الفصل السابع: العمل بأحكام الشريعة

الفصل السابع
العمل بأحكام الشريعة
2: 12- 16

البشر جميعاً هم تحت الدينونة، اليهود والوثنيّون. وسيُدانون بحسب عمل كل واحد، خيراً كان أم شراً. وهذا الوضع الدراماتيكيّ للانسان يظهر شيئاً فشيئاً في ملء شموليّته. فالوثنيّ الذي لا شريعة له، شأنه شأن اليهوديّ، كان له ضميرُه شريعة. ومع ذلك سُجن في الخطيئة وأضلّته شهواته. واليهوديّ الذي أعطاه الله شريعة بواسطة موسى، سُجن أيضاً، فما كان أفضل من الوثنيّ. كلّهم خطئوا. إذن، كلّهم احتاجوا إلى الخلاص الكامل الشامل الذي يحمله يسوع المسيح. فلا خلاص إلاّ باسمه. ويبدأ الرسول كلامه مع الوثنيّين الذين لم ينالوا شريعة مكتوبة. وفي فصل لاحق نعود إلى اليهود الذين يتّكلون على الشريعة ويعلنون أنهم يعرفون الله.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 13، نجد التعريف «تو» أمام «الله» (تايوس) في مخطوطات هامّة، كما يغيب في مخطوطات أخرى هامة. هذي يعني أن استعمال التعريف في مثل هذه الحالات، كان موضوعَ أسلوب في الكتابة. أما المعنى فلا يتبدّل.
في آ 14- 15، حاول المخطوط (011)، داخل التقليد النصوصيّ، أن يقوم بتحسّن على مستوى الأسلوب. «ليس عندهم ناموس». أو: «وأفكارهم».
في آ 16، الانتقال مع «كرينو» (يدين) من الماضي إلى المضارع، شجّع عدّة محاولات من أجل تحسين النصّ في تاريخ انتقاله من نسخة إلى نسخة. هناك من اعتبر آ 13 وآ 16 قد دخلتا فيما بعد إلى النصّ. وآخرون أرادوا أن يجعلوا آ 16 حالاً بعد آ 13 وقبل آ 14- 15. كل هذه المحاولات لتسهيل النصّ وجعْله بحسب منطقنا، باءت بالفشل. لهذا نحافظ على القراءة الأصعب.
ب- بنية النصّ
في آ 12- 16 يصبح برهان بولس أكثر وضوحاً. ففيه تدخل الشريعة في الجدال، للمرّة الأولى، بحيث تُشرف على ما تبقّى من ف 2، فيرد اللفظ 19 مرة في 16 آية، و9 مرات في آ 12- 16 «نوموس». ويرد «أنوموس» (بدون الناموس) مرتين في آ 12. كل هذا يقابل البرهان الذي سنراه فيما بعد. لقد أراد بولس أن ينفي كلَّ تمييز كاذب بين اليهوديّ والأمميّ (آ 9- 10)، فجاءت الشريعة تعلن هذا التمييز فتجعل من الوثنيين أولئك الذين لا شريعة لهم (آ 12، 14). وهكذا يشدّد الرسول على أن لا فضل بأن يكون لنا شريعة، أي بأن ننتمي إلى الشعب الذي سمع شريعة السبت بواسطة موسى (أع 15: 21). فإمكانيّة العمل بالشريعة، بطريقة تُرضي الله، لا ترتبط بفهم للعهد كحالة نعيشها، بل بطاعة القلب التي لا تنحصر في شعب من الشعوب وعرق من الأعراق (آ 13- 15). إن بولس اعتقد هنا بوضوح، بدينونة حسب الأعمال، فعرض نظرة جوهريّة للدينونة تكون فيها الرحمة مع الدينونة، دون تنافر بين واحدة وأخرى. ثم قدّم نظرة جذريّة تمنع اليهوديّ من الثقة المفرطة بأنه ابن الوعد.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (2: 12- 16)
أ- من أخطأ بدون ناموس (آ 12)
نقرأ في هذا النصّ ثلاثة مقاطع. في آ 12، ترتبط الخطيئة بالناموس لمن عندهم ناموس، وبالضمير عند الذين لا ناموس لهم، شرط أن يسمعوا ويعملوا (آ 13- 14). فإذا كان لليهود شريعة مكتوبة على لوحين من حجر، فالشريعة الحقيقية هي المكتوبة في الضمائر والقلوب (آ 15- 16).
دخل مدلول الناموس (الشريعة) منذ البداية، لكي يكون العنصرَ المشرف على 2: 12- 29. نلاحظ هنا التعبير: بدون ناموس /بناموس، بدون ناموس/ عبر الناموس. بولس وحده، في العهد الجديد، استعمل لفظ «أنوموس» بدون ناموس. وليس من قبيل الصدفة تشديده على الشريعة. وفي آ 14 سنقرأ: بدون شريعة= من لا يملك شريعة. وفي 3: 9، 12: بالشريعة (أو في الشريعة، داخل الشريعة) وبمعزل عن الشريعة. وفي 1 كور 9: 21: تحت الناموس. في هذا المناخ، يتمّ التمييزُ بين اليهود والوثنيّين: فاليهود هم شعب الشريعة (رج 4: 14، 16)، والأمم هم كالذين بدون شريعة، هم خارج حدود الشريعة. هكذا حدّد بولس يهوديّة عصره بالنظر إلى الشريعة التي هي العنصر الأساسيّ في نظر اليهوديّ التقيّ، التي تدلّ على هويّته المميّزة وتكوّن له حدوداً تفصله عن سائر الشعوب فتدلّ على أنه شعب الاله الواحد. الأمم هم بلا شريعة، خارج الشريعة، تنقصهم الشريعة. واليهود هم مع الشريعة، في داخل الشريعة. بهذه الطريقة جاء التمييزُ قاطعاً.
هنا ندرك وجهة نظر بولس. بدأ فميّز اليهود والأمم، كما بين الذين لهم شريعة والذين ليس لهم شريعة. ولكنه لم يتوقّف عند حياة خاطئة أم لا. فحكمه لا يرتبط بانطلاقة الانسان من داخل الشريعة أو من خارجها. فالاثنان سيُدانان. والخطيئة تُشجب في الحالتين. فالترادف بين الخطيئة ونتائجها (يهلك) يُسند التمييز الأوليّ بين «أنوموس» (بدون ناموس) و«إن نومو» (في ناموس، بناموس). مثلُ هذا الحكم الذي يحسب حساب الشريعة (آ 13) يؤكّد أن لفظ «بلا ناموس» يدخلنا في نظرة يهوديّة وطنيّة، لا في نظر الله الذين يعتبرهم «بلا ناموس».
نجد فعل خطئ الذي عُرف في العالم اليهوديّ واليونانيّ: تعدّى، عصى. وما يلفت النظر هو أن الخطيئة «هامرتيا» لا ترد كثيراً في الرسائل التي «دوّنها» بولس. 6 مرات في 1 كور. وفي روم 2: 12؛ 3: 23؛ 5: 12، 14، 16؛ 6: 15. استُعمل الفعل في صيغة الماضي البسيط، لأن الحياة كلها تُعتبر حدثاً من الماضي في الدينونة الأخيرة (رج 3: 23؛ 5: 12). وحين تُوجَز حياةٌ في فعل «خطئ»، تكون النتيجة كلها سلبيّة، سواء كان الخاطئ من الأمم أو عضواً في شعب العهد.
«يهلك». أي يموت. نحن أمام قياس (2: 8- 9) يدلّ على ما تصل إليه الحياة التي توجّهها الخطيئة (1 كور 1: 18؛ 15: 18؛ 2 كور 2: 15؛ 4: 3؛ 2 تس 2: 10؛ يو 3: 16؛ 10: 28؛ 17: 12). نشير هنا إلى أن المزامير في السبعينيّة تستعمل هذا الفعل «ليوو» لتعبّر عن تمنّي شعب اسرائيل لأعدائه، للأشرار (9: 3، 5، 6؛ 10: 16؛ 37: 20؛ 68: 2). ويُستعمل الفعلُ أيضاً لينبّه اسرائيل إلى المصير الذي ينتظره إن خان الربّ ولم يكن له أميناً. رج تث 4: 26؛ 8: 19- 20؛ 11: 17؛ 28: 2، 22، 24، 45- 52؛ 30: 18.
«يُدان» (كرينو). من يدينه؟ الله. والفعل يؤخذ هنا في معنى سلبيّ: يُحكم عليه، فيُعاقَب. رج 3: 6- 7؛ 2 تس 2: 12. رج يو 3: 17- 18؛ 12: 47- 48؛ أع 7: 7؛ عب 13: 4؛ يع 5: 9؛ 1 بط 4: 6؛ رؤ 18: 8؛ 19: 2. عاد بولس إلى تث 32: 36 (= مز 135: 14 كما ورد في عب 10: 30)، حيث «دان» يُستعمل في الكلام عن دينونة الله و«انتقامه» من شعبه. وهكذا اتخذ بولس عناصر من ثقة بالنفس لدى اليهود لكي يدمّرها (رج 2: 4؛ ق حك 15: 1- 4). «بالناموس». أو حسب الناموس. حين ينتمي إنسان إلى شعب الشريعة، صارت الشريعة أداة الحكم عليه، بعد أن صارت الشريعة القاعدة التي بحسبها تتمّ الدينونة (يوب 5: 13؛ كعب 11: 1- 3) لليهوديّ كما للوثنيّ.
ب- يسمعون ويعملون (آ 13- 14)
«ليس الذين يسمعون» (آ 13). التشديد على العمل بالشريعة أمرٌ معروف في العالم اليهوديّ (تث 4: 1، 5- 6، 13- 14؛ 30: 11- 14؛ 1 مك 2: 67- 3: 48). هنا يرد التعارض بين السماع والعمل. فلدى اليهود، فكرة السماع (ش م ع في العبريّة) تحمل مضموناً إيجابياً كبيراً، من سماع وإصغاء وتنبّه وعمل. لهذا سُمّي اليهود سامعي الشريعة (يوسيفوس، العاديات 5: 107، 132). ولهذا هم الأبرار. غير أن الرسول يتطلّع إلى طريقة أخرى للعمل بالشريعة تختلف عن السماع المتنبّه الذي يميّز العالم اليهوديّ. وفي الخطّ عينه، سفرا العهد الجديد المرتبطان بالعالم المسيحيّ الآتي من اليهوديّ، أي انجيل متّى ورسالة يعقوب، يميّزان التمييز عنه (مت 7: 24- 27؛ يع 1: 22- 25). فتفسيرُ الشريعة تفسيراً جذرياً وتتميمها كاملة، جزء أساسيّ عرفته المسيحيّةُ الأولى تجاه التقوى اليهوديّة.
البار. «ديكايوس». رج 1: 17. فاليهوديّ التقيّ يفهم نفسه على أنه البار. وفعل «برّر» الذي يرد 15 مرّة في روم (رج 1: 16- 17)، يظهر هنا للمرة الأولى في روم. يبرَّر، أي الله يبرّره. نحن في إطار اسكاتولوجيّ، مع المضارع الذي يتضمّن الدينونة الأخيرة. تعليم بولس هنا يشدّد على التبرير كشيء ينعم به المؤمنون منذ الآن أو التبرير بالإيمان (5: 1). تبرير الله يصوَّر على أنه عمل الله الواحد، على أنه نعمة قبول وسند. ولقد دلّ بولس على أن هناك عمل الشريعة وسماع الطاعة الذي هو ضروريّ ويأمرنا به الربّ (1: 5؛ 2: 7). هدفُ بولس ليس تأمين وضع انجيل المسيح الذي سيأتي فيما بعد. بل هدفه طرحُ سؤال على اليهوديّ الذي يعتبر أنه يفهم الأبرار، ووضع أساس، إليه يستند من أجل التبرير الأخير. فالعالم اليهوديّ عرف انشداداً بين البرّ الحاضر والتبرئة الأخيرة. الفرق هو أن ما يسيطر في زمن بولس، ينطلق من فرضيّة تقول بوضع مميّز أمام الله لأننا أعضاء شعب العهد الذي يتميّز برباط بين «سماع الشريعة» و«البرّ». هذا الرباط يجعله بولس هنا على المحكّ. استعدّ بولس، شأنه شأن سائر اليهود وفي إطار التقليد النبويّ، أن يشدّد على أن العمل بالشريعة ضرورة من أجل التبرئة الأخيرة قدّام الله. غير أن هذا العمل لا يرادف ولا يفترض بأن يكون الواحد عضواً صادقاً في شعب العهد.
«فغير اليهود من الأمم» (آ 14). نجد هنا نظرة يهوديّة إلى الشريعة أوضح ممّا في آ 12 (امتلاك الشريعة). وهكذا يتميّز اليهوديّ عن الوثنيّ (غير اليهوديّ). لا يتطلّع بولس فقط إلى المسيحيّين الأمميّين الذين يعملون بما تقوله الشريعة، لا «بالطبيعة» (فيساي)، بل يسلكون في وفاقٍ مع الروح (8: 4). بل هو يذهب أبعد من ذلك، فيصل إلى كل عمل صالح أو شرّير عند الوثنيّين. وهو لا يتطلّع إلى بعض الوثنيين الذين يعملون الشريعة دائماً، بل فقط إلى واقع يقول إن هناك وثنيّين يعيشون بعض المرات بحسب ما تطلبه الشريعة. ولا ينسب بولس العمل بالشريعة إلى مجهود انسان لا تساعده النعمة. فالعمل بأمور الشريعة ولو لم تكن معروفة، شيء ممكن. لأن ما يُعرَف عن الله أو يمكن أن يُعرف عنه (1: 19، 21) هو أساس السلوك، لا التمرّد الذي يميّز البشر ككلِّ (1: 18- 32)، ولأن في فكر بولس ارتباطاً مباشراً بين معرفة الله والعمل بما يريد (1: 21). في خطّ الرواقيّين، يماهي الرسولُ بين العقل الالهي والشريعة الواضحة. وهكذا يختلف عن فيلون الذي يشكّل كلامُه دفاعاً عن نظرة اليهود إلى الشريعة.
إن انفتاح بولس على الواقع يوازي، داخل العالم اليهوديّ، 4 عز 3: 36، وموقف اليهود تجاه الأمم كما نقرأ في روم 10: 22: يستعدّ الهيكل أن يقتبل العطايا والذبائح من الغرباء، ومن المؤمن كما من ذاك المقيم وسط الشعب. و«خائف الله»، مثل المهتدي الجديد. في داخل العالم الفريسيّ الذي كان بولس قريباً منه، مثل هؤلاء الوثنيّين يُقبلَون لدى الله حين يدخلون في شعب العهد. لا ننسى امكانيّة معرفة شرائع أعطيت لآدم ولموسى. رج 1: 32؛ 7: 7.
«كانوا شريعة لأنفسهم، مع أنهم بلا شريعة». لا ينظر بولس إلى شريعة شاملة، ولا إلى شريعة غير مكتوبة. فمقياس ما يُرضي الله هو الشريعة لبولس ولليهود، مع أن تقليد الحكمة يماهي حكمة الله الشاملة مع الشريعة (سي 24: 33؛ با 4: 1). فموضوع بولس هو أن يقطع الطريق على القول بأن الشريعة عُرفت فقط في اسرائيل لدى اليهود. ما توخّى بولس أن يُبرز امكانية القاعدة الأخلاقيّة عند اليهود، بل القول بأن الوعد بالاختيار (الشريعة) موجود أيضاً عند الأمم بحيث يُستبعَد «افتخارُ» اليهود (3: 27). ولكن في أي معنى كان الأمم «شريعة»؟ هذا ما تشرحه الآيةُ التالية.
ج- شريعة في القلوب وفي الضمائر (آ 15- 16)
«فيثبتون» (آ15). يبرهنون، يدلّون. رج 9: 22؛ 2 كور 8: 24 «إندايكنينتاي» «أعمال الشريعة». ما ماهى بولس بين الاثنين، بل أراد أن يذكر الاثنين. الجمع (أعمال «إرغا») عند بولس له رنّة سلبيّة (3: 20، 28؛ غل 2: 16). أما المفرد (ارغون) الذي نجده هنا، فيوصي به بولس لأنه يصدر عن القلب. القلب يدلّ على داخليّة الانسان، على الانسان ككلّ بالعقل والإرادة والشعور (8: 27؛ 1 كور 4: 5؛ 14: 25). هنا يشير النصّ إلى العهد الجديد والشريعة المكتوبة في القلوب (إر 31: 33). رج إش 51: 7: «يا شعبي، شريعتي في قلبك. وهذا الوعدُ بالشريعة تمَّ في عطيّة الروح للوثنيّين (2 كور 3: 3، 6؛ رج روم 2: 29؛ غل 3: 3). غير أن بولس لا يفكّر هنا بالمسيحيين فقط، بل يقدّم عبارة واسعة. ما ينظر إليه بولس هو ارتباطٌ داخليّ بالله، والتزامٌ يخرج من القلب ولا يُوجد إلاّ عبر الإيمان بالمسيح، وامكانيّةٌ لمثل هذه الديانة لدى الأمم. عندئذ نفعل ما تطلبه الشريعة حقاً. أمّا أن تكون الشريعة المقياس لما يطلب الله، يذكّرنا بأن موضوع بولس حين يفصل الشريعة عن تماهيها مع اسرائيل، ليس بأن يقلِّل من قيمة الشريعة، بل بالأحرى بأن يحرّر الفهم التام لقصد الله للانسان، من نظرة العالم اليهوديّ الضيّقة.
«ضميرُهم يشهد لهم». نحن هنا بشكل خاص في العالم اليونانيّ قبل أن نكون في العالم اليهوديّ. فبولس يعبّر عن فكره بشكل يتجاوز النظرة التقليدية اليهوديّة. سوممرتيراين: شهد مع. ثبّت شيئاً مع آخرين. هو فعل لا نجده في السبعينية، ولا في العهد الجديد إلاّ في 8: 16؛ 9: 1. فالمسّبق «سون» يعطي قوّة للفعل. هذا يعني أن «الضمير» لا يتماهى مع «عمل الشريعة» بل يشكّل شاهداً آخر يُثبت الشريعة. في القرن الأول المسيحيّ، كان معنى الضمير الخلقيّ (سونايديسيس) واضحاً في العالم اليونانيّ. هناك كلام عن الضمير السيّئ أكثر منه عن الضمير الصالح. رج حك 17: 11؛ فيلون، الشرائع الخاصة 2: 49؛ وص رأوبين 4: 3. ولكن بولس يتكلّم مراراً عن الضمير الصالح (1 كور 8: 7، 10، 12؛ رج 1 تم 4: 2؛ تي 1: 15). هنا يتطلّع الرسول إلى الأمم المسؤولين في النهاية حين يبتعدون عن مثل هذه الأعمال. هناك من قال إن الشريعة تشهد على اليهود في الدينونة الأخيرة، والضمير يشهد على الأمم. وهكذا لا تعطي الشريعة امتيازاً خاصاً بحيث ترفع اليهوديّ فوق الوثنيّ.
«لوغسموس»، الفكر، العقل. نجد هذا اللفظ فقط في 2 كور 10: 5. رج حك 11: 15؛ 12: 10؛ سي 27: 5، 7. «كاتيغوراين»: اتّهم كما في المحكمة باسم الشريعة. ثم «أبولوغايستاي» دافع، رافع في المحكمة. رج 2 كور 12: 19. هنا يشدّد بولس، كما في السابق (دون أن ينسى ما قال في 1: 18- 32) على واقع الضمير الخلقيّ لدى الذين عاشوا خارج الشريعة. على ضوء ما بدا وكأنه مكتوب، يبدو الانسان وكأن ليس سيّد نفسه بحيث لا يستطيع أن يدافع عن عمله. هناك «آخر» ينتقده أو يدافع عنه في وجه الآخرين.
«يوم يدين الله» (آ 16). رج 2: 5 (يوم الدينونة)؛ 2: 2 (الله الديّان). يتطلّع بولس إلى يوم الدينونة، وإن يكن الفعلُ في صيغة الحاضر. ففي فكر بولس، هناك تواصل بين الحاضر والمستقبل على مستوى التبرير (2: 3 د) والغضب الالهي (1: 18؛ 2: 5، 6). فالله الذي هو خالق الكل، سيدين الكلّ ولا يراعي اختيار اسرائيل. فالله يعرف سرّ قلب الانسان كما يقول العالم اليهوديّ. رج 1 صم 16: 7؛ 1 أخ 28: 9؛ مز 139: 1- 2 ؛ إر 17: 10. نلاحظ كيف أن بولس يعود إلى الكتاب لينبّه شعبه من أي اعتداد بنفسه أو بعمله. فالدينونة لا تعمل (ولا تخفى) من أجل الشعب المختار، كما لا تكون ضد الأمم. فلا محاباة (آ 28- 29).
«حسب إنجيلي». رج 11: 28؛ 1 تم1 : 11 (انجيلي مع الاداة حسب). الانجيل هو المقياس وهو يُعلن الحكم. تلك هي طريقة بولس حين يبشّر. حين يتكلّم بولس عن الانجيل، لا يعود إلى فكر ضيّق. فالإيمان بالمسيح هو مرمى رسالته وبشارته (10: 14- 17). كانت الشريعةُ المقياسَ بالنسبة إلى اليهوديّ (2: 12). والآن هو الانجيل الذي يجمع اليهوديّ مع الوثنيّ. «بالمسيح يسوع». فالمسيح العامل كديّان في النهاية فكرةٌ معروفة في الكنيسة الأولى (مت 25: 31- 33؛ يو 5: 22، 27؛ أع 10: 42). قد يُعطى هذا الدور لله، أو يكون بواسطة المسيح. في العالم اليهودي، كان كلام عن أخنوخ أو ملكيصادق. ويتحدّث أخنوخ عن ابن الانسان الذي سيدين الخفايا (1 أخن 49: 4؛ 61: 9). رج 4 عز 12: 31- 33 والدور المعطى للمسيح. ولكن المسيحيّة تتحدّث عن الديّان الواحد الذي هو يسوع المسيح الممجّد.

3- خلاصة لاهوتيّة
مع آ 12 يصبح ثقلُ البرهان أكثر وضوحاً، وبولس يعود للمرّة الأولى إلى الشريعة. فعلى السامعين أن لا يشكّوا أنه يعود أولاً إلى الشريعة اليهوديّة، «التوراة»: هناك مقابلة بين الذين هم خارج الشريعة والذين هم داخل الشريعة، بين الأمم واليهود. في آ 7- 11 قال بولس إن اليهوديّ كالوثنيّ يعملان الشرّ. وها هو يبيّن أن الشريعة لا تصنع تمييزاً بين اليهوديّ والأمميّ. فاليهوديّ ليس أفضل من الأمميّ لأنه يمتلك الشريعة، لا سيّما وأن الأمم تكون لهم دينونةٌ أفضل من عدد من اليهود. والديانة التي هاجمها بولس في آ 1- 11 هي ديانة اليهوديّ الذي أحسّ نفسه في اطمئنان قدّام الله لأنه يمتلك الشريعة.
يبدأ بولس بنظرة سلبيّة (آ 12). بما أن الكثيرين خطئوا بدون شريعة، فبدون شريعة يهلكون. هم يهلكون لا لأن لا شريعة لهم، بل لأنهم خطئوا. وبما أن كثيرين خطئوا داخل الشريعة، فسيُدانون حسب هذه الشريعة. سيُدانون لا لأنهم كانوا داخل الشريعة (اليهوديّ) أو خارج الشريعة (الأمميّ)، بل لأنهم خطئوا. فلا نمزج بين دور الشريعة كعامل يدلّ على هويّة الشعب، ودورها في الدينونة. هي تميّز اليهوديّ عن الأمميّ، ولكن امتلاك الشريعة لا يمنع الحكم عن اليهوديّ.
في آ 13 يأتي تفسير ما قيل في آ 12، في فكر لاهوتيّ معروف وليس خاصاً بالقديس بولس: سماعُ الشريعة لا يجعل الانسان باراً قدّام الله. بل العاملُ بالشريعة يبرَّأ في الدينونة الأخيرة. في شكل عام، هناك دعوة إلى السامعين لكي يعملوا. فالخطر يتربّص بهم بحيث لن يحفظوا. وفي شكل خاص، يسمع اليهوديّ يوم السبت، في المجمع، ما يُقرأ من التوراة فيحسب نفسه باراً ومن الشعب المختار (وهذا الموقف عرفته حكمة سليمان ومزامير سليمان). فلا يؤكّد أحدٌ أن الدينونة ستكون مؤاتية لمن هو عضو في شعب العهد. هناك عامل بالشريعة مع أنه خارج الشريعة. فالعاملون بالشريعة (آ 13) وفاعلو الخير (آ 10) هم الأمم واليهود معاً.
ويبرّر بولس في آ 14- 15 هذه النقطة في عودة إلى 1: 19- 20، 28؛ 2: 7- 10، وإلى الفكر الرواقيّ مع تعاطف بين الانسان والكون. فالانسان، بالفطرة، يعرف نظام الأشياء وكيف يجب أن يسلك. فهناك أمميّون (لا كلّهم) يدلّ عيشُهم على الشريعة وإن لم يعرفوا الشريعة. فبالفطرة يعملون أعمال الشريعة. لا يتحدّث بولس هنا، بشكل مباشر، عن الشريعة الطبيعيّة في حدّ ذاتها، بل يلاحظ فقط أن الأمم وإن جهلوا الشريعة، يدلّون على ما يجب أن ننتظره لدى شعب الشريعة. مثلُ هذا الاحساس العميق يلعب دور الشريعة يوم الدينونة، ويكون المعيار للذين خطئوا خارج الشريعة (آ 12). هذا يتضمّن أن الذين يتجاوبون مع هذه الفطرة يكونون، في يوم الدينونة، أفضل من اليهود الذين خطئوا داخل الشريعة.
هؤلاء الأمم يدلّون على الشريعة المكتوبة في القلوب (آ 14). لا الشريعة المكتوبة في قلوبهم (هي خبرة مسيحيّة مع العهد الجديد الذي أتمّ القديم، رج 2 كور 3: 3، 6)، ولا أعمال الشريعة (هذا ما يعود بنا إلى العالم اليهوديّ، 3: 20؛ غل 2: 16). فبولس يعود إلى الاحساس الخلقيّ الموجود لدى الأمم، وقد انتظره عند اليهود. والشاهد الثاني على المسؤوليّة الخلقيّة لدى الوثنيّين هو الضمير: منبّه داخليّ يوافقُ، يحكمُ على أعمال قمنا بها. إنه حاضر خارج الشعب اليهوديّ وبمعزل عن الشريعة. والشاهد الثالث هو الصراع لدى الأمميّ: حكم على الخاطئ أو عذر. فالعمل بما تطلبه الشريعة أمرٌ داخليّ. على مستوى القلب والضمير والفكر. وهذا الأمر داخليّ يقوم على امتلاك الشريعة.
والعمل بالشريعة (آ 16) يكون واضحاً للجميع في يوم الدينونة. فكشْفُ أسرار القلب والضمير والفكر، يبيّن إلى أي حدّ يُدعى الأممُ «صانعي الشريعة» فيتفوّقون في ذلك اليوم على اليهود. ويضيف بولس: «بحسب إنجيلي». المقياس هو الانجيل الذي يبيّن إلى أي حدّ عملَ الأممُ بما في الشريعة. هذا ما يقابل الشريعة المكتوبة في القلب (2 كور 3: 3) التي تكشف حسَّهم الخلقيّ وقربه من الشريعة. هذا لا يعني أن للانجيل دوراً في الدينونة الأخيرة. فشأنه شأن الشريعة (آ 12). هذا يعني أن الشريعة والانجيل لا يتعارضان. فالانجيل يمكن أن يكون المقياس لخفايا القلب، لأنه يبيّن ما تعني الطاعةُ الشريعة، ويفتح القلب على الشريعة المكتوبة في القلب. ونجد الشيء عينه في العبارة الأخيرة التي تنسب إلى يسوع دورَ الوسيط، أو تسميه ممثّل الله في اليوم الأخير. فواقع المسيح (1: 3- 4) والانجيل أعطى بولس أن يرى ديانة الأمم، ويلاحظ اعتداد اليهود بأنهم شعب الله بحيث يكتفون بهذا الوضع الخارجيّ (الشريعة) لكي يكونوا مطمئنين في ذلك اليوم (2: 12- 16).

خاتمة
العمل بأمور الشريعة أمر مهمّ. ولكن بدا واضحاً منذ الآن أن هذا لا يعني حفظ الشريعة، كما يقول اليهوديّ. فهذا العمل يرتبط، في نظر بولس (آ 15)، بتجذّر الشريعة في القلب. وسوف يتوسّع في هذه الفكرة، في 8: 4 وفي 12: 1- 15: 6. أما الآن فاكتفى الرسول بالتعبير عن الفكرة دون أن يوضح. فهمّه أن يبيّن أن الحسّ الخلقيّ لدى الأمم هو شريعة، بحيث يجعل الأمم أفضل من اليهود. فالصراع الذي فيهم يدلّ على أنهم عرفوا «وصايا» الله. فهم يبرّأون الآن بواسطة يسوع المسيح (آ 16)، فيطلبون المجد والكرامة والخلود (آ 7). وهكذا دخل الأممُ في ملء خبرة الروح. وإذ نالوا قوّة الختان بالروح (آ 29)، بيّنوا عمل الشريعة المكتوبة في قلوبهم (آ 5).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM