الفصل التاسع عشر: خيانة يهوذا

الفصل التاسع عشر
خيانة يهوذا
22: 1- 6

بعد أن صوّر لوقا رسالة يسوع في هيكل أورشليم (19: 28- 21: 38)، بدأ جزءاً آخر مهماً من إنجيله. ففي هذا الجزء سيصل يسوع إلى ذروة "خروجه" (اكسودوس، 9: 31). كما أنه سيبدأ "صعوده" إلى الآب. في هذه النقطة، يلتقي لوقا مع الإنجيليين الثلاثة الآخرين، فيقدّم خبر الآلام (22: 1- 23: 56 أ) بطريقته الخاصة. فهذا "الصعود" بدأ يتمّ في خبر القيامة (23: 56 ب- 24: 53). حتى الآن، صُوّر يسوع وهو يمارس عمل التعليم بشكل حصري في الهيكل. مع ف 22- 23، ستكون مسيرته في مدينة أورشليم أو في جوارها.
1- نظرة عامة
منذ الآيات الأولى في ف 22، يبرز عنصران رئيسيان في خبر الآلام: الفصح والشيطان (آ 1- 3). أما موضوع هذه القطعة فهو تسليم (باراديدستاي) يسوع (آ 4- 6) على يد الخائن الذي هو من عداد الاثني عشر. ويكون تأثير هذا الخبر قوياً علينا، لا سيّما وأن لوقا لا يورد في هذا الموضوع المسح بالطيب في بيت عنيا كما فعل كل من متّى (26: 6- 13) ومرقس (14: 3- 9) ويوحنا (12: 1- 8). إن ما يوازي هذا النصّ موازاة بعيدة عند لوقا، هو خبر الخاطئة التي جاءت إلى بيت سمعان فغفر لها الربّ (7: 36- 50).
عيد الفطر هو بداية آلام يسوع، وبداية آلام الكنيسة. ففي هذا العيد أوقف الملك هيرودس (أغرببا الأول. وابن أخ هيرودس انتيباس الذي يتحدّث عنه لو 22: 8- 12) بطرس (أع 12: 1- 4) "وكان ينوي أن يعرضه للشعب بعد عيد الفصح" من أجل المحاكمة.
عيد الفطر هو عيد "الخبز بدون خمير". كانوا يأكلون الفطير "سبعة أيام" للاحتفال بفصح الربّ (لا 23: 5- 6؛ عد 28: 16- 17). هذا العيد الذي يسبقه استبعاد الخمير من البيوت، كان يبدأ في عيد الفصح الذي فيه يذكّرهم الحمل المذبوح، المشوي والمأكول، بالخروج من مصر والتحرّر من العبودية (حز 12: 1- 27). كانوا يحتفلون بالفصح في ليل 14- 15 نيسان (يقابل 15 أذار- 15 نيسان في الروزنامة التي نستعمل)، في ملء القمر (البدر). فكان العيد مناسبة وعي مسيحاني، ولهذا كان ينتهي مراراً بثورة سياسية. هذا ما يرويه لوقا في 13: 1- 2، وكيف أن بيلاطس مزج دماء الذابحين بدماء ذبائحهم.
لا شكّ في أن "عظماء الكهنة والكتبة" يريدون أن يتجنّبوا مثل هذا الانقلاب الشعبي. فلوقا يلاحظ أنهم "كانوا يخافون الشعب" (آ 2 رج 20: 19؛ أع 5: 26). فالشعب يمشى مع يسوع، ويستمع بفرح إلى كلامه (21: 38). ويلاحظ لوقا أيضاً أن يهوذا (يوضاس) يحاول أيضاً أن يسلمه دون أن يكون الجمع على علم بذلك، دون أن يتدخّل الجمع (آ 6). إن هذه المقدمة الاحتفالية تعلن الإطار الفصحي الذي فيه يتسجّل خبر الحاش والآلام.
لم يتكلّم لوقا بعد عن الشيطان (ساتاناس) (رج 10: 18؛ 11: 18؛ 13: 16) خلال تجارب يسوع، بل عن "إبليس" (4: 2، 3، 5، 12). غير أنه كان قد أعلن عن عودة المجرّب (4: 13: بعدما جرّبه، فارقه إلى حين). نشير هنا إلى أن ابليس يعني: المفتري. والشيطان هو: المتهّم، الحاجز.
غاب الشيطان بعد التجارب، وها هو يظهر الآن (رج يو 13: 2- 27). وفي نظر لوقا، هذا الشخص "السّري" هو الذي يحرّك كل الخيوط. فهو "يشرف" على محاولة "تسليم" يسوع. وهذه المحاولة هي محاولة شيطانية: ينفّذها أولاً يوضاس (22: 4، 6، 21، 22- 48)، ثم بيلاطس (23: 25) وعظماء الكهنة (24: 20؛ رج 22: 52- 53). إن لوقا يرى في الآلام آخر مجهود يقوم به الشّرير ضدّ مخطّط الله.
2- دراسة تفصيلية
أ- عيد الفطير (آ 1- 2)
عيد الخبز الفطير، المسمّى الفصح. ماهي لوقا بين هذين العيدين المنفصلين في الأصل (رج مر 14: 1: الفصح وعيد الفطير). إن فريضة الحجّ في هذا العيد السنوي تفسّر حضور الجموع الكبيرة من الناس في أورشليم. رج 22: 6، 47؛ 23: 4- 48. إن العلاقة بين هذه الأحداث التي ستقع وعيد الفصح، تجد لها صدى على هامش الكتاب في عودة إلى يسوع محفوظة في تلمود بابل، في برايتا (برانية، جاءت من الخارج وزيدت على تقليد المشناة، تعود إلى القرن 3 ب. م.). يتحدّث هذا النصّ عن يسوع الذي مارس السحر، وقاد إسرائيل إلى الجحود. كان له تلاميذ، وقادهم زمن الفصح.
"كان يقترب". يحدّد مر 14: 1: قبل الفصح بيومين. بدّل لوقا كلام مرقس، واكتفى بالحديث عن "اقتراب". فهو يهتمّ بأن يجعل خبر يسوع أوسع ما يكون في التاريخ، لا في إطار ضيّق.
"رؤساء الكهنة والكتبة". نحن أمام سلطات أورشليم على ما في مر 14: 1. قد ذُكرت هاتان الفئتان في 19: 47- 48. في 20: 1، 19 نجد "الشيوخ" أيضاً. وتجاههم يقف "الشعب" (لاوس). رج آ 2 ج، 6. قال مر 14: 1: "يمسكون يسوع بحيلة ويقتلونه". أما لوقا فخفّف من حدة الكلام والصورة: وسيلة بها يبعدونه، يرذلونه (انايرين. يرد هذا الفعل هنا للمرة الأولى). "كانوا يخافون الشعب". هذا ما سبق وقاله لوقا في 20: 19.
ب- ودخل الشيطان في يهوذا (آ 3- 6)
مع أن الشيطان ذُكر في 10: 18 (رأيت الشيطان هابطاً من السماء كالبرق)؛ 11: 18 (إنقسم الشيطان على نفسه): 13: 16 (ربطها الشيطان منذ 18 سنة)، فلوقا يتحدّث عنه هنا مع تلميح إلى 4: 13 حيث سقي "إبليس": فبعد أن جرّب يسوع، ابتعد عنه حتى الوقت المحدّد. وها هو يعود الآن بشكل واضح كتفسير لسقوط واحد من الاثني عشر، وكسبب يشرف بشكل مريع على خبر الآلام. نقرأ في 22: 31: الشيطان طلب أن يغربلكم. وفي آ 53: هذا لسلطان الظلمة.
إن عبارة "دخل الشيطان" ترد في يو 13: 27 (رج 13: 2). هناك اعتقاد بدائي يقول إن الشيطان يدخل في إنسان أو في حيوان. رج مر 5: 12- 13؛ لو 8: 30- 32 (مجنون الجراسيين). ونقرأ في استشهاد أشعيا (كتاب منحول، 3: 11): "دخل بليعال في قلب منسّى، وفي قلب أمراء يهوذا وبنيامين والخصيان ومستشاري الملك".
يهوذا (أو: يوضاس) المدعو الاسخريوطى. رج 6: 16. أصله من قريوت (يش 15: 25: عا 2: 2). هو الكذَّاب. رج خرّط في العربية. وقد يعود الاسم إلى اللاتينية. حامل "سيكا" أي الخنجر الصغير. وهكذا يكون يهوذا من جماعة الغيورين الذين يرفضون بشكل حادّ السيطرة الرومانية على البلاد. "كان من عداد الاثني عشر". إختاره الرب، كما اختار بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا.
"مضى وفاوض" (آ 4). دخل في "معاهدة" مع عظماء الكهنة وضبّاط الهيكل لكي يسلم يسوع إليهم. بالنسبة إلى رؤساء الكهنة، رج 9: 22 ودور هذه الفئة في المجلس الأعلى. سوف يُذكرون مراراً في لو. وبدلا "الكتبة" (آ 2) نجد هنا "ستراتيغوس" (الضبّاط، رؤساء الحرس) الذي سيرد أيضاً في 22: 52 (رؤساء كهنة وقادة حرس). إرتباطهم بالهيكل واضح وهو يدلّ على وظيفتهم. في أع 4: 1؛ 5: 24، 26، يتحدّث لوقا عن "ستراتيغوس" (في صيغة المفرد) الذي قد يدلّ على رئيس حرس الهيكل، كما نجد في "قديميات" يوسيفوس. عُرفت هذه الوظيفة في التقليد الراباني (سفن ها- كهنيم، أو: الضابط في الكهنة). هؤلاء "القوّاد" الذين يتكلّم عنهم لوقا في آ 4، 52، هم حرّاس الهيكل، وقد عُرف سبعة منهم يهتمّون بتنظيم الداخلين إلى الهيكل. يبدو أن دورهم كَبُرَ مع الأيام، بحيث أدخلهم لوقا في المفاوضة مع يهوذا من أجل قبض المالي وتسليم يسوع.
"يسلّمه إليهم" (باراديدوناي). تظهر هذه الكلمة في 9: 44 (الانباء الثاني بالآلام): 18: 32 (الانباء الثالث)؛ 21: 12، 16 (عن التلاميذ)؛ رج أيضاً 22: 6، 21، 22، 48؛ 23: 5؛ 24: 7، 20.
"ففرحوا" (آ 5). هذا الفعل نجده أيضاً في مر 14: 11. "يعطوه فضّة". تبع لوقا مر 14: 11. ولكن مت 26: 15 حدّد وحده قيمة المال: "ثلاثين من الفضة". حين نعرف ردّة فعل لوقا على المال (مامون، إله ثابت. يُعبد) وعلى الممتلكات المادية، يتَّخذ هذا التفصيل معناه الزميم. إنه يدلّ على العنصر الشيطاني في الشّر الذي يقترفه يهوذا.
"أخذ يترقّب فرصة". نجد هنا معارضة بين "المعاهدة" وبين المجهود المتواصل لكي ينفّذ هذه المعاهدة بالتفصيل. "فرصة مناسبة". فيهوذا لا يعرف أين يأكل يسوع الفصح مع تلاميذه. "بمعزل عن الجمع". رج 19: 48؛ 20: 26.
3- بداية الآلام الخلاصية
أ- المقدمة (آ 1- 2)
إن أول حدث لخبر الآلام لدى لوقا هو حاشية حول مؤامرة رؤساء أورشليم ضدّ يسوع (آ 1- 2). ويتبعه حالاً ما هيّأه هؤلاء الرؤساء مع يهوذا (آ 3- 6). هذه الآيات الأولى تطنّ في آذاننا في شكل مريع ينذر بالشرّ. وتدلّ على أننا نبدأ هنا قسماً جديداً من الإنجيل.
تبدو هذه الحاشية اللوقاوية شكلاً تدوينياً لما في مر 14: 1- 2. ويمكن أن تُقابَل مع الشكل الموسّع لمقدّمة متّى لخبر الآلام (26: 1- 5). فحتى الشّراح الذين يظنّون أن لوقا عاد إلى "رواية" مستقلة وغير مرتبطة بمرقس، ينسبون هذه الآيات (آ 1- 6) إلى المرقسيات (أي الأمور الخاصة بمرقس). إذن، ارتبط لوقا ارتباطاً كلياً بمرقس، واستعمل فعله المفضّل "انغيزاين" (في متناول اليد، صار قريباً) في آ 1، بدل "كان" في مر 14: 1. وأدخل أيضاً السؤال غير المباشر (آ 2). وألقى تفصيلاً مرقسياً حول "لا في عيد الفصح" لأنه اعتبر أن هذا الخبر (وإن تبع مرقس) يصوّر القبض على يسوع الذي يحدث في ذلك اليوم. وألغى لفظة "بحيلة".
لم يطبّق أصحاب المدرسة النقدية نظريتهم على رواية الحاش والآلام، لأنهم اعتبروها أولانية. ولكنهم عادوا فاعتبروا أنهم يستطيعون أن يحلّلوا بشكل مماثل هذه الأقسام من التقليد الانجيلي. وذلك مع أن معظم الأحداث هي جزء من التقليد الاخباري، هي أخبار عن يسوع. غير أن ما زاده لوقا قد يقع داخل مقولات أخرى. فمؤامرة الرؤساء وخيانة يهوذا اللتان تبدآن خبر الحاش، تتضّمنان "خبراً تاريخياً". هنا نجد ردّاً على الذين قالوا إن خيانة يهوذا (يوضاس) هي اختراع من المسيحية الآتية من العالم الوثني لتنزع كل اعتبار عن المسيحية الآتية من العالم اليهودي. كما نستبعد أن يكون مرقس اخترع هذه المقدّمة التي عاد إليها لوقا. فقد يكون ورثها من محيط فلسطيني أوّل.
أما مرمى هاتين الآيتين الأوليين في خبر لوقا عن الآلام، فهو أن تحدّدا موقع الدراما الآتية وآخر أيام يسوع في أورشليم. وذلك في ارتباط مع احتفال اليهود بهذا العيد الوطني المهيب، عيد الفصح. إنهما تقدّمان مرة أخرى محاولة سلطات أورشليم، من رؤساء كهنة وكتبة، لكي يزيلوا يسوع (11: 53- 54). وتلاحظ هاتان الآيتان أيضاً، أن السلطات هي على علم بالاختلاف بين ردّة فعلها تجاه يسوع وردّة فعل الشعب. هذا ما سبق وأشار إليه 19: 48. وها هو يتردّد في جوّ من "الخوف" كما في 20: 19 (خافوا من الجمع).
إن مناسبة الآلام التي يخضع لها يسوع الآن هي عيد الفصح (وارتباطه بعيد الخمير، رج 2: 41). بما أن "الفصح" ذُكر في بداية رواية الحاش، كان ارتباط يا المسيحية الشعبيّة بين هذا "العيد" وفعل "باسخاين" (إحتمل، تألم) كما في مليتون السرديسي. وهكذا كانت علاقة بين "الفصح" و "الحاش" (أو الآلام) (رج ايريناوس في كتابه ضدّ الهراطقة). وفي زمن الجدال الاربع عشري (عيد الفصح في 14 نيسان اليهودي) الذي قال بأنه يجب أن نحتفل بالقيامة في يوم الفصح (أوسابيوس)، كان هناك تجديد في المعنى عينه. وهكذا صارة الصفة "فصحي" أوسع من يوم في الكلندار (الروزنامة) اليهودي. ففي الفصح جعل الانجيلي بداية رواية الآلام.
ب- المؤامرة (آ 3- 6)
إن ما يتبع الحاشية حول مؤامرة رؤساء الكهنة والكتبة ليزيلوا يسوع، هو خبر خيانة يهوذا الاسخريوطي. كنا قد لاحظنا كيف ترتبط آ 3- 6 ارتباطاً وثيقاً بالحدث السابق، لأن لوقا ألغى حدث الدهن بالطيب الذي تذكره سائر الأناجيل (رج مر 14: 3- 9). ألغى ذاك الحدث لأنه أورد ما يشبهه في 7: 36- 50، ولأن فيه إشارة إلى إعلان "الانجيل" (مر 14: 9) الذي سيتمّ بعد القيامة وفي أعمال الرسل، ولأنه سيتحدّث عن مسح جسد يسوع بالطيب بعد الموت (23: 56- 24: 1). وهكذا أعاد لوقا الرباط الأولاني بين آ 1- 2 و آ 3- 6 كما كان في رواية الحاش الأولى.
عاد الخبر اللوقاوي إلى مر 14: 15- 11 ما عدا المقدمة في آ 3 أ التي تتحدّث عن دخول الشيطان في يوضاس والتي تعود إلى اللوقاويات وما فيها من صدى بالنسبة إلى التقليد اليوحناوي (يو 13: 27: تناول اللقمة فدخل الشيطان فيه؛ رج 13: 2). نرى التدوين اللوقاوي في زيادة "قوّاد الحرس" (آ 4)، واستعمال صيغة خاصة أمام السؤال المطروح بشكل غير مباشر (آ 4، على طريقة)، وفي عبارة زادها في النهاية "بمعزل عن الجمع" (آ 6. وحده لوقا يستعمل الاداة "أثر" في العهد الجديد، رج 22: 35). فعل لوقا كما فعل مرقس فأورد كلام يهوذا في صيغة الخطبة غير المباشرة. أما متّى فجعله في خطبة مباشرة (26: 14- 16: ماذا تعطوني لأسلمه لكم)، وأعطى جمالاً للنصّ حين ربطه مع العهد القديم بالتلميح إلى "ثلاثين من الفضة" (زك 11: 12).
ينسب الشكل اللوقاوي لهذا الخبر إلى تأثير شيطاني، السببَ الذي لأجله انقلب يهوذا الاسخريوطي، وهو من تلاميذه الاخصّاء، على يسوع. وهكذا يكون هذا التعارض ذروة في دراما الآلام. لم يُرذل يسوع فقط من قبل أهل مدينته (4: 28- 29). لم يُرذل فقط من قبل أهل أمته (11: 53- 54؛ 19: 47- 48؛ 20: 1، 19). بل رذله واحد من تلاميذه، واحد من الاثني عشر "دعاه واختاره" (6: 12- 16). إن تواتر هذه الصورة (أو ما يشبهها) عن يوضاس، يشهد على الفظاعة التي ربطتها المسيحية الأولى باسمه (6: 13، 16؛ مر 14: 10، 20، 43؛ يو 6: 70- 71؛ 12: 4).
غير أن لوقا لم يفعل كما فعل يوحنا (12: 6) فيصوّر يوضاس كـ "سارق" اعتاد أن يأخذ مما يوضع في "الكيس المشترك". تجاه هذا، تكلّم عن تأثير شيطاني وترك نقل خبر مؤامرة يهوذا مع رؤساء الكهنة وقوّاد الحرس تفعل فعلها في القارئ. "مضى، ذهب". "تفاوض". "إتفقوا أن يعطوه فضّة". "ترقَّب الفرصة" لكي يسلّم يسوع. تحيرّ لوقا كيف يفسرّ خيانة يسوع المريعة على يد أحد أخصّائه، فجعل الشّر يدخل في يهوذا في شخص "ابليس". هكذا فعل العهد القديم حين جعل "الشيطان" يجرّب داود (1 أخ 21: 1- 6)، لا الربّ بنفسه كما قال 2 صم 24: 1 ي. والشيطان هو الذي جرّب أيوب. غير أن أيوب لم يقل سفاهة في الربّ، ولم يسقط في تجربة التجديف على الله كما فعل يوضاس حين خان المعلّم.
وبين خيانة يوضاس وقراره بأن يسلّم يسوع إلى عظماء الكهنة وقوّاد الحرس (22: 3- 6) وبين مشهد القبض على يسوع (22: 47- 53)، نقرأ عن عشاء يسوع الأخير، عشاء يسوع الحميم مع أخصّائه، مع الاثني عشر.
4- خبر الحاش والآلام
أ- في التقاليد الأولى
إن خبر الآلام، شأنه شأن خبر الطفولة وخبر القيامة، هو فن أدبي ثانٍ يتفرّع من الفن الأدبي الذي اسمه الإنجيل. ولقد اعتاد الشّراح أن يروا في خبر الحاش الجزء الأول في التقليد الإنجيلي الذي سيصل إلى رواية متكاملة تبدأ في الجليل وتنتهي في أورشليم. هل دوّن هذا الجزء في وقت سابق لمرقس؟ ربّما، في شكل شفهي. ومهما يكن من أمر هذا التدوين، نستطيع أن نشير إلى النقاط التالية:
* علم بولس بخبر الصليب (1 كور 1: 18. دوّنت 1 كور حوالي سنة 56) فتحدّث عن "كلام الصليب" (لوغوس تو ستاورو). قد تشير هذه اللفظة (لوغوس) إلى الخبر المتعلّق بأحداث صلب يسوع وقيامته.
* مع أن بولس لا يورد العدد الكثير من أقوال يسوع (1 تس 4: 15؛ 1 كور 7: 10- 11؛ 11: 23- 25)، فهو يلمّح مراراً إلى الآم يسوع وموته ودفنه: العشاء الأخير (1 كور 11: 23- 25)، الخيانة، "الآلام" (غل 3: 10: الآم المسيح). الصليب (غل 2: 8)، الصلب (غل 2: 20؛ 3: 1؛ 1 كور 1: 23؛ 2 كور 13: 4). التعليق على خشبة (غل 3: 13)، الموت (1 تس 5: 10، 1 كور 11: 26؛ 15: 3؛ روم 4: 25؛ 5: 8- 10؛ 6: 3). الدفن (1 كور 15: 3؛ روم 6: 4). يتحدّث بولس عن "اليهود الذين قتلوا الرب يسوع" (1 تس 2: 14- 15). عن رؤساء هذا العالم الذين صلبوا ربّ المجد (1 كور 2: 8). وتحدّثت كو 2: 14 عن المسيح الذي محا الصكّ "وأزاله مسمّراً اياه على الصليب". رغم أن هذه التلميحات تبدو معزولة في كتابات القديس بولس. ومع أنها جُعلت في إطار لاهوتي لا تاريخي، إلاّ أنها تدلّ على أن بولس عرف بخبر الصليب كما تداولته المسيحية الأولى بشكل رواية تبدأ بالعشاء السرّي وتنتهي على الصليب.
* إن الأناجيل القانونية الأربعة، أي الإزائية ويوحنا، تتضمّن رواية عن الآلام فيها الكثير من الشبه الذي يلفت النظر: خيانة يسوع على يد يوضاس، العشاء الأخير مع التلاميذ، القبض على يسوع خارج المدينة، نكران بطرس، استجواب أمام رئيس الكهنة، شبه استجواب أمام بيلاطس يقود إلى الموت، الصلب، العنوان على الصليب، الموت، الدفن. هذا يعني أن الانجيليين عرفوا أخباراً مثبتة عن هذه الحقبة من حياة يسوع.
* إن هذه النواة الأولى لهذه الأخبار المتواصلة تبدو كأول انتشار للكرازة كما نجدها في 1 كور 15: 3- 4: المسيح مات من أجل خطايانا، دُفن، قام في اليوم الثالث. وسنجد امتداداً لهذا الكلام في خطب سفر الأعمال. "كان يسوع الناصري رجلاً أيّده الله بينكم بما أجرى على يده من العجائب والمعجزات... وحين أسلم إليكم... صلبتموه وقتلتموه بأيدي الكافرين" (أع 2: 22- 23).
* لقد نبتت الحاجة إلى خبر متواصل عن الآلام عند الوعّاظ (والمرسلين) المسيحيين الذين واجهوا اعتراضاً هاماً: إذا كان يسوع مسيح الربّ، فلماذا صُلب؟ وإذا كان "عاملَ" الله من أجل خلاص البشر، فلماذا سمح الله بأن يموت على الصليب كمجرم؟ وهكذا صار هذا الاعتراض "حجر عثار لليهود وجهالة للأمم" (1 كور 1: 23).
إذا كانت الكرازة هي شاهد عن الخلاص، فبين المواد التي رُويت، هناك رواية الآلام التي تحمل مدلولاً حقيقياً في هذه الكرازة. فهي ترتبط بأول عمل في نهاية عالم آمن به الناس وترجّوه. فهذا الخلاص صار منظوراً لا في شخص الربّ وكلامه وحسب، بل في تعاقب عدد من الأحداث. ووضعُ هذه المواد في خبر متواصل قابل حاجة ماسّة: التعامل مع مفارقة الصليب. فحين رُويت أحداث الحاش والقيامة، لم تُروَ فقط من أجل شرح وتفسير ما حدث، بل لتربط عدّة أحداث فرديّة مع الحديث عن مسؤولية في موت يسوع. على هذا السؤال كان جواب بطرس في أع 2: 36: "يسوع هذا الذي صلبتموه، قد جعله الله ربّاً ومسيحاً".
هل وُجد خبر متواصل للآلام قبل مرقس؟ قال بعض العلماء إن نصّ مرقس هو الأول. ولكن الفرق بين مرقس ولوقا ويوحنا يجعلنا نقول بأن مرقس ورث أقله نواة رواية شدّدت على توقيف يسوع. ولاحظ الشّراح أن الخبر اليوحناوي يتوافق مع مر بشكل عام من الدخول إلى أورشليم إلى توقيف يسوع، ولكن بشكل أوثق فيما بعد. كما لاحظوا إن الانباءين الثاني والثالث بالآلام في التقليد الإزائي (مر 9: 31 وز؛ 10: 33 وز) يبدأان مع القبض على يسوع بيد الخصوم (1 كور 11: 23). ولاحظوا أن خبر مر 14: 43 يتحدّث عن وصول يهوذا إلى جتسيماني على أنه "واحد من الاثني عشر"، وكأنه لم يُعرف كذلك في 14: 10 (أحد الاثني عشر). هذا يعني أننا هنا أمام "ينبوع" مختلف.
ورأى العلماء توسّعاً في التقليد يبدو كما يلي: (1) كرازة تعلن كما في 1 كور 15: 3 ب- 5. (2) رواية قصيرة للحاش تبدأ مع توقيف يسوع. (3) رواية طويلة للحاش تبدأ مع دخول يسوع إلى أورشليم وتتضمّن تطهير الهيكل، السؤال حول سلطة يسوع، الإعلان عن خيانة يهوذا، العشاء الأخير، الصلاة في جتسيماني. (4) خبر الحاش في مرقس.
ب- مواضيع الآلام في خبر مرقس
من يقرأ بتمعّن رواية الآلام في الأناجيل القانونية الأربعة، يتضّح له أنها ليست فقط أخباراً وتفاصيل واقعية. فقراءتنا للأناجيل الأربعة تدلّ على أن هناك مواضيع وعوامل لعبت دورها. فهناك ملامح لاهوتية وملامح دفاعية.
أولاً: العوامل (أو: المواضيع) اللاهوتية
* الإيمان بالمسيح القائم من الموت. هذا صدى للكرازة الأولى (1 كور 15: 3- 5؛ روم 4: 25؛ أع 2: 36؛ 4: 10). لقد رُوي خبرُ الصليب فوجد ذروته في الإعلان الفصحي: "ليس هو هنا، بل قام" (24: 6؛ رج مر 16: 6؛ مت 28: 6). والتفاصيل عن توقيف يسوع واستجوابه ومثوله أمام بيلاطس وصلبه، لم تروَ فقط في إطار نظرة إلى رسالة يسوع؟ بل رتّبت بالنسبة إلى إعلان انتصاره على هذه الأحداث بقدرة الله. والموضوع الذي توسّع فيه آباء الكنيسة حول "المسيح المنتصر على الموت" يدعونا إلى أن نتعلّق تعلّقاً ضمنياً بخبر الآلام نفسه.
* تتمة إرادة الله. هذا ما أشرنا إليه سابقاً في الإشارة إلى إيرادات العهد القديم، 22: 37 يورد نشيد عبد الله المتألم في أش 53: 12؛ 23: 24 ب- 35 يلمّح إلى مزمور الصدّيق الذي يسلم دعواه إلى الرب (مز 22: 8- 19)؛ 23: 36 الذي يلمّح إلى مز 69: 22 (في عطش سقوني خلاً)؛ 23: 46 الذي يلمّح إلى مز 31: 6: "في يديك أستودع روحي" (رج مر 14: 61؛ مت 26: 67؛ 27: 12).
* تشديد على وضع يسوع البشري. إن المعرفة السابقة والاعلان عن الخيانة (مر 14: 18- 21؛ لو 22: 21- 23) صارا واضحين مع ذكر اسم "يوضاس" (مت 26: 25؛ يو 13: 21- 26) وتشديد على قدرة يسوع. نقابل هنا ما قيل في مر 14: 46 (- مت 26: 50) والعودة إلى الآب الذي يستطيع أن يرسل 12 جيشاً من الملائكة (مت 26: 53)، أو الإشارة إلى مهابة يسوع حين قال "أنا هو" (يو 18: 6) فسقط إلى الأرض أولئك الذين جاؤوا ليقبضوا عليه. إعادة كتابة صرخة يسوع على الصليب وما فيها من معنى عميق. في مر 15: 34: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني" (مز 22: 1؛ مت 27: 46)؟ ألغى لوقا هذه الصرخة، لأنه لم يجدها لائقة بابن الله. فأحلّ مكانها: "يا أبت، في يديك استودع روحي" (23: 46؛ رج مز 31: 6). وترك الصرخة في يو 19: 30: "لقد تمّ". هنا نتذكّر إنجيل بطرس (كتاب منحول): "يا قدرتي، أيتها القدرة، لقد تركتني". صارت لفظة "إيل" إسم جنس لا إسم علم فعنت "القدرة" لا "الله".
ثانياً: العوامل (أو المواضيع) الدفاعية
* إعلان عن براءة يسوع. حُكم على يسوع بأنه مجرم في مر 14: 46 ج (حكموا عليه بأنه يستوجب الموت)؛ مت 26: 66 ب (فأجابوا: يستوجب الموت). ألغى لوقا هذا الكلام (رج 22: 7) وجعل مكانه إعلاناً مثلّثاً عن براءة يسوع. في 23: 4، قالت بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: "لا أجد جرماً على هذا الرجل". وفي 23: 14- 15، قال بيلاطس أيضاً: "فحصته أمامكم فما وجدت أنه ارتكب شيئاً مما تّتهمونه به، ولا هيرودس وجد أيضاً". وفي 23: 22 قال بيلاطس مرة ثالثة: "أي شرّ فعل هذا الرجل؟ لا أجد عليه ما يستوجب به الموت" (رج يو 18: 38: لا أجد سبباً للحكم عليه؛ 19: 4، 6؛ أع 3: 13).
* تبرئة الوالي الروماني بونسيوس بيلاطس، وتخطئة رؤساء اليهود. هذا ما نجده حين نقابل بين روايات الآلام في الأناجيل الأربعة. في مر 14: 1، 43، 53. 55،؛ 15: 1، 11! يُذكر رؤساء اليهود. وفي 15: 15 يتحدّث النصّ عن بيلاطس الذي "يريد أن يرضي الجمع".
وتختلف رواية متّى بعض الشيء عن رواية مرقس في المقاطع الموازية (26: 3، 47، 57، 59؛ 27: 1، 20). غير أن هناك شيئاً خاصاً زاده متّى على مرقس فبدّل الصورة عن دور بيلاطس. (1) نبّهته إمرأته بأن لا يفعل شيئاً "بهذا الرجل البريء" (27: 19). (2) غسل بيلاطس يديه وأعلن جهاراً أنه غير معنيّ بهذا الأمر: "أنا بريء من دم هذا الرجل. أنظروا أنتم بأنفسكم". فأجاب الشعب كله: "دمه علينا وعلى أولادنا" (27: 24- 25). (3) طلب رؤساء الكهنة والفريسيون من بيلاطس حرساً للقبر (27: 62).
وارتبط خبر لوقا أيضاً بخبر مرقس، فاستقلّ عن متّى، وأخذ طريقاً مختلفة. ميّز لوقا مراراً بين "الشعب" أو "الجمع" (22: 2؛ 23: 27، 35 أ، 48) وبين "الرؤساء" أو "الشيوخ" من رؤساء كهنة وكتبة (22: 2، 52، 54؛ 23: 1، 4، 13، 35 ب، 51). وألغى كل إشارة إلى شهود زور وإلى اتهام يسوع بأنه يريد أن ينقض الهيكل. وبدلاً من هذا، بيّن أن الرؤساء وحدهم اتهموا يسوع كمن يثير شغباً سياسياً (23: 2، 5، 8- 19). وأعلن بيلاطس ثلاث مرات أن يسوع بريء، كما قلنا أعلاه. وحين تراجع بيلاطس في النهاية، أوضح لوقا أن أصواتهم تغلّبت، فسلّم بيلاطس يسوع "إلى مشيئتهم" (23: 23- 25). فاقتادوا يسوع إلى الصلب (آ 26): وبينما هم ذاهبون به). في هذه الآيات، تعود صيغة الغائب الجمع (هم) إلى رؤساء الكهنة والقوّاد والشعب (آ 13). ولن يظهر الجنود الرومان إلا في آ 36. وتجاه هذا، سيعلن قائد روماني: "في الحقيقة، كان هذا الرجل بريئاً" (آ 47).
وأخيراً، ما بدأ يظهر في لوقا، وجد ملء عبارته في خبر الحاش عند يوحنا. أعلن قيافا الفائدة من موت يسوع (11: 47- 53 وخصوصاً آ 50: أن يموت واحد خير لكم من أن تهلك الأمّة). تعامل جنود رؤساء الكهنة والفريسيين مع يوضاس (18: 3، 12- 14. يبدو الخبر هنا ملتبساً عند يوحنا). حين جيء بيسوع إلى أمام بيلاطس، أعلن بريئاً ثلاث مرات (18: 38؛ 19: 4، 6). وحاول بيلاطس أن يطلقه (18: 31؛ 19: 12). وفي النهاية، حين تراجع بيلاطس (19: 16)، أسلم يسوع "إليهم" (رؤساء الكهنة، آ 15). "فأخذوا يسوع. فخرج وهو يحمل صليبه" (19: 17).
وإذا عدنا إلى "إنجيل بطرس" نجد أنه يشدّد على شيء آخر: "لما رأى بيلاطس أنه لا أحد من اليهود، لا هيرودس، ولا أحد من قضاته، وافقه حين غسل يديه بطريقة رمزية، خرج إليهم. حينئذٍ أمر هيرودس الملك أن يقاد الربّ إليهم".
ترك التلاميذ الربّ فعذرهم الإنجيلي. قال مر 14: 50: "تركوه كلهم وهربوا". وأقصى شكل لهذا الهرب يصوّر بشكل رمزي في هرب الشاب العريان الذي ترك وراءه رداءه (14: 51- 52). لا شيء في لو يوازي مر 14: 50. بل هو يذكر بين الواقفين عند الصليب، لا النساء اللواتي رافقن يسوع من الجليل وحسب، بل "كل معارفه، كل أصدقائه" (صيغة المذكّر (الجمع) (23: 49). أما في يو 18: 8 ج، فيسوع نفسه هو الذي تركهم يذهبون. تحدّث مر 14: 27 ومت 26: 31 عن جميع التلاميذ الذين سيتركون يسوع. أما لو 23: 31- 34 فتحدّث فقط عن بطرس الذي سيكون ضحيّة الشيطان. ولكنه سوف يعود.
نشير هنا إلى أن آلام يسوع صارت نموذجاً للحديث عن آلام تلاميذه. هكذا صوّر استشهاد اسطفانس (أع 7: 54- 8: 1). ونشير ثانياً إلى أن الإنجيليين لم يرووا كل ما حدث، بل اختاروا ما اختاروا من أجل تعليم الجماعة. فما وعظ به يسوع الناصري يرتبط بما أتمّه من أجل الجنس البشري. وهكذا نكون في هذا القسم من التقليد، لا أمام رواية تفصيلية تورد بدقّة (كما في تقرير صحافي) ما حصل ليسوع في أيامه الأخيرة، بل بالأحرى أمام تفسير لما حدث، وهذا التفسير هو صدى لما نقرأ بطرق مختلفة في سائر أسفار العهد الجديد.
ج- خبر الآلام في إنجيل لوقا
أولاً: لوقا ومرقس
إن خبر الآلام في مر هو أقصر ما رواه الإنجيليون الأربعة. وقد يكون وجد ما رواه في تقاليد سابقة له، ما عدا حدث الشاب الذي فرّ عرياناً (14: 51- 52). فاذا وضعنا هذا الحدث خارج خبر توقيف يسوع (14: 43- 50)، يتوزع الخبر المرقسي في ثمانية عشر حدثاً. وأحداث لوقا العشرون تقابل 14 حدثاً تتبع ترتيب مرقس. إن تواصل الخبر اللوقاوي يتأسّس على مرقس ويرتبط به. والفروقات بين لو ومر في هذا المجال هي إغفالات أو زيادات بسيطة.
ألغى لوقا أربعة أحداث: (1) الدهن بالطيب في بيت عنيا (مر 14: 3- 9). فقد أشار إليه في 7: 36- 50. (2) إنباء يسوع بأن تلاميذه سوف يتركونه (مر 14: 27- 28). فالتلاميذ لا يتركون يسوع أبداً في الإنجيل الثالث. كانوا بقربه كالأصدقاء (23: 49). (3) هرب الشاب العريان (مر 14: 51- 52). (4) هزء الجنود بيسوع (مر 15: 16- 20). غير أن لوقا زاد خطبة في أربعة أجزاء في 22: 21- 23، 24- 30، 31- 34، 35- 38. كما زاد خبرين على مر: إرسال يسوع إلى هيرودس (23: 6- 12) والحكم الذي أصدره بيلاطس (23: 13- 16): "فحصته أمامكم... سأجلده وأخلي سبيله".
ولكن تبقى المواد التي جعلها لوقا داخل خبر الآلام غير التي نجدها في الخبر المرقسي الموازي. إستلهم لوقا مرقس في خبر الآلام، كما استلهمه في أماكن أخرى، ولكنه وضع أموراً خاصة به، أو أعاد تدوين جملة مرقس التي بدت في نظره "ثقيلة". أما عودة لوقا إلى المعين (مشترك بينه وبين متّى) فمحدودة في 22: 28- 30 (ثبتّم معي في محنتي).
وهكذا يبدو واضحاً لدى عدد من الشّراح أن لوقا استعمل في خبر الحاش مواد لم يأخذها من مرقس. (1) هناك عدد كبير من اللوقاويات. (2) عدد من الأقوال أوردها لوقا ويوحنا، فأوضحت تفاصيل غابت عن خبري مت ومر. (3) حين يحتفظ لوقا بألفاظه، فهو يحتفظ هنا بأقلّ عدد ممكن (هنا 27%. في سائر إنجيله 50%). ولكن عدداً آخر من الشّراح اعتبر أن لوقا أخذ مر وحوّل خبره عن الآلام: زاد بعض الأخبار أو بعض الأقوال التي أخذها من اللوقاويات أو من المعين. قد يبدو الموقف الثاني أقرب إلى المعقول. واتصل خبر لوقا بخبر يوحنا. وهذا ما يدلّ على أن لوقا عرف التقليد اليوحناوي قبل أن يكتب بصورة نهائية.
ثانياً: أصالة لوقا
إن خبر الآلام في لوقا يشبه الخبر المرقسي. ضمّ الأحداث الأولى (22: 1- 38)، ثم آلام يسوع وموته ودفنه (22: 39- 23: 56). في هذا، هو يختلف عن الخبر اليوحناوي الذي يجعل خبر الآلام يبدأ في ف 13 وينتهي في ف 21. أما في الأناجيل الإزائية، فالأحداث الأولى (الدهن بالطيب...) تُعتبر جزءاً من خبر الآلام.
لقد اهتمّ خبر الآلام اللوقاوي بعرض مصير يسوع في شكل خاصّ جداً. وإليك العناصر التي تميّز العرض اللوقاوي:
موضع الدراما هو الهيكل. فالهيكل "بيت أبي" (2: 49) قد تطهّر ليصبح منبراً من عليه يلقي يسوع تعليمه. فهناك أعلن يسوع حكمه على أورشليم (21: 20) وعلى رؤسائها (20: 19). والآن، ها هي أورشليم برؤسائها تعلن الحكم على يسوع. ويبدأ هذا الجزء من الانجيل مع مؤامرة الرؤساء، ويجد ذروته قي خيانة يوضاس ليسوع.
* انتصار يسوع على الشّر الذي يصوّر في شخص إبليس. ترك يسوع من أجل الوقت المحدّد (4: 13). وها هو يعود الآن، "فيدخل في يهوذا" (22: 3). ويحاول أن يغربل التلاميذ كما تُغربل الحنطة (22: 31). وينجح في دفع بطرس إلى إنكار يسوع، لأن هذه هي "ساعته" وساعة "سلطان الظلمة" (22: 53). تفرّد لوقا عن الازائيين فتحدّث عن تدخّل الشيطان في خبر الآلام. ولكن شاركه في ذلك يو 13: 2، 27 (بكلمات خاصّة به). وهكذا، ليس الرومان هم الذي قرّروا مصير يسوع، بل إبليس الذي امتلك تلميذاً رافق يسوع على طرق فلسطين وعدّ بين الاثني عشر (22: 3). أما انتصار يسوع على سلطة الشيطان فنجده في صلاة من أجل بطرس (22: 31) ووعد من أجل اللص التائب على الصليب (23: 43).
* شارك لوقا متّى ومرقس في تصوير يسوع الذي يواجه موته بهدوء وهو عارف أن تلك هي مشيئة الآب بالنسبة إليه (22: 39- 46). غير أن هناك عبارة خاصّة بلوقا في 22: 37 (يجب أن تتمّ فيّ هذه الآية: أحصي مع المجرمين) (رج 24: 7- 26). كل هذا يبرز ما في لوقا حول رحمة يسوع وغفرانه وقدرته الشافية وصلاته وشفقته. فيسوع في لو لا يواجه الموت وحده كما في مر. فقد جاءت بنات أورشليم إلى لقائه (23: 28). كما كان بقربه نساء رافقنه من الجليل مع "كل أصدقائه" (23: 49). وقمة التعبير عن حنانه نجدها في كلامه إلى اللصّ المعلّق بجانبه: "اليوم تكون معي في الفردوس" (23: 43). هذا هو المدلول الحقيقي لموت يسوع الخلاصي.
* إن خبر الآلام في لوقا هو امتداد لخبر "الطريق" التي بدأها يسوع، لخبر انتقاله إلى الآب (9: 51؛ 17: 25؛ رج 24: 7، 26). هو السابق والرائد في طريق الآلام هذه، مواجهاً مصيره (31: 33؛ 17: 25؛ 22: 37). وهو يواجه هذا المصير كالبار الكلي البرارة (23: 41- 47). ويواجهه طوعاً وطاعة لإرادة الآب (22: 42، 51).
* ويتَّخذ خبر انتصار يسوع على الشيطان وجهة تحريضيّة في إنجيل لوقا لا نجدها في سائر الأناجيل. فالمخلّص المتألمّ هو ابن الإنسان الذي تهاجمه قوّة الشر، وهو البار المتألمّ الذي هو مثالنا في صبره وغفرانه. إن لوقا ينظر إلى هذه الأحداث، لا كتتمة للخلاص وحسب، بل كخبر إنسان "قدّيس" اتحد بالله اتحاداً وثياقاً. أجل، إن لوقا يرى في موت يسوع استشهاداً، وفي يسوع المائت الشهيد الأول الذي يسير على خطاه اسطفانس (أع 7) وبطرس ويعقوب (أع 12).
لقد مات يسوع فصار نموذجاً للبار المتألمّ، وأتمّ الخلاص من أجل البشريّة. الآلام هي دراما يُدعى فيها القارئ إلى المشاركة، إلى الالتزام، مثل سمعان القيريني الذي حمل صليبه وسار وراء يسوع.
يُدعى القارئ لكي يقوم بفعل إيمان بالله الذي أتمّ الكتب، وبيسوع ابن الله الذي أوضح بموته الكتب. ويُدعى القارئ أيضاً لكي يعبد شخص يسوع الذي قدّم نفسه كابن الله وحامل قدرة الله. ويتعرّف إلى ضعفه مع بطرس في نكرانه، ومع الذين حكموا على يسوع. لكي يعبد رحمة الله المتناهية، ويشارك في صبره وطول أناته. وليس يسوع مثالاً وحسب، إنه نموذج البار المضطهد الذي يجمل في شخصه الاضطهادات في كل مكان وزمان، ويكشف بواسطة انتصاره، عن الغلبة التي يحوزها أولئك الذين يتبعونه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM