الفصل الثالث: يسوع الرب في إنجيل لوقا

 

الفصل الثالث
يسوع الرب في إنجيل لوقا

لقد لاحظ الشرّاح مراراً أن لوقا يتميّز عن سائر الانجيليين فيعطي يسوع اللقب المسيحي: الرب (كيريوس). لا نجد هذا اللقب عند متّى ومرقس قبل الفصح، إلاّ في خبر دخول المسيح إلى أورشليم (مر 11: 3= مت 21: 3). وفي إنجيل يوحنا يُستعمل اللقب بصورة عاديّة بعد القيامة. ولكنه يُستعمل ثلاث مرّات في حياة يسوع العامة. في 4: 1: "وعرف الرب يسوع". في 6: 23: "بعد أن شكر الرب". وفي 11: 2: مريم سكبت "الطيب على قدمي الربّ يسوع".
ولكن الأمر يختلف عند لوقا حيث يطبّق لقب الربّ على يسوع 19 مرّة. أجل لوقا سمّى يسوع في أخبار الحياة العامَّة "الربّ" فاستبق الاستعمال في سفر الأعمال. إنه تكلّم عن الربّ كل مرّة دلّ الحدث الذي يرويه على صورة مسبقة لزمن القيامة، لحياة الكنيسة أو نهاية الأزمنة (إسكاتولوجيا). نحن هنا أمام تطبيق خاص للعلاقة العامّة التي تربط الإنجيل الثالث بسفر الأعمال: يبدو أن لوقا رأى في الإنجيل صورة مسبّقة عن تاريخ الكنيسة. مثلاً، سألت الجموع يوحنا المعمدان بعد كرازته الاسكاتولوجية: "ماذا يجب علينا أن نعمل" (3: 10، 12، 14)؟ فكان هذا السؤال إعلاناً مسبقاً لجموع العنصرة التي طرحت السؤال نفسه بعد خطبة بطرس (أع 2: 37). ثم إن لوقا يروي التجليّ (9: 28- 36) في منظار الصعود كما يرويه سفر الأعمال.
نبدأ أولاً بأخبار الطفولة والقيامة، ثم نعود إلى حياة يسوع العامة فنكتشف تطبيق لقب الرب على يسوع المسيح في إنجيل لوقا.
1- أخبار الطفولة والقيامة
أ- الملك المسيح
أولاً: خلال الزيارة، وحين رأت أليصابات مريم، هتفت: "من أين لي أن تأتي إليَّ أم ربي" (1: 43)؟ فكلمة "ربي" تعود إلى مز 110: 1 حيث يدعو داود الملك المسيح "ربي". وإن لهذا اللقب في فم أليصابات رنّة ملوكيّة ومسيحانيّة. نحن نلاحظ في المقطوعة السابقة (1: 32- 33) أن لوقا شدّد على الطابع الملكي للمسيح وهذا ما يدعونا إلى أن نفهم في المعنى عينه لقب "كيريوس" في 1: 43. قال أفتيميوس: "بعد هذا وحين جاء يسوع، أعلن ابن أليصابات انه لا يستحقّ مثل هذه الزيارة من سيّده. والأم أحسّت انها لا تستحق زيارة من تلك التي هي سلطانتها". إذاً مريم هي هنا كأم المسيح الملك.
ولكن السياق يدفعنا إلى أن نذهب أبعد من هذا ونعطي "كيريوس" بُعداً يتسامى على البشر. فالمسيح الذي صوّر ملكه الأزلي في آ 33، قد أعطي له في آ 32 صفة محفوظة لله في العهد القديم: "يكون عظيماً". ثم، إنه يُدعى في المقطع عينه "ابن العلي". وفي آ 35: "ابن الله" في معنى جديد كل الجدّة. إن مجمل هذه المعطيات تدلّ على أننا حين نتحدّث عن "المسيح الملك" و"الرب" إنما ندخل في عالم الله.
ثانياً: ويقدّم لنا إنجيل الطفولة تطبيقاً آخر للفظة "كيريوس" على يسوع. النصّ مهمّ جداً لأنه يربط البلاغ الملائكي بزمن ميلاد يسوع، ويتضمّن تقريباً بين كلمتين هما "المسيح- الرب" (كرستوس- كيريوس). قال الملاك: "ها أنا أبشّركم بفرح عظيم. اليوم وُلد لكم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الربّ" (2: 11). نتعرّف هنا أولاً إلى معنى العبارة الملوكي والمسيحاني: فذكرُ "مدينة داود" يفهمنا أن الولد هو (الملك الممسوح) المسيح الذي يُجعل على "عرش داود" (آ 32). من جهة ثانية، هناك إشارات تفرض علينا أن نفسّر العبارة في معنى متعالٍ: الأولى: لا تُذكر هذه العبارة إلاّ في هذا المكان، وهي تستعمل في وقت احتفالي. الثانية: الموازاة مع خبر البشارة حيث تلقّي المسيح لقب ابن الله. الثالثة: ظهور مجد الربّ (آ 9) ووضعُ لقب "المخلص" كبدل لعبارة تتألف من كلمتين، المسيح الرب. الرابعة والأخيرة: الموازاة مع أع 2: 36 في خاتمة خطبة بطرس في عيد العنصرة: "الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم مسيحاً ورباً". ولماذا؟ لأنه جلس عن يمين الله (أع 2: 34- 35). هذا يعني أنه يضع يده على كل امتيازات الملك المسيح ساعة يتمجّد في السماء. وهو ينال الآن وبحقّ، لقباً إلهياً، لقب الربّ.
ونستنتج من هذين النصين في إنجيل الطفولة: يجب أن نأخذ لقب الرب في معناه القوي، في المعنى المسيحاني والإلهي. وأهمية هذين المقطعين في ف 1- 2 أنهما مضمَّخان باللاهوت. فيهما عبّر لوقا بحرية كيف يرى يسوع في شخصه وفي عمله. بعد هذا، يصبح اللقب برنامجاً لسائر الإنجيل.
ب- المسيح القائم من الموت
وننتقل الآن إلى أخبار القيامة. نجد هنا أيضاً استعمالين مميّزين للقب "كيريوس" (24: 3، 34).
* ينتمي النص الأول إلى مشهد النساء عند القبر: "ولما دخلن لم يجدن جسد الرب يسوع". لا نقرأ هذه الجملة إلاّ في لوقا. ولكن الكلمتين الاخيرتين تلفتان إتباهنا: الرب يسوع. قلنا إن عبارة المسيح الرب (كرستوس كيريوس) لا توجد في مكان آخر من العهد الجديد. ونقول إن عبارة الربّ يسوع (كيريوس ياسوس) لن ترد في إنجيل لوقا. فمع ان الكاتب يستعمل مراراً لقب الرب، إلاّ انه لا يستعمله في كلمتين إلاّ في هذا المقطع الوحيد، أي في المكان الذي يروي أحداث صباح الفصح.
حين أراد سائر الإنجيليين أن يتكلّموا عن جسد يسوع المدفون، استعملوا دوماً عبارة: جسد يسوع (مت 27: 58- مر 15: 43؛ يو 19: 38- 40؛ 20: 12). وكان لوقا نفسه قد اتبع هذا الاستعمال في الفصل السابق (23: 52) فارتبط بمراجعه (رج مت 27: 58 ومر 15: 43). ولكننا كنا في دفن يسوع. أما في 24: 3 فهو ينقلنا إلى صباح الفصح. وما يلاحظ هو أن عبارة "كيريوس ياسوس" لا ترد إلاّ مرّة واحدة أخرى في كل الأناجيل: في نص متأخّر (مر 16: 19، في خاتمة مرقس الطويلة) يروي صعود الربّ مورداً مز 110: 1: إنه يجعلنا في الإطار الفصحي عينه الذي نجده في لو 24: 3. هدا من جهة. ومن جهة ثانية، تبدو عبارة "كيريوس ياسوس" متواترة في سفر الأعمال (1: 21: قضاها الرب يسوع بيننا؛ 8: 16؛ 9: 17؛ 11: 20؛ 15: 11؛ 16: 31؛ 19: 5، 13؛ 20: 21، 24، 35؛ 21: 13). نجد هاتين الكلمتين في تعبير يشير إلى اعترافات الإيمان الأولى: "اسم الربّ يسوع".
كل هذا يساعدنا على فهم طريقة التعبير عند الإنجيلي في 24: 3. فالموضوع المسيطر على ف 24 هو حدث الفصح: فالمسيح امتلك بقيامته حياة جديدة ومجيدة (آ 23 ب، 26، 27، 46- 47). في الواقع نرى في هذه الآيات الأولى إشارات تدوينتة (لا نجد ما يوازيها عند متّى ومرقس) تتيح للوقا أن يعدّ الطريق لما سيقوله في ولي الفصل: 9 لم يجدن جسد الربّ يسوع" (آ 3). سيقول تلميذا عماوس في آ 23: "فما وجدن جسده". فلقب الربّ في هذا المقطع يشير منذ الآن إلى بلاغ الاحد عشر ورفاقهم في مساء يوم الفصح عينه: "قام الربّ حقاً" (آ 34).
إذن نرى ما تعنيه عبارة "جسد الربّ يسوع" في 24: 3: إنه جسد يسوع (23: 52)، جسد الذي أسلم إلى أيدي الخطأة (24: 7 أ)، الذي تألم (آ 26) وصلب (آ 7 ب)، والذي هو منذ الآن قائم (آ 6 أ، 7 ج، 34 أ) وحيّ (آ 5 ج، 23 ج). دخل في المجد (آ 26)، وسيظهر لأخصّائه كالربّ (آ 34). بعد هذا نفهم لماذا لا نجد عبارة "كيريوس ياسوس" إلاّ في هذا المكان من إنجيل لوقا. فهي مفصل بين زمن الحياة العامة وزمن القيامة. في هذا الوقت ننتقل من زمن يسوع إلى زمن الربّ الحاضر في كنيسته.
* النصّ الثاني بسيط جداً. حين عاد تلميذا عمّاوس إلى أورشليم، أعلن لهما الأحد عشر ورفاقهم سّر الفصح: "الربّ قام حقاً وتراءى لسمعان" (24: 34). أشار الشراح إلى اتصالات بين هذا المقطع واعترافات الإيمان الأولى. ونلاحظ بصورة خاصة توازي هذا النص مع 1 كور 15: 4- 5. ومن جهة ثانية، تقدّم لنا مقطوعة تلميذي عماوس (24: 13- 35) ملخصاً لإنجيل القيامة. إذن يبدو أن لوقا يريد أن يعلن أمامنا في مساء يوم الفصح نفسه أول إعلان إيمان فصحي. فالربّ في آ 34 كما في بداية الفصل يدلّ على المسيح الذي قام حقاً. ومن المهمّ أن نعرف ان هذه الآية تختتم 24: 13- 35 الذي يروي أن تلميذي عماوس عرفا الربّ "عند كسر الخبز" (آ 35؛ رج آ 31). فالافخارستيا هي العلامة الكبرى لقيامة الربّ، العلامة التي بها عرفا أن الرب حيّ وحاضر معهما.
إن استعمال لوقا للقب "كيريوس" في 24: 3، 34، يهدف إلى أن يفهمنا أن المسيح قام وأنه يبقى حاضراً وسط أخصّائه. ونرى من خلال هاتين الآيتين (آ 3، 34) أن أول استعمال لهذا اللقب يرتبط بواقع قيامة المسيح. وتدلان في الوقت عينه على حضوره الفاعل في كنيسته. هذا ما يعطينا الوسيلة لكي نفهم استعمال لوقا لهذا اللقب في سائر فصول إنجيله.
2- أخبار الحياة العامة
نشير أولاً إلى ان العدد الاكبر من استعمال "كيريوس" سيتركّز في صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51- 19: 28) وخبر الدخول إلى أورشليم (19: 29- 40؛ رج آ 31، 34، 138. ولا يعود اللقب يظهر في خبر الآلام إلاّ في موضع واحد، بمناسبة توبة بطرس (22: 61: "فذكر بطرس قول الربّ"). بما أن المنظار العام للسفَر الكبير إلى أورشليم هو كرستولوجى وتعليمي وإرسالي، نستطيع أن نقول إن لقب كيريوس سيوجّه أنظارنا إلى أؤرشليم (9: 51)، إلى زمن الكنيسة.
أ- رب الأزمنة المسيحانية
نتوقّف عند المقطعين اللذين يسبقان سفر يسوع إلى أورشليم (9: 51- 19: 28).
* إن حدث ابن أرملة نائين (7: 11- 17) هو المقطع الأول الذي فيه يطبَّق لقبُ الربّ على يسوع بعد إنجيل الطفولة. "حين رأى الربّ الأرملة أشفق عليها وقال لها: لا تبكِ" (7: 13). كيف نشرح هذا الاستعمال هنا؟ ظنّ بعض الشرّاح أن يسوع يبدو في هذا المقطع كالربّ المنتصر على الموت. ولكن في هذه الحالة، لماذا لم يعطِ لوقا اللقب ذاته ليسوع في خبر شفاء ابنه يائيرس (نجد "يسوع" في 8: 40، 41، 45، 46، 50)؟ بل يجب بالحري أن نقرِّب هذه المقطوعة من المقطوعة التالية (7: 18- 23) التي تتحدّث عن وفد أرسله يوحنا المعمدان إلى يسوع.
* ففي 7: 19 نجد استعمال كيريوس للمرة الثانية في هذا الفصل. وإن ما دفع يوحنا إلى التحرّك بحسب لوقا (آ 18) هو المعجزات التي ورد الحديث عنها فيما سبق. فقيامة ابن أرملة نائين هي صورة مباشرة عن العلامات المسيحانية التي سيعدّدها يسوع في آ 22، في جوابه إلى التلميذين اللذين أوفدهما يوحنا. وهناك تقابل بين آ 12 وآ 14، 22. أعاد يسوع ميتاً إلى الحياة فبدا تدخّله أحد الأعمال المسيحانية (رج مت 11: 2: "أعمال المسيح") التي تدلّ على صدق رسالته.
يبدو أن كيريوس استُعمل للسبب عينه مرّة ثانية في بداية خبر وفد المعمدان: "دعا يوحنا اثنين من تلاميذه وأرسل يقول إلى الربّ: أأنت هو الآتي أم يجب أن ننتظر آخر" (آ 18- 19)؟ إختلف لوقا عن متّى فجعل التلميذين يطرحان سؤالاً ثانياً على يسوع وبصورة مباشرة (آ 20) فيشدّدان بذلك على البُعد المسيحاني للحدث.
إذا كان يسوع قد سُمِّي كيريوس في هاتين الحالتين، فلأنه يظهر هنا بصفته المسيح (11: 2). فاللفظة قريبة من الأخرى بحسب لوقا الذي كتب عبارة "المسيح الربّ" في 2: 11، وهو يقرّب بين اللقبين من جديد في أع 2: 36 ("جعله الله رباً ومسيحاً"). وفي هذين النصين (7: 13، 19) اللذين يطبّق فيهما لقب الربّ على يسوع، يظهر بعض الشيء البُعد الكنسي والمتعالي. ومن المهمّ أن نلاحظ أن مدلولهما يرتبط ارتباطاً جوهرياً بوظيفة يسوع المسيحانية. لم تعد الوجهة الملوكية للمسيحانية ظاهرة: فيسوع يبدو هنا مسيحاً بأعمال الرحمة، حسب تعليم الأنبياء. وفي سلسلة تطبيقات اللقب خلال المسيرة الكبرى إلى أورشليم، ستظهر عدد من التضمّنات اللاهوتية.
ب- الربّ والملك المسيحاني
أولا استعمال للفظة كيريوس في قسم السفر الكبير إلى أورشليم، يُقرأ في مقدّمة إرسال التلاميذ: "وبعد هذا، عيّن (اختار) الرب سبعين (أو: 72) آخرين وأرسلهم اثنين اثنين أمامه، إلى كل مدينة أو موضع أزمع أن يذهب إليه" (10: 1). حين تكلّم لوقا عن رسالة الاثني عشر لم يستعمل لقب "الرب". فكيف نفسرّ هذا الاستعمال في 10: 1؟ هنا نعود إلى الفكرة التي تُشرف على رسالة التلاميذ: نحن أمام صورة مسبقة عن الرسالة إلى الوثنيين. وهناك إشارات تربط رسالة التلاميذ بالآيات الأخيرة من الفعل السابق، وهي تصوّر البداية الاحتفالية لسفَر يسوع الطويل إلى أورشليم. وتشير 10: 1 (رج 5: 27) إلى هذه العلاقة، حيث يقول لوقا: "عيّن عشرة آخرين". قد تعود بنا لفظة "آخرين" إلى رسالة الإثني عشر (9: 1- 6)، كما تلمِّح إلى إيفاد مرسلين إلى السامرة في بداية السفر. وإذا قابلنا 9: 52 مع 10: 1 وجدنا أن الموازاة واضحة.
فالمرسلون الأولون والسبعون الاخرون أرسلوا أمام الرب ليهيِّئوا مجيئه. ففي كلتا الحالتين نحن أمام السفر الكبير الذي يقود يسوع إلى أورشليم.
هنا نلاحظ المواضيع الملوكية في تصوير هذا السفر، ولا سيما في البداية وفي النهاية. إلى المرشحين الذين تقدَّموا إلى يسوع ليتبعوه (9: 57- 62)، يتكلّم يسوع مرتين عن المتطلِّبات التي تتضمّنها كرازةُ ملكوت الله (آ 60، 62). وفي خطبة إرسال التلاميذ، ترد مرتين عبارة: "ملكوت الله اقترب منكم" (آ 9، 11). وحالاً، قبل دخول أورشليم، جعل لوقا مثل الدنانير (الأمناء) (19: 12- 27) الذي أقحم فيه مثل طالب الملك (آ 12، 14، 15 أ، 27). ان هذا الرجل الذي تولى الملك (آ 15 أ) ولم يكن مواطنوه يريدونه أن يكون ملكاً عليهم (آ 14، 27)، هو يسوع الذي سيدخل أورشليم كالملك المسيح الذي سيُحكم عليه بالموت ولكنه سيعود ليتغلّب على أعدائه. ونذكر أخيراً أن لوقا استعمل وحده لقب كيريوس مرتين في خبر الدخول المسيحاني إلى أورشليم بحصر المعنى (19: 31، 34) وتفرّد بإدخال لقب "الملك" في هتافات الجموع: "تبارك الملك الآتي باسم الربّ" (آ 38).
كل هذا يتيح لنا أن نفهم بدقّة بُعد استعمال لقب "الربّ" في خبر إرسال السبعين (10: 1). فوجهة اللقب الملوكية مسيطرة: يسوع الذي يرسل سبعين موفداً أمامه، هو مثل ملك عظيم يسير أمامه المنادون بمجيئه. وسيكون دورهم تهيئة مجيء الرب "في كل مدينة أو موضع أزمع أن يذهب إليه". وهم يردّدون على مستوى أوسع ما بدأه الرسل الذين تقدَّموه إلى السامرة ليهيِّئوا له (كل شيء) (9: 52). لن نفهم هذا في المعنى الماديّ كما في تهيئة منزل مثلاً. بل عليهم أن يهيِّئوا المنطقة لاستقبال الربّ، يهيِّئوها لتقبّل تعليمه. وبمختصر الكلام، المهمّة الرسولية التي يقوم بها التلاميذ هي عينها التي أوكلت إلى السابق: "يهيِّئ للربّ شعباً مستعداً) (1: 17) "يسير أمام الربّ ليهيّئ له طرقه" (1: 76؛ 7: 27= ملا 3: 1). هذا يعني أن القرائن هي ملوكية ومسيحانية.
إذن، من المهم أن تُسعمل لفظة "الرب" في بداية السفرة الطويلة هذه (10: 1). وتسمية المسيح تكون تضميناً مع خبر الدخول المسيحاني إلى أورشليم، حيث نجدها مرتين (19: 31، 34؛ رج آ 38). هذا رأيناه في نصوص إنجيل الطفولة (1: 43؛ 2: 11) وفي سياق وفد يوحنا المعمدان (7: 13، 19): إن لقب "كيريوس" في 10: 1 يدلّ على يسوع الملك والمسيح. ولكن تزاد الآن وجهة جديدة وجوهريّة على مسيحانيته: نحن نعرف منذ الآن أن مصير الرب سيتمّ في أورشليم. منذ الآن تظهر أمام عيوننا من بعيد أحداثُ الآلام والقيامة.
ج- ربّ الكنيسة
رأينا البُعد المسيحاني والكرستولوجي لأول ذكر للقب الربّ في السفر إلى أورشليم. ولكن لن يكون الأمر كذلك في النصوص التي سنعالجها. فإذا أردنا أن نفسّرها تفسيراً صحيحاً، نتذكّر أن "للصعود إلى أورشليم" وظيفة تعليمية واضحة. ففي المشاهد التي تلي، يُدعى يسوع "الربّ) مراراً، بسبب علاقاته المباشرة مع أخصّائه: إن لوقا يرى هنا ومنذ الآن استباقاً لما ستكون عليه علاقات المؤمنين بالربّ في حياة الكنيسة.
* أولا حالة لافتة للنظر بصورة خاصة نجدها في زيارة يسوع لمرتا ومريم (10: 38- 42). "جلست مريم عند قدمَي الربّ تسمع كلامه" (آ 39). تذمّرت أختها. "فأجابها الرب: مرتا مرتا، أنت مهتمة قلقة بأمور كثيرة، مع أن المطلوب واحد" (آ 42). صوّر لنا لوقا هنا موقف التلميذ أمام معلّمه. ونحن نكتشف فيه اتصالات عديدة باللغة المسيحية الأولى.
إن مريم "تسمع كلمة الربّ". سماع الكلمة عبارة تميّز لغة الكرازة في سفر الأعمال (4: 4؛ 10: 44، في المطلق: "سمعوا الكلمة". ومع مضاف إليه: 13: 7، 44؛ 15: 7؛ 19: 10: كلمة الربّ). إستند بعض الشرّاح إلى هذه التوازيات فأعطوا المقطع الذي ندرس تفسيراً كرازياً أو رسالياً: إن مريم تمثِّل للكنيسة الأولى وللوقا، موقفَ الذين يتقبَّلون بشارة الإنجيل.
ولكن هذا التفسير غير كافٍ. فلوقا يُدخل هذا الموضوع أيضاً في نصوص الإنجيل التدوينية (8: 21؛ 11: 28: رج 6: 47) حيث تتخذ عبارة "سمع كلمة الله وعمل بها (أو: حفظها)" معنى لاهوتياً بارزاً: لم نعد أمام السماع الأول للتعليم يمارسه الذين يأتون إلى المسيح. فالعبارة تصوّر بالحري ثبات المؤمنين في التعليم وخضوعهم لكلمة الله داخل الجماعة المسيحية. وعبارة "جالسة عند قدمي المعلم" التي تصوّر موقف التلميذ الأمين، تسند هذا التفسير كلّ إسناد.
وتقدّم لنا تأكيداً له معناه إشارات لوقاويّة خاصّة في 8: 4- 21 الذي يتكلّم عن طريقة سماع كلام الله. فحسب شرح مثل الزارع، الحَبّ الذي سقط في الأرض الطيّبة، "هم الذين سمعوا الكلمة بقلب طيب ومطيع (حرفياً: جميل وصالح)، وحفظوها وأثمروا بثباتهم" (آ 15). يصوّر لوقا ثبات المسيحيين الذين ظلّوا أمناء لكلمة الله، رغم المحن، وجعلوها تحمل ثمراً كثيراً. وبعد هذا، نقرأ عند لوقا دعوة "للسماع" يعبرّ عنها بما يلي: "إنتبهوا كيف (إلى الطريقة التي بها) تسمعون" (آ 18) وأخيراً، إن الإنجيل الثالث وحده ينهي هذا الخبر (8: 4- 21) بقرابة يسوع الحقيقية (8: 19- 21). فحسب آ 21، أمّ يسوع وإخوته "هم الذي يسمعون كلمة الله ويعملون بها". لا شك في أن لهذه الكلمات بُعداً كنسياً: إنها تصوّر مجموعة التلاميذ الذين هم أمناء لكلمة الله، فصاروا جزءاً من "أسرة" المسيح الروحية (صاروا "أمّه وإخوته") واتحدوا به اتحاداً حقيقياً. هذا هو التصرّف الذي يفكر به الإنجيلي حين يقول لنا إن مريم كانت "جالسة عند قدمي المعلم" كالتلميذ الحقيقي، وكانت "تسمع كلامه".
ومشهد لو 10: 39- 42 يوازي موازاة دقيقة تصوير البتولية المسيحية في 1 كور 7: 32- 35. لا بد أن يكون احدهما تأثّر بالآخر، وهذا ظاهر من مقابلة بين النصين: واحدة تهتم بأمور كثيرة (1 كور 7: 33)، والأخرى بأمور الرب (1 كور 7: 32). ونلاحظ أيضاً أن "كيريوس" يرد مرتين في لوقا (آ 39، 41. ونزيد: يا ربّ في آ 40). ونقرأه في 1 كور 7 أربع مرات (آ 31 مرتين، آ 34، 35). النصيب الأفضل الذي اختارته مريم هو أن تسمع كلمة الربّ (آ 39) بانتباه. واستعمال "ماريس" (أمور) تأثَّر بالمزمور 16: 5 (الربّ ميراثي): في كلمة يسوع، حصلت مريم على كلمة الحياة التي تعطيها ميراث الحياة الأبدية (10: 25). لقد صوّر لنا لوقا مريم في موقف يعتبره بولس الميزة الأساسية للبتولية المسيحية: "تعلّق متين بالرب".
إذن، إن للقب "الرب" في خبر مرتا ومريم رنة مسيحيّة وكنسيّة واضحة. ونحن نفهم إنطلاقاً من تقليد معمَّم أن هذا المشهد يقدّم لنا مثال الحياة التأمّلية ونموذجها. لم يفكر لوقا بكل هذا، ولكن "الربّ" الذي يتحدّث عنه ليس فقط يسوع الانسان الذي نعم يوماً بضيافة الأختين في قرية من قرى فلسطين خلال سفره إلى أورشليم: انه منذ الآن الرب الحاضر في كنيسته. ومريم تمثِّل في نظره كل المؤمنين الذين يجب عليهم مثلها أن يصغوا إلى كلمة الرب ويعملوا بها.
* ويقدّم لنا النصان التاليان "الربّ" في إطار مختلف كل الاختلاف: يوبّخ يسوع فيهما اليهود على تعلّقهم المتحجِّر بممارسات الشريعة. يقع الجدال الأول في بيت فريسي دعاه إلى الطعام. جلس يسوع إلى المائدة ولم يغتسل قبل الأكل فتعجّب الفريسي. أقحم لوقا في جواب يسوع سلسلة من التويلات (الويل، الويل) ضد الفريسيين وعلماء الشريعة (11: 42- 52) توازي في جوهرها ما نجد في مت 23 والخطبة الكبرى ضد الكتبة والفريسيين. عند متّى هو "يسوع" الذي يتكلّم (مت 23: 1). أما خطبة الإنجيل الثالث فتُنسب إلى "الرب": "فقال له الربّ: أنتم أيها الفريسيون تطهِّرون ظاهر الكأس والاناء وباطنكم كلّه طمع وخبث" (11: 39).
وتقدّم لنا حالة مماثلة في ف 13. كان يسوع يعلّم في المجمع يوم السبت، فتقدّمت إليه امرأة منحنية الظهر منذ 18 سنة. فأبرأها يسوع من مرضها. فغضب رئيس المجمع وتوجّه إلى الجمع ليدعوهم أن لا يستشفوا يوم السبت. حينئذٍ تدخَّل يسوع: "فأجابه الرب وقال له: يا مراؤون! أما يحلّ كل واحد منكم رباط ثوره أو حماره من المعلف ويأخذه ليسقيه" (13: 15)؟
إذا أردنا أن نفسرّ في هاتين الحالتين استعمال لقب "الربّ"، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار بعض الأمور الأدبية الخاصة بتدوين لوقا لإنجيله. ففي الجزء الذي يسبق خبر الصعود الكبير، ترك لوقا جدالات يسوع مع خصومه حول التقاليد الفريسية أو حول الطاهر والنجس (مت 15: 1- 20= مر 7: 1- 23). وفيما بعد، خلال أسبوع الآلام لن يعطينا شيئاً يذكّرنا بخطبة مت 23 ضد الكتبة والفريسيين. إذن، نستطيع القول إن لوقا جمع في 11: 39- 52 كل ما أراد ان يورده من كلمات يسوع ضدّ الفريسيين وطريقتهم في تفسير الشريعة. وهكذا، تصبح هذه الخطبة القصيرة بمثابة برنامج.
أما فيما يخصّ خبر شفاء المرأة الحدباء يوم سبت (13: 10- 17)، فمن المهمّ أن نجعله في موازاة مع خبر شفاء الرجل المريض وبداء الاستسقاء. لقد تمّت هذه المعجزة الأخيرة يوم سبت وخلال مأدبة أُقيمت له لدى أحد كبار الفريسيين. هنا استعمل لوقا اسم "ياسوس": "وإذا أمامه رجل تورّم جلده بالاستسقاء. فبادر يسوع وقال لعلماء الشريعة والفريسيين: أيحل الشفاء في السبت أم لا؟ فسكتوا. حينئذ أخذ (المريض) وشفاه وصرفه".
لا اختلاف للوهلة الأولى بين الخبرين. واستعمال "الرب" في 13: 15 و"يسوع" في 14: 3 هو مصادفة ولا معنى خاصاً لها. ولكن إذا أمعنا النظر، نلاحظ في وضع المريض بالاستسقاء (14: 3) أن يسوع يتكلّم قبل أن يجترح المعجزة ويطرح على الفريسيين وعلماء الشريعة سؤالاً أخلاقياً بسيطاً. أما في وضع المرأة المنحنية الظهر، فيسوع يتكلّم على دفعتين: حين يورد الإنجيلي كلماته إلى المرأة (13: 12)، أو حين يصوّر غضب رئيس المجمع (آ 14)، يستعمل اسم "يسوع". ولكن بعد تدخّل رئيس المجمع تدخلاً علنياً، وحين أراد لوقا أن يصوّر حدّة ردّة الفعل التي أثارها هذا الموقف عند يسوع و (آ 15- 16)، تكلّم بطريقة مغايرة: الآن، "الرب" أو الذي يردّ (آ 15 أ) على الفريسيين. إذن يبدو أن لوقا استعمل فقط اسم "يسوع" (أو الضمير) في المقاطع الاخبارية. ولكنه يحلّ محلّه لقب "الربّ" حين يرتفع على مستوى المبادئ ويصوّر لنا يسوع مؤكّداً على حريته التامَّة وسلطانه تجاه فرائض الشريعة.
وفي خلفيّة هذا الاستعمال اللوقاوي للفظة "كيريوس" في 11: 39 و13: 15، يجب أن نضع إعلان يسوع نفسه في خاتمة الجدال الأول عن السبت: "إبن الانسان هو سيّد، رب (كيريوس) السبت" (7: 5). فيسوع يطالب بسلطان سام على نُظُم أعطاها الله نفسه. إنه ينسب له بالحقيقة سلطة متعالية. ولكننا نفهم فهماً أفضل ألفاظ لوقا في هذين المقطعين حين نتذكر ما يُروى لنا في سفر الأعمال عن خطر المسيحيين المتهوِّدين في بداية الكنيسة. ولقد قال بعض الشرَّاح إن لوقا يصوّر الفريسيين في إنجيله، لا كأشخاص تاريخيين وحسب، بل كممثّلين لاتجاه خطير ظلّ حياً في أيامه. فيجب أن نتذكر كم شدّد في سفر الأعمال على التحرر التدريجي الذي عاشته الكنيسة تجاه الشريعة اليهودية. فالمسيحيون المتهوِّدون قد اعتبروا أن الانسان لا يخلص إن لم يتصرف حسب العادات الراجعة إلى موسى (أع 15: 1). فكان جواب الرسل: "نحن نؤمن أننا نخلص بنعمة الربّ يسوع" (أع 15: 11). لهذا نستطيع القول إن الرب الذي وبّخ اليهود في الانجيل على تعلّقهم بالشريعة هو منذ الآن في نظر لوقا "ربّ" المؤمنين.
* ويُستعمل لقب "الربّ" في مقطع يرد في سياق يتطرّق إلى الإيمان. نحن هنا أمام القول عن الإيمان "مقدار حبة من الخردل" (17: 5- 6). يرد مثَل يسوع هذا في إنجيل متّى في سياقين مختلفين مع بعض اختلافات: مرة أولى كخاتمة لحدث الابن الذي يقع في داء الصرع (مت 17: 20)، ومرّة ثانية في الجدال حول التينة التي يبست (مت 21: 21= مر 11: 22- 23). يتّصل نصّ لوقا بالمقطعين معاً، ولكنه لا يرتبط لا بالمعجزة الأولى (الولد المصروع) ولا بالمعجزة الثانية (التينة اليابسة)، بل يقع في سياق آخر (17: 1- 10) نجد فيه سلسلة من التوصيات للتلاميذ: عن الشكوك (آ 1- 2)، عن الغفران (آ 3- 4)، عن قوة الإيمان (آ 5- 6). وينتهي هذا كلّه بمثل عن العبد البطّال (آ 7- 10). نحن أمام إطار تدويني يعطينا فيه لوقا بعض القواعد العمليّة التي تعلّمنا كيف نتصّرف في الجماعة المسيحية. إن هذا السياق الكنسي يلقي بعض الضوء على استعمال "كيريوس" مرتين في آ 5- 6.
يسبق كلمة يسوع عند لوقا وعنده وحده طلبُ التلاميذ. "قال الرسل للربّ: زد فينا الإيمان" (آ 5). بعد هذا يأتي قول يسوع. "أجاب الرب: لو كان فيكم إيمان مقدار حبة من خردل لقلتم لهذه التوتة انقلعي وانغرسي في البحر لأطاعتكم" (آ 6). نلاحظ هنا موضوع الإيمان.
من المهمّ أن نلاحظ أن لوقا وضع على المسرح أمامنا لا "التلاميذ" كما في آ 1 (قال لتلاميذه)، بل الرسل (قال الرسل). هذا التبدّل يعود إلى بدوين لوقا الذي استعمل اللفظة في المعنى الذي كان لها في الكنيسة الأولى وعند القديس بولس. فمهمّة الرسل لدى المسيحيين الأولين كانت بأن يشهدوا (أع 1: 8) قبل كل شيء لقيامة يسوع (أع 2: 32؛ 3: 15؛ 4: 33؛ 5: 32؛ 13: 31؛ 22: 15) ولمجمل حياته العلنيّة (أع 1: 22؛ 10: 39- 40). فالمسيح نفسه القائم من الموت قد سلّم إليهم هذه المهمّة بأن يكونوا شهوده. وإذ استعمل الإنجيلي في 17: 5 هذا اللقب الرسمي (الرسل بدل التلاميذ في 17: 1)، فقد فعل لأنه أراد أن يتطرّق هنا إلى موضوع الإيمان: فالإيمان يلعب دوراً رئيسياً في المهمّة الرسوليّة. فالشهود الأولون لم يكونوا فقط شهود عيان لأحداث رأوها. ولكن حين شهدوا لهذه الأحداث أشاروا في الوقت عينه إلى معناها الحقيقي: فبعد الفصح ومجيء الروح، صاروا يعرفون الآن بُعدها في تاريخ الخلاص. كانوا شهوداً لا لهذا الحدث أو ذاك وحسب، بل كانوا في الوقت عينه شهوداً لإيمانهم.
إذن، اهتم لوقا اهتماماً خاصاً بتكوين هذا الإيمان لدى التلاميذ. فقد أورد وحده كلمة يسوع إلى سمعان: "طلبت لك أن لا تفقد إيمانك (صلّيت من أجلك لئلا تسقط). وأنت متى رجعت فثبِّت اخوتك" (22: 32). ومن جهة ثانية، رأينا أن موضوع الإيمان يحظى لديه باهتمام خاص لا نجده عند متّى ومرقس. ونلاحظ أخيراً أنه إذا ارتبط الإيمان عند متّى ومرقس بأخبار المعجزات، لم يكن الامر هكذا دائماً في الإنجيل الثالث (رج 7: 50؛ 18: 8؛ 22: 32). ونلاحظ هذا التبديل أيضاً في المقطع الذي ندرس: ففي مت 17: 20 ارتبط القول عن الإيمان بمعجزة الولد "المصروع"، وفي مت 21: 21 (= مر 11: 23) ارتبط بلعن التينة. أما عند لوقا فلا يرتبط قول الربّ بأي من هاتين المعجزتين. كما لا نجد الألفاظ التي بها انتهى القول في مت 17: 20: "لا يستحيل عليكم شيء". فلا شيء يذكّرنا بتدخّل عجائبيّ عند يسوع. نحن الآن أمام إيمان الرسل بصورة إجماليّة وأمام نموّ هذا الإيمان. ونخطئ إن نحن حصرنا هذا الإيمان في ثقة بالله أو في إيمان لاجتراح المعجزات. أجل، لسنا هنا أمام ثقة بسيطة بالله، بل أمام تعلّق مطلق بكلمات يسوع التي تفتح للتلاميذ الطريق لعالم جديد، وذلك عكس كل الحسابات البشرية. الإيمان بالله يتضمَّن هنا الإيمان بيسوع.
* نلخّص ملاحظاتنا حول التدوين اللوقاويّ لندرك إدراكاً أفضل الرنَّة الخاصّة التي يتّخذها لقب الربّ في هذا المقطع. فالموضوع هو إيمان التلاميذ. ولكن لوقا يوسّع نظرته فلا يربط الإيمان بمعجزات يسوع. لقد وضع القول في سياق كنسيّ: والإيمان المصوَّر هنا هو الذي تمارسه جماعة التلاميذ. ولكن لوقا يخصّ بحديثه "الرسل" وهذا ما يوجّهنا بصورة أقوى نحو إطار الكنيسة الأولى.
في هذه الظروف نفهم أن يكون هذا القول عند لوقا قد تلفّظ به "الربّ". فالإيمان الذي يطلبه "الرسل" هو بداية وضيعة لما سيصير إليه إيمانهم بعد الفصح كما يصوّره سفر الأعمال. طلب الرسل من الرب أن يزيد لهم إيمانهم، وهذا يعني أنه وحده مصدر إيمانهم. فعطيّة الإيمان هي موهبة من مواهب الروح (1 كور 12: 9). غير أن عطية الروح ستتمّ بالمسيح ساعة تمجيده السماوي وحين يصير "مسيحاوياً" (أع 2: 33- 36). ومن جهة ثانية، إن الإيمان المسيحي يكون في الكنيسة إيماناً بالرب يسوع (أع 20: 21؛ رج 24: 24؛ روم 10: 9).
إذن، كانت للوقا أسبابه حين ربط إيمان التلاميذ بلقب "الرب". ونحن نرى في 17: 5- 6 أننا تجاوزنا هذا الوضع أو ذاك من حياة يسوع العامة. فالايمان الذي يتحدّث عنه النص هنا، لم يزل زرعاً صغيراً (مثل حبة خردل)، ولكنه بذار الإيمان المسيحي. إنه في نظر الكنيسة إيمان الرسل، ولا يمكن إلاّ أن يكون إيماناً "بالربّ" يسوع.
* ونجد السياق الكنسي عينه في 22: 61، وهو المقطع الوحيد الذي فيه يستعمل الإنجيلي لقب "الربّ لما في الخبر المكرّس للآلام. فالآية جزء من خبر نكران بطرس، المشترك بين التقاليد الثلاثة. ففي آ 60 حيث يروي لوقا أن الديك صاح بعد الانكار الثالث، ظلّ نصّه موازياً لنص متّى ومرقس. ولكن بداية آ 61 لا توجد إلاّ عنده وحده: "فالتفت الربّ ونظر إلى بطرس". بعد هذا، رجع لوقا إلى نص الإزائيين الآخرين مع تفصيل بسيط: "حينئذ تذكَّر بطرس كلام "الربّ" الذي قال له: قبل أن يصيح الديك اليوم، تنكرني ثلاث مرّات". قال مت 26: 75 ومر 14: 72: "وتذكر بطرس كلمة يسوع الذي قال له". ذكر متّى ومرقس يسوع، أما لوقا فذكر "الربّ".
لقد أدخل لوقا في هذا المكان لقب "الربّ" مرتين، والسبب واضح. فما يرويه هنا عن بطرس هو أول مثال للتوبة المسيحيّة. ففي لاهوت الكنيسة الأولى ولا سيما في نظر لوقا، كان "تذكر" أقوال يسوع عاملاً مهماً في طريق الارتداد وتكوين الإيمان. فحين روى لو 24: 6- 8 حدث مجيء النسوة إلى القبر صباح القيامة، حوَّل مر 16: 7 وكمَّله فربط البلاغ الفصحي (وإيمان النسوة) "بتذكر" إنباءات يسوع حول آلامه وقيامته. وحسب أع 11: 16، إن "تذكّر كلمة الرب" أفهم بطرس المعنى الحقيقي لحلول الروح على بيت كورنيليوس. وفي المقطع الذي ندرس أيضاً (22: 61)، "تذكّرَ بطرس كلام الرب" فعاد إلى التوبة. فلسنا فقط أمام تنبؤ ماديّ قاله يسوع في العشاء السري. فالحدث نفسه، أي تتمة كلمة يسوع، جعلت التلميذ يكتشف سلطة المعلم النبوية، بل يكتشف شيئاً من شخصيّته. وموضوع التذكّر هذا المرتبط بموضوع الفهم هو موضوع فصحيّ وكنسيّ في مؤلف لوقا: هنا يقترب الإنجيلي الثالث من يوحنا (رج 2: 17، 23؛ 12: 16؛ 14: 26).
من جهة ثانية، يجب أن نتذكّر المكانة التي يحتلّها موضوع التوبة والارتداد في سفر الأعمال. فالارتداد يعني بالنسبة إلى المسيحيين الاولين أن نلتفت إلى الرب (أع 9: 35؛ 11: 21)، أن نلتفت إلى الرب يسوع. وهذا يعني الاقرار بان يسوع صار "الرب" منذ قيامته وتمجيده. والالتفات إلى الربّ يعني الإيمان بالربّ. ثم إن التوبة اعتُبرت عطيّة من المسيح الذي صار ربّاً: "فهو الذي وضعه الله ليمنح شعب إسرائيل التوبة وغفران الخطايا".
في هذه الظروف نفهم السبب الذي لأجله أدخل لوقا لفظة "كيريوس" مرتين في سياق توبة بطرس (22: 61). لا شكّ في أن يسوع لم يكن بعد تمجَّد. ولكن تذكر كلام يسوع الذي حرّكته نظرة طويلة إلى بطرس، كان للرسول كشفاً حقيقياً، كما ستختبره الكنيسة بعد الفصح. فهذه الكلمة حرّكت ندامته وإيمانه. فبالقدرة الخفيّة والحاضرة، كانت كلمة الرب هي التي تفعل. وإذا كنا نقول بحقّ إن للتوبة وجهة كنسيّة، فالأمر يصحّ بصورة خاصة في ارتداد بطرس. وهذا الارتداد كان قبل الفصح ما سيكونه كل ارتداد مسيحي: إنه ارتداد إلى الربّ.
* يبقى لنا أن نتفحّص حالة تسبيق واحدة في الحياة الكنسيّة: استعماله لفظة "الربّ" في حدث زكا (19: 1- 10). فحدث زكا، شأنه شأن أحداث أرملة نائين، ومرتا ومريم، والمرأة المنحنية الظهر، خاص بلوقا. ولكن من الوجهة التي تهمُّنا، نجد مقابلة خاصّة بينه وبين حدث المرأة الحدباء: هما الحالتان الوحيدتان اللتان فيهما يأتي داخل الخبر اسم يسوع (13: 12، 14 بالنسبة إلى الحدباء؛ 19: 3، 7، 9 بالنسبة إلى زكا) ثم لقب "الرب" (13: 15 ثم 19: 8).
إذا أردنا أن نفهم الفرق بين الطريقتين في تسمية يسوع، يجب أن نطبِّق المعيار الذي طبّقناه في وضع المرأة الحدباء: حين يكتفي لوقا برواية الحدث الخارجي، أي حين يبقى على المستوى الإخباري، يستعمل "يسوع" أو الضمير (هو). لهذا يقول لنا إن "زكا حاول أن يرى من هو يسوع" (آ 3). ولما وصل يسوع إلى الجمّيزة حيث صعد الفريسي قال الانجيلي: "رفع يسوع نظره إليه وقال" (آ 5). ولكن حين أراد أن يصوّر القبول العميق الذي حصل في زكا بسبب حضور المسيح، وعزمه المفاجئ بأن يعطي الفقراء نصف أمواله، كتب لوقا في آ 8: "تقدّم زكا وقال للرب: ها أنا، يا رب، أعطي الفقراء نصف أموالي، وإذا كنت ظلمت أحداً في شيء، أردّه عليه أربعة أضعاف". إن الموقفة الذي اتخذه زكا هنا متلفّظاً بهذه الكلمات، يبرز احتفاليّة إعلانه ويعطيه طابعاً دينياً وليتورجياً (كأني به ينذر نذراً). ففعلُ زكا ظهر في نظر لوقا، إنجيلي الفقراء، كمقدمة لتوزيع الأموال في الكنيسة كما يخبرنا أع 2: 45؛ 4: 33- 35. هنا نتذكّر نصاً آخر من سفر الاعمال. ففي أع 20: 35 يورد لوقا كلمة "الرب يسوع": "في العطاء سعادة لا نجدها في الأخذ". أهميّة هذا النص هو أنه يورد لنا قولاً من يسوع في حياته العلنية، كما يحدّد تصرفاً ملموساً في الجماعة المسيحيّة. إذن، هو قول من عند الرب يسوع. لهذا، فعمل زكا هو في نظر لوقا عمل مسيحي. لقد صار عشّار أريحا تلميذ يسوع. لا نستطيع أن نبرهن عن هذا القول للمؤرخ. ولكن إذا نظرنا إلى معنى فعلة زكا، نرى أننا أمام تفسير أعطاه الإنجيلي نفسه.
د- الحياة المسيحية ومجيء الرب
احتفظنا للمقطع الأخير استعمال "كيريوس" كلقب ليسوع في الأمثال الاسكاتولوجية (12: 42؛ 14: 23؛ 16: 8؛ 18: 6).
* أول هذه النصوص يقع وسط متتالية (12: 35- 48) تشرف عليها فكرةُ مجيء الرب. إن المقاطع الموازية في متّى هي جزء من الخطبة الاسكاتولوجية (25: 43- 51). جمعت هنا في إنجيل لوقا مواد مختلفة: أولاً: مثل صغير (ليس له ما يوازيه عند متّى ومرقس) عن العبيد الذين يسهرون منتظرين عودة سيّدهم (آ 35- 38). ثانياً: قول عن رب البيت والسارق مع دعوة إلى التلاميذ ليكونوا منتظرين عودة ابن الانسان (آ 39- 40= ست 24: 43- 44). ثالثاً: سؤال بطرس الذي يرغب في أن يعرف إلى من يوجّه هذا المثل (آ 41- 42 أ، ليس له ما يوازيه وسندرسه). رابعاً: جواب يسوع في مثل ثانٍ عن أمانة العبيد (آ 42 ب و 46= مت 24: 45- 51). خامساً: قول عن العقوبات المختلفة التي تنتظر العبيد الأردياء (آ 47- 48 خاص بلوقا).
أما المفردات التي توحِّد هذه المجموعة فهي: عبد أو عبيد (خادم أو خدم) (آ 37، 43، 45، 46، 47). السيّد أو الربّ (كيريولس 4 آ 36، 37، 41، 42 أ، 42 ب، 43، 45، 46، 47). جاء (آ 36، 37، 38، 39، 40، 43، 45، 46). إذاً تتألف المتتالية من سلسلة تحريضات "للخدم" ليكونوا متيقّظين ومستعدّين "لمجيء" "الربّ". فالسياق هو إرشاديّ واسكاتولوجيّ معاً.
تعود كلمة "كيريوس" 9 مرات في 13 آية. في الخبرين (آ 35- 38 وآ 42 ب- 48) تدلّ على "سيّد" المثل الذي ينتظر الخدمُ رجوعه: وبصورة ملموسة هو ابن الانسان الذي يأتي في ساعة لا نتحسَّب لها (آ 40). ولكن ترد المفردة مرتين في نص إخباري في آ 41 و42 أ، وهو نصّ دوَّنه لوقا، بل زاده كمقدمة مباشرة للمثل الثاني: "حينئذٍ قالت بطرس: يا رب، ألنا تقول هذا المثل أم للجميع؟ فأجاب الرب...". لا هذا الجواب أفهمه يسوع أنه يوجّه مثله إلى مجموعة الرسل أنفسهم. لهذا حلّ محل "دولوس" (العبد، الخادم، رج مت 24: 45)، لفظة "أويكونوموس" (الوكيل) في لو 12: 42، وهي كلمة يطبِّقها بولس على وظائف الخدمة في الكنيسة (1 كور 4: 1- 2؛ تي 1: 7). وجعل لوقا الفور في صيغة المضارع (باليونانية)، فأفهمنا بأن لوقا يعطي المثل إتجاهاً كنسياً: "من هو إذن الوكيل الأمين الذي سيقيمه الربّ على خدمه..."؟
إذن "كيريوس" في بداية هذا المثل (آ 42 ب) لا تدلّ فقط على سيّد العبيد (أو الخدم): انه منذ الآن ربّ الجماعة. ونحن نرى أية رنّة تتّخذ هذه الكلمات في بداية الآية (آ 42 أ) أي في جملة المقدمة: "فأجاب الربّ". فيسوع الذي يجيب بطرس، هو منذ الآن "الربّ" الذي سيتحدّث عنه المثل. نشاهد هنا مرّة أخرى ظاهرة تسبيق مضاعفة: فللمثل بُعد كنسي واسكاتولوجي. يسوع هو "الربّ" أولاً، لأنه السيّد الذي يقيم تلاميذه كرؤساء في الكنيسة. ولكنه أيضاً "الربّ " الذي سيأتي في يوم لا ينتظره الوكيل. واستعمال "كيريوس" الاسكاتولوجي في المسيحيّة الأولى أمر متواتر: "الربّ" هو الملك المسيح الذي نصب ملكاً في السماء (أع 2: 36) والذي سيعود في مجيئه من أجل الدينونة. والوظائف التي سيمارسها، هي وظائف الربّ والملك المسيحاني (1 تس 2: 19؛ 4: 15- 16؛ 2 تس 2: 1- 2؛ 1 كور 16، 22- 23 وعبارة ماراناتا، يا ربّ، تعال؛ رج رؤ 22: 20).
* لن نقول إلاّ بضع كلمات عن تطبيق اللقب على المسيح في سائر الأمثال الاسكاتولوجية. ففي مثل الوكيل الخائن (16: 1- 8)، هناك نقطة لم يُحسم الجدال فيها بعد. على من تدل لفظة "كيريوس" في آ 8؟ "فامتدح السيد (أو: الرب) هذا الوكيل الخائن على فطنته". إذا عدنا إلى الموازاة مع 18: 6- 8 (متتالية واحدة مع "كيريوس" في آ 6 و"أقول لكم في آ 8)، يبدو أن "كيريوس" لا يدلّ على سيِّد الوكيل بل على يسوع الرب. فالمثل الذي ندرس، شأنه شأن المثل الذي درسناه في 12: 42- 46، ينفتح على منظار كنسي: يتوجَّه يسوع إلى تلاميذه (16: 1؛ آ 9: أقول لكم، رج 12: 22). وهنا أيضاً يجعل أمامنا "الوكيل". في آ 9- 13 يدعو تلاميذه إلى حسن استعمال المال، إلى الأمانة، إلى التجرّد من الغنى. ولكن لهذه التحريضات لوناً اسكاتولوجياً واضحاً (آ 9: "المساكن أو الخيام والمظال الأبدية"). فهذا المثل (آ 1- 7) والتطبيقات التي يستخرجها منه يسوع (آ 8- 13) تتضمّن بُعداً ارشادياً واسكاتولوجياً. وهذا يكفي لنشرح أن لوقا يدلّ على يسوع حين يذكر لقب "الرب" في آ 8.
وتبقى حالة أخيرة نتفحّصها: مثل القاضي الظالم (18: 1- 8). لا يرى فيه بعض الشّراح إلاّ تعليماً عن المداومة على الصلاة. وآخرون يعطونه معنى إسكاتولوجيّاً مباشراً. قال الأب لاغرانج: فكرة العدالة جوهرية في هذا المثل. ولكن يجب أن لا نعارض معارضة جذرية التفسيرين: فالتحريض على الصلاة باستمرار هو حاضر أيضاً في النص (18: 1). ولكننا أمام صلاة لننال تدخّل الله في نهاية الأزمنة. فالمقطوعة جزء من متتالية اسكاتولوجية موضوعها مجيء ملكوت الله وأيام ابن الانسان (17: 20- 18: 8). والفكرة واضحة في خاتمة المقطع الذي ندرس: "ولكن حين يجيء ابن الانسان، هل يجد إيماناً على الأرض" (18: 8 ب)؟ فالموضوع الرئيسي في 18: 1- 8 هو موضوع "الانصاف" (اكديكاسيس). نجده 4 مرات في هذا المقطع: في الفعل، آ 3، 5. في الاسم، آ 7، 8. رج أيضاً 21: 22 في الخطبة الاسكاتولوجية: "أيام نقمة". فمثَل القاضي الذي ينصف الأرملة، يفهمنا أن الله "ينصف ختاريه الذين يضرعون إليه ليلاً ونهاراً" (آ 7).
هذا هو التطبيق على دينونة الله مع مقدمة تدوينية: "وقال الربّ" (آ 6). سُمّي يسوع "الربّ" تجاوباً مع هذا السياق الاسكاتولوجي. قابل هنا بين 12: 40، 42 و18: 6، 8.
إن وجود "كيريوس" يفسرّ هنا كما في سائر الأمثال الاسكاتولوجية كظاهرة استباق. نحن هنا أمام كلام يستبق نهاية الأزمنة: يرى الانجيلي يسوع في الوظائف التي سيمارسها كابن الانسان في الدينونة الأخيرة. أما الارشاد فليس غائباً: فالرب عينه هو الذي يحرّض أخصاءه (آ 8 ب) لكي يحافظوا على إيمانهم وسط المحنة الكبرى. وهو أيضاً ذلك الرب الذي يدعوهم لكي يصلّوا بدون انقطاع.
خاتمة
* منذ التطبيقات الأولى للقب الربّ على يسوع في إنجيل الطفولة (1: 43؛ 2: 11)، وفي بداية الحياة العلنية (7: 13، 19)، شعرنا بالمعنى المسيحاني. ونجد هذه الوجهة عينها في النصين اللذين يحيطان بالسفَر الطويل إلى أورشليم: مقدمة إرسال (10: 1)، وخبر دخول "ملك" أورشليم المسيحاني (19: 31، 34؛ رج آ 38). هذا اللقب هو في موقعه لأن الكرامة الملوكيّة قد اعتبرت دوماً صفة المسيح الرئيسيّة.
* ولكن يسوع لم يصّر كلياً في نظر لوقا "مسيحاً" و"رباً" في تنصيبه في المجد (أع 2: 36). فهذا اللقب (كيريوس) المطبَّق على يسوع لم ينل معناه الكامل إلاّ بعد موته وتمجيده. لهذا استعمله لوقا مرتين في إنجيله (24: 3، 34) ليدلّ على المسيح القائم من الموت. إنه لقب مسيحاني ولكن حسب ملء المعنى المسيحي.
* أرانا 24: 34 أيضاً أن استعمال اللقب ارتبط بشعائر العبادة: فالرب هو يسوع الممجَّد وفي الوقت عينه ذلك الذي يمارس سلطانه في الجماعة المسيحية في الوقت الحاضر. هذا هو الاستعمال المميّز والذي يرد بتواتر للقب "كيريوس" في إنجيل لوقا. إنه يستبق الأمور فيسمِّي يسوع "رب الكنيسة". هو "الرب" الذي حرّر أخصّاءه من فرائض الشريعة اليهودية (11: 39؛ 13: 25). هو "الرب" الذي يدعو المؤمنين إلى التوبة (22: 61) والإيمان (17: 5- 6). هو "الربّ" الذي يسمعون كلمته كتلاميذ كاملين (10: 39، 41). هو "الربّ" الذي يحضّهم على توزيع أملاكهم كما فعل زكا (19: 8) وبرنابا (أع 4: 36- 37). لا تزال الرنة الملوكية والمسيحانية حاضرة هنا. ولكن الانجيل أعاد تفسير سلطان المسيح هذا على ضوء الفصح والقيامة. نحن أمام سلطان متعالٍ، سلطان إلهي.
* وهناك الاستعمال الاسكاتولوجي داخل هذا الاستعمال الكنسي. حين يدل الانجيل على يسوع "كالربّ" في الأمثال الاسكاتولوجية (12: 42؛ 14: 23؛ 16: 8؛ 18: 16)، فهو يدل عليه كابن الانسان الذي يعود في مجيئه. كانت وظيفة الديّان هذه إحدى امتيازات الملك المسيح في التقليد. ولكن انضمّ إلى المعنى الاسكاتولوجي معنى إرشادي وكنسي: فالرب الذي ينتظر المؤمنون رجوعه هو الرب الحاضر في الكنيسة: إنهم يعيشون متحدين معه منذ الآن في الإيمان.
* حين طبَّق لوقا على يسوع لقب "الربّ" في إنجيله، أعطانا طريقة في إعادة تفسير المسيحانية الملوكية تفسيراً مسيحياً. وما يميِّز هذا التفسير هو اتجاهه الكنسي وبعده المتعالي. وهكذا نرى بوضوح أن الانجيل الثالث كُتب في منظار سفر الأعمال. فالذي وعدنا بتدوين "رواية الاحداث التي جرت بيننا" (1: 1)، لم يدوِّنها كرجل يكتب التاريخ وحسب. إنه المؤمن الذي سأل "الشهود العيان" فتأمَّل في ما قالوه له على ضوء القيامة، وعلى ضوء حياة الكنيسة العائشة بحضور الرب المجيد. لهذا فالرب هو يسوع المسيح الذي عاش على الأرض، وهو الإله العائش مع كنيسته حتى مجيئه الثاني.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM