الفصل الرابع عشر: مضايق المسيحيين قبل نهاية العالم

الفصل الرابع عشر
مضايق المسيحيين قبل نهاية العالم
21: 5- 19

تنهي الأناجيل الإزائية الثلاثة رسالة يسوع العامة بخطبة كبيرة عن نهاية العالم، قيلت بمناسبة نبوءة حول دمار الهيكل. والمقطوعة التي ندرس الآن تتضمّن في النص اللوقاوي مقدّمة الخطبة وقسمها الأول. أما ما نشعر به عند قراءتها فهو أننا نبدو أمام نتف متفرِّقة. ولن ندرك بعدها إلاّ إذا وعينا دورها في مجمل الخطبة. أما الوجهة التي اتخذها لوقا حين أورد تعاليم يسوع، فستبرز بصورة خاصة إن نحن قابلناها مع مر 13 الموازي لنص لوقا هذا.
1- السؤال حول دمار الهيكل (21: 5- 7)
ماذا يقول مرقس؟ حين ترك يسوع الهيكل دعاه أحد تلاميذه ليتأمَّل في هذا البناء الذي شيَّده هيرودس الكبير بعظمة لا تضاهيها عظمة. أجاب يسوع معلناً أنه لن يبقى منه حجر على حجر وذلك في الوقت القريب. وصعدوا منحدر جبل الزيتون. فجلس يسوع وجلس معه بصورة خاصة أربعة من تلاميذه: بطرس، يعقوب، يوحنا، اندراوس. وألقى يسوع خطبة وجّهها حصراً لهم ليجيب عن سؤالهم: نحن أمام وحي موجّه إلى بعض التلاميذ المميَّزين.
ولكن المشهد عند لوقا يختلف عمّا في مرقس. حين وصل إلى أورشليم دخل إلى الهيكل (19: 45). وهناك جُعلت كل التعاليم الواردة حتى نهاية ف 21. كل ما قاله يسوع قد سمعه الشعب الذي يتزاحم لسماعه (19: 48؛ 20: 1، 9، 26، 45؛ 21: 38)، مع أن بعض أقواله يوجَّه بصورة مباشرة إلى خصومه (20: 19، 20، 27، 39، 41) والبعض الآخر إلى تلاميذه (20: 45). أما الاعتبار عن جمال الهيكل، فيُنسب إلى بعض أشخاص لا يسمَّون باسم خاص (21: 5). فهم أنفسهم سيطرحون على يسوع السؤال الذي ستكون الخطبة جوابه (آ 7). لا يقول لو إن السائلين هم تلاميذ. ومهما يكن من أمر، فالحاشية الأخيرة (آ 38) تذكِّرنا بأن الشعب كان هنا لسماع يسوع.
إذن، لسنا مع لوقا أمام خطبة محصورة ببعض المميَّزين أو بالتلاميذ وحدهم، وإن دلّ مضمونها على أنها موجّهة إليهم بصورة خاصة. نجد هنا أسلوباً مشابهاً للذي استعمله ليوسّع حلقة سامعي "خطبة الجبل" فينقل هذه الخطبة إلى السهل (6: 12- 19). وفي الوضع الذي ندرس، استفاد لوقا من هذا التقديم ليميِّز هذه الخطبة عن الخطبة الاسكاتولوجية الأولى المحصورة بالتلاميذ (17: 22- 18: 8).
وهناك تفصيل يؤكّد أن لوقا يوسّع حلقة جمهوره. إن الذين سألوا يسوع في آ 7 سمّوه "يا معلم" (ديدسكالوس). إن هذه الطريقة في مناداة يسوع، يحصرها لوقا في "الذين هم من الخارج". أما التلاميذ فيقولون: ابيستاتس أي مربي. وهذا ما نلاحظه في التصليح الذي قام به لوقا في نص مرقس. ق مر 4: 38 و9: 38 مع لو 8: 24؛ 9: 49؛ رج أيضاً لو 5: 5؛ 8: 54؛ 9؛ 33؛ 17: 13 (صراخ البرص). إذن، توجّهت هذه الخطبة إلى الشعب، فاتخذت بصورة طبيعية بُعداً عاماً جداً.
والنبوءة عن تدمير الهيكل "الذي لن يُترك فيه حجر على حجر"، كانت قد وردت في 19: 44 حسب تقليد آخر يدلّ فيه على أورشليم (لا على الهيكل). نلاحظ زيادة "ستأتي أيام" في 21: 6 كما في 17: 22. إنها العبارة التوراتية التي تبدأ قولاً نبوياً يُنذر بالشقاء. إذن النبوءة عن تدمير الهيكل تقدِّم لنا هنا مناسبة الخطبة لا موضوعها. وننتظر أن نجد هذا الموضوع في سؤال آ 7.
السؤال سؤالان: السؤال الأول: متى يحدث؟ السؤال الثاني: ما هي العلامة التي تساعدنا على التعرّف إلى أن الحدث سيحصل قريباً؟ هذه الطريقة في طرح السؤال توافق طريقة متّى ومرقس. ولكن الحدث الذي يعود إليه لوقا هو دمار الهيكل، بينما ينتقل متّى ومرقس من النظرة إلى دمار الهيكل إلى النظرة إلى نهاية العام. كتب مرقس: "قل لنا متى تتمّ هذه الأمور وما هي العلامة على أن كل هذه الأشياء ستنتهي"؟ ألغى لوقا كلمة "كل" وأحلّ فعل "حدث" محل "انتهى": "يا معلم، متى ستحصل هذه الأشياء وما هي العلامة على قرب حدوثها"؟ من الواضح أن السؤال يعني فقط دمار الهيكل.
تبديل غريب. فعند لوقا كما عند مرقس، تمتدّ الخطبة حتى نهاية العالم ومجيء ابن الإنسان في المجد. أما التعليمة فنفهمها كاهتمام لوقا في الخطبة كلها بأن يفصل بين دمار الهيكل ونهاية العالم، ويرفض كل علاقة بين الاثنين. لقد أراد لوقا منذ البداية أن يتجنّب المزج بين الحدثين. إذن يتوقّف الآن وبصورة موقتة عند مصير الهيكل، ولن يتكلم عن نهاية العالم إلاّ حين يقدر أن يبيّن بوضوح أن لا علاقة لهذه النهاية بأحداث سنة 70 (دمار أورشليم).
تبدأ الخطبة بتنبيه أولاني (آ 8- 9). ولن نصل إلى الموضوع إلاّ في آ 10- 11 وتصوير الكوارث الكونية. وينقطع الموضوع بتوسّع طويل عن أحداث ستحصل "قبل هذا"، وهي أحداث لا تدلت على نهاية قريبة: من جهة، إضطهادات سيتحمَّلها المسيحيون (آ 12- 19). ومن جهة ثانية، عقاب سيحلّ بأورشليم (آ 20- 24). حينئذ نعود إلى الكوارث الكونيّة التي ستحصل في نهاية العالم (آ 25- 33). وتنتهي الخطبة بتنبيه جديد (آ 34- 36). عملياً، نحن أمام عرض دائري:
أ- تنبيه أول (آ 8- 9)
ب- كوارث كونية (آ 10- 11)
ج- ما سيحصل قبل هذا
- اضطهادات ضد المسيحيين (آ 12- 19)
- عقاب أورشليم (آ 20- 24)
ب ب- كوارث كونية في نهاية العالم (آ 25- 33)
أ أ- تنبيه نهائي (آ 34- 36)
نرى أن المقطوعة التي نفسرّها تتوقّف في وسط الخطبة. ولكن لا ننسَ أن كل عنصر يتَّخذ معناه بالنسبة إلى موقعه في المجموعة.
2- تحذير مضاعف (21: 8- 9)
تحذِّر آ 8 المسيحيين من الكذَّابين الذين يحاولون أن يضلّلوهم. يستعيد لوقا أولاً طريقة مرقس في تصويرهم: يعتبر هؤلاء الناس أحم يأتون "باسم" يسوع ويقولون: "أنا". وهكذا يحاولون أن ينتحلوا شخصيّة المسيح. يهتمّ مرقس اهتماماً خاصاً بخطر المسحاء الكذبة، وسيعود إلى هذا. الخطر في نهاية الخطبة (مر 13: 21- 22). يجترحون آيات وأعاجيب ويضلّلون عدداً كبيراً من الناس. أغفل لوقا التنبية الثاني. ولن يقول في تحذيره في آ 8 إنهم سيتوصَّلون إلى تضليل كثير من الناس.
ومقابل هذا يتطلَّع لوقا إلى خطر آخر يبدو له كثر إلحاحاً: هو خطر الكذبة الذين يعلنون أن "الزمن قريب جداً". بأي "زمن" يفكر لوقا؟ قد نظن إذا انطلقنا من سؤال آ 7، اننا أمام زمن دمار الهيكل. لا شكّ في أن لوقا لا يفكّر في هذا الأمر. نحن نرى هذا منذ الآية التالية التي تتكلّم عن كوارث لا نستطيع أن نستنتج منها أن "النهاية" صارت قريبة. وسيذكر ولي الخطبة الآيات التي تدلّ على "أن الفداء قريب" (آ 28)، على أن "ملكوت الله قريب" (آ 31). فالضلال الذي يريد لوقا أن يحذِّر المسيحيين منه، هو ذلك الذي تشير إليه ملاحظة 19: 11: "وقال أيضاً مثلاً لأنه كان قريباً من أورشليم وكانوا يظنّون أن ملكوت الله سيظهر في الحال". هذا هو الخطر الذي يقلق لوقا: أن يُؤخذ المسيحيون بسراب أناس يتخيَّلون أن زمن النهاية قريب وأن ملكوت الله سيظهر في المجد وأن ابن الإنسان سيأتي على السحاب بين وقت وآخر. منذ بداية الإنجيل ألغى لو 4: 15 عبارة مر 1: 15: "لقد تمّ الزمان". استبعد "الزمان" في 4: 13 وارتبط بالآلام، وأعلن في 4: 21 أن الكتب قد "تمت".
مثل هذه الانباءات (الزمان قريب) تحرّك حَّمى عابرة تتبعها خيبة أمل وربما أزمة إيمان: حينئذٍ يتوقّف الانتظار الذي يغيب في الرجاء (رج 21: 34- 36). لهذا يقول لوقا مشدّداً: "لا تتبعوهم، لا تسيروا وراءهم".
وتندّد آ 9 بخطر مماثل يقوم بأن نفسَّر في إطار علامات عن نهاية الزمن القريبة، أحداثاً لا علاقة لها بهذه العلامات. قال مرقس: سيُسمع "بالحروب وأخبار الحروب". ويوضح لوقا: "الحروب والاضطرابات". وهذا ما يدلّ على الثورات وأعمال التمرّد. وهذا ما يجعلنا نفكر أولاً في الثورة اليهودية على الرومان. حينئذ يجب أن لا نخاف.
ويفسّر مرقس: "لا بد من أن يحدث هذا، ولكن لا تكون هي الآخرة". ففي نظر مرقس، تبدو الحروب وأخبار الحروب كعلامات بعيدة عن الآخرة. إنها تدلّ على "بداية الأوجاع" (مر 13: 8). أما عند لوقا فلم يعد للحروب والثورات من قيمة تسبيق للآخرة. ولو كان هذا التسبيق بعيداً. لا علاقة لها مطلقاً بالنهاية. إنها ستحصل قبل النهاية، ولكنها لا تنبئ بالنهاية.
يعرف لوقا أن الآخرة لا تأتي قريباً. وهو يخاف الخطر الذي شكّله هذا السراب على إيمان المسيحيين فيقودهم إلى خيبة أمل لا يقدرون أن يتجنّبوها. وما يُشرف على بداية خطبته الاسكاتولوجية هو الاهتمام بهذا الخطر الذي يحذِّر منه المسيحيين.
3- الكوارث الكونية (21: 10- 11)
يقيم نص متّى الموازي علاقة وثيقة بين الحروب وأخبار الحروب التي تكلّم عنها، وبين الكوارث التي سيتحدّث عنها. بدأت آ 8 بأداة "لأنه" (غار في اليونانية)، فدلّت على تفسير لما سبق: "لأنه ستقوم أمّة على أمّة". لا يستعيد لوقا هذه الأداة، بل يبدأ آ 10 بحاشية قصيرة: "حينئذٍ قال لهم". وهكذا فصل هذه الآية عن الآيتين السابقتين فصلاً تاماً. نحسُّ بعد تنبيهات أولانية تشجب انتظاراً للنهاية خاطئاً، أن الخطبة تتطرّق الآن إلى موضوعها الحقيقي: سيقول لنا ما هي العلامات التي تدلّنا على أن النهاية قريبة. هذا هو المعنى الذي يشير إليه التعارض بين مضمون آ 10- 11 ومضمون الآيتين السابقتين.
ويتثبّت شعورنا حين نلاحظ التصليحات التي قام بها لوقا في هاتين الآيتين. أعلن مر 13: 8: "ستقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة، وتقع الزلازل في أماكن كثيرة، وتحدث مجاعات". إستعاد لوقا الكلام فقال: "ستقوم أمّة على أمّة، ومملكة على مملكة. وتقع زلازل شديدة، وتحدث مجاعات وأوبئة في أماكن كثيرة". إعتاد لوقا على التوسّع ولكنه! يفعل هنا بصورة واضحة جداً. ستكون الزلازل "شديدة". وزاد "الأوبئة" على المجاعات في خطّ النصوص التوراتية. ولكن لوقا لم يكتفِ بهذا، بل زاد أيضاً: "وتجري أحداث نحيفة وتظهر علامات هائلة في السماء". إن الكوارث التي تصيب الأرض كلها، يرافقها زلزال كوني. نحن نرى هنا تسبيقاً للكوارث التي ستُحوَّر في آ 25- 26: "ستظهر علامات في الشمس والقمر والنجوم، ويصيب الأمم في الأرض قلق شديد ورعب من ضجيج البحر واضطراب الأمواج. ويسقط (يموت) الناس من الخوف ومن انتظار ما سيحلّ بالعالم (المسكون، أي المعمورة) لأن قوّات السماء تتزعزع". يبدو أننا نجد هنا تفسير ما نقرأ في آ 11: "أحداث مخيفة"، "علامات" سماوية.
إذن، يمكننا أن نرى أن الكوارث التي تعدّدها آ 10- 11، لا تتميز تمييزاً حقيقياً عن تلك التي تقدّمها آ 25- 26 على أنها استباق مباشر لظهور ابن الإنسان (آ 27)، والتي يجب أن تكون علامة رجاء للمسيحيين (آ 28).
ونلاحظ في الوقت عينه أن لوقا ألغى الحاشية التي بها أنهى مرقس آ 18: "هذا سيكون بدء الأوجاع". قد يكون ظنّ أن قرّاءه اليونانيين لا يفهمون هذه العبارة فلم يوردها. ولكن التصليحات التي قام بها في آ 10- 11 تدلّ على أنه ارتأى أن يلغي تفسيراً لا يرى في الأحداث الواردة إلاّ استباقاً بعيداً للانحلال النهائي: إنها في نظره كوارث تبدو جزءاً لا يتجزأ من النهاية، كما إنها لا تُفصل عن مجيء ابن الإنسان.
ولكن علاقة آ 10- 11 بالنهاية ليست موضحة. فنستنتجها من تعارض يجعله لوقا بين هاتين الآيتين واللتين سبقتهما، ومن تعارض تركز عليه الآية اللاحقة حين ننتقل إلى ما سيحدث "قبل هذا كلّه" (آ 12). لن يتوضّح المعنى حقاً إلاّ مع التوسّع على الظواهر الكونية التي يراها المسيحيون فيعرفون أن "فداءهم قريب" (آ 25- 28) وأن "ملكوت الله قريب" (آ 29- 31): وذلك حين نستطيع أن نقول حقاً: "الزمان قريب" (آ 8). إن لوقا يهتمّ في هذه النقطة من الخطبة بأن يدلّ قرّاءه على أحداث لا يمكن أن تعتبر كعلامات النهاية. لهذا السبب عادت بنا آ 12- 24 إلى الوراء.
4- الاضطهادات ضد المسيحيين (21: 12- 19)
"ولكن قبل هذا كلّه". إن الاشارة الكرونولوجية التي بها تبدأ آ 12 هي مهمّة جدّاً. وهذا ما دفع لوقا لأن يزيد هذا التفصيل على نصّ مرجعه (رج مر 13: 9). إن "الأشياء" التي تسبقها الاضطهادات، تتماثل مع أحداث آ 10- 11 فتنضمّ في الزمن إلى التي تحدّثت عنها آ 8- 9: نحن أمام أحداث ستحصل "أولاً"، مع أن النهاية لن تأتي "حالاً". وهذه الأحداث تختلف في الوقت عينه عن الظواهر الكونية (آ 28): "فحين تبدأ تتم" يعرف المسيحيون أن خلاصهم قريب. فلا مدلول اسكاتولجي للاضطهادات (ضد المسيحيين) التي لا تنحصر فقط في الزمن الذي يستبق حماية العالم استباقاً مباشراً. إن الاضطهادات تدلّ على وضع المسيحيين في هذا العالم وما طال تاريخ العالم.
إذا قابلنا هذه الآيات الثماني التي يكرّسها لوقا للتحدّث عن اضطهاد المسيحيين مع ما يوازيها في مر 13: 9- 13، نجد اهتماماً بتوحيد المقطع بعد أن كان لدى مرقس قطعاً متفرقة. وإذا دخلنا في العمق نجد اهتماما بتشجيع المضطهدين وتشديداً على البواعث التي تقوِّيهم في محنهم. وهكذا تتحوّل الانباءة نداء إلى الثقة بالله. هذا ما سنبيِّنه أولاً. ثم نتوقّف عند النداء إلى الثبات الذي يميِّز هذه المتتالية.
أ- نداء إلى الثقة بالله
تخبر آ 12 التلاميذ بالمعاملات السيِّئة التي ستصيبهم من قبل مضطهديهم: توقيف، سجن، مثول أمام المحاكم اليهودية والوثنية، وكل هذا من أجل اسم يسوع. يستعيد لوقا ما نجده في مر 13: 9 ويتوسّع فيه. ولكن مرقس يزيد "شهادة لهم" (رج مت 10: 18؛ 24: 14). أما لوقا فيوضح: "ويكون هذا فرصة لكم تشهدون فيها للبشارة" (آ 13). فالشهادة التي يشدّد عليها لوقا ليست تلك التي تعني المضطهدين ("لهم") بل تلك يجب أن يحصل عليها المضطهدون ("لكم"). فإذا درسنا هذه الآية درساً دقيقاً، نجد أن الشهادة التي تؤدّيها العذابات التي يحتملها المضطهدون، ستدافع عنهم أمام منبر الله. إنها تشكِّل نوعاً ما دقائق يعتمد عليها حكم الله ليقرّر خلاص كل إنسان. لقد قلب لوقا النظرة إلى الأمور وهذا القلب له معناه. إنه يجعل نفسه مع المضطهدين ليدلّهم عك الفائدة التي يستطيعون أن يستخرجوها من محنهم والتي هي كفالة خلاص لهم. هذا هو أول اعتبار يشجِّع فيه لوقا المضطهدين.
وزاد مرقس بالنسبة إلى الشهادة المؤذاة للمضطهدين: "لأنه يجب إعلان البشارة (الإنجيل) أولاً إلى جميع الشعوب" (مر 13: 15). ولكن لا مكان لهذا الإعلان في نظرة لوقا في هذا الموضع من الإنجيل: إنه سيستعيد الفكرة في موضع آخر، في 24: 47 حين يقول: "وتعلن باسمه بشارة التوبة إلى جميع الشعوب ابتداء من أورشليم".
حين يُساق تلاميذ يسوع أمام قضاة معادين لهم، يجب أن لا يهتمّوا بما سيقولون. أعلن نص مرقس (13: 11) أن ما سيقولونه سيُعطى لهم في ذاك الوقت: الروح القدس يتكلّم بفمهم. ولكن نص لوقا يعد بأكثر من ذلك: لن يكون للمضطهدين أن يهيِّئوا جوابهم مسبقاً "لأني سأعطيكم من الكلام والحكمة ما يعجز جميع خصومكم عن ردّه أو نقضه" (21: 14- 15). نتذكّر هنا أع 6: 10: كان مناقضو اسطفانس "عاجزين عن مقاومة الحكمة والروح الذي به يتكلّم". إذن، لن ينال المسيحيون فقط ما به سيتكلّمون، بل الوعد بأن كلامهم لا يقاوَم. سيبقى خصومهم في خزيهم. هذا اعتبار آخر يشجع فيه لوقا المضطهدين: سينتصرون حتى أمام المحاكم البشريّة.
وتقول لنا آ 16- 18 أين يجد المسيحيون أعداءهم: في محيطهم المباشر: "سيسلّمكم والدوكم واخوتكم وأقرباؤكم وأصدقاؤكم أنفسهم (إلى الحكام). وبعض منكم سيُقتلون". يتوقف مرقس عند هذا المنظار المظلم. أما لوقا فيزيد وعداً يحمل الرجاء: "شعرة واحدة من رؤوسكم لا تسقط". من الواضح أن اقحام هذا القول في الآية، يبدِّل لون اللوحة تبديلاً خاصاً. لم يخترع لوقا هذا القول ولكنه تذكّر إعلاناً ليسوع قاله في سياق آخر: "شعور رؤوسكم نفسه معدود كله" (12: 7؛ رج مت 10: 30)! الأسلوب واضح: لقد أواد لوقا أن يصحّح الشعور القاسي الذي يحسّ به المسيحيون أمام صورة المحن التي تنتظرهم. توسّل لوقا قولاً تلفَظ به يسوع في مناسبة أخرى، فذكّر قرّاءه بحماية خاصة وعدهم بها الرب. هذا هو الاعتبار الثالث الذي سيشجِّع المضطهدين وينفحهم ثقة بالله في مضايقهم.
ونجد الاهتمام عينه في الآية الأخيرة. غير أن الاعتبار الذي تقدّمه يبقى مشروطاً: هناك وعد بالخلاص، لا للجميع، بل للذين برهنوا على ثباتهم في المحنة: "بثباتكم تخلصون".
ب- نداء إلى الثبات
أنهى مرقس هذا المقطع عن الاضطهاد بالوعد التالي: "من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص" (مر 13: 13 ب). تشير لفظة "المنتهى" بصورة طبيعية في هذا السياق (آ 4، 7)، تشير إلى نهاية العالم، لا إلى نهاية الفرد أي موته: فالاضطهادات جزء من المحن التي تسبق الآخرة، وهي ستمتدّ إلى ذلك الوقت الذي سيكون أيضاً وقت الخلاص. وبانتظار ذلك يجب أن لا نتزعزع: أن نثبت، أن نحافظ على موقفنا. هذا يشير إلى الثبات الذي يوجّهه بصورة جوهرية وضعٌ اسكاتولوجي وأمل بخلاص قريب.
نحن نفهم حالاً أن لوقا لا يمكنه أن يتبنّى هذا المنظار. فهو يعرف أن النهاية ليست قريبة: فالمسحاء الكذبة هم الذين قالوا بها (آ 8). وهو يرفض كل علاقة بين الاضطهادات ونهاية الأزمنة. فالاضطهادات ليست في نظره محنة تميّز الأزمنة الأخيرة: إنها تحدّد وضع المسيحيين في العالم وفي التاريخ الذي يواصل مسيرته. لهذا نفهم أن لوقا تجنّب العبارة الملتبسة "حتى المنتهى". هذا المنظار نجده أيضاً في 22: 69. قال مر 14: 62: أعلن يسوع أمام المجلس الأعلى: "وسترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة وآتياً مع سحاب السماء". أما لوقا فاكتفى بالقول: "منذ الآن سيكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قدرة الله".
ولا يكتفي لوقا بأن يلغي هاتين اللفظتين (ايس تالوس، حتى المنتهى)، بل أعاد تأليف الجملة بصورة أخرى: "بثباتكم تربحون نفوسكم". يبدو أن هذه العبارة تأثرت بقول آخر ليسوع: "من حاول أن يؤمِّن على حياته يخسرها، ومن خسر حياته يحفظها" (17: 33). فالفعل "كتاؤماي" "ربح" (21: 19) يرادف عملياً "باريبويوماي" "أمَّن" (17: 33). يتيح لنا هذا التقارب أن نفهم أن قول 21: 19 قد اتخذ مدلولاً عاماً: لم يعد مرتبطاً بالوضع التاريخي الخاص، وضع الذين يعيشون قريبين من نهاية العالم. إنه يرتبط بكل وقت وزمان. حين تكلّم لوقا عن الثبات (هيبوموني)، استلهم استلهاماً مباشراً الفعل الذي استعمله مرقس "هيبومينو". لقد خسرت المفردة نكهتها الاسكاتولوجية التي ارتبطت بنص مرقس ارتباطاً جوهرياً، واتخذت معنى آخر. صار "الثبات" شكلاً من أشكال المثابرة التي تتطلّبها محنُ الحياة المسيحية. في هذا المعنى أدخل لوقا الفكرة في تفسيره لمثل الزارع: يختلف المسيحيون الحقيقيون عن المؤمنين السطحيين الذين يتراخون ويتراجعون ساعة الشدة (8: 13). لقد سمعوا الكلمة "بقلب طيِّع مطيع، فحفظوها واثمروا بثباتهم" (8: 15).
من الواضح أن هذا النوع من المثابرة يهمّ لوقا. لهذا نراه يعود إليه مراراً في سفر الأعمال. يبيّن لنا كيف يحرِّض برنابا مسيحيّي أنطاكية "ليبقوا متعلقين (بروسمينو، ثابتين) بالرب بكل قلوبهم" (أع 11: 23). وفي أنطاكية بسيدية، يدعو بولس وبرنابا المرتدين الجدد "ليبقوا متعلّقين (ثابتين) بنعمة الله" (أع 13: 43). وفي نهاية رحلتهما الرسولية، "كانا يشدّدان عزائم التلاميذ ويحرّضانهم على الثبات (التعلّق، امينو) في الإيمان ويقولان لهم: لا بد من أن نجتاز كثيراً من المضايق لندخل ملكوت الله" (أع 14: 22).
فالثبات (هيبوموني) الذي تتحدّث عنه 21: 19، لا يختلف عن هذه الشجاعة في التعلّق بالإيمان. فهو الذي يتيح للحياة المسيحيّة أن تثمر (8: 15). إنه يؤمِّن خلاص النفسي (21: 19) والدخول إلى الملكوت (أع 14: 22).
الثبات هو هذا النوع من الأمانة الذي تتطلّبه مصاعبُ الحياة التي تجعل المثابرة على المحكّ. إنه ضروري في كل وقت، وبصورة خاصة في وقت التجربة: حينئذٍ يجب أن نكون مستعدين لأن نخسر حياتنا حتى نخلّصها حقاً (17: 33). ثم إن هذا الثبات يستند إلى مواعيد يسوع لتلاميذه بحماية الله وعونه. وهكذا يصبح شكلاً من أشكال الثقة بالله الذي لا يتخلىّ عن أحبّائه في صعوباتهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM