الفصل السادس
لا محاباة عند الله
2: 1- 11
إن الكلام عن غضب الله يتواصل، وهو يصيب اليهوديّ أولاً ثم الوثنيّ (2: 1- 3: 8). وهكذا يكون 2: 1- 9 مسلسلاً يوازي المسلسل عن الخطيئة كما قرأناه في 1: 1- 18. أما المسلسل هنا فيشدّد على هويّة اليهوديّ من وجهة ذاك الذي يردّ عليه، لأنه يعتبر نفسه مميّزاً عن الوثنيّ ومنزّهاً عن الخطيئة. في آ 1- 11، نجد الاتهام، بشكل عام، يصيب اليهوديّ والوثنيّ معاً. في آ 12- 16 ننطلق من الشريعة ونتساءل إن كان اليهوديّ يعمل بها (آ 17- 29). هنا يتخيّل بولس محاوراً يقف أمامه. في 3: 1- 8، نجد خاتمةً لهذا الاتّهام الذي شمل البشريّة كلها، وإشارةً إلى ما سيلي من جدال. الدينونة هي ما تؤمّن الوحدة في 2: 1- 3: 8 (2: 1- 3، 5، 12، 16، 27؛ 3: 4، 6- 8) مع «أديكيا» (1: 18، 29؛ 2: 8؛ 3 : 5) والظلم واللابرّ، ومع أليتايا (1: 18، 25؛ 2: 2، 8، 20؛ 3: 4، 7)، وتربط هذا القسم بالفصل السابق.
كان بعض الضياع في شرح هذا المقطع: بما أن اسرائيل هو شعب الشريعة، أعدّه الله لبركته. وطُرح السؤال: ما هو مرمى ف 2 ولاهوته؟ ما يُبرزه بولس هو أن الشريعة تقدّم نموذجاً شاملاً وضعَه الله، فلا يمكن أن تميّز اليهوديّ عن الوثنيّ، ولا يمكن أن تنحصر في طقس الختان الذي يفصلنا نحن (اليهود) عنهم (= الوثنيين).
1- دراسة النصّ وبنيته
قبل الكلام عن البنية، نبدأ بملاحظتين. هناك من اعتبر آ 1 حاشية كانت في الهامش، ثم دخلت في متن النصّ. ولكنّهم نسوا طريقة بولس في الكتابة، الذي جعل من آ 1 امتداداً لما في 1: 20: فلا عذر لهم. كما أن هناك مخطوطات (السينائي، الافرامي) جعلت في بداية آ 2 «غار» بدل «دي» حيث ظنّ الناسخ أن آ 2 ليست السبب في إدراج آ 1، بل هي اعتبار لاحق.
ونعود إلى بنية النصّ. في نقد قاسٍ، يتطلّع بولس إلى شخصٍ جعله أمامه. حسب هذا الشخصُ أنه يُفلت من دينونة الله، ويحقّ له بالتالي أن يدين الآخرين. من هو هذا الشخص؟ هنا يجعلنا بولس في إطار عام جداً على مستوى الخير (الصلاح) والشرّ، ويؤكّد أن لا محاباة عند الله. فكل واحد يُدان بحسب أعماله. ولكن إن عدنا إلى 1: 19- 23، نفهم أن محاور بولس هو يهوديّ. والتركيز في البرهان (آ 6) على أن الله هو الذي يجازي (مز 62: 2: أم 24: 12)، بحيث يربح وُدّ اليهود. وفي شكل خفر، نجد تلميحاً إلى حك 15: 1 ي، في آ 4، وكأنه يدلّ على أن شعب الله منزّه عن خطايا الأمم، وأن الخطيئة في العالم اليهودي لا تؤثّر في وضع بني اسرائيل كشعب الله المختار.
يتوجّه بولس هنا إلى شخص فرد في آ 1- 5، في صيغة المخاطب التي تتكرّر، وفي آ 7- 10، نجد البنية أ ب ب أ. وتأتي آ 11 فتبدو محور المقطع. وفي النهاية، إن 2: 1- 11 يربط بين اتهامين، واحد في 1: 18- 32 وآخر في 2: 12- 3: 8.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (2: 1- 11)
ينقسم هذا النصّ ثلاثة مقاطع، فيبدأ كلامه على اليهود الذين هم أيضاً موضوع غضب الله. سوف تطالهم الدينونةُ (آ 1- 4) حين يدينون الآخرين. وقساوةُ قلوبهم تشهد عليهم (آ 5- 7). فهم يرفضون الحق، ولا ينقادون لله (آ 8- 11). أتراهم أفضل من غيرهم؟
أ- دينونة الله (آ 1- 4)
تبدأ آ 1 مع «لذلك». نحن أمام خاتمة لما سبق وقيل. من أجل هذا. لهذا السبب. رج 1: 24؛ 4: 22؛ 13: 5. نحن هنا في إطار النقد القاسي كأسلوب بولسيّ. وتتّخذ الخاتمةُ غير المتوقّعة تحدّياً لكل من يفكّر أنه بمنأى عن الاتهام السابق. في هذا الإطار، نتذكّر خاتمة ما قال ناتان لداود: «أنت هو الرجل» (2 صم 12: 7). وتتكرّر عبارة «لا عذر لك» التي لا نجدها إلاّ هنا وفي 1: 20، في العهد الجديد، فتعود بنا إلى وضع من المسؤوليّة لا يمكن أن نتهرّب منها.
«أيها الانسان». هو أسلوب الوعظ الشعبيّ (2: 3؛ 9: 20؛ رج يع 2: 20). قد نكون في خطّ ما يُستعمَل في المجامع أو الساحات. تخيّل بولسُ شخصاً يمكن أن يعارضه، ولكنه سيوافق على ما يقوله بولس. «يدين». يرد الفعل 8 مرات في ف 2. والذي يدين هو شخص يهوديّ. إن التناقض بين دينونة الله ودينونة البشر هو المفتاح في هذا الاتهام (2: 1- 3، 12، 16، 27؛ 3: 4، 6- 8). وفكرة «كيل بكيل» كانت قديمة في ذلك الوقت (مر 4: 24 وز)، ونحن نجدها في مت 7: 1- 2 حيث من يدين يُدان بالطريقة عينها. هذا يعني ارتباط كلام بولس بالتقليد عن يسوع (رج روم 12: 14).
«في ما تدين». أي في الفعل الذي به تدين. «تحكم على نفسك». أي تشجب نفسك وتعتبرها مخطئة. هو فعل «كرينو» الذي لا يرد مراراً عند بولس. رج 8: 3، 34؛ 14: 23؛ 1 كور 11: 32. «تفعل تلك الأمور». أي حسب اللائحة التي قرأناها في 1: 29- 31. لا شك في أننا لا نستطيع أن نتحدّث عن عبادة الأصنام والممارسة الجنسيّة المثليّة في العالم اليهوديّ (مع خائفي الله) الذي كانت له فكرة سامية عن الله ونموذج أخلاقيّ رفيع. غير أن في 1: 29- 31 خطايا شارك فيها اليهودُ الوثنيّين. نحن هنا في التقليد المرتبط بيسوع مع ما نقرأ في مر 7: 9- 13، 21- 22، ولا سيّما الكبرياء والإدّعاء، حيث يعتبر اليهوديّ أنه يتميّز عن الوثنيّ. كان بولس ضحيّة هذا داخل الجماعات اليهوديّة في الشتات (3: 8).
«نحن نعلم» (آ 2) أن دينونة الله تتوافق مع الحقّ. هذا ما يعرفه أيضاً الرومانيّون ويقبلون به، حول الدينونة. رج اش 13: 6- 16؛ 34: 8؛ دا 7: 9- 11؛ يوء 2: 1- 2؛ صف 1: 14- 2: 3؛ 3: 8؛ ملا 4: 1؛ ق يوب 5: 10- 16؛ 1 أخن 90: 20- 27. الحقّ هنا يرتبط بصدق الله، وثقة الانسان به. رج 4 عز 7: 34. إذن، لا ينتظِر اليهوديّ أن يتغاضى الله حين يراه يمارس من الأعمال ما يمار سه الوثنيّ (2: 17- 24).
«أفتظنّ» (آ 3)؟ رج 2: 26؛ 3: 28. في ف 4 يرد الفعل 11 مرة. رج 6: 11؛ 8: 18، 36؛ 9: 8؛ 14: 14. نرى هنا نقد بولس لتصرّف خاطئ: مع أنك تفعل تدين الذين يفعلون. هنا نرى تقارباً مع مز سل 15: 8. لا شكّ في أن الشريعة تحكم على أفعال الوثنيين. ولكن افتخار اليهود بالشريعة (2: 17- 21) لا يجعلهم يرون كيف يتعدّون هم أيضاً على الشريعة (2: 21- 29). وهكذا تكون الشريعةُ العنصرَ المسيطر في هذا النقاش (2: 12 ي)، ويبقى الاتهام مفتوحاً مع تطبيقات عامّة.
«تستهين بلطف الله» (آ 4). تدلّ هذه الآيةُ بوضوح أن بولس يتحاور مع شخص يهوديّ. هو يستعمل ألفاظاً نجدها بشكل خاص في ف 9- 11: غنى، لطف، طول أناة. ثم إن اللطف صفة لا تطبّق إلاّ نادراً على الآلهة في العالم الوثنيّ. ولكنها ترد مراراً في الكتاب المقدس (مز 25: 7؛ 69: 16؛ 86: 5؛ 100: 5؛ 106: 1؛ 109: 21؛ 136: 1؛ 145: 8- 9). وطول أناة الله تدلّ على أنه يصبر فيعطينا مهلة للتوبة. رج 9: 15، 22؛ سي 5: 4- 7. والتوبة «ماتانويا» ترد في العالم اليونانيّ، ولا سيّما الرواقيّ منه، مع ابراز التبديل في العقليّة والندم. أمّا في المسيحيّة الأولى، فالتوبة تتضمّن عودة إلى الله، اهتداء، ارتداداً عن عالم الخطيئة وتوجهاً إلى عالمَ الله (ش وب في العبريّة). هنا نتذكّر أن التوبة تحتلّ مكانة هامّة في التعليم عن الخلاص، بعد أن صارت الطريقَ ليعود المؤمن إلى العهد مع الله (لا 4: 20، 26، 31، 35 مع اللازمة «تغفر له». رج مز 116: 1 ي؛ إش 1: 27؛ إر 3: 12- 14، 22...). مع أن الكلام عن التوبة يرد عند يوحنا المعمدان (مت 3: 2، 8، 11؛ مر 1: 4) وعند يسوع (مت 11: 20- 21؛ 12: 41؛ مر 1: 15...)، ولدى التلاميذ الأولين (مر 6: 42؛ أع 2: 38؛ 3: 19...)، إلاّ أنه سيظهر فقط عند بولس في 2 كور 7: 9- 10؛ 12: 21؛ 2 تم 2: 25، ولا يظهر أبداً في إنجيل يوحنا ورسائله. بما أن هذا المدلول ارتبط بالعهد في إطار العالم اليهوديّ، تكلّم بولسُ بالأحرى عن الإيمان، وهكذا استطاع أن يُعطي مفهوماً آخر للعهد. وفي النهاية، يستلهم بولس في كلامه سفرَ الحكمة الذي يعبّر أفضل تعبير عن التقوى اليهوديّة في عالم الشتات: رحمة الله للمختارين (حك 3: 9؛ 4: 15) مع تمييز بين رحمة الله لخاصته (حتّى حين يؤدّبهم) ودينونته وغضبه على الذين يرفضون الله (حك 3: 10؛ 11: 9- 10؛ 12: 22؛ 16: 9- 10)، وقول بأن الأمم تحتاج إلى التوبة أكثر من اسرائيل (11: 23؛ 12: 8- 11، 19- 22). والتقارب واضح بين ما يقول بولس هنا وسفر الحكمة في 15: 1ي: «فأنت، يا إلهنا، صالح، صادق، طويل الأناة، وتدبّر كل شيء بالرحمة...». أجل، أراد بولس أن يبيّن أن اليهوديّ يحتاج إلى التوبة، شأنه شأن الأمميّ، والمناسبة هي الآن أمامه. أتُرى يتوجّه بولس إلى اليهود الذين في رومة، ليدعوهم إلى التوبة، بل إلى الإيمان بيسوع المسيح؟ الأمر معقول جداً، بعد أن عرفنا في 1: 17 أن البار بالإيمان (لا بأعمال الشريعة) يحيا.
ب- قساوة القلب وعدم التوبة (آ 5- 7)
نجد في آ 5 ثلاثة ألفاظ مراحدة: القساوة، رفض التوبة، دينونة الله. هي لا ترد إلاّ هنا في كل العهد الجديد. فكأني ببولس يبحث عن ألفاظ تؤثّر في سامعيه، ويترك ألفاظاً اعتادت عليها آذانُهم. «سكليروتيس» القساوة، التمرّد، رفض النير. لا يرد هذا اللفظ سوى أربع مرات في السبعينية (تث 9: 27). يَقسى القلبُ فيبتعد عن التوبة. رج إر 4: 4؛ حز 3: 7؛ سي 16: 10؛ ق 1 أخن 16: 3؛ وص شمعون 6: 2. كل هذا يعود بنا إلى تنبيه نجده في تث 10: 16 (اختنوا غرلة قلوبكم، ولا تصلّبوا رقابكم بعدُ. أي كونوا شعب الله. تكرّسوا له ولا تتمرّدوا عليه) سيعود إليه بولس في 2: 29 مع القلب الذي يجب أن يُختن، أي يُنزع عنه الغشاء فيفهم. فقساوةُ القلب تهدّد اليهوديّ كما تهدّد الوثنيّ، في خطّ ما قاله إرميا.
«تدّخر لنفسك غضباً». الكنز الذي ينتظرك في السماء هو غضب. فالفكرة حول الأمانة للعهد، جعلت المؤمن يعتبر أن أعماله تؤمّن له كنزاً في السماء (طو 4: 9- 10: تدّخر لك الخير في يوم الضيق. هي نظرة اسكاتولوجيّة. «أنانكي». رج صف 1: 15؛ لو 21: 23). وتتحدّث مز سل 9: 3- 5 عن أعمال الأتقياء، و4 عز 6: 5؛ 7: 77؛ 8: 33، 36 عن «كنز الأعمال». ويتابع بولس كلامه: في يوم الغضب. هو اليوم الأخير (صف 1: 15، 18؛ 2: 2- 3). يوم الدينونة (2: 8؛ 3: 5؛ 5: 9؛ 9: 22؛ 1 تس 1: 10؛ 5: 9). هو اليوم الذي فيه يُعلَن برُّ الله الخالق. اعتبر اليهوديّ التقيّ أن يوم الدينونة العادلة يكون من أجل المختارين (نظح 18: 7- 8؛ يب 3: 702- 709). غير أن بولس بدَّل هذا المفهوم بالنظر إلى ثقة المؤمن بالعهد مع الله، حين لا يدلّ على إيمانه وأمانته. مثل هذا العهد لا يكفي من بعد.
«الله سيجازي» (آ 6). هو مبدأ معروف في المعتقد اليهوديّ. رج مز 62: 12؛ أم 24: 12؛ أي 34: 11؛ إر 17: 10؛ هو 12: 2؛ سي 16: 12- 14؛ 1 أخن 100: 7؛ يوس 28: 3). ومعروف أيضاً في المسيحيّة الأولى (مت 16: 27؛ 2 كور 5: 10؛ كو 3: 25؛ 2 تم 4: 14؛ 1 بط 1: 17؛ رؤ 2: 23...). نحن هنا أمام مثل يبيّن أن المبدأ الواحد يمكن أن يُقرأ في أكثر من إطار من الفكر الدينيّ. فاليهوديّ الذي يحاوره بولس، يعتبر أن الأعمال المذكورة هي ممارسة أمينة لفرائض العهد، مع أعمال المحبّة والمحافظة على الشرائع الطقسيّة (طو 4: 9- 11؛ مز سل 9: 3- 5). هذا ما يعارضه بولس في روم، فيتوقّف عند «العمل» في المعنى الشامل والأساسيّ كثقة بالله بواسطة يسوع المسيح (طاعة الإيمان، 1: 5). وسيحاول المعلّمون أن يقتحموا مفارقة النعمة والدينونة بحيث إن لاهوت بولس يقع في الغموض. ولكن بولس سوف يقدّم الجواب.
«الحياة الأبديّة» (آ 7) للذين يصبرون في العمل الصالح. أما الهدف، فالمجد والكرامة، وهو ما يطلبه الله من الانسان في المفهوم اليهوديّ (أي 40: 10؛ مز 8: 5)، أو يرتبط بالله (مز 29: 1؛ 96: 7). أما المفهوم اليونانيّ، فيشدّد على الشهرة والاسم المعروف في المجتمع. «البقاء أو الخلود». حرفياً: عدم الفساد، عدم الفناء. رج 4 مك 17: 12؛ حك 2: 23. نحن في العالم الهلنستيّ أمام كلام عن خلق الله للانسان. أما الكلام عن الحياة الأبديّة، فقد جاء في الكتابات اليهوديّة المتأخّرة (دا 12: 2؛ 2 مك 7: 9؛ ق4 مك 15: 3؛ نج 4: 7). وفهمه اليونانيّون، فتحدّث عنه بولس في 5: 21؛ 6: 22؛ غل 6: 8؛ 1 تم 1: 16؛ 6: 12؛ تي 1: 2؛ 3: 7. رج مر 10: 17، 30؛ لو 10: 25؛ يو 3: 15- 16، 36... والصبر المذكور هنا يدلّ على المثابرة على العمل الصالح، بحيث لا يشبه المؤمنُ الحبّة التي وقعت في أرض في أرض قليلة التراب (مر 4: 5). والعمل الصالح الوحيد هو إيمان بالله وأمانة لما يطلبه الربّ يسوع. وهذا العمل يُثمر أعمالاً تُرضي الله. من يثبت في مثل هذا العمل ينال المجد والكرامة. وهكذا خرج بولس من إطار العهد الضيّق في إطار شعب من الشعوب، فوسّع النظرة لتطال اليهود والأمم على السواء.
ج- من لا ينقاد للحقّ (آ 8- 11 )
«وإمّا بالغضب» (آ 8). كان خلاف حول معنى «اريتايا»، لأنها لا تظهر في النصوص قبل العهد الجديد، ما عدا في مقطعين في أرسطو مع معنى التزام للحصول على وظيفة في الدولة. تعني الطموح الشخصيّ (يع 3: 14، 16: هو خطِر) الذي يصل إلى التحزّب والمخاصمة للوصول إلى ما نصبو إليه. هم لا يطاوعون الحقّ، لا ينقادون له. وهكذا نعود إلى 1: 18. أشار بولس هنا إلى ما سيصوّره في 10: 21؛ 11: 31؛ 15: 31. رج أع 14: 2؛ 19: 9؛ عب 3: 18؛ 4: 6؛ 1 بط 2: 8. «الحقّ» هنا هو الانجيل، هو حقّ الله، حقّه كخالق بحيث تعترف الخليقة بأنها ترتبط به. وحين بدّل اسرائيل الحقّ مستنداً إلى اعتداده بالله (ونسي الإيمان الذي يُدعى إليه)، عاند الحقّ ورفضه.
«ما طاوعوا» (أبايتوسي) الحقّ، بل طاوعوا «بايتومانوس» (الجذر عينه) الشرّ، اللابرّ. إن الفعل «بابتو» يعني اقتنع، انقاد، طاوع. يشير بولس هنا إلى اللُبس والمساومة، بحيث يُجعل «شعبُ الله» بلا عذر. هي ثلمة في العلاقة الأساسيّة بين الله والانسان، بين الخالق والخليقة. هذا ما تبيّنه «أديكيا». رج 1: 18. «سخط وغضب». لفظان يترافقان في السبعينيّة اليونانيّة، في شكل «غضب السخط» كما في عودة إلى غضب الله (تث 29: 27؛ مز 78: 49؛ سي 45: 18؛ إر 7: 20؛ 21: 5). وقد يلمّح الرسول إلى الدينونة الأخيرة كما في إش 13: 9؛ 30: 30. كل هذا يدلّ على أن الظلم (والشرّ واللابرّ) يغيظ الله.
في آ 9- 10، نجد جملتين متوازيتين: شدّة وضيق... مجد وكرامة وسلام. هناك من يفعل الصلاح. وهناك من يفعل الشرّ. وفي الحالتين نجد اليهوديّ أولاً، ثم اليونانيّ. رج تث 28: 53، 55، 57؛ إش 8: 22؛ 30: 6. تُصوّر الدينونةُ انطلاقاً من خبرة حياة تجعل الانسان يعيش الشدّة والضيق الشخصيّ. هو انسان ما استطاع أن يجد طريقه، فتسمّر في مكانه كأنه في سجن. وما نقرأه في آ 10 يستعيد بعض ما في آ 7، بعد أن حلّ «السلام» محلّ «الخلود». انطلق الرسول من وضع الحياة اليوميّة، فوصل بنا إلى إطار اسكاتولوجيّ يصوّر حالة الانسان الأخيرة وما فيها من صلاح.
«نفس انسان». أي الانسان في نفسه، في ذاته، كما هو، نفساً وجسداً. الانسان في حياته. رج تك 2: 7؛ 1 كور 15: 45؛ ق أع 2: 41، 43؛ 3: 23؛ 7: 14؛ 27: 37؛ 1 بط 3: 20. «من يفعل الشرّ... من يفعل الصلاح». هذا التعارض نقرأه في تث 30: 15؛ 1 مل 3: 9؛ أي 2: 10؛ مز 34: 14؛ 37: 27؛ مرا 3: 38. ويكرّر بولس هذا التعارض في روم 3: 8؛ 7: 19، 21؛ 12: 21؛ 13: 3؛ 16: 19. «اليهوديّ أولاً، ثم اليونانيّ». ظنّ اليهوديّ أنه مميّز، أن الله اختاره (وهذا ما يُقرّ به بولس، 1: 16). ولكنه في الوضع الذي يعرفه الوثنيّ، سواء فعل الخير أم الشرّ.
«الله لا يحابي» (آ 11). أجل. لا محاباة عند الله، ولا هو يفضِّل شخصاً على آخر. رج أف 6: 9؛ كو 3: 25؛ يع 2: 1. في العبرية: ن ث أ، ف ن ي م. رفع الوجه. أو: رفع الرأس ولم يحنِه خوفاً وخجلاً. القاضي يجب عليه أن لا يحابي (لا 19: 15؛ تث 1: 17؛ 16: 19). والله هو نموذج اللامحاباة في العالم اليهوديّ. رج تث 10: 17؛ 2 أخ 19: 7؛ سي 35: 12- 13؛ ق يوب 5: 16؛ 21: 4؛ 30: 16؛ 33: 18؛ مز سل 2: 18 ... كانت النظرة ضيّقة، فوسّعها بولس (أع 10: 34) لتصل إلى البشريّة كلها.
3- خلاصة لاهوتيّة.
ترك بولس صيغة الغائب (آ 1- 2) ليأخذ يصيغه المخاطب، بعد أن جعل أمامه شخصاً يحاوره، هو يهوديّ. وبولس ينتقد موقفه حين يعتبر نفسه مميّزاً لدى الله. أما الجواب فنجده في النهاية: ليس عند الله محاباة للوجوه. وهذا اليهوديّ الذي هو من «شعب الله»، اعتبر أنه يحقّ له أن يحكم على الآخرين، ولا سيّما الوثنيين منهم، فشابه الفرّيسيّين. ولكن بولس حذّره. هو يأخذ أولاً دور الخالق مع أنه مخلوق. هو يأخذ دور الديّان، مع أنه سيُدان لأنه يفعل الأفعال التي يفعلها الآخرون. هو لا يطاوع. هو يتمرّد على نداء الله من أجل الحقّ. هذا يعني أن النداء للمجيء إلى الحقّ، إلى الانجيل، يتوجّه إلى اليهوديّ كما إلى الوثنيّ. عمل الوثنيّون الشرّ، فأظلمت أفكارُهم بحيث لهم يقدروا أن يصلوا إلى الحقّ. واعتدّ اليهوديّ بنفسه وبأعمال الشريعة التي يمارسها، فشابه الوثنيّ، وعاند، وهذا أمر سوف يتوسّع فيه بولس في روم 9- 11.
بدأ «هجوم» بولس بشكل عام، ويمكن أن يكون أصاب الانسان الرواقيّ الذي وسّع نظرته وسع الكون، وعاش أخلاقيّة رفيعة. ولكنه أصاب بشكل الخاص الموقف اليهوديّ الذي رفض الجنس المثليّ، فاعتبر نفسه فوق سائر البشر. ولكن هناك خطايا اجتماعيّة أخرى يقع فيها اليهوديّ، بحيث يُحكم عليه كما يُحكم على الوثنيّ.
إلى ماذا يستند اليهوديّ لكي يتّخذ مثل هذا الموقف؟ سؤال تجيب عليه آ 3- 4. إلى الاختيار الالهيّ. تحدّثت مز سل (15: 8) عن الأبرار، عن الأتقياء، وميّزتهم عن الذين لا شريعة لهم، فيُدانون دينونة قاسية. أما اليهود، فلهم الشريعة والعهد والوعود والمواثيق (9: 4)، لهذا نراهم يثقون بأنفسهم. فالعهد يحميهم، والشريعة تمنع عنهم الدينونة. ثم إن الله رحيم بالنسبة إليهم، يطيل أناته ويصبر عليهم فاتحاً أمامهم طريق التوبة على الدوام (حك 15: 1- 6). ولكن بولس يعتبر أن مثل هذه الثقة المفرطة، التي لا تستند إلى العمل الصالح، هي في الواقع احتقار لصلاح الله وطول أناته. كان حك 15: 1- 2 قد تحدّث عن رحمة الله تجاه مختاريه (15: 1- 2)، وعن مناسبة توبة للأمم (11: 23). أما بولس فرأى أن اليهود يحتاجون إلى التوبة، شأنهم شأن الوثنيين (روم 2: 4)، بل قبل الوثنيّين.
مع آ 5- 6، نعود إلى الوراء. فالكلام عن قساوة القلب كما في تث 10: 16 وإر 4: 4 (اختنوا قلوبكم القاسية) يلتقي مع كلام عن القلب المختون (2: 29). انطلق بولس من القلب القاسي كما تتحدّث عنه أسفارُ الشريعة والأنبياء، ومن نقص توبة يجدها «اليهوديّ» (المدافع) لدى الوثنيّين. وهكذا ضمّ إلى برهانه ما تقوله الكتب المقدّسة عن تاريخ اسرائيل: هذا يعني أن الإيمان لم يصل إلى الأعماق، لدى اليهوديّ، وأن العهد فُهم فهماً سطحياً فكان الارتكاز عليه كاذباً، باطلاً: نحن ندين الآخرين وننسى الدينونة التي تنتظرنا. وإذا كان قلبُنا قاسياً إلى هذا الحدّ، فهو يحتاج إلى توبة كبيرة، يحتاج إلى الختان الحقيقيّ ليرضى الله عن الانسان.
في كل هذا نصل إلى النتيجة القائلة بأن كلام بولس موجّه إلى إخوته اليهود الذين وثقوا بأنهم الشعب المختار، وتوقّفوا عند هذه الثقة دون أن يفعلوا شيئاً. ذاك كان موقف بولس من الثقة بنفسه، حين كان بعدُ فريسياً وقبل أن يصير للمسيح (3: 4- 6). نقصته توبةٌ حقيقيّة قبل خبرته مع الربّ على طريق دمشق. وكذلك اليهود الذين نجد صورة عنهم في نهاية أعمال الرسل: «تسمعون سمعاً ولا تفهمون، وتنظرون نظراً ولا تبصرون» (28: 26).
ويأتي كلام عن «الغضب» الذي لا يتميّز عمّا في 1: 18، فيدلّ على المجازاة الالهيّة عينها. أما الاختلاف الوحيد، فهو أن المجازاة بدأت منذ اليوم بالنسبة إلى الأمم (1: 18- 27)، وهي ستتمّ بالنسبة إلى اليهود في المستقبل، في يوم الدينونة الأخيرة. في ذلك اليوم، يدهش الفرد بأنه لم يدّخر كنزاً من الصلاح (طو 4: 9- 10) بل الغضب الالهيّ. إن الله يجازي كلَّ واحد بحسب أعماله. فإن كان اليهوديّ يرتكز على رحمة الله، فالوثنيّ يفعل مثله، وكلاهما يحتاجان إلى التوبة.
ويتوجّه بولس (آ 7) نحو ما يراه نموذج الثقة المفرطة لدى اليهوديّ، فيورد الكتاب المقدس ليثبّت نظرته ويوسّعها. يرى نوعين من الأعمال، ونوعين من المجازاة. من جهة، هناك الذين يطلبون المجد والكرامة والخلود. نحن في صيغة الحاضر. هذا يعني أنهم بدأوا، ولكنهم لم يبلغوا بعد. لهذا، هم يحتاجون إلى الصبر والثبات في ما يطلبون: هؤلاء يمنحهم الله الحياة الأبديّة (آ 7).
ومن جهة ثانية (آ 8)، هناك الذين يكفون نفوسهم بنفوسهم، ويطمحون طموحهم الشخصيّ الذي لا يرتكز على برّ الله. لا يخضعون للحقّ، بل يقتنعون بالشرّ. لا يطاوعون، بل يعاندون. هم لا يتطلّعون إلى المستقبل، إلى السماء، بل إلى نفوسهم ومصالحهم. هذا لا يعني موقفاً لادينياً تجاه موقف دينيّ، ولا نحن في عودة إلى ف 1 مع حكم اليهوديّ على خطيئة الوثنيّ. بل يعني اكتفاء اليهوديّ بما هو وبما يقوم به من أعمال بحسب الشريعة. فبولس لا يفكّر في أناس يعيشون حياة كاذبة تستوحي الظلم، بل في أناس أبرار في نفوسهم. عاندوا الحقيقة التي تحدّث عنها بولس في 1: 18، فنسوا ارتباطهم بالخالق من أجل الخلاص.
وكرّرت آ 9- 11 التعارض بين نوعين من الحياة: من يعمل الصلاح (الخير) ومن يعمل الشرّ. هنا أيضاً لا يميّز بولس بين يهوديّ ويونانيّ: كلاهما يقعان تحت الدينونة، واليهوديّ قبل الوثنيّ، بعد أن نال شريعة حملتها إليه الملائكة (غل 3: 19). أجل، لن يعود لليهودي موقع مميّز بالنسبة إلى الأمميّ. وهكذا نكون في آ 7- 10 أمام نظرتين إلى الدين. الأولى، ليست يهوديّة بشكل خاص. هي وصف لحياة دينيّة صالحة يُقرّ بها الجميع. وإذ جعل بولس اليهوديّ والوثنيّ على قدم المساواة، وضع حداً للاكتفاء اليهوديّ الذي يجعل نفسه قبل الآخرين. والنظرة الثانية هي عقليّة دينيّة تجعل من التطوّر الديني المرمى الأول وتُخضع له الحقّ والبرّ. يصعب علينا، شأننا شأن قرّاء روم، أن نتخيّل أمثلة من هذه النظرة الدينيّة. نستطيع أن نجد مثلاً عن ذلك في معارضة يسوع لممارسة السبت أو «القربان» كما في مر 2: 23- 3: 5؛ 7: 10- 13.
خاتمة
بعد أن تحدّث بولس عن خطايا العالم الوثنيّ الذي جعلته في انحطاط مريع، ولا سيّما على المستوى الخلقيّ، عاد إلى العالم اليهوديّ ومنعه من أن يدين الوثنيّين. فاليهود الذين نالوا وحي مشروع الله على العالم من خلال الشريعة، هم أيضاً خطأة، شأنهم شأن الأمم. والدينونة تصيبهم كما تصيب الأمم، بل قبل الأمم. ففي نظر الله، جميعُ البشر متساوون، اليهود والوثنيون، ولا محاباة للوجوه لديه. فما ينظر الله إليه، هو التصرّف الذي يقوم به الانسان. لا امتيازات نعتبرها حصناً تمنع الله من الدخول إلى حياتنا. ذاك كان وضع اليهود الذين يكتب إليهم بولس، كما يكتب إلى المسيحيّين في رومة. والتوبة التي يطلبها منهم هي العودة إلى الحقّ، إلى الانجيل. فإن هم عادوا دلّوا على صدق الله. وإلاّ، سيكون مصيرهم كمصير الوثنيّين «فيسلمهم الله» إلى نفوسهم، وإلى ما يحسبونه حرّية تجاه ختان من نوع آخر، هو ختان القلب وانفتاحه، وتجاه عهد جديد يُكتب حقاً في القلوب، لا بحروف ميتة، بل بروح الله الحيّ.