوديّ المعاصر الذي قرأ هو 5: 7؛ سي 37: 19؛ مز سل 8: 29؛ 4 مك 5: 34. وخصوصاً قمران، نج 3: 13؛ 8: 11- 13؛ مد 2: 3؛ 4: 27- 29. «مورفوسيس». أي التعبير الكامل. رج سي 17: 11؛ 45: 5؛ با 3: 36.
ب- يا من يعلّم غيره (آ 21- 23)
الجمل الأربع في آ 21- 22 تبدو بشكل أسئلة (ويمكن أيضاً أن تكون تأكيداً). والبرهان الكتابيّ يأتي في آ 24، فيرتبط بالجملة الخامسة (آ 23). طرحت هذه الآياتُ أسئلة على الشرّاح، لا سيّما وأن الخلقيّة اليهوديّة اجتذبت عدداً من المهتدين وخائفي الله. ولكننا لن نستنتج أن بولس ينطلق من بعض الحالات فيضخّم أو يُعمّم بحيث يحكم على الأمّة اليهوديّة كلها. أو أنه يفكّر بيسوع الذي «رَذل» اليهود. نحن أمام طريقة بلاغيّة معروفة (اش 3: 14- 15؛ إر 7: 8- 11؛ حز 22: 6- 12؛ لو 11: 39- 52؛ مت 23: 1 ي). رج مز سل 8: 8- 14؛ وص لاوي 14: 4- 8. هو تقليد يحمل التوبيخ والارشاد. بما أن هناك بعض اليهود يعملون ما تحرّمه الشريعة، فهذا ما يدمّر ثقة اليهود بأنهم مميّزون وبأنهم يتفوّقون على غير اليهود لأنهم شعبُ الشريعة (3: 3).
نجد في آ 21- 22 ثلاثة اتّهامات تنطلق من الوصايا العشر (خر 20: 15، 14، 4- 5؛ تث 5: 19، 18، 8- 9)، ولا ترتبط بشعائر العبادة مثل الختان أو الأطعمة. هذا يعني تمييزاً بين الوصايا العشر وشرائع العبادة. سيتحدّث بولس عن اليهود «اللامختونين» (آ 25- 29). أما هنا فيتوقّف عند الحياة الخلقيّة النابعة من القلب. «الأصنام». هي رجس. رج اش 2: 8، 20؛ دا 11: 31؛ 1 مك 1: 54؛ حك 14: 11. «بدالغما». هناك حرب يهوديّة على عبادة الأصنام (1: 23). وهنّأ المعلّمون أنفسهم بأن الشرك اقتُلع من اسرائيل. «وتنهب». أي تنجّس، تنزع عنها الطابع القدسيّ. رج وص لاوي 14: 5؛ مز سل 8: 12. هذا كلام عن سرقة هيكل أورشليم. أما بولس فيتحدّث عن سرقة الهياكل بأصنامها.
«تفتخر بالشريعة» (آ 23). رج سي 39: 8. يعود الرسول إلى الشريعة مع قمّة الاتهامات والعودة إلى الافتخار بالشريعة، لا بالتبرير (آ 17). هم يفتخرون بها، لأنهم يجدون فيها علامة عن رضى الله. ويصبح الافتخار عرضة للنقد حين يفتخر اليهودي على من لا شريعة له. بعد الأسئلة الأربعة، نصل إلى قولٍ يمنعنا من التنكّر للأسئلة السابقة. نلاحظ هنا أن بولس يؤكّد أن تجاوز الشريعة يحقّر الله، وحفظ الشريعةُ يكرمه. وهكذا يكرّر بولس أن العمل بالشريعة أمرٌ مرغوب وضروريّ (2: 13). وانتقادُه لمحاوره يحاول أن يُفهمه أن الافتخار بالشريعة نتج عن عدم العمل بما تطلبه الشريعة.
ج- فالكتاب يقول (آ 24)
عاد بولس إلى الكتاب كما في 1: 17 ليُسند برهانه. رج إش 52: 5. قال النصّ العبريّ: «اسمي يُهان كلّ يوم بلا انقطاع». والنصّ اليونانيّ: «بسببكم يُهان اسمي وسط الأمم». أضاف اليونانيّ «بسببكم» ثم «بين الأمم»، فاستفاد بولس من الإضافة ليعطي كلامَه قوّة كبيرة. نحن هنا أمام حكم قاسٍ، قاطع. رج حز 36: 17- 23. سقوط اسرائيل في أيدي الأمم الوثنيّة (كنتيجة خطيئة اسرائيل) جعل إله اسرائيل يُحتقَر وسط الأمم. رج وص نفتالي 8: 6. إذا امتدّ البرهان إلى 3: 27- 30، يصبح تفسيرُ بولس لهذه المقاطع تفسيراً اسكاتولوجياً. ولم نعد فقط أمام أعمال تتجاوز الوصايا، بل أمام موقف من الشريعة عبّرت عنه الآياتُ السابقة، وقادت إلى احتقار مخطّط الله لاسرائيل وللأمم. ونتج عن هذا نظرةٌ إلى الله على أنه إله أمّة صغيرة، لا إله الكون (3: 29). وهكذا ما أُكرِم الله، بل احتُقِر وجُدِّف على اسمه.

3- خلاصة لاهوتيّة
بدأ بولس في آ 17- 20، فتحدّث عن افتخار وطنيّ لدى اليهوديّ. فمحاورُه يفتخر باسم «يهوديّ»، ويثق بامتيازه على أنه يهوديّ، ويعي مسؤوليّاته تجاه الذين لم ينعموا مثله بهذا الامتياز. وارتكزت ثقتهُ على أنه أعطيَ الشريعة، فجعل رجاءه في الشريعة. أما حسّ الطمأنينة عنده فيتأسّس على الشريعة. هو لا يفتخر بالله لأنه إله الكون، بل لأنه إله اسرائيل، لأنه الاله الذي اختار الأمّة اليهوديّة اختياراً خاصاً. وهكذا وضح أن «اليهوديّ» ارتبط بالشريعة وبامتلاكه للشريعة وبموقعه المميّز. كل هذا يدور حول افتخار بأنه شعب الشريعة. ينطلق اليهوديّ من الشريعة ليجد الأجوبة على تساؤلاته: ماذا يريد الله منا؟ بما أن الشريعة تتضمّن كلّ شيء، تأكّد اليهوديّ أنه قائد العميان ونور الذين في الظلام ومعلّم أولئك الذين ما امتلكوا شريعة فبدوا جهلةً وبسطاء.
ذاك هو صوتُ اليهوديّ الأصوليّ: يرى في الشريعة علامة رضى الله المتواصل على اسرائيل. يعتقد أن الشريعة هي، بكل بساطة، كلمة الله. ليست شرعة ولا دستوراً. وليست فقط قاعدة يُعمل بها خارج الحياة اليوميّة، بل هي «كتاب» من أجل الحياة اليوميّة كلِّها. تعلّمها المؤمن فما شكَّ بمشيئة الله. وجاء الجواب واضحاً في ما يمكن أن يكون موضع جدال. وبما أن له الشريعة، فهو في موقف يجعله فوق الأمم. لا ينكر بولس أن يكون هذا القولُ شرعياً. ولكن ما يتضمّنه الجدال هو: هل يُقال هذا عن اليهوديّ لأنه يهوديّ؟ هل يقال عنه ذلك لأنه من الشعب المختار؟ هل يُقال عنه لأنه يمتلك الشريعة؟ كما يتضمّن الجدالُ أن اليهوديّ ما لعب الدور الذي يجب أن يضطلع به شعبُ اسرائيل، بل خطئ وما فهم إرادة الله. افتخر بالله فأضاع الطريق، ووثق بالشريعة ثقة كاذبة. فوصل إلى حائط مسدود. وعرف قرّاء بولس أن تمييز مشيئة الله وسائر الأولويات لا تُقرأ في التوراة، بل في انفتاح على الله وروحه (12: 2؛ فل 1: 9- 10). وأن المسيح هو حكمة الله، لا الشريعة (1 كور 1: 24- 30). وأن اسرائيل لن يقوم بدوره كقائد العميان ولن يكون النور للذين في الظلام إلاّ بواسطة الانجيل (1 كور 4: 5؛ 2 كور 4: 6). مثلُ هذا الدور رفضه اليهوديّ حين رفض الانجيل والمسيح. هذا سيكون أوضح في آ 25- 29، وإن ظلَّ على المحك حقّ المحاور بالاسم «اليهوديّ».
ولكن بولس سعى بأن يُفرغ هذا الافتخار (آ 21- 23) باتهامات أربعة. أنتم أكيدون بأن لكم الشريعة بحيث تعلّمون الآخرين (الأمم). فهل تعلّمون أنفسكم؟ هل اجتهدتم لكي تفهموها؟ فحين يتكلّم اليهوديّ عن الأمّة اليهوديّة، فهو لا يفهم شريعة يفتخر بها ويثق، وإن هو فهم فعلى مستوى ضيّق بحيث يُضيع غناها الحقيقيّ. ثم إن اليهود عاشوا في تعارض مع الشريعة. فلا يكفي أن نرتاح في الشريعة، أن نتعلّم الشريعة، أن نحسب أن لنا فيها المعرفة والحقيقة. تقول الشريعة: لا تسرق، واليهوديّ يسرق. تقول الشريعة: لا تزن، واليهوديّ يزني. هذا يعني أن الافتخار بالشريعة ليس في محلّه. واليهوديّ كيهوديّ ليس أفضل من الأمميّ. فسوف يُحكم على خطيئة اليهوديّ كما يُحكم على خطيئة الوثنيّ (آ 12).
في آ 24 يرد إش 52: 5 مع تلميح إلى حز 36: 20- 23. فالمنفى اليهوديّ وما سبقه من سلوك في الحياة اليوميّة، جعله أمراً لا مفرَّ منه، كما جعل الأمم تحتقر اسم الله. افتخر شعبُ اسرائيل بأنه الأمّة المختارة، واطمأنّ بعهد أعطاه الله. ولكن الأرض خربت، وأورشليم دُمّرت، ومضى الشعبُ إلى المنفى. فاحتقر الأممُ الله بعد أن هُزمت أمّته: فهو ما استطاع أن يخلّص شعبه. وقد رأى بولس توازياً بين وضع يعيشه الشعبُ اليوم ووضع عرفه إشعيا وحزقيال. فاليهوديّ ما زال مطمئنّاً بأنه الشعب الذي اختاره الله، فشدّد على أنه تميّز عن الآخرين حين امتلك الشريعة. وكما بيّن المنفى نتائج هذا الافتخار، فتجاوزاتُ اليهود اليوم تجعل الأمم يستخفون بالله الذي اختار مثل هذا النسل. ما فهم بنو اسرائيل ما يعني العهد، واليهود في أيام بولس اكتفوا بأن يكونوا يهوداً وبأن يمتلكوا الشريعة.

خاتمة
بعد أن تحدّث بولس عن الوثنيّين بالنسبة إلى موقعهم من الشريعة ومن دينونة الله، توجّه في آ 17- 24 إلى اليهود، فشدّد على كرامتهم، كما أبرز خطيئتهم، وفي النهاية أعلن من هو اليهوديّ الحقيقيّ: لا ذاك المختون في اللحم، بل في القلب. أجل، لا يستطيع اليهوديّ أن يفتخر بالرغم ما نال من امتيازات. وذلك مع أنه وعى اختيار الله له اختياراً جعله عضواً في الشعب الفريد الذي اختاره الله من بين جميع الشعوب. غير أن اليهود افتخروا بأعمالهم، لا بعمل الله فيهم. استندوا إلى شخصهم، إلى برّهم الخاص، فكانت تلك الكبرياء المكتفية بذاتها أساس الخطيئة. لا، لا يكفي أن نعرف مشيئة الله ونتجاوز الوصايا. ولا يكفي أن يفتخر اليهودي أنه يمتلك الشريعة، وأنه يمارس الختان. فأعماله تجعل الناس يجدّفون على اسم الله بسببه. كان على اليهوديّ أن يكون النور الذي يشهد لله. فإذا هو لا ينير، بعد أن صار شاهداً كاذباً وسبب معثرة للوثنيين. في كل هذا، بدا كلامُ بولس في خط ما قاله الأنبياء ولا سيّما اشعيا: هذا الشعب يكرمني بشفتيه، ولكن قلبه بعيد عنّي.ِ

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM