الفصل السادس عشر: مجيء ابن الانسان

الفصل السادس عشر
مجيء ابن الانسان
21: 25- 28، 34- 36

أخذ هذا النص من خطبة يسوع حول نهاية العالم، وهو يتوقّف عند القطع الثلاث الأخيرة: مجيء ابن الإنسان (آ 25- 27)، التأكد من أنه يجيء (آ 28- 33)، تحريض على السهر (آ 34- 36).
نجد في خطبة يسوع هذه صعوبات جمّة. أولاً بموضوعها الذي هو سرّ نهاية التاريخ. ثانياً بميزاتها الأدبية: أسلوب الرؤى اليهودية. ثالثاً باختلافات مع متّى ومرقس، وهذا ما يدلّ على أن التقليد أعاد قراءة كلمات يسوع وصياغتها.
إذن، قبل أن نفسّر هذه الصفحة من إنجيل لوقا، نتوقّف عند الميزات الأدبيّة لخطبة يسوع.
1- خطبة يسوع عن نهاية العالم
أ- أنبياء ورؤى يهودية
إن خطبة يسوع عن نهاية العالم (أو: الخطبة الاسكاتولوجية) ترتبط بفنّ أدبي هو الفن الجلياني (نجده في أسفار الرؤى عند اليهود). هذا الفن الذي دشَّنته التوراة قبل المسيح بمئتي سنة في سفر دانيال، يتمثّل في العالم اليهودي السابق ليسوع في عدد كبير من المؤلفات: سفر أخنوخ، انتقال موسى، أسرار أخنوخ، رؤى إيليا وصفنيا وابراهيم. وستؤلَّف رؤيا عزرا ورؤيا باروك بعد دمار أورشليم سنة 70.
إرتسمت الخطوط الأولى لهذا الفن الأدبي لدى الأنبياء المتأخرين في العهد القديم: حز 40- 48؛ أش 24- 27؛ 34- 35؛ زك 9- 14. ويتميَّز هذا الفن الجلياني عن الفن النبوي بما يلي:
- طابع الكتابة والتقنية. يعظ النبي كل يوم بيومه، وكتابه هو مجموعة خطبه التي كانت مبعثرة ربما في ذاكرة سامعيه. أما الرؤيا فهي مؤلَّف مكتوب دوّن حسب اصطلاحات أدبية أخذ بها كتَّاب الرؤى.
- طابع الاغفال. يقدم النبي نفسه ويكلّم شعبه بدون التباس ويعتبر نفسه مسؤولاً عما يقوله. أما الرؤيا فهي مغفلة. تُنسب إلى شخص عظيم عاش في الماضي (أخنوخ، دانيال، موسى، عزرا...)، وسلطته تسند التعليم الذي يقدّمه هذا الكاتب الذي أخفى اسمه.
- الهدف هو إعلان نهاية الأزمنة. لا شكّ في أن الأنبياء أعلنوا مراراً دينونة الله، ولكنهم لم يطيلوا كلامهم في تصويرها. فاهتمامهم ينصبُّ على الحاضر وفيه يطلبون إيمان سامعيهم وارتدادهم إلى الله. أما الرؤى فكُتبت دائماً خلال الأزمات، فوجّهت انتباهنا نحو المستقبل حيث ننتظر دينونة الأبرار والأشرار، حيث ننتظر الخلاص. وتصوِّر الرؤى تصويراً مفصلاً الأحداث الاسكاتولوجية التي تسند أمل الشعب المختار.
حين سأل تلاميذ يسوع معلّمهم عن نهاية الأزمنة، استعمل لغة الرؤى وأساليبها لكي يجيبهم. ولكننا نلاحظ أنه يبتعد عنها في نقطتين هامتين. الأولى: إنه يتكلّم باسمه الشخصي ويستند إلى سلطته الخاصة فلا يحتاج أن يتخفّى وراء شخص عظيم عاش في الماضي. الثانية: إنه لا يهتم بتصوير المستقبل بقدر ما يهتمّ بالموقف الذي يتَّخذه المؤمنون. في هاتين النقطتين يبدو يسوع أقرب إلى الأنبياء منه إلى الرؤى. وهذا التشابه الأدبي يبيّن أن رسالته قريبة من هؤلاء الملهمين العظام في العهد القديم.
ب- التقاليد المتوازية يا الأناجيل الازائية
في يدنا ثلاث نسخ لخطبة يسوع الاسكاتولوجية: خطبة مرقس (ف 13)، خطبة متّى (24- 25)، وخطبة لوقا (ف 21). يتوافق الانجيليون الثلاثة في وضع هذه الخطبة قبل الآلام حالاً، واعتبارها تعليم يسوع الأخير. هذا يعني أن الخطبة تعود إلى التقليد المشترك، بل إلى أقدم ما في التقليد الانجيلي.
يتَّفق الإزائيون الثلاثة على مناسبة الخطبة: أنبأ يسوع بدمار الهيكل، فطرح التلاميذ سؤالاً عن وقت نهاية الأزمنة وعلامتها (مر 13: 1- 4 وز).
ولكننا نكتشف عدّة اختلافات تفصيلية بين الإنجيليين الثلاثة: حدّد متّى ومرقس الحدث على جبل الزيتون، وجعلا الخطبة تتوجّه إلى بعض التلاميذ. أما لوقا فيجعلها في الهيكل ويوجّهها ظاهرياً إلى الجمع كلّه: لقد أرادها إعلاناً عاماً لدمار أورشليم عقاباً لها على رفض يسوع (19: 42- 44: 23: 28- 31). حدّد مرقس (آ 3) اسم التلاميذ الذين طرحوا السؤال. وأشار متّى (آ 3) بوضوح إلى مجيء المسيح ونهاية العالم... ولكن اتفق الإنجيليون الثلاثة على الجوهر الذي وجدوه في المرجع المشترك الذي استقوا منه: أعلن يسوع دمار الهيكل. ربط التلاميذ هذا الإعلان بإعلان نهاية العالم. فسألوا معلمهم: متى يتمّ هذا الحدث وما هي علامته؟
ان الخطبة الاسكاتولوجية التي تشكّل جواب يسوع، ترد في نصوص متوازية عند متّى ومرقس ولوقا. ولكن الاختلافات بين هذا النص وذاك تفرض علينا أن نتفحّص هذه الخطب الثلاث على التوالي.
أولاً: نص مرقس (13: 5- 37)
يمكننا أن نقسمه إلى مقاطع مختلفة.
* المقطع الأول (آ 5- 8): "بداية الأوجاع". نجد فيه نوعين من العلامات البعيدة التي تدلّ على النهاية: كرازة المعلمين الكذبة (آ 5- 6)، العلامات المعروفة في أسفار الرؤى اليهودية (آ 7- 8).
* المقطع الثاني (آ 9- 13): اضطهاد التلاميذ. هو العلامة المسيحية الخاصة عن مجيء ملكوت الله. كما دخل يسوع إلى المجد بالصليب، هكذا يدخل التلاميذ إلى الملكوت بشهادة الدم.
* المقطع الثالث (آ 14- 23): الضيق العظيم. هذا المقطع هو امتداد للصورة السابقة عن الاضطهاد في أسلوب جلياني خاص. ان آ 14 و19 تلمّحان إلى دا 9: 27 و12: 1 اللتين ترمزان إلى الاضطهاد الاسكاتولوجي، في نهاية الأزمنة.
* المقطع الرابع (آ 24- 27): مجيء ابن الإنسان ليجمع مختاريه. يستقي هذا المقطع تفاصيله من لوحات الدينونة في أش 13: 10؛ 34: 4؛ دا 7: 13- 14. وما نلاحظه هو أن هذا المشهد يتحدّث فقط عن خلاص المؤمنين ولا يقول كلمة في القيامة والدينونة اللتين يفترضهما بالضرورة.
* المقطع الخامس (آ 28- 32): العلامات والساعة: يقين الخلاص، جهل للزمن الذي فيه يتحقّق.
* المقطع السادس (آ 33- 37): مثَل يدعونا إلى السهر.
وهكذا تكون خطبة مرقس في أساسها إعلاناً للخلاص وإشارة إلى الشرط للحصول على هذا الخلاص: شهادة المؤمن في زمن الاضطهاد.
ثانياً: نص متّى (24- 25)
يتضمّن قسمين أدبيين جد مختلفين.
* القسم الأول (24: 4- 36). يتبع عن قرب تصميم مر 13: 5- 32، ويبتعد عنه من وقت إلى آخر ليدخل بعض التفاصيل التحديدية (آ 5، 15، 26- 28، 30- 31)، كما يعالج بطريقة مغايرة اضطهاد التلاميذ في آ 9- 14. أقرب نص مواز لنص مر 13: 9- 17 هو مت 10: 17- 21 الذي قد يكون الأقرب إلى كلمات يسوع في عدّة نقاط. هذا المقطع الذي لم ينتم في الأصل إلى الخطبة الاسكاتولوجية، قد أدخل فيها فيما بعد ليفسر المقطعَ المتحدّث عن الضيق العظيم.
* القسم الثاني (24: 37 ي). أدخل متّى حسب عادته سلسلة من التعاليم الإضافية عن الموقف الذي تتطلبه الدينونة: السهر، الأمانة، المحبة.
مدلولا الخطبة هو هو كما عند مرقس ولكن التطبيقات الإرشادية تبدو أكثر وضوحاً.
ثالثاً: خطبة لو 21: 8- 36.
تتبع مراراً تصميم خطبة مرقس عن قرب. ولكن هناك اختلافات هامة ينسبها بعض الشّراح إلى عمل لوقا الذي فسَّر كلمات يسوع على ضوء أحداث سنة 70 (هذا هو الافتراض الأكثر معقولية)، وينسبها البعض الآخر إلى مراجعه الخاصة. ومهما يكن من أمر هذه المسألة الصعبة، لا بدّ لنا من تحديد فكر لوقا الذي يبدو واضحاً في هذا النص بأقسامه المختلفة.
- القسم الأول (آ 8- 24): أحداث سابقة لاحظ لوقا أنها تحقّقت.
* المقطع الأول (آ 8- 9): أحداث ستحصل أولاً دون أن يعني هذا أن "الوقت حان": مسحاء كذبة، أخبار حروب وثورات (قد يكون لوقا عرف موت نيرون سنة 68).
* المقطع الثاني (آ 10- 11): سلسلة أخرى من العلامات تتميّز عن السابقة بمقدمة جديدة: "حينئذٍ قال لهم". وهذه السلسلة تعدّد آيات نهاية الأزمنة (رج آ 25- 26). إنها العلامات الاسكاتولوجية المعروفة في الرؤى اليهودية. وهي تتجاوز العلامات السابقة ببُعدها العام ووجهتها الكونية.
* المقطع الثالث (آ 12- 19). يرى لوقا كما يرى مر 13: 9- 13 أن العلامة الكبرى لاقتراب ملكوت الله هي اضطهاد المسيحيين. روى لوقا المشاهد الأولى في سفر الأعمال (4: 1- 21؛ 5: 17- 41...). وعرف، قبل أن يكتب إنجيله، اضطهاد رومة في أيام نيرون. وهكذا نفهم انه شدّد على اقتراب هذه العلامة التي تسبق علامات السماء (آ 12).
* المقطع الرابع (آ 20- 24): دمار أورشليم. هذا المقطع هو أكثر ما في خطبة لوقا ابتكاراً. يستعمل سمات نجدها في مر 13: 14- 20 ومت 24: 15- 22 التي تصور المضايق الاسكاتولوجية، ولكنه يطبِّق هذه السمات على الكارثة التاريخية التي حصلت سنة 70: صوَّر حصار أورشليم على يد الجيوش الرومانية (آ 20). ودعا التلاميذ إلى الهرب من المدينة التي حُكم عليها بالدمار (آ 21- 23 أ). وتطبيق المواد الجليانية على واقع عرفه لوقا، يدلّ على أن هذا الواقع هو في نظره استباق للدينونة الأخيرة. إنه يفتح حقبة جديدة في تاريخ الخلاص (آ 23 ب- 24): بالنسبة إلى إسرائيل، ضيق يعاقب تصلبه في رفض الإنجيل. وبالنسبة إلى الوثنيين مهمة إنجيلية صار "كفر" إسرائيل مناسبة لها (أع 13: 46- 47؛ 28: 25- 28؛ روم 11: 11- 15). وفي نهاية "زمن الأمم" هذا، ما زال لوقا يرجو، شأنه شأن بولس (روم 11: 25- 32)، ارتداد إسرائيل في النهاية (لو 13: 34- 35).
- القسم الثاني (آ 25- 27): مجيء ابن الإنسان. هذا ما نفسّره فيما بعد مع القسمين الثالث والرابع.
- القسم الثالث (آ 28- 33): اليقين بأنه سيأتي.
- القسم الرابع (آ 34- 36): تحريض على السهر.
إن الطابع الأصيل لخطبة لوقا هو أنه حدّد، إنطلاقاً من التاريخ، سلسلة الأحداث القريبة فميَّزها تمييزاً واضحاً عن نهاية الأزمنة.
2- التفسير
أ- مجيء ابن الانسان (آ 25- 27)
عدّدت خطبة لوقا حتى الآن سلسلة من الأحداث القريبة شهدها الإنجيلي (آ 8- 9، 12- 19، 20؛ 24). وفجأة تخلىّ نظره عن الإطار التاريخي ليوجّهه إلى نهاية الأزمنة. إنفصلت هذه النهاية انفصالاً واضحاً عن الحقبة السابقة فدلّت عليها العلامات الكونيّة (آ 25 أ) التي ميّزها لوقا عن العلامات السابقة (آ 10- 11).
وتبدو هذه العلامات الكونيّة في الرؤى كإطار معروف للدينونة الأخيرة. نجدها في اللوحات النبويّة التي ترسم انتصار الرب على "جيش السماء" على آلهة أشور وبابل الكواكبية. يورد مرقس ومتى في هذا المقطع الموازي للوقا، أش 13: 10؛ 34: 4 على خطى يسوع. ولكن لا الانجيليون ولا يسوع يفكرون الآن في حرب الإله الحي ضد الآلهة الوثنية. فهذه الصور التقليدية القديمة تعبّر بصورة بسيطة عن تدخّل الله النهائي في عالم يريد أن يحرّره من الشر (رج روم 8: 19- 22؛ رؤ 21: 1- 8).
فصّل متّى ومرقس الكوارث الكونيّة على طريقة أسفار الرؤى. أما لوقا فتوقّف بالأحرى عند ردة الفعل عند البشر قبل اقتراب النهاية (آ 25 ب- 26). لقد كان بهذا الشكل قريباً من التوراة ومن فكر يسوع: إن الدراما الاسكاتولوجية هي قبل كل شيء دراما بشرية.
إعتبرت الرؤى اليهودية أن نهاية الأزمنة تتضمّن سلسلة من الأحداث المتشعّبة: القيامة، الدينونة، خلاص المختارين، عقاب الأشرار، إقامة عالم جديد (أورشليم السماوية).
أعلن يسوع هذه الأحداث المختلفة في مقاطع أخرى من الإنجيل. مثلاً، القيامة في مر 12: 25- 27، الدينونة في مت 25: 31- 46؛ خلاص الأبرار وهلاك الأشرار في مت 8: 11- 12. ولكنه كثّف هنا، وهذا ما يشهد له الإزائيون الثلاثة، كثّف كل أحداث نهاية الأزمنة في مجيئه المظفَّر كابن الإنسان (آ 27). سيحدّد متّى ومرقس أنه يأتي ليجمع مختاريه. هذا هو كلام يسوع الأولاني. وزاد متّى عدّة سمات جليانية قد تكون جاءته من مراجع أخرى.
ومجيء ابن الإنسان هذا هو في نظر يسوع الإعلان الجوهري. والدليل على ذلك هو أنه يُذكر مراراً في الأناجيل (مر 8: 38 وز؛ 4 1: 62 وز؛ مت 10: 23؛ 13: 41؛ 19: 28؛ 25: 31؛ لو 12: 8؛ 17: 3؛ 18: 8). وهذا الإعلان يلمّح إلى مشهد القضاء في دا 7: 13- 14 حيث يمثّل ابن الإنسان "شعب قديسي العلي"، بعد أن تولى السلطة السامية في نهاية محنه (دا 7: 18، 22، 27). اتخذ يسوع لقب "ابن الإنسان" كلقب شخصي وكتعبير عن دوره كمخلص، وكحامل لمصير البشرية.
أوجز لوقا نصّه أكثر مما فعله متّى ومرقس، فأبعد الصور الجليانية الجانبية ليوجّه انتباهنا إلى قدرة ومجد يسوع المنتصر على الشر وربّ الملكوت. لا شكّ في أنه ينتظر منه خلاص المؤمنين (آ 28)، ولكنه لا يذكره حتى في لوحة النهاية. فهو لا يميّز هذا الخلاص من ظهور الرب المظفَّر والقائم من الموت الذي هو ينبوع هذا الخلاص.
ب- إنتظار الخلاص (آ 28، 34- 36)
بعد أن قدّم النص مجيء الرب النهائي، انتهى في تحريض يعلمنا كيف يجب أن ننتظره. نحن هنا أمام مقطعين خاصين بلوقا: واحد يلي مباشرة النص السابق (آ 28) وآخر هو ختام الخطبة كلّها (آ 34- 36). يختلف الواحد عن الآخر ويقدمان تعليمين متكاملين.
أولاً: آ 28
هي نداء إلى الرجاء. فالعلامات والأحداث التي أنبأ يسوع بها هي نحيفة جداً: المحن، الاضطهادات، دمار أورشليم، إضطرابات كونيّة. ولقد لاحظ لوقا الضيق الذي فيه تلقي هذه الوقائع الهائلة إسرائيل والبشرية. ولكن المؤمنين بيسوع لن يخافوا شيئاً من هذه الأحداث التي تدلّ على انتصار معلّمهم وسيادته على الكون. وإذ يرون اضطرابات الكون الذي ما زالت مستعبداَ للخطيئة حتى الآن، عليهم أن يتعرّفوا إلى اقتراب ملكوت الله، إلى إعلان "خلاصهم" (أبوليتروسيس). لا نجد هذه المفردة في الأناجيل، ولكن لوقا أخذها من بولس الذي استعملها مراراً ليدلّ على عمل يسوع الخلاصي وثماره من أجلنا.
هذا الخلاص هو عطاء حاليّ ينضم إلى البر والحكمة والقداسة (1كور 1: 30) أو إلى غفران الخطايا (كو 1: 14؛ أف 1: 7). وهو أيضاً عطيّة مقبلة يربطها بولس بقيامة أجسادنا (روم 8: 23) واتمامنا النهائي في آخر الأزمنة (أف 4: 30). يفكر لوقا هنا بهذه الموهبة الأخيرة، ولكنه يعرف أن هذه النعمة السامية تجد استباقها للمعمَّد في عطية الروح الذي هو باكورة (روم 8: 23) وعربون (2 كور 1: 22؛ 5: 5؛ أف 1: 14) الخلاص الآتي. وهكذا يتأسّس الرجاء المسيحي تأسيساً متيناً. ويستقبل المؤمن بفرح علامات مجيء ربه وهي تعلن له تحرّره النهائي.
ثانياً: آ 34- 36
تقع خاتمة الخطبة في منظار آخر. هي لا ترى مجيء الرب الذي أعلنت عنه العلامات كما في آ 11، 25، 28، ولكنها تدلّ على هذا المجيء المفاجئ وغير المنتظر كما في أمثال السهر (12: 35- 46) أو في لوحة يوم ابن الإنسان (17: 22- 36). صورتان معروفتان، وقد استعملهما يسوع كليهما لأنه اهتم لا بتصوير المستقبل تصويراً أدبياً، بل بدعوة أحبّائه ليستعدوا له بأمانة.
والموقف الذي يفرض نفسه على المؤمنين في هذا المقطع الأخير هو السهر المتواصل. ليحترسوا من التجارب الكبيرة: من الخمرة والسكر (12: 45؛ 1 تس 5: 6- 7؛ روم 13: 13). ليحترسوا من هموم الدنيا التي تميل بهم عن الخير الوحيد الذي يُحسب له حساب (8: 14؛ 12: 22- 31؛ 17: 27- 28). وليكونوا مستعدين، لأن "ذلك اليوم" يباغت ويفاجئ (1 تس 5: 3) كل سكان الأرض، كما يسقط فخّ صيّاد على طريدة لا تنتظر. فكّر لوقا هنا بنصّ أش 24: 17 الذي طبَّق على الدينونة الأخيرة صورة الفخ التقليديّة.
الإنسان المستعد في نظر لوقا هو الذي يضع اهتمامه في المهمّة التي سلَّمها السيّد إلى عبيده (12: 35- 48). هو الذي يصلي دائماً ولا يملّ، كما قيل له في 18: 1 وبوم ابن الإنسان. فإن كان المؤمن بتوجّه دوماً إلى ربّه ليسجد له، ليطلب عونه، ليطلب أن يأتي ملكوته، كيف سيؤخذ على غفلة في هذا المجيء الذي هو كل رجائه. وإذ يستعد هكذا بالأمانة والصلاة لن يخاف محن النهاية: سيكون واقفاً حين دينونة ابن الإنسان.
خاتمة
هذا هو إنجيل مجيء ابن الإنسان. منذ المجيء الأول، أجبر كل واحد على اتخاذ موقف مع يسوع أو ضده (2: 34- 35). وفي كل جيل وحتى نهاية التاريخ، يُدعى كل إنسان لأن يختار. لقد قمنا بهذا الخيار عبر إيماننا، ولكننا نعلم أنه يبقى فينا مناطق مظلمة لم يدخل إليها الإيمان بعد. لهذا يدعونا هذا الإنجيل إلى أن نزيلها: توجّهوا إلى الرب الآتي. اسهروا فتكونوا مستعدّين لاستقباله والدخول في ملكوته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM