الفصل الثامن: سلطة يسوع على المحك

الفصل الثامن
سلطة يسوع على المحك
25: 1- 8

إن تطهير الهيكل بواسطة يسوع كانت تدخلاً خطيراً في الحياة الدينية للشعب اليهودي. فيجب أن يكون الشخص مرتدياً أعلى سلطة في المجال الديني لدى اليهود لكي يغامر فيقوم بإصلاح بسيط في ما يخصّ الهيكل. لهذا بدا من الطبيعي للسلطات اليهودية أن يسألوه عن سلطته التي بها فعل ما فعل. لا شكّ في أنهم لم يتجاسروا أن يوقفوه الآن بسبب تأثيره العظيم على الجموع (19: 48). لقد أرادوا منه جواباً على سؤالهم يجعله غير مقبول لدى الناس. ولكنهم أخطأوا في حساباتهم كل الخطأ.
1- نظرة عامة
لا يهتمّ لوقا بأن يعيد رسمة الجدالات الرابانية التي عرفت أربع نقاط: الحكمة، الاسطورة، السخرية، مبادئ السلوك. بل احتفظ فقط بثلاثة جدالات تلامس مسألة السلطة التي ينعم بها يسوع فتدلّ على مصداقيته (20: 1- 19). والخيار الذي نتخذه بالنسبة إلى النظام السياسي (20: 20- 26). ومسألة الآخرة والقيامة (20: 27- 40). بعد هذا، يستطيع يسوع أن يبيّن أن هويته ورسالته تؤسّسان برنامج حياة يطرحه على الناس (20: 41- 21: 4).
قسمنا المتتالية الأولى جزئين. الأول: رسالة يسوع ومعمودية يوحنا، أو السؤال حول سلطة يسوع (20: 1- 8). والثاني: مثل الكرّامين القتلة (20: 9- 19) وما فيه من تعريض بالكتبة ورؤساء الكهنة. ندرس الجزء الأول الآن، ونترك الجزء الثاني إلى فصل لاحق.
يبدأ الخبر اللوقاوي كما في مت 21: 23: كان يسوع منشغلاً بالتعليم في الهيكل. وزاد لوقا أنه وجّه كلامه إلى "الشعب"، وأنه أعلن له البشارة، بشّره بالإنجيل (آ 1). يتحدّد الحدث في "يوم من الأيام". هذه العبارة قد وردت في 5: 17 (في ذات يوم، كان يسوع يعلّم)؛ 8: 22 (في يوم من الأيام، ركب السفينة). ولكنها اتخذت لوناً خاصاً في 17: 22: "أحد أيام ابن الانسان" (أي يوم مجيئه الثاني). أما الجدال الذي نشهده، فله بعد حاسم: من هو يسوع بالنسبة إلينا؟ هل هو بُشرى وخبر طيّب في حياتنا؟
ويدور الجدال الأول (آ 1- 8) حول مسألة سلطة يسوع. إنفصل عن مشهد طرد الباعة من الهيكل. أما مر 11: 27- 33 ومت 21: 23- 27 فقد ربطاه به بواسطة حدث التينة التي يبست حين لعنها يسوع. والسلطة التي يشير إليها النصّ اللوقاوي، هي تلك التي تدلّ على صدق تعليم يسوع والبُشرى التي يعلنها في الهيكل.
جاء ممثّلو السنهدرين، وهو أعلى محكمة دينية في البلاد، وسألوه. جاء رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ (رج 19: 47: مع الوجهاء)، أي أصحاب السلطة المعترف بها رسمياً. كان باستطاعتهم أن يطلبوا من يسوع شهادات ثبوتية، لأنه لم يكن من جماعة الكتبة، ولم ينل "الرسامة" التي تمنحه سلطة التعليم.
أجابهم يسوع ببساطة بأن سلطتهم لم تخضع لمعمودية يوحنا (7: 30: لم يعتمدوا على يده، كما فعل الشعب): كانوا المدافعين المتحمّسين عن النظام القائم، فلم يتبيّنوا حقيقة يوحنا النبويّة. فضَّلوا وضعهم وما فيه من خير لهم على مسيرة قصد الله. وهذا ما جعل سلطتهم على المحكّ. أما سلطة يسوع فتتلاقى مع الحسن الديني العميق لدى "كل الشعب... الذي كان على يقين أن يوحنا نبي" (آ 6). وسنفهم مع 20: 9- 19، ومثل الكرّامين القتلة، أن سلطتهم لا تعطي الحياة، بل تصل بهم إلى قتل مرسل الله.
2- دراسة تفصيلية
أ- في ذات يوم (آ 1)
في ذات يوم، في يوم من الأيام. تعود العبارة إلى التعليم اليومي المذكور في 19: 47 أ (كان كل يوم يعلّم). هناك بعض المخطوطات تزيد "هذه" (الأيام)، فتوضح العودة إلى تعليم يسوع. يتحدّث النصّ عن "تعليم" يسوع و"تبشيره" (أو: كرازته). لا تمييز بين هاتين اللفظتين. أما كلمة تبشير فترتبط بلفظة "إنجيل" (اونجلزستاي). لا يتحدّث النصّ هنا عن الملكوت. وسوف ننتظر آ 21 لنعرف أن موضوع تعليم يسوع كان: "طريق الله".
لم يتواجه يسوع فقط مع شرطة الهيكل (22: 4، 52؛ رج أع 4: 1؛ 5: 24، 26) الذين قد يكونون ردّوا عليه حين طهر الهيكل. بل جاءت السلطات (الكتبة...) كلها تتحدّاه. هناك "رؤساء الكهنة" (ترد اللفظة في السينائي والفاتيكاني) أما الاسكندراني فيقول فقط: الكهنة.
ب- قالوا له (آ 2)
خاطبوه، قالوا له. بأية سلطة؟ سبق لوقا وتحدّث عن سلطة يسوع في 4: 32 (كان كلامه بسلطان)، آ 3 (يأمر بسلطان وقدرة)؛ 5: 24 (لتعلموا أن ابن الانسان له سلطان أن يغفر الخطايا). وسوف ترد لفظة سلطان هنا في آ 8. لقد حاولت سلطات أورشليم أن تدفع يسوع لكي يعلن بشكل علني الأساس الذي يستند إليه لكي يعلم ويبشر. قالوا: "قل لنا" (نحن). أما في يو 2: 18 فنقرأ: "قالوا له: أية آية ترينا فتفعل هكذا"؟
من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟ من هو "الشخص" الذي سمح ليسوع بأن يعلّم؟ لقد تحقّق السنهدرين أن يسوع ليس "رابي" في المعنى المعروف للكلمة. هو لم يمرّ في المدارس مثل سائر الرابانيين. لهذا، أرادوا أن يوقعوه. تبع لوقا مرقس، ونسي أنه أعطى صورة سابقة عن يسوع في إنجيله: إنه ذاك الذي فُتحت فوقه السماوات، وحل عليه الروح "في صورة جسميّة"، وأعلن فيه الصوت السماوي: "أنت ابني الحبيب" (3: 21- 22).
ج- أجابهم (آ 3- 4)
أجاب وقال. أما مرقس فقال في جوابه بمَ يماثل يسوع بين نفسه وبين المسيح أو النبي، بل ردّ على السؤال بسؤال. وهو لم يعارض سلطة المجلس بأن يطرح عليه سؤالاً.
لي سؤال. حرفياً: لي كلمة (لوغوس): كلمة تفسير حول ما يفكّرون به عن تعليم يوحنا وعماده. زادت بعض المخطوطات "واحد" (كلمة واحدة، سؤال واحد) ليتوافق نصّ لوقا مع نصّ مر 11: 29. هناك سؤال بشكل امتحان في مر 10: 3 حول الطلاق. وهناك طريقة يوحنا في عرض جواب يسوع في 18: 19- 22: "كلّمت العالم جهراً... سل الذين سمعوا". قالوا له: "قل لنا". ردّ عليهم: "قولوا لي".
معمودية يوحنا. هل هي من السماء، (أي: من الله) أم من البشر؟ كان سؤال السلطات عاماً. أما سؤال يسوع فجاء خاصاً، وتوجّه إليهم في تصرّفهم الشخصي. ما هو رأيهم في العماد الذي وعظ به يوحنا ومارسه؟ تضمّن سؤاله أن سلطة يوحنا جاءت من السماء. وكذلك سلطته هو. يتضمّن هذا الجواب أن يسوع هو المسيح، ولكن النصّ لا يقول ذلك علانية.
لم يكن يوحنا "رابي" من الرابانيين، ومع ذلك، كانت له سلطة فرضت نفسها على الشعب. ويسوع لم يكن "رابي" مثل غيره. هنا نتذكّر سؤالاً مشابهاً طرحه جملائيل على المجلس: إن كان هذا المشروع من الناس، سوف ينتقض. وإن كان من الله فلا تستطيعون نقضه (أع 5: 38- 39).
د- فكّروا فيما بينهم (آ 5- 6)
فكّروا (تحاوروا، تجادلوا) وقال بعضهم لبعض. لقد جعل يسوع السنهدرين في موضع الدفاع بعد أن كان في موضع الهجوم. تحاوروا لا حول قلب الموضوع، بل حول نتيجة جوابهم. "تحاوروا قائلين". هذا ما نجد في مر 11: 31. أما في لو 20: 14 (رج مت 21: 25)، فالحوار هو في داخلي، في القلب والعقل: "فكّروا في نفوسهم".
"من السماء". هذا هو الجواب الطبيعي المنتظر. "السماء" هي تورية تجعلهم يتجنّبون التلفّظ باسم الله. رج 15: 18 (خطئت إلى السماء، أي إلى الله وإليك يا أبي). يو 3: 17 (إلاّ أن يُعطاه من السماء، أي من عند الله). "لماذا لم تؤمنوا به"؟ هذا يعني: لماذا لم تطيعوا الله وتتقبّلوا العماد؟ رج 7: 28- 30 (رفضوا ما أراده الله لهم).
"وإن قلنا من الناس". هذا ما يفضّلونه من جواب في هذا الظرف، وهكذا يرفضون يوحنا ويرفضون يسوع دون أن يشغلوا بالهم. ولكن ليس هذا ما يفضّله الشعب الذي قد يرجمهم. حسّن لوقا النص اليوناني (وكذلك فعل متّى بطريقته) كما تسلمه من مر 11: 32: "وإن قلنا من الناس؟... كانوا يخافون الشعب" (رج مت 21: 26). هنا الرجم حتّى الموت كما قال آباء الكنيسة (أبيفانيوس، غريغوريوس النيصي). يرد فعل "رجم" (ليتازين) في أع 5: 26؛ 14: 19. وفي يوحنا يرتبط الرجم بالتجديف (10: 31- 33؛ رج 8: 39؛ لا 24: 11- 16).
"كانوا على يقين". حسّن لوقا النصّ اليوناني. "كانوا يعدّون يوحنا نبياً في الحقيقة" (مر 11: 33). قال لوقا: "كانوا متيقنين أن يوحنا نبي" (يوحنا نبي، رج 1: 76؛ 7: 26- 30).
هـ- أجابوا: لا يعلمون (آ 7- 8)
هم لا "يعرفون" من أين جاءت معمودية يوحنا. أحلّ لوقا الخطبة المباشرة مكان الخطبة غير المباشرة التي وجدها في مر 11: 33. أعلنوا جهلهم بجوابهم، ولكن جهلهم المتخفّي هو جواب بليغ. لم نعد بحاجة إلى كلام آخر. لقد خافوا من الرجم. بل في الواقع خافوا من وجوب القبول بالحقيقة، من مواجهة الحقيقة. أقرّوا أهم لا يستطيعون أن يحكموا على يوحنا. وبالتالي، لا يستطيعون أن يحكموا على يسوع. فهو الذي سيدينهم.
قال يسوع: وأنا لا أقول لكم (رج 22: 67- 68). في مر 11: 29 د (إن قلتم، قلت) جاء وعد يسوع بالجواب مشروطاً. وفي 11: 33 د عبرّ يسوع عن رفضه بأن يفي. أغفل لوقا الوعد (وإن مشروطا"). وها هو يكرّر الآن رفضه للجواب. ففي سؤال يسوع المعاكس (سؤال على سؤال)، وفي رفضه للجواب، طلب يسوع من السلطات أن تعترف بسلطته. هذا يتضمّن أنه عزف ما هي سلطته بوضوح. ما أوكل به من مهمّة. وما هو في الحقيقة.
3- سلطة يسوع ومعمودية يوحنا
في هذه الفصول التي تتحدّث عن أيام يسوع الأخيرة في أورشليم، قال لنا: في يوم من أيام الأسبوع المقدّس. كان المخلّص يعلم الشعب الذي جاء بأعداد كبيرة لكي يسمعه. جاءه وفد من مجلسه اليهود الأعلى. غضبوا من تصّرفاته، ولا سيما حين طهّر الهيكل. بأي سلطة تجاسر ففعل كل هذا. إنهم وحدهم رؤساء الشعب اليهودي. وحم وحدهم ينظمون أمور الديانة في الأمّة. وهم لم يعطوه الحق بأن يتصرّف على هذا الشكل في الهيكل. فالشخص الوحيد الذي يحقّ له أن يتدخّل في أمور الهيكل من دون إذنهم هو المسيح (ولكن أما يكون يسوع هو المسيح؟ لم يطرحوا على نفوسهم مثل هذا السؤال). ولكن بما أنهم رفضوا كلامه على أنه المسيح، ظنّوا أنهم بسؤالهم سيضعونه أمام حائط مسدود، فيدلّ على أنه خالف الشريعة. فتعرف الجموع فيخفّ حماسها تجاهه. بل تنقلب عليه.
ولكن الرب هو سيّد الوضع. أجاب على السؤال بسؤال معاكس، فجعلهم هم أمام الحائط المسدود. هل عمّد يوحنا بسلطانه الخاص، أم تصرف حسب مشيئة الله؟ ونصل إلى الاستنتاج: هل يسوع يفعل ما يفعل بسلطته، أم يسير حسب قصد الله؟
كانت السلطات اليهودية التي وجّه إليها يسوع السؤال، من الفطنة بحيث فهمت أنها يجب أن تعتني كل العناية بالجواب. فإن قالوا: تصّرف يوحنا كمرسل من عند الله، سيجيبهم يسوع: لماذا لم تؤمنوا؟ لماذا لم تعتمدوا؟ لماذا لم تؤمنوا بكلام يسوع الذي هو المسيح؟ وإن أجابوا: لم يكن يوحنا مرسلاً من قبل الله، بل من قبل نفسه، تعرّضوا للرجم. فالجمع اعتبر يوحنا نبياً عظيماً، وقبلَ العماد من يده.
وهكذا "حشر" يسوع معارضيه في الزاوية. ظنّوا أنهم يعرفون كل شيء عن أمور الديانة. واحتقروا الشعب الذي اعتبروه جاهلاً. أعماهم بغضهم ليسوع، فدلّوا أنهم لا يمتلكون المعرفة التي تتيح لهم أن يجيبوه على سؤاله.
حين نعود إلى موقف السلطات العام تجاه يسوع الذي رأى فيه المعمدان المسيح (يو 1: 29)، نفهم أنهم رفضوا السلطة السامية التي تصّرف يوحنا بموجبها. خافوا من الشعب، فما أعطوا جواباً صريحاً صادقاً. وبما أنهم رفضوا مثل هذا الجواب ليسوع، رفض يسوع بدوره أن يقدّم جواباً على سؤالهم. وهكذا فشلوا في إسقاط يسوع في "الفخ" الذي نصبوه له، ودلّوا على عدم صدقهم وعلى عدم أهليتهم لان يكونوا القوّاد الروحيين للشعب. قالوا في مثل هذا الأمر الخطير الذي انتظر فيه الشعب نوراً، قالوا إنهم لا يعرفون. وهكذا خسروا حقهم بأن يُعتبروا معلّمي الناس، وبالتالي بأن يطرحوا سؤالاً على يسوع. هم لما يتقبّلوا يوحنا، فكيف يتقبّلون يسوع؟
رفض يسوع أن يجيبهم. إن كنتم لا تقرّون بسلطة ترونها أمامكم، فليس من برهان يستطيع أن يقنعكم. وهكذا جعلوا نفوسهم معارضين للشريعة حين أرادوا أن ينظّموا حياة الشعب.
خاتمة
مارس يسوع المحبة تجاه الله وتجاه الإنسان بشكل لم يجاره فيه أحد قبله أو بعده. وفي الوقت عينه تصّرف بسلطة مطلقة لم يسبقه إليها أحد. وحين نكون أمام البحث عن الحق والعدل، فهو لا يتردّد بأن يدلّ على سلطته حتى أمام أعلى سلطات الأرض، حتى وإن كلّفه كلامه حياته. فمعه لا سبيل إلى المساومة. وهو لم يبحث يوماً عن رضى أية سلطة بشرية. فتبع بلا تردّد الطريق الذي يقود مباشرة إلى النهاية المرّة في الطاعة لدعوته الإلهية.
إن لهذا الجدال بُعداً كرستولوجياً. فيسوع صُوّر كنبي تسلّم مهمته من السماء. صُوّر كشخص يتكلّم ويعلّم ويعظ باسم الله نفسه. وما يتضمَّنه حدث تطهير الهيكل، وما ستؤكده الأحداث التالية هو أن يسوع هو "الابن" (20: 13) وحجر الزاوية (20: 17) والمعلّم (0 2: 39)، وابن داود ورته (20: 41- 44).
ويعرف قارئ لوقا أن سلطة يسوع تأتي من الله. فهو نفسه قد قال في 4: 43 إنه أرسل "ليعلن ملكوت الله". هناك من يتساءل: ماذا كان حدث لو أعطى يسوع للسلطات جواباً صريحاً واضحاً، فقال إنه مرسل من لدن الآب؟ لو فعل هذا لضاع معنى الجدال في الأناجيل الإزائية. ولكان الإنجيل الرابع طرح سؤالاً على يسوع كما يقدّمه القديس لوقا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM