الفصل الخامس عشر: خراب أورشليم

الفصل الخامس عشر
خراب أورشليم
21: 20- 24

بعد الكشف عن عداوة السلطات اليهودية ليسوع، وضُح كل الوضوح أنهم لن يرجعوا إلى الله ولن يتعرّفوا إلى مسيحه. لهذا ستكون آخرة الشعب ورؤسائه ومدينته الخراب والدمار. هذا ما ينبِّههم إليه يسوع في هذه الخطبة الطويلة التي تعني في مستوى أول دمار أورشليم وما يسبق هذا الدمار من أحداث. وفي مستوى ثانٍ، الأمور الأخيرة. قدّم متّى ومرقس المضايق الأخيرة في أسلوب جلياني. أما لوقا فأعلن خراب أورشليم ورأى في هذا الخراب إعلاناً عن دينونة الله الأخيرة. قال يسوع في 19: 24: "لو عرفتِ في ذلك اليوم، ولكنه خفيَ عن عينيك". وكانت إشارة أولى عما سيصيب أورشليم: "يحيط بك أعداؤك بالمتاريس، ويحاصرونك، ويطبقون عليك من كل جهة، ويهدمونك على أبنائك" (آ 43- 44).
1- نظرة عامة
نحن هنا في ما يُسمَّى "الرؤيا الكبيرة" التي تتميّز عن "الرؤيا الصغيرة" (ف 17). إنطلقت خطبة يسوع هذه من سؤال عن حجارة الهيكل الذي هو مسكن حضور الله. فأعلن يسوع دماره (آ 6)، بحيث نتساءل: أين سيقيم الله في تاريخنا؟
أول ما عمله لوقا في ف 21 هو أنه كيّف الخبر المرقسي (ف 13) لقرّائه الهلينيين. تحدّث مر 13: 7 (رج مت 24: 6- 14) عن "النهاية" (تالوس) التي تعني بالنسبة إلى اليهودي تتمّة مخطّط الله. أما بالنسبة إلى اليوناني فهي تدلّ على الخاتمة، على ما ليس "الآن". إذن، ليست جديرة بأن أهتمّ بها في حياتي.
تحدّث لوقا عمّا سيحصل قريباً (آ 9). لا شكّ في أن مصير ابن الإنسان هو الكلمة الأخيرة في تاريخنا، ولكن هذا المصير هو حاضر اليوم في كل أحداث حياتنا.
عند مر 13: 3 ألقى يسوع هذه الخطبة على تلاميذه، على جبل الزيتون، وبعد أن ترك الهيكل (13: 1؛ رج مت 24: 1- 3). أما لوقا فلا يحدّد موقع تعليم يسوع، بل إن الخاتمة (آ 37- 38) تجعلنا نفترض أنه ما زال في الهيكل، وأنه توجّه بكلامه إلى الشعب (20: 45؛ 21: 38).
يبدو نصّ مر 13 بشكل تصالب مبني بناء محاكماً. أما مت 24- 25 فصوّر "عودة (مجيء، باروسيا) ابن الإنسان، وتتمّة الدهر" (24: 1- 36) قبل أن يتوسّع في موضوع التزام الإنسان بالسهر والامانة (24: 37- 25: 30). وأخيراً أرانا ابن الإنسان يدين الأمم (25: 31- 46). أما عند لوقا، فترتيب الخطبة يبدو بسيطاً. إن آ 5- 7 تطرح سؤالين (رج مر 13: 4؛ مت 24: 3): متى؟ ما هي العلامة؟ وتوضح آ 8- 9 الزمن الذي به ترتبط الأحداث التي تتكلّم عنها الخطبة. تصوّر آ 10- 26 الإطار الكوني، وداخل هذا الإطار مصير أورشليم ودمارها (آ 20- 24).
المقدمة (آ 8- 9) تشكّل تحذيراً من المسحاء الكذبة (توداس، يهوذا الجليلي، أع 5: 36- 37). ويأتي إطار الخطبة (آ 10- 11) في وجهه الكوني، وزمن الاضطهاد (آ 12: 19) كما نراه في أع. غير أن هذا الاضطهاد لا يصل بنا إلى الحائط المسدود، ولا يجعل مخطّط الله ورحمته يؤولان إلى الفشل. ومع هذا الاضطهاد هناك شهادة يؤدّيها التلاميذ مع الروح القدس. وينتهي كل هذا بنداء إلى الثقة: "شعرة واحدة من رؤوسكم لا تهلك". وبنداء إلى الثبات المرتكز على أناة الله: "بثباتكم تقتنون نفوسكم" (آ 19).
2- دمار أورشليم
ونصل إلى رؤية دمار أورشليم التي تبدو في موازاة مع مصير التلاميذ. قام لوقا هنا بعمل أصيل: إستلهم المضايق الاسكاتولوجية التي صوّرها مر 13: 14- 20 ومت 24: 15- 22، وجعل نصب عينيه سقوط أورشليم في قبضة جيش تيطس. كان تعبير "رجاسة الخراب" في دا 9: 27 (رج دا 11: 31؛ 12: 11) يدلّ على صنم مهين وُضع في الهيكل. صار في مر 13: 14 ومت 24: 15 رمزاً إلى الجحود في قلب الموضع المقدس. ولكنه زال من النص اللوقاوي. و"الخراب" هنا هو دمار المدينة (رج 13: 35؛ 19: 43- 44). ومجيء الجيوش الرومانية يدلّ على فراغ أورشليم وهجرة السكان نحو جبال اليهودية وأريافها، وربّما نحو بلاّ في الشمال.
وهناك أمر له معناه. ألغى لوقا الآيات التي تتحدّث عن الهرب بعجل (رج مر 13: 15- 16؛ مت 24: 17- 18) التي تعود إلى الرؤيا اليهودية وتعبرّ عن رفض التعاهد مع قوى الشّر. ولكنه استعاد جوهر هذه الآيات في "الرؤيا الصغرى" التي تعني مصير كل واحد منا (17: 31: من كان على السطح، من كان في الحقل). وأشار الإنجيلي إلى أن دمار أورشليم "يُتمّ" كل ما كُتب (تث 32: 35؛ يوم النقمة؛ إر 46: 10؛ رج هو 9: 7؛ إر 5: 29؛ 6: 2- 6؛ م ي 3: 12). وهكذا أدخل الحدث التاريخي في نحطط الله حسب رسمة معروفة: الوعد/ تتميم الوعد. وفي الوقت عينه دلّ على أن الحدث لم يعد منذ الآن منفصلاً عن موت يسوع الذي يتمّ الكتب.
ويتواصل عمل لو فيلغي التلميح إلى الخليقة التي استلهمها دا 12: 1 (مر 13: 19؛ مت 24: 21: منذ بدء الخليقة التي خلقها الله). ولكنه يستعيد الرثاء على النساء الحوامل والأمهات الصبايا، فيقدّم لنا صورة الحياة في آفاق الموت. ويأتي "ضيق" (أنانكي= ضرورة، ضرر) عظيم فيملأ الأرض. وينصبّ "الغضب" على هذا الشعب، على كل شعب إسرائيل بدون تمييز. ما يسبّب هذا "الغضب" أناس يحاصرون أورشليم، كما يضايقون شهود الملكوت. ويدلّ سقوط أورشليم على القتل والسلب واستعباد المدينة المقدسة. بهذه الصور المأخوذة من الأنبياء (إر 20: 4؛ 21: 7؛ دا 8: 13؛ زك 12: 3؛ مي 4: 11)، يجعلنا لوقا نكتشف كيف صارت أورشليم (الخربة) وسط الأمم، علامة ويقيناً وشهادة، لا عن غضب الله على هذا الشعب، بل عن عمله الخلاصي الذي يصل إلى المؤمن في قلب الاضطهاد والضيق (رج أع 14: 22).
ويذكر نصّ لوقا ثلاث مرات "الأمم" (اتني). فموت يسوع يفتتح هذه الحقبة السّرية التي اسمها "أزمنة الأمم". ماذا تعني هذه العبارة؟ تعني زمن العنف الذي يمارسه المجتاح، أو بالأحرى زمن الرجاء، بكلمة النعمة التي تقدّم لكل إنسان (رج أع 28: 28- 31) في حريّة الروح القدس. غير أن الإنسان لا يقدر أن يعرف متى يكون هذا الزمن. إنه على كل حال زمن مفتوح، لأن "التتمّة" التي تتحدّث عنها آ 24 لا تدلّ على "نهاية"، بقدر ما تدلّ على دينامية تُدخل في ذاتها كلَّ مدى تاريخنا.
المدينة المقدسة هي نموذج عن تاريخنا في لو. ودمار أورشليم يرتبط بموت مرسل الله. غير أن هذا المرسل سيغفر لجلاّديه ضد ساعة موته، ويحمل معه اللصّ إلى الفردوس. إن ابن الإنسان "الذي يمضى بحسب ما هو مقرّر" (22: 22)، هو عبد الله الذي يحمل معه البركة (أع 3: 36). لا شكّ في أن مصير أورشليم مريع جداً. ولكنه ليس عقاباً عقيماً. إنه علامة خلاص تنير في الآتي من الأزمنة، كل ضيق نعيشه في حياتنا. وبما أن لوقا يتحدّث عن "شعب" يمرّ في "الغضب"، فهذا يعني أنه يستبعد اللعنة والرذل والعقاب النهائي. فالشعب في لوقا يختلف عن رؤسائه المعارضين ليسوع. الشعب يطلب رضى "معلّم الجليل". نقرأ في 21: 38: "وكان الشعب جميعاً يبكّرون إليه في الهيكل (يقومون في الصباح الباكر ويأتون إليه) ليسمعوه بلا انقطاع". ومع ذلك، يبقى أن هذا "الشعب" سيمرّ في ضيق عظيم خلال دمار المدينة المقدسة، وهذا الضيق سيكون علامة للجميع. إذا كانت المدينة المقدسة التي بكى عليها يسوع لأنها عزيزة على قلبه، ستدمّر، فهل يفلت واقع حياتنا من هذا المصير؟
3- قراءة تفصيلية
أ- أورشليم أحاط بها الجنود (آ 20- 21)
يتحدّث النصّ عن "المخيّم" (ستراتوبادون). عن الجيوش التي تحيط بأورشليم. نشير هنا إلى أن لوقا يستعمل لفظة "ياروسليم". رج 2: 22؛ 10: 30. "الخراب اقترب". الخراب (اراموسيس) كلمة أخذها لوقا عن مر 13: 14 (رجاسة الخراب). عاد الإنجيلي إلى السبعينية كما في دا 12: 11: "من وقت إزالة المحرقة الدائمة وإقامة رجاسة الخراب". سوف تتوقّف شعائر العبادة في الهيكل في أيام أنطيوخس الرابع، من سنة 167 إلى سنة 164 ق. م. (دا 9: 27؛ 11: 31). لا سنة 167، سيكرّس الهيكل لعبادة زوش، إله اليونان، وهذا ما يدلّ على رجاسة الخراب. فلفظة "خراب" هي في العبرية: ش م م. وهي تقابل: "بعل ش م م" أي بعل السماء الذي هو زوش، إله السماء. وهكذا تعني العبارة: رجاسة زوش، بعل السماء، تجاه قداسة الرب الإله (رج دا 8: 13). أجل، إن هذه الرجاسة (تمثال زوش) حملت الدمار إلى البلاد (رج 1 مك 1: 54؛ 1 مك 6: 2). أما الرجاسة الجديدة التي يتحدّث عنها لوقا فهي الجيوش التي تحيط بالمدينة (19: 43) وتدلّ على أن النهاية صارت قريبة (21: 9). وهكذا يصحّح يسوع ما أعلنه الأنبياء الكذبة "أن الزمان قريب". فقال: إن دمار أورشليم صار قريباً. هنا نتذكّر ما قاله في 13: 35 عن "البيت المتروك" (المهجور). أجل، سيُهجر الهيكل ويُدمّر، وكذا يصير بالمدينة المقدسة.
"فالذين في اليهودية" (آ ا 2). ليهربوا. هذا ما قاله مر في 13: 14 ب. إلى أين يهربون؟ إلى الجبال التي تحيط بأورشليم من الشرق والشمال والجنوب. هل هذا التفصيل هو صدى لهرب الشعب كما حصل حقاً سنة 70؟ هذا ما يقوله الشّراح. فلوقا قد كتب هذا الفصل على ضوء ما حدث ساعة حاصرت الجيوش الرومانية أورشليم. هنا يقول اوسابيوس في التاريخ الكنسي: "إن شعب الكنيسة في أورشليم تلقّى أمراً من خلال قوله نبوي قبل الحرب: الذين هم في المدينة، عليهم أن يهربوا ويقيموا في مدن بيريه المسماة بلا". هل عرف لوقا بهذا القول؟ هذا ما لا نستطيع أن نؤكّده.
"اليهودية". هي المنطقة المحيطة بأورشليم (1: 5). يجب أن يهربوا ولا يعودوا. والذين في الريف، لا يحاولوا أن يدخلوا المدينة كما اعتاد الناس أن يفعلوا حين يأتي العدوّ. هذا يعني أن المدينة سوف تسقط.
ب- أيام انتقام (آ 22- 23)
نحن أمام تلميح إلى هو 9: 7: "جاءت أيام العقاب" (أو: الافتقاد). أما في السبعينية فنقرأ: "جاءت أيام الانتقام". إن هوشع يبكي إسرائيل الذي رذل الرب ولم يتنبَّه إلى نبته. لهذا سيأتي الافتقاد: العقاب، الانتقام. أدخل لوقا هذا التفصيل في الشكل المرقسي للخطبة عائداً إلى اللوقاويات (أمور خاصّة بلوقا). غير أن لوقا لا يشرح في أي معنى يكون دمار أورشليم "انتقاماً". ما هو سبب هذا الانتقام؟ نتذكّر هنا 18: 7: الله ينصف مختاريه (مز 44: 24- 25؛ زك 1: 12: ماذا ينتظر ليفعل؟)، ولا سيّما المسيحيين الذين يرون أن مجيئه قد تأخّر (2 بط 3: 9: الرب لا يؤخّر تمام وعده، رؤ 6: 9- 11). نجد عبارات عن انتقام الله في تث 32: 35 إلى الانتقام والجزاء)؛ إر 46: 10 (يوم انتقام من أعدائه). نحن هنا أمام عقاب الخطأة. وخطيئة أورشليم كبيرة بعد أن قتلت ربهّا.
"يتمّ جميع ما هو مكتوب". أي: الكتب المقدسة التي تدلّ على إرادة الله ومخطّطه الخلاصي. رج 18: 31: "يتمّ كل ما كتبه الأنبياء في ابن الإنسان"؛ 20: 17... كل ما كُتب لا ينحصر في ثلاثة مقاطع تلمِّح إليها آ 14. نجد هنا لفظة "كل" كما في 3: 16؛ 4: 15؛ 9: 1. نحن نجد أقوالاً عن دمار أورشليم في مي 3: 12: "لذلك ستُفلح صهيون بسبب أعمالكم كحقل، فتصير أورشليم خراباً وجبل بيت الرب وعراً". هي المرة الأولى فيها يدوّي إعلان دمار أورشليم، مدينة ومعبداً، بشكل جذري. وسيكون لهذا القول النبوي من الوقع، بحيث يتذكّره الناس بعد مئة سنة (إر 26: 18: تنبّأ ميخا المورشتي).
وفي إر 6: 1- 8 نقرأ أيضاً عن حصار أورشليم: "أهربوا يا بني بنيامين من أورشليم. من الشمال لاح شرّ عظيم يدمّر صهيون الجميلة المترفة... إقطعوا الأشجار وانصبوا على أورشليم مترسة". وفي 26: 1- 9 نسمع كلام إرميا حول دمار الهيكل والمدينة (الهيكل مثل شيلو والمدينة تصير خراباً بلا سكان) ومحاكمة الشعب بسبب أقواله. إن خراب المدينة يعني "نهاية" تاريخ الله الخلاصي. كانت في الماضي المدينة التي فيها تقرّر مصير يسوع، والموضع الذي فيه تمّ الخلاص، والمكان الذي منه انطلقت كلمة الله فوصلت إلى أقاصي الأرض. ولكن كل هذا وصل إلى "نهايته". ولقد "تمّ" كل شيء.
"الويل للحبالى" (آ 23). لسنا هنا أمام لعنة وحكم لا رجوع عنه، بل أمام بكاء وتشك. أمام تهديد هو في الوقت عنيه دعوة إلى التوبة (10: 13؛ 11: 42- 52؛ 21: 23؛ 22: 22؛ وخصوصاً 6: 24- 26؛ ويل لكم أيها الأغنياء). "الحبالى". نحن أمام تعبير مأخوذ من السبعينية: ويل للواتي يحملن ولداً في أحشائهن (رج السبعينية في تك 16: 4، 5، 11؛ 38: 24- 25؛ قض 13: 3، 5؛ 27 صم 11: 5). بل للواتي يرضعن (تك 21: 7). إنهن سيرون بؤس أطفالهنّ.
في هذه الآية تبع لوقا مر 13: 17 ولكنه ألغى 13: 18 التي تشير إلى إمكانية دمار أورشليم في الشتاء (صلّوا لئلاّ يكون هربكم في الشتاء. حرفيّاً: لئلا يكون هذا. قد يكون: هذا الخراب في الشتاء). هذا يعني أن مرقس كتب إنجيله قبل أحداث سنة 70. أما لوقا فكيّف كلامه مع الأحداث التي عرفها وكتب بعد حدوثها بخمس عشرة سنة تقريباً. نشير هنا إلى أن حصار المدينة امتد من نيسان حتى نهاية آب سنة 70. وهكذا تكون الأحداث قد تمّت خلال الصيف. إن لوقا يعيد قراءة أحداث الماضي على ضوء مر 13: 14- 18 كما على ضوء أسفار العهد القديم.
"في تلك الأيام" (1: 39؛ 4: 2). هي أيام الانتقام كما قالت آ 22. يكون ضيق. على هذه الأرض، هذه البلاد، أورشليم وبلاد اليهودية كلها. ترك لوقا في آ 23 نصّ مر 13: 19 الذي يعود إلى دا 12: 1، فدلّ على أنه يتطلّع إلى مصير أورشليم على ضوء كلام الأنبياء وخصوصاً دانيال، لا على ضوء الواقع الذي تمّ سنة 70. أما لوقا فألّف بنفسه آ 23 منطلقاً من الحدث الذي عرفه اليهود.
"سخط (غضب) على هذا الشعب". الغضب يدلّ على ردّة فعل الله القدوس تجاه الخطيئة (أش 30: 27- 33). هذا لا يعني أنه يغضب على الخاطئ، وهو لا يزال يعامله بالرحمة. بل هو يرفض الخطيئة التي هي شرّ يدمّر الإنسان والكون.
ج- يسقطون بحدّ السيف (آ 24)
يعود النصّ هنا إلى سي 28: 18: "كثيرون سقطوا بحدّ السيف، وأكثر منهم بحدّ اللسان". فيدلّ على شرّ الافتراء. أما لوقا فيأخذ القسم الأول من الآية، ويطبّقها على وضع أورشليم ساعة سقوطها. "يُسبون إلى جميع الأمم". نجد هنا تلميحاً إلى تث 28: 64 الذي نقرأه كما يلي في اليونانية: "يشتّتكم الله وسط الأمم". هو موسى يوجّه كلامه إلى العبرانيين فيباركهم أو يهدّدهم باللعنة. أما في السياق اللوقاوي، فالسبب يعود إلى ما فعله الرومان. لقد أقحم لوقا هذه الآية (أخذها من اللوقاويات) ليشدّد على مصير اليهود في أورشليم. رج حز 30: 3؛ 32: 9؛ إر 21: 7، عز 9: 7.
"تدوس الأمم أورشليم". يعود النصّ هنا إلى زك 12: 3 الذي يرد كما في السبعينية: "ويكون في ذلك اليوم أني أجعل أورشليم حجراً تدوسه جميع الأمم" (في العبرية: أجعل أورشليم حجراً ثقيلاً لجميع الأمم). هذه العبارة هي جزء من قول زكريا ضد أورشليم التي تحتاج إلى أن تُشفى من خطيئتها وعدم إيمانها. لن تستطيع أن تحتملها أية أمّة. تبع لوقا النصّ اليوناني. رج دا 8: 13، رؤ 11: 2. أما لفظة "اتني" بمعنى الأمم الوثنية، فنجدها في لو 12: 30 (يطلبها الأمم).
"إلى أن تتمّ أزمنة الأمم". أي: حتى يكون وقت انتصار الرومان كاملاً. حين تأتي "نهاية" أورشليم، يكون زمن الوثنيين قد انتهى. هذا يعنى الزمن الذي بعد سنة 70، حين تعود أورشليم واليهودية من جديد إلى الخضوع لرومة بعد ثورة اليهود الفاشلة.
لا يوافق لوقا مرقس عندما يلاحظ أن الرب قصّر هذه الأيام "من أجل المختارين" (مر 12: 20). بل هو يبرز مدى "زمن الانتقام". ولكن حتى زمن الوثنيين سيفتح الطريق لمجيء ابن الإنسان. رج دا 2: 44- 45؛ 7: 18، 21- 27.
4- الرب يدين أورشليم
تابع يسوع خطبته الاسكاتولوجية، فتوجّه نحو مدينة أورشليم نفسها وأنبأ بدمارها وزوالها. صورة مؤلمة تبدو أمامنا. عاد بها لوقا إلى مر 13: 14- 20 (كما 24: 15- 22).
تتضمّن هذه الآيات أقوالاً نبويّة ليسوع. هناك المستوى الذي قالها فيه يسوع، وهناك مستوى التدوين اللوقاوي الذي أعاد قراءة كلمات يسرع على ضوء ما حصل سنة 70 واجتياح الجيوش الرومانية لأورشليم.
عاد يسوع الآن إلى "النهاية" (21: 9)، وأنبأ كيف ستكون أورشليم محاصرة بواسطة الجيوش، وهذا ما يدلّ على خراب المدينة المقدسة. لا نجاة للذين في داخلها (آ 22). سيأتي "يوم الانتقام" فيغذّي التفسير عن النهاية. هكذا يكشف لماذا يجب على أهل أورشليم أن يهربوا من المدينة، لا أن يهربوا إليها. وأعلن يسوع أيضاً، في جوّ جلياني، أن الضيق سيحلّ بالنساء سواء كنّ حوامل أم مرضعات.
وعبارة "في ذلك الوقت" (في تلك الأيام) تفهمنا الإشارة التاريخية التي يتحدّث يسوع عنها. وحتى استعمال مرقس لذات العبارة، يجب أن يُفهم عن الكارثة التي ستحلّ بأورشليم. عظيماً سيكون الضيق الذي يحلّ بهذه الأرض (البلاد) والسخط الذي يصيب هذا الشعب (آ 23 ب). لا يفسّر الضيق ولا يفسّر السخط: نستطيع فقط أن نتوسّع بشكل نظري في ظهورهما الملموس.
غير أن قارئ إنجيل لوقا يستطيع أن يردّد كلمات سمعان الشيخ في أخبار الطفولة "عن سقوط عدد كبير في إسرائيل" (2: 34). أو ردّة فعل أبناء مدينة يسوع (4: 29). أو كلمات يسوع نفسه عن أورشليم التي تقتل المرسلين إليها (13: 34). عاد لوقا إلى العهد القديم (سي 28: 18؛ تث 28: 64)، فأنبأ أن سكان أورشليم سيصيبهم السيف أو السبي إلى أراضٍ غريبة. بالإضافة إلى ذلك ستدوس الأمم الوثنية أورشليم وتسيطر عليها سيطرة كاملة بعد أن تعمل فيها ذبحاَ وتقتيلاً.
حين نقرأ نسخة لوقا لأقوال يسوع عن دمار أورشليم، نلاحظ أن لوقا ألغى عبارة "رجاسة الخراب"، وتوقّف عند "دمار" أورشليم. أحلّ محلّ هذه الصورة الآتية من دانيال، صورة أورشليم تحيط بها الجنود، ويُقتل أبناؤها، ويذهب بهم إلى السبي، وتداس أرضها، فتأثّر بالأحداث التاريخية المرتبطة بدمار أورشليم سنة 70 ب. م. لم يقرأ لوقا ما كتبه المؤرّخ اليهودي يوسيفوس، مع أننا نستطيع أن نستفيد من تفاصيل يوسيفوس لكي نستوضح الخبر اللوقاوي. ولكنه لوّن أقوال يسوع النبويّة بعبارات أخذها من العهد القديم.
صوّر يوسيفوس جيوش تيطس الرومانية تحيط بالمدينة، واستعمل لفظة "ستراتوبادون" التي استعملها لو 21: 20. وأحصى يهود أورشليم واليهودية الذين سقطوا بحدّ السيف (1.100.000). أما الذين أخذوا كأسرى ليكونوا في ركاب تيطس حين يدخل ظافراً إلى رومة فبلغ: 97000. وإذا أردنا أن نتصوّر "ويل" يسوع للنساء مع أولادهن، نشير إلى خبر رواه يوسيفوس: إن امرأة من بيريه، إسمها مريم، كانت بين اليهود الذين يموتون جوعاً. أخذت ابنها عن صدرها وذبحته وهيّات لها طعاماً (رج 2 مل 6: 24- 31). وسيتحدّث تاقيتس عن أورشليم المدمّرة التي عاد إليها تيطس فيما بعد، وأخذ يسير وسط الخرائب.
في هذا النصّ كما في 19: 41- 44، إعتبر بعض الشراح أن لوقا يرتبط بصورة دمار أورشليم على يد نبوكد نصر في نهاية القرن السادس ق. م.، لا بما فعله تيطس سنة 70 ب. م. هذا ما لا شكّ فيه على مستوى الأسلوب واللغة اللذين استقاهما لوقا من الترجمة السبعينية. ولكن يبقى السؤال: لماذا أحلّ هذه العودة الخفيّة إلى دمار أورشليم في زمن الرومان محلّ "رجاسة الخراب"؟ إن لوقا لم يذكر الرومان، كما أن مرقس لم يذكر انطيوخس الرابع ولا الرومان. بل اكتفى بالقول: "ليفهم القارئ". فمع أن لوقا لم يتبع مرقس في هذا "التنبيه"، فهو يعلم، وهو من يكتب بعد الحدث، أنه سيفهم حقاً من قبل قارئيه.
لا أحد يعارض أن لوقا لوّن كلمات يسوع حول دمار أورشليم الآتي بتلميحات إلى العهد القديم. وإذ فعل ما فعل، أراد أن يجعل من دمار أورشليم حدثاً في تاريخ الخلاص. "والنهاية" في آ 9 ترى الآن كـ "زمن الانتقام" حين "يتمّ" جميع ما هو مكتوب (آ 22). "كل ما هو مكتوب" يعود إلى تلميحات أربعة من العهد القديم ذكرناها وهي: هو 9: 7 في آ 22؛ سي 28: 18؛ تث 28: 64 في آ 24 أب؛ زك 12: 13 في آ 24 ج.
بالإضافة إلى ذلك، لا تُفهم كلمات يسوع على أورشليم فقط كأقوال نبوية ضدّ أورشليم (مي 3: 12؛ إر 7: 1- 14؛ 22: 5)، بل كأقوال ضدّ مدن الجليل (بيت صيدا وكورزين) (10: 13- 15) حيث أعلنت الدينونة الأسكاتولوجية.
ويبقى أنّ ما قاله يسوع عن دمار أورشليم الآتي، يشكّل أساساً لتوسّع كبر، لأن هذه المقطوعة أوصلت القسم الأول من خطبة يسوع إلى نهايتها. وها هو يسوع سيشرع بالكلام عمّا سيحدث للعالم كله.
خاتمة
إن خبر الدينونة الذي افتقد الشعب اليهودي (والهيكل) بعد أن رذلوا المسيح، قد دُوّن بشكل تحذير إلى جميع الأمم، كما إلى جميع الأفراد الذين يتمرّدون على الله فيرفضون الإيمان بابنه يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM