الفصل الثامن عشر: درب الصليب والقيامة

 

الفصل الثامن عشر
درب الصليب والقيامة
22: 1- 24: 53

1- وضع هذه الفصول
جعلَنا القسمُ السابق أمام محنة يسوع. فكشف لنا أن هذه المحنة تعنينا عن قرب في حياتنا. وأدركنا أن يسوع يدعونا لكي نقاسمه مصيره. وهكذا نعيش إيماننا بخلاص شامل يتمه خروجُه من هذا العالم واختطافه من أورشليم. إن موته الذي أعلن في شكل نبوي مع دمار أورشليم، يجعل البشر يواجهون الرجاء الذي تصل إليه الآلام (الحاش كما نقول في السريانية): القيامة التي هي عطيّة الآب. ما جعلنا الانتقال من ف 23 إلى ف 24 (من الانقطاع إلى الجديد) نستشفه، يجب أن نتقبّله الآن في خروج يسوع نحو أبيه. سنجد تماسك الخبر ودخوله في حياتنا اليومية.
إذا وضعنا جانباً هذا "الخروج" الحقيقي والتاريخي، خروج يسوع إلى الآب، فالخلاص الذي يحمله لا يستطيع أن يأخذ كامل معناه. لأن التضامن الذي فيه يدخل بواسطة جسده، لم ينكشف بعد بكلّيته. وحين يتقبّل يسوع موتنا، حين يكون ضحيّة عنفنا، سيكون لكل واحد منا طريق حرية ووفرة حياة. والطريقة التي بها يلتصق الله بالإنسان حتى في خطيئته وتعاسته وشّره، هي أن يكون بنفسه مذلولاً، هي أن يرافق البشر في رفضهم. وهكذا يُصاب إصابة قاتلة دون أن يلغيه هذا الرفض إلغاءً تاماً. وهكذا يكشف لنا يسوع أن حريّته المحبة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بحرّيتنا الضعيفة والقاتلة. في هذا المجالس، قال القديس بولس: "إن الذي لم يعرف الخطيئة، جعله الله خطيئة (ذبيحة عن الخطيئة) من أجلنا لكي نصير فيه برّ الله" (2 كور 5: 21. هكذا تتمّ إرادة الله). هذا هو سّر موت المسيح وقيامته كفعل خلاصي من أجل جميع البشر.
وهكذا يسطع مخطّط الله الخلاصي في تاريخ البشر. ومع ذلك، يندهش الشّراح حين يرون اهتمام لوقا القليل بقيمة صليب يسوع على المستوى السوتيريولوجي، مستوى تاريخ الخلاص. ويرون السبب في عدم اهتمام اليونان بفكرة الفداء الذبائحي وتفضيلهم لفكرة الاستشهاد الذي يقدّم مثلا يُحتذى به. أو أنهم يضعون لوقا في خانة أولئك الذين وضعوا الخطوط الأولى للتفكير المسيحي. وفسّرت فئة ثالثة هذا التوزّع وكأنه تحوّل في اهتمامات للوقا: فيشدّدون بالأحرى على مسؤوليات المؤمن المدعو إلى التوبة والارتداد أمام موت يسوع. لهذا، نقول في هذا المعنى إن لوقا تيقّن من فاعليّة ذبيحة المسيح، فمنع نفسه من التحدّث عنها مراراً لئلاّ يحوّل الخلاص إلى فداء يتمّ بشكل آلي (بطريقة سحرية)، فيضعف من أهمية التوبة التي لا غنى عنها.
عرضُ لوقا لموت المسيح عرضٌ أصيل، ولكنه لا يهمل مع ذلك معطيات التقليد. وجب على الانجيلي أن يأخذ بعين الاعتبار عقليّة قرّائه المسيحيين الآتين من العالم الوثني، الذين طلبوا منه أن لا يشدّد، كما فعل الانجيليون الذين من أصل يهودي، على المعنى التكفيري لذبيحة يسوع. لهذا، شدّد بالأحرى على التضامن الذي دلّ عليه موت يسوع من أجل البشر، وهذا التضامن يدعو المسيحي إلى الدخول دخولاً حراً في الموت مع مخلّصه، لأن الحياة تفرض مثل هذا الثمن. ف "لاهوت المجد" لا يلغي "لاهوت الصليب"، بل يفترضه ويدلّ على أنه المرحلة الضرورية لكي تصل إلينا فاعلية الخلاص ويدركنا حقاً غفران الله.
هناك ثلاث قولات (لوغيا) خاصة بلوقا تتيح لنا أن ندخل في هذه النظرة. الأولى نجدها في العشاء الأخير، حيث يعلن الفصح (22: 16) والكأس (22: 18) حدث ملكوت الله. هنا يقول يسوع، عبد الله، لرسله: "وأنا أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه لي أبي" (22: 29). والقولة الثانية تنبثق مباشرة من الموت على الصليب. قال يسوع للصّ: "اليوم تكون معي في الفردوس" (23: 43). والقولة الثالثة تلفّظ بها القائم من الموت في طريقه إلى عمّاوس. بعد أن كسر الخبز قال: "أما كان ينبغي للمسيح أن يُكابد ابن الإنسان هذه الآلام، ود ذا يدخل في مجده" (24: 26؛ رج 34: 7)؟
إن هذه القولات الثلاث تلقي ضوءاً على النظرة التي اختارها لوقا ليفهم سامعيه الآتين من العالم الوثني كيف أن موت يسوع، الذي هو نتيجة عنف البشر، يشكّل فسحة تاريخية فيه يتمّ مخطّط الله الشامل من أجل البشر. فقولة العشاء السرّي تجذِّر هذه المشيئة الخلاصية. وفعل "أعدّ"، هيّا (دياتيتستاي) لا يستعمل إلاّ في أع 3: 25 بمناسبة الحديث عن الميثاق (العهد) المعقود مع ابراهيم: "فأنتم بنو الأنبياء والعهد الذي عاهد (أو: أعدّ، هيّا) الله به آباءكم، قائلاً لابراهيم: في نسلك تتبارك جميع عشائر الأرض" (رج تك 22: 18). ويُستعمل أيضاً في عب 8: 10 (= إر 31: 33)؛ 9: 16، 17؛ 10: 16 حيث نقرأ: "هذا هو العهد الذي سأقطعه معهم من بعد تلك الأيام".
وقولة الجلجلة تدعو كل واحد منا إلى "يوم" (اليوم) هذا الخلاص الشامل. والقولة التي تفوّه بها يسوع على طريق عماوس تدلّ على تتمة خلاص يسوع حسب "منطق" رحمة الآب. "أما كان ينبغي..."؟ ففي عبور يسوع إلى الآب، يتمّ "خروج واختطاف" يجتذبان كل إنسان إلى الموت، بل إلى الحياة مع الله.
2- تأليف النصّ وبنيته
يتألّف هذا القسم من متتاليتين تقليديتين: آلام يسوع وقيامته. تبدوان كدرفتين في دبتيكا واحدة. قسمة كبيرة واضحة. ولكن أين هي علامة القطع بين المجموعتين؟ إن معظم الشّراح يجعلون المجموعة الأولى تتكوّن من خبر الآلام. وتضمّ ف 22- 23. والمجموعة الثانية تشير إلى الاعلان عن القيامة في ف 24. ولكن وجود "وحصل أنه" (كاي اغاناتو) في 24: 4 (وحصل أنه إذ كن مذعورات) جعل البعض يبدأون الدرفة الثانية في هذا الموضع من ف 24. نلاحظ أن فعل "وحصل" (24: 4، 15، 30، 51) يدخل في سياق الخبر، فيدلّ على أننا أمام شيء جوهري في مسيرة تاريخ الخلاص.
كيف تنتظم هاتان المجموعتان في القسم الأخير من الإنجيل الثالث؟ نستطيع أن نجد في كل منهما أربعة أحداث تتوزع على الأمكنة التي فيها تتمّ الدراما. الفصل الأول في الحاش (الآلام) يتمّ "في البيت" (22: 10: إتبعاه إلى البيت) (في المدينة) الذي اختاره يسوع ليأكل فيه الفصح. في 22: 39، خرج يسوع مع رسله إلى "جبل الزيتون" حيث أوقفه أناس جاؤوا من الهيكل (22: 52) فاقتادوه إلى بيت رئيس الكهنة (22: 54): تلك هي المرحلة الثانية. بعد هذا، مثُل يسوع مرتين أمام السلطات: مرّة أولى أمام المجلس اليهودي الأعلى (سنهدرين) (22: 66). ومرّة ثانية أمام بيلاطس، الوالي الروماني (23: 1): هذا ما يشكّل الوحدة الثالثة. أما المجموعة الرابعة فتتضمّن نقل المحكوم عليه إلى موضع الصلب (23: 33) مع تجارب يسوع وموته ودفنه وموقف النسوة "اللواتي كنّ قد أتين من الجليل".
أما أحداث القيامة فتبدو منسّقة تنسيقاً أوضح: إعلان القيامة بفم النسوة. خبر تلميذي عماوس. ظهور يسوع وسط تلاميذه. البركة الأخيرة. تتوالى هذه الأخبار الأربعة بشكل سريع، وكأن كل شيء يتمّ في يوم واحد، أو أقله في فترة قصيرة من الزمن.
وبمختصر الكلام، نستطيع أن نقدّم القسمة التالية:
1- آلام (حاش) يسوع (22: 1- 24: 3).
أ- الافخارستيا في البيت (22: 1- 38).
ب- صلاة الابن وامّحاؤه (22: 39- 65).
ج- الوحي النبوي: المسيح والملك (22: 66- 23: 25).
د- المسيرة إلى الآب (23: 26- 24: 3).
2- القائم من الموت يسير على طرقاتنا (24: 4- 53).
أ- إعلان الحي للنسوة (24: 4- 12).
ب- طريق عماوس (24: 13- 35)
ج- حضور القائم من الموت (24: 36- 49)
د- ا لبركة (24: 50- 53).
إذا أردنا أن نحدّد مراحل هذه المسيرة، نكتشف علامات قطع أدبية واضحة. ولكن التأليف اللوقاوي يدلّ على أصالته بالنسبة إلى مت ومر، إن في تنظيم المجموعات الكبرى أولا تلاحم المتتاليات. لهذا، فالمقابلة مع مت ومر تبرز الطابع الخاص بالإنجيل الثالث.
في مجمل حاش يسوع (ف 22- 23)، يسبق الافخارستيا في البيت (22: 1- 38) المسحُ بالطيب في بيت عنياكما في مر 14: 3- 9 ومت 26: 6- 13. هذه هي اللوحة الأولى. فمن الفصح إلى الافخارستيا (22: 1- 23) تُصوّر الاستعدادات للفصح وتأسيس الافخارستيا. وهذا التأسيس زيد على الفصح. بعد هذا، قدّم لوقا لوحة ثانية تتحدّث عن الخدمة والمحن (22: 24- 38) وقد بدأها بعبارة تدل على "وحصل بعد هذا". نحن لا الواقع أمام خطبة قصيرة بعد العشاء السّري، نجد فيها الموضوع اليوحناوي حول تنازل المعلّم (يو 13: 12- 16) وقولة متاوية عن العروش التي وُعد بها الاثنا عشر (مت 19: 28). وجاء إعلان نكران بطرس ليسوع، وفيه تشترك الأناجيل الأربعة (مت 26: 30- 35؛ مر 14: 26- 31؛ يو 13: 36- 38)، ثم إعلان توبة بطرس (22: 31- 34). وضُمَّ إلى هذين الاعلانين قول خاص بلوقا حول القتال الحاسم والسيفين (22: 35- 38).
إن المجموعة المخصّصة لصلاة الابن وامحّائه (22: 39- 65) تتضمّن ثلاثة أجزاء: صلاة يسوع وسط تلاميذه الذين يتعرّضون للتجربة (22: 39- 46). توقيف يسوع مع ما في هذا التوقيف من دلالة على حلول سلطان الظلمة (22: 47- 53). نكران بطرس مع هزء الحرس بالنبي (الذي هو يسوع) (22: 54- 65). ونرى على التوالي امّحاء وجه يسوع الذي خانوه وأنكروه وهزئوا به. غير أن لوقا لا يتحدّث عن هرب التلاميذ كما فعل متّى (26: 56 ب) ومرقس (14: 50). كما لا يبرز بما فيه الكفاية الانتقالات الأدبية. نقرأ في آ 39: "وإذ خرج مضى على عادته". وفي آ 47: "وفيما هو يتكلّم أيضاً". وفي آ 54: "وإذ قبضوا عليه قادوه".
وتورد المجموعة الثالثة مثول يسوع أمام السنهدرين وأمام بيلاطس. كما تورد إعلان يسوع النبوي بأنه المسيح والملك (22: 66- 23: 25). لا نستطيع أن نقول حقاً إننا أمام "محاكمة" أمام المجلس الأعلى: فالحكم قد صدر مسبقاً. واستجواب يسوع الموجز كل الإيجاز، يلقي الضوء على هويته الالهية (آ 66- 71). بالإضافة إلى ذلك، يحدّد لوقا موقع هذا المشهد في الصباح (آ 66: ولما كان النهار) لا في الليل كما فعل متّى (26: 57- 66) ومرقس (14: 55- 64). غير أنه يفترض مثولاً آخر حصل خلال الليل في "بيت عظيم الكهنة" (آ 54. قد يكون مثوله أمام حنان، رج يو 18: 13- 23، الذي هو غير مثوله أمام قيافا، يو 18: 24- 28). بدّل موضع نكران بطرس ومشهد الهزء اللذين سبقا محاكمة يسوع.
إن المتتالية التقليدية عن مثول يسوع أمام بيلاطس (23: 1- 25)، تتضمّن ثلاثة مشاهد: استجواب يسوع. الحكم على يسوع. هزء الجنود بيسوع (لا 27: 11- 31؛ مر 15: 1- 20؛ يو 18: 28- 29: 16). أما التقليد الذي استعاده لوقا، فيزيد على هذه المتتالية التقليدية إرسال يسوع إلى هيرودس (آ 6- 12). بعد أدى هزئ به الملك (وحاشيته) ألبسه ثوباً أبيض. ولكن يسوع لم يكلّل بالشوك ولم يرتدِ "رداء قرمزياً" كما قال مت 27: 27- 31 ومر 15: 17- 20 ويو 19: 1- 3. إن إدخال هذا الحدث في الخبر، أتاح للوقا أن يدخل الاعلان المثلّث ببراءة يسوع الذي نجده في فم بيلاطس (آ 14، 15، 22).
وأخيراً، تصوّر لوقا المجموعة الرابعة بشكل "مسيرة يسوع إلى الآب" (23: 26- 24: 3). وتتوزّع هذه المجموعة في ثلاث محطات: تطواف نحو الجلجلة (آ 26- 31) مع حدث "بنات أورشليم" (آ 28- 31). محن ثلاث تعرّض لها المصلوب من قبل الحاضرين، وجوابه عفواً يقدّمه لجلاّديه ورفيقه على الصليب (آ 32- 34). وفي النهاية، عبور إلى الآب، كلام قائد المئة، راحة السبت العظيم، اكتشاف القبر الفارغ (23: 44- 24: 3). إن موت يسوع يبدو في الإنجيل الثالث استسلاماً بين يدي الآب ومسامحة للبشرية. مثل هذه النظرة تلتقي ونظرة يوحنا.
أما فيما يخصّ مجموعة "القائم من الموت على طرقاتنا" (24: 4- 53)، فيشرفُ على خبر لوقا حدثُ "طريق عماوس" (آ 13- 35) الذي يضمّ وحده 22 آية فيغطّي نصف ف 24 تقريباً. هذا الفصل الخاص بلوقا قد ترك أثره في خاتمة مرقس الطويلة (16: 12- 13). وتحيط بهذا الحدث لوحتان: إعلان يوجّهه (المسيح) الحي إلى النسوة، وهو يبدأ بفعل "وحصل"، كما يتبعه ذكر دهشة بطرس (آ 12). ثم حضور الرب وسط تلاميذه الأحد عشر ورفاقهم (آ 36- 49). إن لهذين المشهدين ما يوازيهما في التقليد الإزائي (مت 28: 1- 8، 16- 20؛ مر 16: 1- 8، 14- 18) وفي إنجيل يوحنا (20: 1- 13، 19- 23)، غير أن لوقا يطبع الخبر بطابعه الشخصي. كما يشدّد ثلاث مرات على مصير ابن الإنسان (آ 7، 26، 46) كما أعلنه يسوع (آ 6) تتمةً للكتب (آ 25- 27، 44- 46). فهو يتحدّث بوضوح عن وعد بالروح القدس (آ 49) سيصوّر فيضُه في سفر الأعمال (ف 2). والبركة (24: 50- 53) التي تختتم الانجيل، هي خاصة بلوقا. إنها تذكّرنا ببداية الإنجيل وتعلن أعمال الرسل.
3- تقديم النصّ
أ- آلام يسوع
يتفق الشّراح المعاصرون على القول بأن خبر آلام يسوع في لو يقدّم لنا صورة "النبي الشهيد"، الشاهد الشاهد، الذي يقدّم نفسه مثالاً للمسيحيين المضطهدين خلال القرن الأول. وما يؤكّد هذا الكلام هو خبر موت اسطفانس (أع 7: 55- 60) الذي دوّن حسب رسمة موت يسوع. غفر اسطفانس، كما غفر يسوع. وسلّم نفسه إلى الله كما فعل يسوع قبله.
ولكن لوقا يرى أن يسوع ليس شاهداً بين سائر الشهود، ولا نبياً بين سائر الأنبياء. إنه ذاك الذي نال مسحة الروح من أجل رسالته الفريدة: فتعليمه هو كلمة الخلاص النهائية (4: 18- 21). وموته كنبيّ في أورشليم (13: 33) هو ختم رسالته وتوقيع بالدم على تعليمه. هذا ما نراه في مثوله أمام المجلس الأعلى، وهو خبر يبدو أصيلاً في 22: 66- 71. سألوه هل هو المسيح. أجاب يسوع وهو عارف ما ستكون عليه نتيجة جوابه: لن يصدّقوه، لن يطلقوا سراحه. غير أنه لا يستطيع أن يسكت. عليه أن يؤكد أنه ليس فقط المسيح الذي انتظره إسرائيل، بل ابن الله في كمال المعنى الذي تحمله هذه العبارة. وإنه سوف يموت بسبب ذلك. غير أن هذا الموت هو الشهادة التي تفرضها رسالته، والطريق الوحيدة التي بقيت له لكي يكون أميناً لأبيه ويحمل الحقيقة إلى أحبّائه.
هل أعطى لوقا استشهاد يسوع هذا فاعلية خلاصيّة؟ هناك من ظنّ ذلك على ضوء نصوص يهوديّة متأخّرة نَسبت إلى موت الشهداء سلطان تكفير خطايا الشعب. غير أن هذا التفسير لا يبدو معقولاً لسببين: الأول، لا يربط لوقا تكفير الخطايا بموت يسوع. الثاني، لا يحتل التكفير عند اليونان المكانة التي يحتلّها في العالم اليهودي.
ورغم ذلك نستطيع القول إن لوقا يجد في استشهاد يسوع وظيفة خلاصية. أولاً، لأنه يعلن بشكل احتفالي بنوّة يسوع الإلهية، وهي موضوع ينال الخلاص. ثانياً، لأن طريق الخلاص لتلاميذ يسوع تقوم بأن يحملوا الصليب على خطى معلّمهم (9، 23؛ 14: 27؛ 23: 26). إن خبر موت اسطفانس يدلّ بما فيه الكفاية على أن موت يسوع يفتح الطريق إلى الخلاص.
فيسوع في آلامه ليس فقط النبي الشهيد والشاهد الأول. فهناك تشديد على مسيرته إلى الآب، على عبوره إلى الآب. فهذا هو معنى كلامه خلال شهادته أمام المجلس الأعلى: "ولكن، من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله" (22: 69). ففي الحاش حسب لوقا، نكتشف شيئاً فشيئاً حياة يسوع الحميمة مع أبيه. فمنذ بداية الخبر حتى نهايته، يسوع هو تجاه أبيه. في بستان الزيتون، هتف: "أيها الآب... لا مشيئتي، بل مشيئتك" (22: 42). وعلى الصليب هتف: "يا أبتاه اغفر لهم" (23: 43). وفي النهاية: "يا أبتاه، في يديك أستوح روحي" (23: 46). هذا الحضور وجهاً إلى وجه هو حوار وصلاة وعلاقة الابن مع أبيه. وفي هذه العلاقة سيدخل اللّص بنعمة من الله فيسمع كلمات يسوع: "اليوم تكون معي في الفردوس" (23: 43).
إن هذا الدخول في العهد (الميثاق) (معي... أنت)، في حياة الابن الحميمة، هذا العهد الجديد (22: 20) الأبدي، هو ذروة هذه الفصول التي فيها يكشف لنا لوقا معنى الحدث بما فيه من نور وظلمة بالنسبة إلينا. ففي هذه العلاقة الفريدة بين يسوع وأبيه، في هذه البنوّة التي تقدّم عهداً للإنسان الخاطئ، تظهر بشكل حاسم كرامةُ يسوع الملوكية: إنه الابن الوحيد الذي عرف المحنة من أجلنا (22: 29؛ 23: 43).
إن نسخة لوقا عن الآلام، تستعيد بشكل إجمالي رسمة مرقس: الآلام السّرية في مجموعة التلاميذ (مر 14: 12- 52). الآلام العلنية مع المحاكمتين (مر 14: 52، 15: 19). كشف القلوب أمام المصلوب (مر 15: 20- 41). ولكن ترتيب المشاهد يتبدّل لإبراز المسيرة التاريخية للأحداث. ركزّ مرقس المتتالية الأولى (14: 12- 52) على موقف يسوع الذي. سلّم نفسه إلى الآب وإلى البشر. أما لوقا فقدّم إزاء ذلك تأسيس الافخارستيا (22: 1- 38) وتوقيف يسوع على جبل الجلجلة. فهنا وهناك أحاط بعمل يسوع (الفصح والافخارستيا، الصلاة والنزاع) تدخّل يهوذا (22: 3- 5؛ رج آ 22- 23، 47- 48) وتدخّل بطرس (22: 31- 34، 54- 62) وسط الاثني عشر. وتبديل محل خبر نكران بطرس يبرز هذا التقديم للأحداث.
ويهتمّ لوقا اهتماماً خاصاً بالاثني عشر وبمن يقف تجاههم: إنهم مجموعة رجال يواجهون تجارب الشيطان. غير أن يسوع يقدّم لهم ميثاقا جديداً يحمله لا صلاته إلى الآب. وهكذا تأتي لوحتان فتقسمان إلى اثنين "آلام يسوع السّرية"، حيث يسلّم يسوع نفسه لرسله الذين يخونونه: الافخارستيا التي أسّسها في قلب محنته. صلاة امّحاء الابن التي صارت فاعلة من أجل بطرس.
أولاً: الافخارستيا في البيت
كان باستطاعتنا أن نقسم هذه المتتالية إلى ثلاثة أحداث: خيانة يهوذا والاستعدادات للفصح (22: 1- 13). الاحتفال بالفصح والوصول إلى الافخارستيا (22: 14- 23). "خطبة بعد العشاء" التي تتواصل في حوار (22: 24- 38). وما يثبت هذه القسمة فعل "حصل" الذي يعود في آ 14 وآ 24. ولكن هناك من يرى في "وحصل" (في آ 14) فعلاً مشتركاً بين الإزائيين فيشدّد على آ 24 الأصيلة في لوقا. "ولما كان المساء" (مت 26: 20؛ مر 14: 17). إذن، نقدر أن نحدّد مجموعة أولى ننتقل فيها من الاحتفالي بالفصح المرتبط بخيانة يهوذا (آ 1- 3) إلى عطية الميثاق الجديد الذي ينضمّ إليها الكشف عن الخيانة (آ 20- 22). أما المجموعة الثانية فتتكوّن من خطب ثلاث وجّهها يسوع إلى الرسل، إلى بطرس، إلى الرسل.
ثانياً: صلاة الابن وامحاؤه
وإذ تنقلنا المتتالية الثانية إلى النزاع في جبل الزيتون، تحدّثنا عن صلاة يسوع. لقد ألغى الإنجيل الرابع مشهد النزاع لأنه ذكر جوهره في 12: 23- 33 (يا أبتاه، نجني من هذه الساعة). أما خبر لوقا فيتوزّع في ثلاث مراحل: الأولى، النزاع (آ 39- 46). الثانية، التوقيف (آ 47- 53). هاتان المرحلتان تتشابهان مع التقليد الإزائي. أما المرحلة الثالثة فتتضمّن نكران بطرس للمسيح في بيت عظيم الكهنة (آ 54- 62) ومشهد الهزء خلال الليل (آ 63- 65). قلب لوقا هذين المشهدين بالنسبة إلى مت ومر اللذين جعلا اجتماع السنهدرين يتمّ في الليل. أما يوحنا فأورد مشهد المثول أمام حنان (18: 12- 23) وميّزه عن مشهد المثول أمام قيافا (18: 24- 28). إفترض لوقا التقليد اليوحناوي فلمّح إلى "محاكمة" ليلية (22: 54) ولم يمزجها مع المثول أمام المجلس الأعلى. هل نحن أمام اهتمام تاريخي؟ ربّما. فالتشريع اليهودي يمنع المجلس من الانعقاد ليلاً ليتفحَّص المجرمين، كما يفرض أن لا يُعلن حكم الاعدام يوم المحاكمة.
ثالثاً: يسوع مسيح وملك
"ولما كان النهار". هذه العبارة التدوينية تدلّ على مسيرة متدرّجة كما في 22: 7، 14، بالنسبة إلى "يوم الفطير" و"الساعة". في مت 27: 1 ومر 15: 1 (رج يو 18: 28)، يدلّ "الصباح" (بروي) على انتقال من المحاكمة الليلية أمام المجلس إلى محاكمة تمّت في وضح النهار أمام المحكمة الرومانية. أما لوقا فتحدّث عن "النهار" الذي بدأ يطلع، الذي هو آتٍ. نتذكّر هنا "اليوم الذي فيه يُعلن ابن الإنسان" (17: 30).
حتى الآن ما زال يسوع يصليّ ويخلّص. حتى الآن ما زال الجنون القاتل يتعاظم. فمن يعرف ان يرى الأمور، يفهم أن الخلاص يتغلّب على قوة الظلمة. والانحدار في ليل النزاع والخيانة والهزء ينتهي ب "النهار" الذي هو نهار الدخول إلى الملكوت. ففي جبل الزيتون، وفي الليل، سيطر الصمت والدخول في ظلمة الوضع البشري. وها هي الكلمة تظهر من جديد مع "النهار": كلمة علنية يتلفظ بها يسوع أمام السلطات، على طريق الجلجلة، على الصليب. وهكذا تجد المحاكمة مكانتها في هذا الموضع من الخبر.
ب- قيامة يسوع
يتحدّث ف 24 عن حضور يسوع بيننا، عن الطريقة التي بها يدخل في حياتنا. غير أن هذا الحضور يبقى متحفّظاً فيتّخذ ظاهر الغياب: غياب جسد يسوع الذي وُضع في القبر واختفى بشكل سّري. غياب ذاك الذي "اختطف" نحو أبيه والذي سيعود ليعيش معنا في الامّحاء. وبين هذين الغيابين يرتسم طريق أمامنا. فالنسوة، وبطرس، وتلميذا عماوس، لا يبدأون (كما في سائر الأناجيل) مسيرة الإيمان الذي ينطلق من متطلّباته الخاصة، بل نحن بالأحرى أمام مسيرة القلب. وهي مسيرة نكتشف فيها أن يسوع يوجد حيث نحتاج إليه، في واقع لا نتوقّعه. ففي عماوس، ظنّه التلميذان غريباً، جاهلاً، مدعواً... مع أنه قريب جداً، وعارف بالكتب المقدّسة، مع أنه صاحب البيت.
كيف يكون هذا الطريق بين غيابين؟ يبدو الأول بشكل حاجز لا نستطيع تجاوزه: "كنّ متحيرّات" (آ 4). والثاني بشكل "بركة": "وفيما هو يباركهم" (آ 51). وكيف يتدرّج هذا الطريق من "غياب يسوع" إلى "غياب نعيشه مع يسوع" (أخذ يسير معهما، آ 15)؟ في الواقع، يبدو هذا الطريق في خمسة مشاهد، إذا اعتبرنا أن "السبت العظيم" يشكل انتقالة من الآلام إلى القيامة.
فالصعود والمباركة الأخيرة (24: 50- 53) يتوازيان مع السبت العظيم الذي يبدأ (23: 54- 24: 3): صار الغياب ملئاً وحضوراً. وحدث زيارة النسوة إلى القبر (ثم بطرس) (آ 4- 12) يوازي ظهور القائم من الموت على الأحد عشر ورفاقهم الذين صاروا شهوداً (آ 36- 49). وخبر تلميذي عماوس، الخاص بلوقا، يشكّل قلب المتتالية (آ 13- 35)، فيبدو تقليداً أصيلاً يفترق كل الافتراق عن سائر مواد هذا الفصل.
حين نتطلّع إلى المعالم التدوينية في التأليف اللوقاوي، نكتشف النقاط التالية. في الوحدة الأولى (السبت العظيم) نلاحظ التكرارات: السبت (آ 54، 56). الحنوط والأطياب (23: 53؛ 24: 1). الجسد (23: 44، 24: 3). القبر (23: 55؛ 24: 2). وجدن، لم يجدن (24: 2، 3). كل هذا يؤمّن التماسك في الخبر. وتتميّز الوحدة الخامسة باستعمال كلمة "وحصل" (آ 51) وتكرار فعل "بارك" ثلاث مرّات (آ 50، 51، 53). ونجد في المقطعين المتوسّطين (آ 4- 12، 36- 49) موازيات لافتة: "وقف بهن رجلان" (آ 4)= "وقف هو نفسه في وسطهم" (آ 36). "كنّ مذعورات" (آ 5)= "لمَ هذا الاضطراب" (آ 38)؟ "لم يصدّقوهن" (آ 11) = "كان مدهوشاً ممّا جرى" (آ 12)= كانوا مندهشين (منذهلين) (آ 41). تذكّروا كلام يسوع الذي ينبئ بموته وقيامته (آ 6- 7= آ 46). ونلاحظ أخيراً أن الاعلان على النسوة يبدأ بفعل "وحصل" (آ 4). أما المقطع عن عمّاوس فينطلق من خبر سابق أدخله لوقا في سياقه مع فعل "حصل" (كاي اغاناتو، آ 15، 30).
إن مسيرة ف 24 تبدو مسيرة من زمن أول (غياب/ إعلان) إلى غياب ثانٍ (حضور في البعد/ مباركة) بفضل خبرة عماوس. فالزمن الأول ينطلق من الموت والتحيرّ أمام القبر الفارغ، ويتحدّد موقعه على مستوى إعلان بسيط يقول إن يسوع حيّ. والثاني يقدّم خبرة تُعاش مع القائم من الموت الذي يُرى ويُلمس، وينتهي في فرح الانفصال الذي يُعاش بشكل مباركة. من جهة، نحن أمام كلمة لم تُفهم بعد. ومن جهة ثانية، سمح يسوع بأن يلتقوه، يعرفوه. ثم اختُطف من بينهم وهو يباركهم.
نستطيع أن نجمل تعليم هذه المتتالية كما يلي. في البدء فراغ يتعمّق مع نساء سمعن إعلاناً ولكن لم يصدّقهن أحد. ومع بطرس الذي لم يرَ شيئاً مع أنه رغب في أن يرى. وجمع يسوع تلاميذه في إضمامة افخارستية (أخذ واكل أمامهم، آ 43) وجعلهم شهوده (آ 48، أنتم شهود لذلك).
إذا قابلنا خبر لوقا هذا مع خبر الانجيليين الثلاثة الباقين، نرى أنه لا يقدّم لنا يسوع كالقائم من الموت الذي نلاقيه في الجليل، أرض الإيمان التي منها انطلق تعليم الملكوت (مر 16: 7). ولا كالربّ الممجّد الذي يظهر في تيوفانيا كما على جبل سيناء (مت 28: 1- 5)، فيوفد تلاميذه في رسالة شاملة (مت 28: 16- 20). ولا كالمسيح المرتفع في المجد والعائش وسط التلاميذ، إخوته، ليشركهم في رسالته كابن الله (يو 20).
أما عند لوقا فالفكرة المركزية وربّما الوحيدة هي فكرة مجيء يسوع الخفي (المحتجب) في قلب حياتنا وعلى طرقاتنا. هو لا يفجّر العالم بظهوره كما في مت أو يو، بك هو يكشف عن ذاته قائماً من الموت في الواقع اليومي. وإذا كان التلاميذ قد ارتاعوا حين رأوه، فلأنه أظهر حضوره بشكل كبير. وان كانوا لم يصدّقوا، فبسبب فرحهم. فشعورهم لا يستطيع أن يتوافق مع هذه العلاقة المباشرة. فالظهورات تحمل الحيرة والاضطراب، وهي هنا لكي تدخلنا في نمط آخر من الحضور، في المسافة والبركة.
وإنطلاقاً من هذا الشكل الجديد من الحضور، تنطلق الشهادة. ففي ف 24 (آ 45- 49) لا نجد إرسال تلاميذ في المعنى الحصري للكلمة. فالارسال يكون في أع. أمّا هنا، فيسوع لا يهتمّ بأن يرسل، بل يدخل تلاميذه في طريقة حضوره الجديدة: إنه يتغلغل عبر مختلف التصرّفات البشريّة لكي يوقظ فيها الحرّية. حين نقرأ هذا النصّ، نستطيع القول إن "تاريخية" القيامة تقاس بحضور يسوع: حضور يومي جداً بحيث لا نتوقّعه. وغير متوقّع بحيث يحيرّنا. إن عمل الله عبر القائم من بين الأموات في حياتنا اليومية، هو اكتشاف مذهل لا سيما للذي لا يعش عهداً مع الله، كما كانت الحال بالنسبة إلى الوثنيين.
في هذا المنظار، إختلف لوقا عن سائر الانجيليين حين تكلّم عن الرباط بين الإيمان وواقع القيامة. عند مرقس أو يوحنا، الإيمان يكشف عن الواقع. عند لوقا، الوقائع تكشف عن الإيمان. مع الأفعال والخطب يفهم الإيمانُ الحدثَ فهماً "روحياً" أي في الروح القدس. وهذا ما نكتشفه شيئاً فشيئاً في أعمال الرسل. وقراءة الحدث هذه تعمِّقه! فيسوع يفتح القلب ليفهم (تحققوا، إفهموا، أنظروا). فمسألة الإيمان لقارئ لو هي أن يكتشف في أحداث حياته الخاصة أعمال الله في تاريخنا، أن يرى حضور احيّ الذي يقدّم لنا ذاته. حينئذ نفهم بلاغ "الرجلين" عند القبر: إِنهما يقرأان الحدث قراءة سماوية. في هذا الوقت ظلّ الأحد عشر مُغلَقين، وبطرس لم يفهم. وتلميذا عماوس تركا الاخوة وذهبا مع حزنهما.
في هذا المقطع يلعب "التذكّر" دوراً لا تلعبه "الرؤية": حين نتعرّف إلى يسوع يصبح أولا غير منظور. فالتذكّر يتيح لنا أن نعيد قراءة الحدث على ضوء الروح القدس مثل مريم، أم يسوع (2: 19، 51). وحين يظهر يسوع، يبدو الفرح عائقاً أمام إيمان التلاميذ الذين اضطربوا تجاه هذا السّر القريب. كيف يكتشفون الفهم العميق لهذا الحضور الذي يهيّئه يسوع لهم؟
4- التعليم الذي نكتشفه في النص (22: 1- 24: 53)
ما هو المدلول العميق لآلام يسوع وقيامته في لو؟ ان يحدّثنا عن الطريقة "الملموسة" و"التاريخية" التي بها يسوع، ابن الإنسان، قد اخترق سّر الآلام والموت ليدخل إلى حياة أبيه الحميمة في قلب وجودنا اليومي. هناك عبارتان تحدّدان هذا "الحدث". "يا أبت، إغفر لهم". "يا أبت، في يديك استوح روحي". إن هذين الدعاءين اللذين وجّههما يسوع إلى أبيه يدلاّن في الوقت عينه على تضامنه مع البشر الذين هم ضحيّة الشر وفاعلوه، وعلى انتزاعهم من هذا الشر بنعمة الله.
أ- موضوع التضامن
ونبدأ بموضوع التضامن. إنه أفضل طريقة لكي يعبّر لوقا عن تجسّد الله في يسوع المسيح. ويظهر هذا التضامن بشكل خاص يا خبر تأسيسه الافخارستيا والخطبة التي تليه. كما نجد تعبيراً عنه في جلوس يسوع مع تلاميذه إلى مائدة واحدة، مع أنهم خطأة مثل يهوذا "الذي كان من عداد الاثني عشر" (22: 3). ويشدّد لوقا ثلاث مرات على هذه المشاركة التي تذكّرنا بالطعام مع الخطأة (5: 29- 30، 33- 35؛ 7: 36- 50). "أعدّا لنا الفصح لنأكله" (22: 8). أما في مت 26: 17 ومر 14: 12، فقد تكلّم التلميذان عن فصح يهيّئانه للمعلم. ونقرأ في 22: 11: "أين الردهة التي آكل فيها الفصح مع تلاميذي" (= مت 26: 18؛ مر 14: 14)؟ ونقرأ آية خاصة بلوقا: "إشتهيت شهوة أن آكل هذا الفصح معكم" (22: 15). وسيظهر هذا الطعام الفصحي عهداً جديداً في دمّ يسوع "المراق عنكم" (22: 19).
ترد مرتين لفظة "عنكم" عند لوقا فتبدو خاصة به. أما مت 26: 28 ومر 14: 24 فيستعملان عبارة سامية "من أجل الكثيرين (لغفران الخطايا)". وإعلان الخيانة يشير من جديد إلى هذا القرب الذي يتيح ليهوذا أن يسلّم ابن الإنسان (22: 21= مت 26: 23؛ ومر 14: 20). وتذكّرُ مز 41: 10 (صديقي أكل خبزي وانقلب علليّ) ظل محتجباً، بينما هو واضح في مر 14: 18 ويو 13: 18. زال الهيكل (مركز حضور الله) وعفّى عنه الزمن. ولكن بعطية جسد يسوع في البيت، صار الله قريباً (في متناول) من جميع البشر.
وتدلّ الخطبة القصيرة بعد العشاء على حياة الجماعة التي يعيشها يسوع مع أخصّائه، في خطّ قريب من غسل الأرجل (يو 13: 12- 17) و"الوصية الجديدة" (يو 13: 34- 35) في الانجيل الرابع. نلاحظ كلام يسوع: "أنا بينكم كالخادم" (22: 27). هكذا دشّن ستراتجية "الخدمة" ضدّ سياسة التسلّط. وهكذا أورد لوقا بطريقته "القولة" عن الفدية كما نقرأها في كما 20: 28 ومر 10: 45. غير أنه احتفظ فقط بالخدمة وألغى فكرة "الفدية".
تضامن يسوع مع الانسان "فخدم" حتى الموت. وفي هذا كان الشاهد الأول. تجنّب لوقا الحديث عن "ذبيحة" لأن هذه اللفظة تضلّل قرّاءه. غير أنه استعاد موضوع التضامن (فعل "أعدّ" يعود إلى جذر "عهد")، وذكّرنا بمصير واحد يربط الابن بتلاميذه: "أنتم قد ثبتّم معي في محني. وأنا أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه لي أبي، لكي تأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي" (22: 28- 30).
إن تشارك يسوع الحالي مع تلاميذه يقود إلى الجلوس القريب إلى مائدة واحدة معه في ملكوته. وهكذا تكون مسيرة الخلاص قد بدأت منذ الآن. لقد استشفّها بطرس، ولكنه لا يستطيع بعد أن يسير فيها. "يا ربّ، أنا أمضي معك إلى السجن" (22: 33). وتنتهي خطبة بعد العشاء بإيراد واضح لنشيد عبد الله المتألّم (الرابع)، وهو لا يرد إلاّ هذه المرّة في لوقا: "أحصي مع الأثمة" (22: 37= أش 53: 12). إن هذا الايراد لا يدلّ على الألم التكفيري الذي قاساه النبي والخادم السّري، بل على تضامنه مع المرذولين والخطأة.
بعد هذا الوقت، نشاهد امّحاء يسوع المتواصل. حين صلى على جبل الزيتون، ابتعد "نحو رمية حجر" عن تلاميذه الذين ناموا من الحزن. أما الرجالي الذين جاؤوا ليوقفوه كأنه لصّ (22: 52)، فذكّرهم قال: "كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدّوا علي يداً. ولكن، هي الآن ساعتكم، وهذا سلطان الظلمة" (22: 53). سينزل يسوع في هذه الظلمة العميقة ساعة ينكره بطرس حين يسمع الناس يقولون: "كان أيضاً معه" (22: 56، 59). أو: "أنت أيضاً منهم" (22: 58). وأعلن يسوع أمام السنهدرين: "من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله" (22: 69). إنه ذاهب إلى أبيه (رج 22: 42). وفي الوقت عينه يسلّم إلى إرادة البشر (23: 25).
حين اقتيد يسوع إلى خارج المدينة ليُصلب، بدا تضامنه مع البشر واضحاً في لو. قال لنساء أورشليم أن لا يبكين عليه، بل على نفوسهنّ وعلى أولادهنّ: إنهن يقدرن أن يقرأن في موته المصيرَ الذي ينتظرهن. بعد هذا سيُجعل في مصاف الأثمة (23: 32). ويتجادل الناس حول صليبه في الخلاص الذي لا يستطيع أن يمنحه. ولكنه في ذلك الوقت أخذ موت البشر على عاتقه فأمّن لهم طريق خلاص. هذا ما عبرّ عنه تدخّل "لصّ اليمين". أقرّ ببراءة يسوع وطلب منه أن يذكره. فاعلنت له كلمة يسوع حالاً أن ما ترجّاه قد تحقق: "اليوم تكون معي في الفردوس" (23: 43). أجل، صار يسوعُ ابنَ الانسان لكي يستقبل الانسان في حياة الله الحميمة. هذا هو تضامن يسوع معنا في عهد جديد وميثاق أبدي.
ب- مسامحة البشر وانتزاعهم من الشرّ
إن انتقال يسوع إلى أبيه، يدلّ على عودة البشر إلى نعمة الله، على مسامحتهم وانتزاعهم من الشّر. ساعة سلّم الابن روحه بين يدي أبيه، صار القرب إلى الله مفتوحاً أمام كل واحد منا. هذه هي المسيرة الثانية التي تخرج من قلب الظلمة حيث انحدر يسوع فشارك البشر في موتهم وصار ضحيّة عنفهم القاتل. كانت الحرب هائلة، كانت مواجهة بين الحياة والموت، بين الله والشيطان. فقبضة الشيطان قاسية كما يقول لوقا في 22: 3، 11؛ 23: 35- 39. وبيلاطس نفسه سيكون دمية في يد المجرّب (23: 25).
ونتعرّف إلى تدرّج العودة إلى النعمة عبر خبر الآلام. هناك "ضرورة" (ينبغي) مخطّط الله الذي يمرّ في ذبح حمل الفصح واكله (22: 7- 8): وتتمته في الملكوت تمرّ في عذاب يسوع (22: 15- 16). فهذه هي طريق ابن الانسان (22: 22). ووسط تخاذل التلاميذ، بدت صلاة يسوع الفاعلة كأمل بالعودة (22: 32: صلّيت لأجلك). ففي الحرب الروحية التي يخوضها الشاهد الآن، ستكون أمانة المعلّم لرسالته (22: 37) وصلاته التي تحرّك صلاة تلاميذه (22: 40- 46) قوّة تساعدهم على الصبر في تحمّل التجربة والاضطهاد الآتي. فيسوع يبقى في تدخّله من أجل خادم عظيم الكهنة الذي جُرح (22: 51) ذاك الذي يمرّ وهو يفعل الخير. إنه يخضع بحرّية "لسلطان الظلمة" (22: 53).
حين استُجوب يسوع أمام السنهدرين وبيلاطس، عرّف الناس بهويّته: هو المسيح، ابن الانسان، ابن الله، الملك. غير أن هذه الهويّة الحقيقية التي تجعله حقاً مخلّص العالم، لا يمكن أن تُعرف الآن. بل سوف تُعرف في موته الذي ستحدّد معناه كلمات ثلاث عن الغفران والمشاركة والصبر: غفران طلبه من الآب لأجل جلاّديه (23: 34). مشاركة في رجاء الملكوت مع "لصّ اليمين" (23: 42). صبر في إخضاع كل كيانه لمخطّط الآب. إن طريقة الموت هذه هي طريقة موت "البار". هذا ما أقرّ به قائد المئة (23: 47) قبل أن يسمّيه بطرس "القدوس والبار" (أع 3: 14؛ رج 7: 52). فعبر حياة لا لوم فيها وموت غير عادل، ستفتح النعمة طريقاً لها إلى قلب الإنسان. وهذا الطريق هو عمل الروح القدس.
خ- القيامة
ويدلّ الفصل عن القيامة كيف أن الموضوعين السابقين يلتقيان: فالقائم من الموت يمرّ في طرقاتنا ويسير معنا (24: 15، 29). وهو يترك لنا، كعلامة عن حضوره، جسده الافخارستي (24: 30- 31، 35). كما يدعو الجماعة الشاهدة (24: 9، 47) لتحيا في قدرة الروح القدس (24: 49). حين انتقل إلى أبيه، انتقل فينا كما أسلم في آلامه إلى إرادة البشر وإلى إرادة الله. ما يحرّك هذا التضامن ويجعله فاعلاً هو مخطّط خلاص الله الذي أعلن في "الحي" (24: 5). تحمّل مصيره من الألم الذي اعتبره ضرورة نعيشها (24: 7، 26)، ثم كتاباً نفهمه (24: 45- 46)، وشهادة نؤدّيها (24: 48)، وأخيراً بركة نتقبّلها (24: 50- 53).
خاتمة
إن خبر الآلام والقيامة عند لوقا يقدّم يسوع كالنبي والملك الحامل البشريّة في طريقه النبوي إلى الآب. كان البُعد النبوي حاضراً في حياة يسوع منذ بداية رسالته. وسيمتدّ هذا البعد في امّحاء نزاعه والقبض عليه.
وستظهر المهمّة النبوية من خلال شهادة يسوع أمام المجلس الأعلى. قالوا: "لقد سمعنا نحن من فمه" (22: 71) الكلمة النبوية. وهذه الكلمة ستقوده إلى الموت، شأنه شأن أنبياء شعبه.
وظهر الطابع الملكي ليسوع منذ البشارة في الناصرة والولادة في بيت لحم. وقد تسلّمه بشكل خاص حين دخوله إلى أورشليم: "مبارك ذلك الآتي، الملك، باسم الرب" (19: 38). ومجيء ابن الانسان يدلّ على قدرة الله على الكون. إلى هذا الملكوت دعا تلاميذه خلال العشاء السري. وفي النهاية سيدعو الفص الذي طلب منه أن يذكره في ملكوته: "اليوم تكون معي".
مع لقب النبي والملك تُجمل آلامُ يسوع وقيامته كلَّ رسالته وسط البشر، وتدعونا إلى السير وراءه. وهو يدعونا لكي نستقبل الآخرين ونغفر لهم، كما يدعونا إلى عيش تضامن جديد مع البشر.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM