الفصل الخامس: غضب الله معلن من السماء

الفصل الخامس
غضب الله معلن من السماء
1: 18- 32

منذ بداية العالم، تجلّى الله في خلائقه لجميع البشر. ولكنّهم ظلّوا عمياناً، وما أرادوا أن يسمعوا ولا أن يفهموا ما يقدَّم لهم من وحي. ففضّلوا أن يعيشوا بحسب غرائزهم وانحطاطاتها، وأنانيّتهم وما فيها من رفض لمحبّة الله والقريب. عبدوا شهواتهم الخاصّة واعتبروها آلهة، فسقطوا في الفساد، ومارسوا العنف في علاقاتهم الشخصيّة والاجتماعيّة. لهذا، حلّ غضبُ الله بهم. أي نالوا العقاب الذي يستحقّون من داخل الخطايا التي اقترفوها. تلك كانت نظرة اليهود إلى الوثنيّين. ولكن البشر جميعهم خطأة. الوثنيّون واليهود. ويبدأ بولس بالوثنيّين.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 18، ألغى مرقيون لفظ «الله» في عبارة «غضب الله»، لأن إله الغضب لا يمكن أن يكون إله العهد الجديد، الذي هو إله الرحمة. وهناك تقاليد نصوصيّة غربيّة تضيف «الله» بعد كلمة «الحقّ»، فيقولون «حقّ الله» في خطّ ما نقرأ في آ 25 (استبدلوا حقّ الله).
في آ 24، جُعلت «هيوتويس» محلّ «اوتويس» (في ذواتهم) في بعض المخطوطات (ومنها 011). وقد أراد الناسخ أن يحسّن النصّ ويجعله أكثر تحديداً، بحيث يعود الكلام إلى الشخص الذي يتكلّم. ولكن «أوتويس» يمكن أن يكون لها المعنى عينه. رج آ 27، حيث بعض المخطوطات (الفاتيكاني، 017). فعلت العكس، فقرأت «اوتويس» بدل «هيوتويس» (نائلين في أنفسهم).
في آ 27، أراد المخطوط 011 أن يقوّي النصّ، فجعل المسّبق «انتي» بدل «أبو» (عاد الضلال عليهم). في آ 28. غاب لفظ «تايوس» (الله) الذي لا نجده في السينائي، الذي يعود إلى القرن الرابع، ولا في الاسكندرانيّ (القرن الخامس)، ولا في 031، الذي يعود إلى القرن التاسع. قد يكون اللفظُ أضيف في حقبة قديمة من أجل التوازي مع آ 24 (أسلمهم الله) وآ 26 (أسلمهم الله).
في آ 29، نقرأ ثلاثة ألفاظ ترد في ترتيب مختلف بين مخطوط ومخطوط: إثم، زنى، شرّ. ونجد «بونيريا» (شرّ) محلّ «بورنايا» (زنى)، وهذا خطأ من قبل الناسخ. وحاول النسّاخ أن يحسّنوا النصّ في آ 32 ليجعلوه يتوافق مع طريقة بولس في الكتابة.
ب- بنية النصّ
يبدو الركن الأساسيّ في البرهان (آ 19- 25)، صدى لخبر آدم في تك 2- 3: فآدم هو الذي سبق وأفسد معرفته لله، وحاول أن يتفلّت من وضعه كخليقة. اعتقد بالكذب وصار جاهلاً، وبالتالي (آدم= انسان) نموذجَ البشريّة التي عبدت الأصنام بدل الخالق. واستعمالُ المقولات الرواقيّة المعروفة، ولا سيّما في آ 19- 20، 23، 28، أبرز وجهةَ الشموليّة في البرهان.
غير أن اللافت هو أن آ 21، ثم آ 23 وما بعد، تجعلان بولس يتحدّث كيهوديّ، فيستعمل أسلوب الهجوم الذي أخذ به اليهود الهلنستيّون ضدّ عبادة الأصنام. ونلاحظ بشكل خاص تأثير حك 11- 15. وهو يتوخّى أن يبيّن لابرَّ الانسان (آدم) من وجهة نظر يهوديّة تمقت عبادة الأصنام وتدلّ على انحطاط الأمم على مستوى الخلقيّة الجنسيّة. وفي آ 29- 30، نجد لائحة بالرذائل: نقرأها في العالم اليهوديّ، كما في العالم الرواقيّ.
في هذا التوسّع الذي يمتدّ من آ 18 إلى آ 23، يتكرّر ثلاث مرات فعلُ «أبدلوا» (آ 23، 25، 26) في توازٍ مع تكرّر مثلَّث لفعل «أسلم» (آ 24، 26، 28). هذا ما يخلق حلقة مفرغة لخطيئة البشر، وضعفاً لمعرفة الله يقود إلى انحطاط على مستوى الدين والتصرّف البشريّ، وافتخاراً بشريّاً بحصاد ثمرة الفساد البشريّ (آ 24، 26، 27) والبشاعة بكل أشكالها (آ 29- 31). هناك من شدّد على آ 19- 20 حيث لا عذر لهؤلاء الناس. وجاء من يقسم المقطع ثلاث قسمات (آ 22- 24، 25- 27، 28- 32) تحدّدها فكرةُ الحكم على الخطيئة. أو ثلاثة توسّعات: في آ 19- 23 الخطيئة ضد حقّ الله. آ 24- 27 الخطيئة ضد الطبيعة. آ 28- 32 الخطيئة ضدّ الآخرين.
ونلاحظ مهارة بولس ككاتب حين يتلاعب على الكلمات. في آ 23، الذي لا يَفسد تجاه الذي يفسد (أو: يفنى). في آ 25، الخليقة تجاه الخالق. في آ 27، الذكور تجاه الذكور مع الذكور. في آ 28، ما اهتمّوا «إدوكيماسان» تجاه «أدوكيمون» (ما لا يليق). في آ 29، «فتونو» (حسد) تجاه «فونو» (قتل). وفي آ 31، بلا فهم «أسيناتوس» تجاه بلا عهد «اسينتاتوس». ونلاحظ أيضاً لائحة الرذائل في آ 29- 31، حيث نبدأ بأربعة أو خمسة ألفاظ عامة تبدأ مع المسبّق النافي مع «أ». مثلا : اللابرّ (أو الظلم). مثل هذه اللائحة نجدها في الأدب الدنيويّ اليونانيّ.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (1: 18- 32)
نتوقّف هنا عند أربعة مقاطع. في الأول، نتعرف إلى غضب الله (آ 18- 23) الذي يصيب الأمم لأنهم ما عرفوا الله ولا مجدّوه. حينئذ أسلمهم إلى شهوات قلوبهم (آ 24- 25)، أسلمهم إلى الرغبات الدنيئة (آ 26- 27). وأخيراً، أسلمهم إلى فساد عقولهم (آ 28- 32).
أ- غضب الله (آ 18- 23)
«فغضب الله» (آ 18). تبدأ الآية مع «لأنّ»، فترتبط بما سبق وتواصل الفكرة دون أن تحدّد نوعيّة الرباط. وهذا ما نكتشفه في التوازي بين آ 17 وآ 18: هناك غضب الله على اللاتقوى (الاثم، الفجور) في آ 18، الذي يعارض برّ الله بإيمان في آ 17. فالسبب الذي جعل البشريّة تصل إلى هذا المستوى، هو الاثم والفجور. ويتكرّر لفظ «معلن» في آ 17 وآ 18، وتضيف آ 18: من السماء. أي من عند الله. والغضب هو العقاب. وما يُثبت المناخ الاسكاتولوجيّ هو أن «غضب الله» جزء من دينونة الله في النهاية (2: 5، 8؛ 3: 5؛ 5: 9؛ 1 تس 1: 10؛ 5: 9). ومع أن فكرة غضب الله، في العهد القديم، ليست مدلولاً اسكاتولوجياً، إلاّ أننا نجد ما يوازيها في اش 13: 9، 13؛ صف 1: 15؛ 18؛ 2: 2- 3 ؛ 3: 8؛ دا 8: 19؛ ق يوب 24: 30. فدينونة الله الأخيرة، هي نهايةُ مسيرةٍ بدأت منذ الآن (1 أخن 84: 4؛ 91: 7- 9). وارتباط آ 17 وآ 18 مع «معلن» يجعلنا في إطار سماويّ، سواء تكلّمنا عن «برّ الله» أو «غضب الله». في العهد القديم، يرتبط غضبُ الله بالعهد، وهذا ما يفهمنا أن الله هو قبل كل شيء إله اسرائيل. أما هنا، فتتوسّع النظرة (آ 19 ي) فترى في الله خالق كل شيء. ولكن إن نظرنا إلى العهد من جهة الله الذي يجعل شعبه خليقة من الخلائق (رج آ 22)، فمن جهة ثانية، يُرى غضبُ الله في ملئه من زاوية البرّ المرتبط بالعهد (اش 63: 6- 7؛ سي 5: 6؛ 16: 11).
«غضب الله». مدلولٌ عُرف معرفةً واسعة في العالم القديم، كسخط الله الذي لا يرضى عن تصرّف البشر تصرّفاً لا يليق بالله، كجواب السماء على كفر البشر وتجاوز الشريعة الإلهيّة، وكطريقة بها نفسّر كارثة حدثت أو مرضاً أو موتاً. أخذ بولس بهذه اللغة ليصوّر نتيجة لابرِّ البشر في العالم (آ 19- 32). ليس «الغضب» في نظر بولس شيئاً يُسألُ الله عنه، وكأنه ارتباط بين العلّة والسبب في المجال الخلقيّ (أخطأت فضربني الله!!)، أو كأنه موقف الله «المنتقم» (فالانتقام بعيدٌ كلَّ البعد عن الله). نحن أمام مسيرة اجتماعيّة أو سيكولوجيّة على الأرض ترتبط بعالم السماء.
كان الفكر الكلاسيكيّ اليونانيّ يرى في غضب الآلهة، اللامنطق واللامتوقّع بحيث نصل إلى القدر. مثلُ هذه السمات ليست بغريبة عن العالم اليهوديّ، إلاّ أننا نجدها في إطار الإيمان بالاله الواحد (لا بالآلهة المتعدّدة حيث نهرب من إله فيعاقبنا إله آخر). رج 2 صم 24: 1، 15- 16؛ ق 1 أخ 21: 1، 14- 15؛ أي 19: 11؛ مز 88: 16. وهناك «لغزٌ» حاضر: إلى متى؟ وعى بولس هذه المسألة (3: 5؛ 9: 22). وقدّم كلامه في لغة أخلاقيّة رفيعة (آ 19- 32). وإن هذه الآيات تتضمّن بداية جواب سوف يصوغه على مستوى الفرد (ف 6- 8) وعلى مستوى الجماعة والبشريّة ككلّ، على مستوى اليهوديّ كما على مستوى الوثنيّ (ف 9- 11). أما الحلّ فهو أن غضب الله على الانسان يتوخّى أن يبيّن أن الانسان تمرّدَ فرفض علاقته كخليقة بالله (والارتباط ارتباطَ الإيمان)، وهكذا بدأت مسيرة الانحطاط. أما النجاة فتقوم بالعودة إلى علاقة الإيمان. مثلُ هذه العودة لا تعني أن غضب الله لن يعود يفعل على المستوى البشريّ، بل هو يصبح جزءاً من مخطّط أوسع، نهايتُه تحرّر وفداء من كل الظروف. لهذا قيل: إن دينونة الغضب في النهاية، تتوافق مع العهد والمواعيد لأنها تقود إلى الفداء والخلاص. أمّا كيف يظهر هذا الغضب عند بولس هنا؟ في التصرّف البشريّ.
«كفر وظلم». نحن هنا أمام عداوة ورفض لكل ممارسة عباديّة صالحة وسلوك بحسب الشريعة تجاه الآخرين. يتطلّع بولس إلى لوحَي الوصايا. أما لفظ كفر «أسابايا» فلا يستعمله بولس مراراً (رج روم 11: 26). والصفة في 4: 5؛ 5: 6. أما «ظلم» (لابرّ) «أديكيا» فترد مراراً. رج 1: 29؛ 3: 5؛ 6: 13؛ 9: 14؛ ق 1 كور 13: 6؛ 2 كور 12: 13؛ 2 تس 2: 10، 12. إن «اللابرّ» يقابل برّ الله «ديكايوسيني» (آ 17؛ رج 3: 5). وهكذا يحدَّد اللابرّ كنقص في الواجبات تجاه الله والانسان، يرتبط بعلاقتنا بالله والانسان. وهاتان الوجهتان تسيران معاً فتدلاّن على رفض علاقة الانسان الخاصة بالانسان، تصلان بنا إلى ما يلي. فاللابرّ من قِبَل الانسان، يجعل مبادرة الله ضروريّة من أجل التبرير. ثم، أن يمكن نقلُ المسألة الضيّقة (علاقة بين اليهود والوثنيّين) داخل مخطّط الله الخلاصيّ، إلى مسألة أوسع هي مسألة خلاص البشريّة كلها (مع لفظَي البرّ واللابرّ)، يُبرز قدرة الله وأمانته. وترد كلمة «كل» (جميع). هذا يعني أن ف 2 سيعر ض «كلّ» إثم. وحين يُعرَض كلُّ «إثم»، فهو سيدخل في مخطّط الله الفدائيّ.
«يُلغون الحقّ». هو حقّ الله كما في آ 25. ثم كلُّ حقّ. وهكذا تضيع الثقةُ بالله. فحين يرفض الانسان أن يعترف بالله كالخالق، تَفسد علاقتُه بالله، بالانسان، بالخليقة كلّها.
«لأن ما يقدر البشر» (آ 19). ما يمكن أن يُعرَف عن الله. وهكذا نستطيع أن نعرف الله. اعتقد العالمُ اليهوديّ (رج خر 33: 20؛ تث 34: 12؛ سي 43: 13؛ ق سيب 3: 17) أن الله لا يُعرف في ذاته، ولكنه جعل شخصَه معروفاً في شكل من الأشكال (لا تقدر أن ترى وجهي، بل ظهري). وإلاّ، لا معنى لما في نهاية آ 20: لا عذرَ لهم.
وهكذا نكون أمام لاهوت يرتبط بالطبيعة البشريّة، لا بالوحي. هنا يرتبط بولس باللاهوت الحكميّ في العالم اليهوديّ الهلنستيّ. ق حك 12- 15 وروم 1: 19- 32. وخصوصاً حك 13: 1- 9. ونتذكّر أن فيلون الاسكندراني رأى في الخليقة «ظلاّ» نستطيع بواسطته أن نتميّز الخالق.
«الله أظهرها لهم». إن الفعل «فاناروو» يظهر قليلاً في العهد القديم والعالم اليهوديّ، ولكنه- يرد 49 مرّة في العهد الجديد. فالديانة المسيحيّة هي ديانة الوحي التي فيها كشف الله عن ذاته. رج 3: 21؛ 16: 26؛ 1 كور 4: 5؛ كو 1: 26: 3: 4؛ 1 تم 3: 16؛ 2 تم 1: 10؛ تي 1: 3؛ عب 9: 26؛ 1 بط 1: 20. هذه العبارة تؤكّد أن معرفة الله لا تميّز فقط الخلق وتتفرّع منه، بل تتمّ بواسطة الله. نحن أمام وحي الله للبشريّة كلِّها، عبر الكون، وينطلق من الكون. أجل، الخليقة لا تستطيع أن تقدّم المفتاح عن وجودها. ويعلن بولس هنا في آ 21، معرفة آنيّة لله. هل هذه المعرفة تقود إلى الخلاص؟ هي مسألة أخرى سيعود إليها بولس في 2: 6- 16.
في آ 20، نجد نفوسنا أمام لغة المسيحيّة الأولى، المستوحاة من العالم الرواقيّ بعد أن مرّ في الحكمة اليهوديّة (حك 2: 23؛ 7: 26؛ 18: 19)، والمستنيرة بما قاله فيلون. أجل، يُعرف الله بواسطة العقل. ولكن هذا لا يعني أن العقل يقدر أن يُدرك الله. فيبقى أن بولس يجعل نفسه في موقع يحاول أن يربط العالم اليهوديّ بالعالم اللايهوديّ الذي يستطيع هو أيضاً أن يعرف الله، لا بواسطة وحي لم يصل إليه، بل بواسطة خليقة بدت كأنها ظهورٌ لله على الأرض.
«بلا عذر». قد نكون أمام جملة سببيّة: لأنهم لم يعرفوا الله. أو جملة غائيّة: بحيث إنهم لم يعرفوا الله. رج حك 13: 8- 9؛ ق4 عز 7: 22- 24؛ وص موسى 1: 13. وهكذا توخّى بولس أن يبني برهانَه على أرضيّة واسعة. فإذا كان بإمكان الوثنيين أن يعرفوا الله، فيستعمل بولس لغة العالم اليهوديّ، لكي يواصل كلامَه إليهم.
«عرفوا الله فما مجّدوه» (آ 21). هنا بدأ بولس ينتقل إلى مقولات معروفة في العالم اليهوديّ. «عرفوا الله». رج 1 كور 1: 21؛ غل 4: 9؛ يو 10: 15؛ 17: 3؛ 1 يو 4: 7- 8. في العالم اليونانيّ، نعرف الله حين نُدركه كما هو في الحقيقة. في العالم اليهوديّ، نعرف الله من خلال شعائر العبادة والطاعة لوصاياه، وهكذا نُقرّ به وبوجوده. رج قض 2: 10؛ 1 صم 3: 7؛ مز 79: 6؛ هو 8: 2. ونحن نمجّد الله (خر 15: 1، 2، 6، 11، 21)، أي نقدّم الجواب الذي يليق بمجده، أو إشعاع لاهوته. «وما شكروه». نحن لا نشكر الله فقط بالكلام، بل بحياتنا كلِّها التي هي عطيّة من الله (4 عز 8: 60). في منظار بولس، مثلُ هذا الموقف الذي يعبّر عن مخافة الله وشكره، هو الطريقة التي بها نعبِّر عن معرفتنا له. ولكنَّ تصرّف الانسان بفصل بين ما يعرفه من الحقّ، وبين حياته. أمّا بولس فيريد أن يجمع بين الاثنين.
«صاروا حمقى» رج 8: 20؛ أف 4: 17؛ 2 بط 2: 18. صاروا «باطلاً». رج مز 39: 4- 5؛ 62: 9؛ 78: 33؛ 94: 11؛ 144: 4؛ جا 1: 2، 14؛ 2: 1، 15، 17. كل هذا يدلّ على الحياة القصيرة والتافهة. ما أراد بولس أن يقوله: حيث لا نختبر الحياة كعطيّة من الله، نبتعد عن الواقع، ونحكم على نفوسنا، فنجعلها في الباطل والفراغ والعبث. رج 8: 20.
«أظلم قلبُهم». رج مز 75: 6 الذي يبدأ بالقول إن الله معروف في يهوذا (مز 75: 2). هناك المعنى الأدبيّ للظلمة. رج 11: 10 (= مز 68: 4)؛ ق وص رأوبين 3: 8؛ وص لاوي 14: 4؛ وص جاد 6: 2. أجل، هم لا يقدرون أن يفهموا. عاشوا في ظلمة تمنعهم من الفهم. والقلب هو الانسان في حياته الداخليّة وفي خبرته الحميمة. نحن أبعد من العواطف والتمنّيات والرغبات (1: 24؛ 9: 2). بل نحن على مستوى القرار والإرادة والعمل (2 كور 9: 7) مع القدرة على التفكير والفهم، كما هو الأمر هنا. أجل، تشوّهت امكانيّاتُ الانسان كله، وليس فقط على مستوى العقل والفكر. فإن لم يتلقَّ نوراً موجّهاً يأتيه من اعترافه بالله، فقلبُه (وحياته) هو كلّه في الظلام. فلا يعرف أين يتوجّه، وتتبعثر حياتُه كالمياه في يد الانسان.
«زعموا أنهم حكماء». هنا ننتقل إلى آ 22. الحكمة فضيلة سامية في العالم القديم. وعند اليهوديّ، هي عطيّة من الله. ففي العالم الرواقيّ، الانسان الحكيم هو الانسان المثال الذي يجب أن يتوق إليه كلُّ واحد منّا. غير أن هؤلاء تركوا الحكمة وصاروا جهلاء. رج إر 10: 14؛ مت 5: 13// 14: 34. صاروا بلا طعم كالملح.
نلاحظ سخريّة بولس: ظنّوا أنهم وازنوا بين معرفتهم النظريّة وممارستهم العمليّة. ولكنّ حياتهم دلّت على عكس ذلك، وسلوكهم أظهر أنهم لم يعرفوا الله. ذاك هو الوضع المؤلم الذي يعيشونه. فمع أنهم جهلة، يُعلنون أنهم حكماء. ومعيارُ حكمتهم هو تفاهتهم والباطل الذي يعيشون فيه. رج 1 كور 1: 18- 25.
ما يحدث هنا هو صدى لخبر آدم مع «المعرفة» (تك 2: 19). يتوق الانسان إلى معرفة أكبر، فإذا هو يعرف السقوط كما في تك 3: 1 ي. رج حك 2: 23- 24؛ ق يوب 3: 28- 32؛ 4 عز 4: 30. في آ 23، إشارة إلى عبادة العجل الذهبيّ، التي ارتبطت، في العالم اليهوديّ، بسقطة آدم. فسقوط بني اسرائيل في عبادة الأوثان، في البريّة، تقابل سقطة آدم بعد الخلق.
في آ 23، ينطلق البرهان من مناخ يهوديّ، في هجوم على عبادة الأوثان كما نقرأ في مز 106: 20؛ إر 2: 11؛ إش 44: 9- 20 (ولا سيّما آ 22- 23)؛ حك 11: 15؛ 12: 24؛ 13: 10، 13- 14؛ 14: 8؛ 15: 18- 19. ونحن لا ننسى رسالة إرميا ولا الأقوال السيبليّة في الفصل الثالث. «بشبه». «صورة». نحن أمام لفظين يعنيان تقريباً المعنى الواحد، ويُبرزان الواقع. فما يريده بولس هو أن يبيّن المسافة بين الحقيقة وبين ما يحاول الصنم أن يصوّره. نحن أمام صورة، بل أمام شبه الصورة. فماذا بقي من الحقيقة بعد أن صارت نسخة عن نسخة؟ تحدّث الرسول عن الطيور والدواب والزحافات، فعاد إلى تك 1: 20- 23. ويظهر التعارض في خطّ الأسلوب الرواقيّ بين ما لا يفسد وما يفسد، بين ما لا يموت وما يموت. رج حك 2: 23 الذي هو قريب جداً من النصّ البولسيّ.
ب- لذلك أسلمهم إلى شهوات قلوبهم (آ 24- 25)
«لذلك» (آ 24). تركهم الله. بدا وكأنه لم يعد مسؤولاً عنهم. ما عاد يُمسكهم بيده فانحدروا إلى الأعماق. أو هم رفضوا يد الله التي تمسكهم. يتردّد الفعل «أسلم» (بارادوكان) ثلاثة مرّات (آ 24، 26، 28). كل هذا يدلّ على قساوة دينونة الله التي تضمّنها «المجهولُ الالهيّ» في آ 21- 22 (الله جعلهم حمقى، الله جعلهم في الظلام. ولكن لا يُذكر اسمه). «شهوات». قد يُستَعمل اللفظُ للخير (1 تس 2: 17). ولكنه مراراً ما يُستعمل في الشرّ: هو شيء ممنوع، ولا سيّما على مستوى الزنى والفجور. هذا ما نجده في العالم الرواقيّ كما في حك 4: 12؛ سي 5: 2؛ 18: 30- 31؛ 23: 5. يتطلّع بولس هنا إلى الشهوات الحيوانيّة، اللحميّة، على مستوى الجسد المائت. رج 6: 12؛ 7: 7- 8، 13- 14؛ غل 5: 16، 24؛ كو 3: 5؛ 1 تس 4: 5؛ أف 2: 3؛ 4: 22. ما زال بولس في إطار خبر السقطة الأولى: يرغب الانسان في حرّيّة قريبة من الفلتان، بحيث يفعل ما يريد، كما في البدء (رج 7: 7). رج أيضاً عد 11: 31- 35 مع كلام مز 78: 29: «لم يزوغوا عن شهوتهم، وطعامهم بعدُ في أفواههم». لهذا، صعد عليهم غضبُ الله (آ 30).
«النجاسة». خسرت هذه اللفظة ما يرتبط بشعائر العبادة (النجس والطاهر). واتّخذت معنى خُلُقياً (حك 2: 16) ولا سيّما على مستوى الفلتان الجنسي (1 أخن 10: 11؛ وص يهوذا 14- 15؛ وص يوسف 4: 6). في العهد الجديد، لا نجدها إلاّ عند القديس بولس. رج 6: 19؛ غل 5: 19؛ أف 4: 19؛ كو 3: 5. وهكذا أهانوا أجسادَهم. نسوا كل احترام لنفوسهم، وما اهتمّوا بالهدف الذي من أجله خُلقوا. انحطّوا. ربط بولس بين الفجور وعبادة الأوثان كما في الإطار اليهوديّ. رج حك 14: 12- 27. من أجل هذا حلّ بهم العقابُ، لا الانتقامُ بما فيه من روح رديئة. حين يبتعد الانسان عن الله، ينحدر إلى المستوى الحيوانيّ، فلا تبقى شريعةٌ تقيّده. وإذ نتكلّم عن الله الذي «أسلمهم»، نعني أنه قَبِلَ، سمح لرغبتهم المتمرّدة بأن تتحرّر من ارتباطها بالله. فالله لا يُكره أحداً، بل يتركه ورغبته، سواء كانت نقيّة أو نجسة. وبولس لا يريد أن يقول إن جميع البشر استسلموا إلى مثل هذا الانحطاط. وإن هو تكلّم بشكل عام، فليدلّ على أن الفداء يصل إلى الجميع ويلتقي بهم في عمق خطيئتهم.
ماذا فعل هؤلاء فانحطّوا إلى مثل هذا المستوى؟ هذا ما تقوله آ 25: «استبدلوا». «حقّ الله» هو طبيعته اللامنظورة من جهة، ومن جهة ثانية قدرته الكونيّة كخالق (آ 20). والذين اعتادوا على الفكر اليهوديّ، «الحقّ» يتضمّن ثقة بالله وأمانته (إ م ت في العبريّة). اللاأمانة هي في أساس سقوط الوثنيّين واليهود، ورجاء الفئتين يرتبط بحقيقة الله. أما الناس فاستبدلوا حقّ الله بالكذب. ذاك كان جواب الانسان لله. رج مز 4: 2؛ 5: 6، إر 3: 10؛ 13: 25. في رسالة ارميا (آ 47) نجد هجوماً على الكذب، أي على الأصنام.
«عبدوا المخلوق دون الخالق». يشير بولس إلى شعائر العبادة لدى الوثنيّين، التي مقتها اليهودُ وكرهوها. عبد هؤلاء ما خلقه الله. كما عبدوا ما «خلقته» أيديهم (آ 23). الله لا يُرى (آ 20). الله هو المجيد. الله لا يعرف الفساد (آ 23). ذاك هو الجواب على الصنم الكاذب، الذي يشوّه الحقيقة ويعطّل الادراك عند الناس (آ 21- 22). كما يعطّل الموقف الذي يتّخذونه ويحرّف سلوكهم. ويؤكّد بولس أن ارتباط عبادة الأوثان بالفلتان الجنسيّ ليس من قبيل الصدف: فأساسُ إدراك الله هو أساس العبادة والحياة (حك 14: 12).
«الذي هو مبارك». تلك هي المباركة في العالم اليهوديّ. رج تك 9: 26؛ 14: 20؛ 1 صم 25: 32؛ 2 صم 18: 28؛ 1 مل 1: 48؛ 8: 15 ... أعلن بولس، شأنه شأن كل يهوديّ في صلاته اليوميّة، أن الله مبارك: «تبارك الله وأبو ربّنا» (2 كور 1: 3؛ أف 1: 3؛ 1 بط 1: 3). وهكذا انتقلت المباركة إلى المسيحيّة. وإذ بارك بولس، ابتعد عن كل عبادة لا تعلن أن كل مباركة وبركة هما من الله وحده، وعن كل حياة لا ترتبط بهذه البركة قبل كل ارتباط. وأنهى بولس المباركة بلفظ «آمين». تلك هي الحقيقة. رج 9: 5؛ 11: 36؛ 15: 33؛ 1 كور 16: 24؛ غل 1: 5...
ج- أسلمهم إلى الرغبات الدنيئة (آ 26- 27)
«لذلك» (آ 26). ويرد هنا مرّة ثانية فعل «أسلمهم» (الله). فالفسادُ الخلُقيّ هو نتيجة غضب الله، لا سببه. حين نرفض أن نعطي الله ما يجب أن نعطيه، نكون وكأننا نهين أنفسنا. فاحترام النفس واحترام الآخرين يجدان جذورهما في الإقرار بأن لله الخالق وحده السلطة بأن يرتّب كلَّ ما خلقه.
وبعد الكلام عن الرجال، يأتي الكلام من النساء. مساواة بين الرجل والمرأة على مستوى العظمة، ومساواة على مستوى الخطيئة، ولا سيّما في مجال الزنى والفجور، والجميع بعيدون عن العيش في تناغم مع النظام الطبيعيّ كما يريده الاله. ذاك كان المثال الرواقيّ. والعيش بحسب الطبيعة هو الحياة الصالحة. والعيش على خلاف الطبيعة يقودنا إلى علاقات جنسيّة غريبة عمّا قاله الله في البدء، حيث الرجل والمر أة يكونان جسداً واحداً.
«اتخذوا الباطل» (آ 27). بدأ بولس وتحدّث عن تصرّف يعارض الطبيعة لدى النساء، وها هو يصل إلى الرجال. «اشتعلوا بشهوتهم». لا نجد هذه العبارة إلاّ هنا في العهد الجديد. رج سي 23: 6، 16؛ حك 14: 2؛ 15: 5؛ 16: 2- 3. وماذا فعلوا؟ الفحشاء. عرضوا أعضاءهم التناسليّة. تعرّوا. رج خر 28: 42؛ نا 3: 5؛ حز 16: 8. رج 1 كور 12: 23؛ رؤ 16: 15. ولسنا فقط أمام توجّه جنسيّ، بل أمام أفعال مشينة تُرتكب، سواء بين الذكر والذكر أو بين الأنثى والأنثى.
«ينالون جزاء ضلالهم». تلك هي النتيجة التي تصل إليها البشريّة، بعد مثل هذا التصرّف. وهكذا يعود الشرّ على صاحبه (رج 2 كور 6: 13) الذي يحيد عن طريق الله، وبالتالي يبتعد عن الله. هنا نشير إلى أن زنى الذكر مع الذكر والأنثى مع الأنثى عُرف في العالم اليونانيّ والرومانيّ، واعتُبر عملاً تسمح به الآلهة. أما اليهود، فاعتبروه فساداً ممقتوتاً يميّز الوثنيّين. رج لا 18: 22؛ 20: 13؛1 مل 14: 24؛ 15: 12؛ 22: 46؛ 2 مل 23: 7. وذُكرت خطيئة سدوم في تك 19: 1- 28؛ تث 23: 18؛ إش 1: 9- 10؛ 3: 9؛ إر 23: 14؛ مرا 4: 6؛ حز 16: 43- 58. مثلُ هذه الخطيئة تعود بالبشريّة إلى الجذور (تك 3: 1 ي؛ 6: 1- 4؛ ق يوب 4: 22؛ 5: 1- 10 ... رج 1 كور 6: 9؛ 1 تم 1: 10؛ 2 بط 2: 1 ي؛ يهو 7).
د- أسلمهم إلى فساد عقولهم (آ 28- 32)
«فعلوا ما لا يليق». (آ 28). رفضوا أن يُبقوا الله في معرفتهم. رذلوه. نحن هنا أمام الاهتمام الذي وجدناه في آ 18، 21، 23، 25. ونحن هنا أمام فعل حرّ (لم يستحسنوا). اعتبروا أن الله ليس بضروريّ من أجل حياتهم، أن لا حقّ له على خليقته، مع أنه خالقها. وتعود العبارة «أسلمهم الله». تركهم وشأنهم. أرادوا أن يسيروا في طريق غير طريق الله، فلم يفرض الله نفسه على حرّيتهم. وهكذا فعلوا ما لا يليق بالانسان. ما يحطّ من كرامة الانسان فيشابه البهائم. حين يتحدّث بولس عمّا هو طبيعيّ وعمّا يخالف الطبيعة (آ 26)، فهو يعود عمداً إلى مدلولات واسعة، وهو لا يكتفي بأن يحرّك الدفاع اليهوديّ في ألفاظ يهوديّة. إنه لا يسعى فقط بأن يقدّم مقاله في إطار يهوديّ، بل بأن يدخل في الفكر اليونانيّ الذي يرى أن هناك أشياء عديدة لا تليق بالانسان ولا تميّزه (رج 2: 7، 10؛ 12: 17؛ 13: 3، 5، 10، 13؛ 14: 18). هذا يعني أن برهانه لا يمكن أن يُؤخذ كحكم قاطع على خلقيّة الوثنيّين وأسلوب حياتهم (مع أن الوصف الذي نقرأه في آ 26- 27 و29- 31 يعود إلى جميع الأمم). إن برهانه يعلن أن وجود مثل هذه السمات في المجتمع البشريّ (مع أنه استعمل الطريقة اليهوديّة، إلاّ أنه لم يحصر حكمه في العالم الوثني، بل سيحكم على اليهود وأيضاً) تدلّ على أن الانسان أضاع موقعه كخليقة وكعابد للخالق الذي لا يُرى.
مع آ 29- 31، نقرأ لائحة الرذائل التي كانت معروفة في العالم القديم، ولا سيّما لدى الرواقيّين. وعُرفت أيضاً في العالم اليهوديّ. رج حك 14: 25- 26؛ 4 مك 1: 26- 27؛ 2: 15؛ وص رأوبين 3: 3- 6: وصيّة لاوي 17: 11؛ ق نج 4: 9- 11. كما عُرفت في الأدب المسيحي الأوّلاني. رج مر 7: 21- 22؛ روم 13: 13؛ 1 كور 5: 10- 11؛ 6: 9- 10؛ 2 كور 12: 20... توسّع بولسُ في هذه اللائحة ليدلّ على أن سمات مثل هذه الحياة الاجتماعيّة، يجب أن تُشجَب. والنظرة المسيحيّة تفهم أن مثل هذا الوضع هو نتيجة غضب الله الذي أسلمهم، بعد أن تمرّدوا وجعلوا الفوضى في الخليقة.
«امتلأوا» بالاثم والزنا... رج 2 مك 7: 21؛ ق 3 مك 4: 16؛ 5: 30... كل هذا يدلّ على الانسان الذي نسي أنه خليقة أمام الله.
في آ 32 نحن هنا أمام ملخّص لما سبق وقيل. رج آ 19، 21، 28. تكلّم بولس هنا عن «حكم الله»، لا عمّا تطلب الشريعة كما في 2: 26؛ 8: 4. لا شكّ في أن بولس يرى في الشريعة التعبير الواضح عمّا يطلبه الله من الانسان (رج 2: 13). ولكن الايرادات عينها تبيّن أنه حين استعمل هذا اللفظ، لم يفكّر في متطلّبات الشريعة، كما في المفهوم اليهوديّ. فالطاعة لما تطلبه الشريعة ممكنة للذين لا يعرفون الشريعة كشريعة، ولكنها طاعة من نظام آخر (2: 28- 29؛ 7: 6). أمّا هنا فهو يفكّر بالأحرى في معرفة هي جزء من معرفة الانسان لله (آ 21)، ونتيجة وضع الانسان كخليقة. هذا مع العلم أنه قد يكون قد جعل أمامه الوصايا المرتبطة بآدم أو بنوح (يوب 7: 20). كل هذا يكفي بولس لكي يحكم على عبادة الأصنام، لدى الأمم، من الوجهة اليهوديّة.
من يعمل مثل هذه الأعمال يستوجب الموت. هنا يظهر لأول مرة لفظ «الموت» الذي سيلعب دوراً هاماً في ف 6- 8. ولكن بولس يفكّر هنا فقط في موت تستحقّه بعضُ الخطايا، ولا سيّما عبادة الأوثان. وهو لا يميّز بين خطايا خاصّة وخطايا عامّة، بل ينطلق من وضع آدم الذي هُدّد بالموت إن هو لمس شجرة معرفة الخير والشرّ (تك 2: 16 ي). والشرّ كل الشرّ هو أن هؤلاء الناس لا يكتفون باقتراف مثل هذه الشرور، بل يوافقون الذين يقترفونها، ويُسرّون بسلوكهم.

3- خلاصة لاهوتيّة
يبدأ القسم الأول (آ 18) من برهان بولس بشكل يلفت النظر. بعد أن أعلن موضوعه القائل بأن الانجيل يكشف برّ الله، يتابع حالاً: «غضبُ الله مُعلَن من السماء». إن الأداة «لأن» بدت وكأنها تقدّم شرحاً للموضوع، وهذا هو في الواقع هدف بولس. فسواء صوّر غضبَ الله كجزء من برّ الله (خلاص للمؤمن أو غضب على الشرير)، أو بيّن أن الغضب هو ما يُهيّئ البرّ، فطبيعةُ برّ الله تُفهم فقط حين نفهم أولاً كيف يعمل الغضب الالهيّ (البرّ إلى الإيمان عبر الإيمان، والعكس هو غضب يقود إلى الموت عبر العصيان). ولكن قوّة السبب (لأن) يجب أن لا تُضغط، فهي تحاول أن تربط قسماً بآخر، فتبدو وكأنها المرحلة الأولى في البرهان.
جاء «غضبُ الله» بشكل مفاجئ. ولكنه مدلول معروف لدى قرّاء بولس، اليهود منهم والأمم: فالله لا يرضى بالشرّ، وهو سيدين فاعله. هذا الغضب مُعلَن من السماء، كما أن برّ الله أعلن في جواب اليهود والأمم على الانجيل. وهكذا يهيّأ السامعُ لوصف الحالة الحاضرة: فالغضب ليس جواب الله النهائيّ، بل جواب الله على أحداث وارتباطات في مستوى الفرد ومستوى الجماعة.
والشرّ الذي يتوجّه عليه الغضب الالهيّ يصوَّر في ألفاظ عامّة: كل رفض لله، واحتقار لحقوقه على البشر. من الممكن أن يكون بولس ناظراً إلى الأعمال الشرّيرة، لا إلى الأشخاص. غير أن هذا لا ينفي المسؤوليّة. فبولسُ يحدّد الكفر والظلم كعمل الذين يفضّلون اللابرّ على الحقّ. والوصف هنا واسع، والحقّ لا يُفهم في المطلق (الخير، الصلاح)، بل على أنه حقّ الله (آ 25)، حقّ الله في علاقته مع الانسان، والانسان في علاقته مع الله ثم مع الانسان. الحقّ هو الواقع الذي يحدِّد هذه العلاقات. حقّ الله وحقّ الانسان يرتبطان الواحد بالآخر، ولا ينظر إلى علاقة الانسان بالانسان بمعزل عن العلاقة مع الله.
في آ 19- 20، تحدّد الاتّهام على مستوى معرفة الله. ولكن ظلّ واسعاً. وإذ تكلّم النصّ عمّا يُعرف من الله، أعلن أن الله يُعرَف، وذلك في خطّ ما قاله الفكرُ الرواقيّ. فهناك علاقة أساسيّة بين ما هو إلهيّ وما هو بشريّ، لأن الكلمة الالهيّة التي ترافق كلَّ كلام، ترافق أيضاً الانسان، في قدرة العقل. ونتيجة ذلك، إن الأمور اللامنظورة والقوّة الالهيّة، صارت حاضرة عبر الكون المنظور، صارت مرئيّة بوضوح في عين الفهم (القدرة العقليّة) في الخليقة وعبر الخليقة. وفي خطّ ما قاله العالم اليهوديّ، يبقى إدراك الانسان لله بدائياً. فما يُعرف من الله هو فعل وحي شخصيّ أراده الله (آ 19 ب) في علاقة مع النظام المخلوق (آ 20). وهكذا يُعتبر الانسان عاملاً مسؤولاً تجاه الوحي، بحيث إن تراخيه في الجواب اللازم، ليس فقط نقصاً في الإدراك، كما قالت الفلسفة اليونانيّة، بل ضعفاً على المستوى الروحيّ والأدبيّ، وخطيئة. وهكذا يكون الانسان بلا عذر (20 ب).
مع آ 21 يصبح الاتهام أكثر تحديداً، ويُعلَن في لهجة يهوديّة. لا عذر للبشريّة لأنها رفضت الجواب المطلوب منها: أوحى الله، كشف عن ذاته في الخليقة، بحيث تُقرّ الخليقة تجاه الخالق. فمع أن البشر نالوا معرفة الله، ومع أنهم عرفوه بعد أن أظهر ذاته لهم، إلا إنهم رفضوا الجواب الواجب، فنتج عن ذلك أن صارت أفكارهم باطلة، وقلبهم مظلماً. هذا يعني أنهم حين أغلقوا عين الفهم التي هي إمكانيّة تقبّل وحي الله لذاته والاعتراف به (آ 19- 20 )، أطفأوا نور العقل وتركوه يتيه. خيّم عليهم الغيمُ والضباب، فما عاد يصل إليهم النور لكي يتجاوبوا معه. فحين رفضوا الاعتراف بالله، خفّت قدرةُ العمل في فكرهم. رفضوا أن يُقرّوا بأنهم مخلوقون في علاقة بالخالق، فتدنّت عندهم إمكانيّةُ التصرّف كبشر عاقلين.
وجاء كلام الرسول قاطعاً (آ 22). ظنّوا أنهم يصيرون حكماء حين يديرون ظهرهم لله، حين يُعلنون استقلالهم عنه، حين يرفضون أن يعترفوا به على أنه الله في حياتهم اليوميّة. اعتبروا أنهم أرفع من خليقة، أنهم على مستوى الله، فخُدعوا كما خدعت الحيّة حوّاء. ولكن ما حسبوه موقفَ حكمة، صار موقف جهل. حسبوا أن قدرتهم على توجيه حياتهم قد نمت، فإذا هي تراجعت وأحدرت الانسان على مستوى الحيوان بعد أن عبد الحيوانات (رج مز 49: 13). إلى ما قادهم مثلُ هذا الموقف؟
استبدلوا المجد الذي رفضوا أن يعترفوا به (آ 23). استبدلوا الله الخالد، بخليقة فانية، فاسدة، بصورة المخلوقات، بل يشبه صورة هذه المخلوقات. فضّلوا صورة ناقصة على صورة رسمها الله عن ذاته. فضّلوا ظلّ عقلهم المظلم على قوّة النور في معرفة الله. رغبوا أن «يخلقوا» (مثل الخالق)، فصنعوا صوراً من الخشب ومن الحجر. إذ أداروا ظهرهم لله، لم يعودوا يستطيعون أن يروا الأشياء كما هي في طبيعتها وفي غايتها. تشوّه حسّهم فما عادوا يعرفون أن يميّزوا، لأنهم رفضوا المقياس الوحيد الثابت الذي تتّخذ الأشياء معناها وقيمتها بالنسبة إليه.
وضُح لقرّاء بولس وسامعيه أنه يقودهم في طريق الهجوم اليهوديّ على عبادة الأوثان. أما النموذج فسفر الحكمة في ف 13- 15، ولا سيّما 13: 1- 9 بالنسبة إلى روم آ 19- 21؛ ثم حك 13: 10- 15: 19 بالنسبة إلى روم آ 23- 25: هناك المقابلة بين الاله غير الفاني والانسان الفاني. هنا لا ننسى أن عدداً من الوثنيّين اعتادوا أن يؤمّوا المجامع اليهوديّة، وكان منهم خائفو الله والمؤمنون الجدد الذين ينتقلون إلى الإيمان بيسوع المسيح.
وعاد بولس إلى آدم وسقطته (تك 3)، متتبّعاً في ذلك خطى حك 2: 23- 24. لا تلميح مباشراً إلى سفر التكوين، ولكن لا يمكن ليهوديّ أن يفكّر في مكانة الانسان في الخلق، ومعرفته لله وخسرانه تلك المعرفة في عمل تحرّر إراديّ، دون العودة إلى تك 2- 3. وإذ يتحدّث بولس عن الجنس البشريّ، يصف آدم الذي أراد أن يكون شبيهاً بالله، فما اعترف بالله على أنه الله، ولا أقرّ بارتباطه به ارتباط الخليقة بالخالق. اعتبر نفسه حكيماً لا يحتاج إلى حكمة الله، فأظلم في مشورته وتلبّس بالجهل. هذا ما قدّمه سفر التكوين لبولس مع تحليل عميق لانسان عصره.
وعاد بولس إلى مز 106: 20 حيث يصوّر المرتّل جحود اسرائيل وعبادتهم للعجل الذهبيّ في سيناء (رج خر 32). فالرباط بين سقطة آدم وسقطة اسرائيل كانت معروفة في الفكر اليهودي، وبين عصيان آدم وعبادة الأصنام في سيناء: كلاهما نموذج أول للخطيئة التي تهدّد البشريّة كما هدّدت شعب اسرائيل. ما من أحد يُفلت من هذه التجربة، واليهوديّ قبل الوثنيّ (2: 9- 10).
حتّى الآن (آ 24)، اكتفى بولس بأن يُبرز النتيجة الأساسيّة للانسان الذي رفض الاعتراف بالله، بحيث فُهم غضبُ الله كنتيجة لمسيرة اختارها الانسان لنفسه. فحين انقطعت الخليقة عن الخالق، ما عادت تستطيع أن تسير في الطريق القويم. أما الآن، في آ 24، فمسلسل خطيئة الانسان اتّخذ منعطفين اثنين: حدّد الله نتيجة خطيئة الانسان. «أسلمهم». هذا الفعل يدلّ على عمل إراديّ، كما يدلّ على تخلٍّ عن توجيه مباشر. أرادوا أن يلاحقوا رغبة قلوبهم، فأعطاهم الله ما أرادوا. هو ما منحهم تلك الرغبة، بل أعطاهم ما يرغبون فيه. ونتيجة رغبتهم، أسلمهم الربّ إلى الحريّة التي إليها استسلموا. ما أسلم حرّيتهم إليهم، بل أسلمهم إلى الحرّية. فالرغبة في الاستقلاليّة عن الله تنتهي في الانحطاط والنجاسة.
ويعود بولس (آ 25) إلى جذور وضع البشريّة الفاسد والمشين: استبدلوا الحقّ بالكذب. فضّلوا عبادة المخلوقات على عبادة الخالق. أما هكذا خُدع آدم بكذب الحيّة؟! والنتيجة لم تكن استقلالاً، بل ارتباطاً بالأشياء وعبوديّة. صار أقلّ من انسان. صار خليقة الخلائق لا خليقة الله. فالانسان لا يقدر في طبيعته إلاّ أن يعبد. فإن لم يعبد الله ويخدمه، سوف يعبد ما هو أحطّ منه. عندئذ يختار المخلوق سيّداً ويترك الخالقَ المجيد.
ويعود فعل «أسلمهم». هو مسلسل الانحطاط في آ 26- 27، كما في آ 24. ولكن التكرار يُبرز جدّية الاتهام، وفظاعة الوضع الذي وصل إليه الانسان بعد أن أدار ظهره لله. ويصل الرسول في كلامه إلى الزنى بين الذكر والذكر، بين الأنثى والأنثى. وإذ كان اليهود يمجّون مثل هذا التصرّف، فبالأحرى يجب على المسيحيّين أن يمقتوه. وفي آ 28، يربط بولس مرة أخيرة بين رفض البشر لله وحالة الفوضى القائمة في المجتمع. رفضوا أن يعرفوا الله، ورفضوا بملء إرادتهم. عرفوا الله وموقعه، واتخذوا قرارهم ضدّه. فأسلمهم الله. تركهم وشأنهم. يرد الفعل للمرّة الثالثة، فيدلّ على عمق الهوّة التي نزلوا فيها، بحيث لا قوّة تستطيع أن تخرجهم من هناك.
وهكذا وصلت بهم الأمور (آ 29- 32) إلى ما لا يليق بالانسان: شرّ، طمع، خبث، زنى... مثل هذا التصرّف لا يمكن إلاّ أن يدمّر الفرد والمجتمع. وتمرّدُهم ليس ابن الساعة، بل هو يدوم. يستحسن الانسان ما فعل، ويوافق على ما يفعله الآخرون. تلك هي نتيجة الحكمة التي رفضت حكمة الله.

خاتمة
تلك كانت نظرة بولس إلى العالم الوثنيّ من وجهة إيمانه كيهوديّ. وهو يريد من المؤمنين أن تكون عاطفتُهم مثل عاطفته تجاه هذا الانحطاط الخلقيّ الذي لم يعد يعرف حدوداً. هذا الوضع عرفه بولس في كورنتوس، واعتبره موجوداً في رومة. شدّد على عمق خطيئة الانسان، لا لكي يُبرز الخطيئة وكأنه يحرّك الغريزة عند الانسان، ولا لكي يصل بالانسان إلى اليأس، بل ليدلّ المؤمن أنه بعد أن نال الخلاص، بعد أن صعد من هذه الهوّة العميقة، لا يليق به أن يعود إلى حياته الماضية. فلو لم يختبر بولس الخلاص بيسوع المسيح، لما كان تجرّأ ونزل إلى عمق الخطيئة ليفهمنا مجانيّة عمل الله وعمق حبّه الذي جعله يُرسل ابنه إلى الخطأة. إن عمق الخطيئة يقف تجاه حبّ الله، وشموليّة الخطيئة تجعلنا ننتظر شموليّة الخلاص. فشكراً لله بيسوع المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM