الفصل الثاني:الإنجيل الثالث من التقليد إلى التدوين

الفصل الثاني
الإنجيل الثالث
من التقليد إلى التدوين

يحاول أسلوب تاريخ التقليد أن يحدّد فكر الإنجيلي إنطلاقاً من عمله التدويني على التقليد الإنجيلي السابق. ولكن ما هو هذا التقليد؟ يتفق الشرّاح على القول بأن لوقا أفاد من ينبوع خاص به (اللوقاويات). ولكنهم يختلفون حول تحديد اللوقاويات: هل هي مراجع شفهية أم خطية؟ هل دوّنت في اليونانية أو في الأرامية؟ ثم ما هي طبيعة المراجع المشتركة بين لوقا والإزائيين الآخرين؟ ثم هناك اتصالات أكيدة بين لوقا ويوحنا.
ينقسم موضوعنا قسمين: بنية الإنجيل الثالث. الأسباب التي دعت لوقا إلى ترتيب هذه البنية.
1- بنية إنجيل لوقا
للوهلة الأولى تبدو بنية لو قريبة من بنية مت ومر، لأنها تروي كرازة يوحنا المعمدان، الرسالة الأولى في الجليل، الصعود إلى أورشليم، الآلام والقيامة. ولكن من خلال هذا التوازي العام، نجد اختلافات عديدة. ونبدأ دراستنا بالحقبات المختلفة في إنجيل لوقا على مستوى الطوبوغرافيا والمضمون التعليمي والوظيفة في مجمل الإنجيل الثالث.
أ- أخبار الطفولة (ف 1- 2)
إن أخبار هذا القسم الأول هي خاصة بإنجيل لوقا. وهي تشكّل حقبة محدّدة تحديداً واضحاً بالموضوع، بالزمن، بالفنّ الأدبي. عرف لوقا أن هذه الأخبار لا تنتمي إلى الكرازة الرسولية الأولى (أع 1: 22؛ 10: 37؛ 13: 24- 25). إستعمل هنا مراجع خاصة به، وما زلنا حتى الآن ندرس فنّها الأدبي، اللغة الأولى، الينبوع الذي تفجّرت منه. ولكن مهما يكن من أصل هذه المواد، فقد بناها لوقا بطريقته في موازاة دقيقة بين يوحنا المعمدان ويسوع: بشارتان متوازيتان. لقاء بين الطفلين في حشاء أم كل منهما، ولادتان وختانان، مهمتان تُعلنان في نشيد نبوي، حاشيتان عن طفولة كل منهما.
إن هذا التوازي يبرز التعارض بين الولدين. وهذا التعارض يجد تعبيراً له في الأماكن التي جرت فيها كل منهما: بدأت حياة يوحنا في الهيكل وامتدت في جبال اليهودية. وبدأت حياة يسوع في الناصرة، فالتقت بحياة يوحنا في جبال اليهودية، ثم جرت في بيت لحم ووجدت ذروتها في هيكل أورشليم قبل أن تعود إلى الناصرة.
أما الفن الأدبي لهذه الأخبار فقريب من أخبار طفولة بعض الأبطال ولا سيّما تلك التي نجدها في الكتاب المقدس. مثل إسحق، شمشون، صموئيل. نجد فيها تحديداً لرسالة يوحنا ورسالة يسوع. يوحنا المعمدان هو السابق (1: 15- 17، 76- 77). يسوع هو ابن داود 11: 62، 69)، وابن الله (1: 32- 35)، والمخلّص والمسيح الرب (2: 11)، ومسيح الرب (2: 26) ونور الأمم (2: 32). "أقيم لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل". جُعل للمعارضة ووُعد للسيف (2: 24- 25). وأول كلمة تفوّه بها في الهيكل في عامه الثاني عشر، عارضت بين والديه على الأرض وأبيه السماوي (2: 49).
إن وظيفة هذا القسم واضحة في الإنجيل الثالث: تتوخّى تحديد موقع يوحنا المعمدان ويسوع في تاريخ الخلاص. جُعل السابق خاضعاً للمسيح. أُعلن إنجيل سّر يسوع منذ البداية.
ب- رسالة يوحنا المعمدان (3: 1- 25)
هذه الحقبة التي نجد أكثر موادها عند متى (3: 1- 12) ومرقس (1: 1- 8) هي محدّدة في لو أكثر مما هي عند الإزائيين: في البداية بتزامن تاريخ احتفالي (3: 1- 2). وفي النهاية بإعلان سجن يوحنا المعمدان بأمر من هيرودس (3: 19- 20). سنجد عناصر هذه الحاشية الأخيرة فيما بعد عند متى (14: 3- 4) ومرقس (6: 17- 18). إستبق لوقا الأمور ففصل فصلاً واضحاً بين زمن يوحنا المعمدان وزمن يسوع. وابرز أيضاً هذا الفصل، فلم يذكر اسم يوحنا في عماد يسوع (هكذا اختلف عن مت 3: 13 ومر 1: 9). إن هذا الفصل القاطع بين حقبات متعاقبة تضمّ أخباراً معاصرة، هو نهج خاص بلوقا. نجده مثلاً في 1: 56 (الذي هو في الظاهر بعد أحداث 1: 57- 66). ونجده في أع 10: 1- 11: 18 (يقع بعد 11: 19-21).
وفصلَ لوقا أيضاً بين رسالة يوحنا ورسالة يسوع على مستوى الأمكنة. جعل عمل يوحنا "في منطقة الأردن" (3: 3؛ رج 4: 1) حيث لن يعمل يسوع عملاً ولن يكون له أثر (عكس مت 4: 15، 25؛ 19: 1؛ مر 10: 1). أما فيما يتعلّق بوعظة يوحنا المعمدان، فإن لوقا يورد تقريباً ذات المعطيات التي يوردها متى ومرقس: الدعوة إلى التوبة أمام الدينونة الآتية (3: 7- 9). إعلان الأقوى الذي يعمّد في الروح والنار (3: 16- 17). غير أنه يُبرز الوجهة العمليّة واليوميّة للتوبة (يتحدث عن "الثمار" في صيغة الجمع في آ 8. زاد آ 10- 14 وواجب كل انسان)، ويشدّد على أن المعمدان ليس المسيح (آ 15) على مثال يو 1: 20؛ 3: 28.
إن الفصل الذي يثبته لوقا هنا بين زمن المعمدان وزمن يسوع يقابل الشكل الخاص بالقول في 16: 16أ. ففي موازاة مع مت 11: 12 أ، انتمى يوحنا المعمدان إلى زمن الملكوت، "ومن أيام يوحنا المعمدان حتى الآن ملكوت الله يُغتصب". وهذا ما يتوافق مع مت 3: 2 حيث يعلن يوحنا اقتراب الملكوت (عكس لو 3: 3). ولكن حسب لو 16: 16 أ: "لقد بقي الناموس والانبياء إلى يوحنا. ومنذئذٍ يُبشّر بملكوت الله". هل نفهم هنا "إلى يوحنا" في معنى حصري أو مشتمل؟ هل ندخل يوحنا في زمن الملكوت أم نستبعده منه؟ إن لوقا يميّز تمييزاً واضحاً زمن يوحنا عن زمن يسوع في 3: 20 ويحتفظ ليسوع بكرازة الملكوت (4: 43 يختلف عن مت 3: 2). لهذا نقول إن يوحنا المعمدان ينتمي إلى العهد القديم.
وظيفة هذه المعطيات عن يوحنا المعمدان هي أن تدلّ على الحقبة الأخيرة في الإعداد للعهد الجديد.
ج- كرازة يسوع الأولى (3: 21- 9: 55)
إن مجمل مواد هذه الحقبة موجودة في متى (3: 13- 18: 35) ومرقس (1: 9- 9؛ 50). ولكن لوقا يحدّد بوضوح هذا القسم بأربعة أحداث في البداية (3: 21- 4: 30)، وبفاتحة تدلّ على الحقبة المقبلة (9: 51: وإذ كان زمن ارتفاعه قد اقترب، صممّ أن ينطلق إلى أورشليم).
هناك إشارة أصيلة إلى الأماكن. يجري العمل عند متى ومرقس أولاً في الجليل قرب البحيرة. ثم بدأ يسوع أسفاره في منطقة صور وصيدا (مت 15: 21؛ مر 7: 24، 31)، في المدن العشر (دكابوليس، مر 7: 31). واتجه إلى قيصرية فيليبس (مت 16: 13؛ مر 8: 27). لا يتحدّث لوقا أبداً عن خروج من العالم اليهودي، بل يشير إلى محاولات قصيرة وغير ناجحة على ضفّة البحيرة الشرقية في بلاد يسمّيها أرض الجرجاسانيين. إنه يحدّد نشاط يسوع في الجليل (4: 14- 31؛ 8: 26؛ رج 22: 5؛ 24: 6؛ أع 10: 37) أو في اليهودية (4: 44؛ 6: 17؛ 7: 17). إن هذا الاسم الأخير يدلّ عنده كما عند سائر الكتّاب اليونان في عصره، على كل بلاد اليهودية بما فيها الجليل. إن جغرافية رسالة يسوع توافق مؤلّف لوقا: ففي رأيه، لن يبدأ تبشير الوثنيين قبل الفصح والقيامة (24: 47).
تُقدّم بنية هذا القسم عند لوقا عدة سمات أصيلة: هناك زيادتان تشدّدان على أهمّية المشاهد الأولى. إن سلسلة نسب يسوع في 3: 23- 38 (يفصل بين تسمية يسوع كابن الله: بفم الآب، في 3: 22. وبفم إبليس في 4: 3) تربط يسوع بآدم لتدلّ عليه فيما بعده "آدم الجديد" (أع 17: 26- 31).
كرازة يسوع في مجمع الناصرة (4: 16- 30) هي بداية مهمّة يسوع العلنيّة. هذا المشهد المليء بإشارات خاصة من اسلوب لوقا، هو استباق ظاهر لما سوف يحدث: نجد ما يوازيه في زمن متأخِّر في متى ومرقس (مت 12: 54- 58؛ مر 6: 1- 6). ثم إنه يورد معجزات يسوع في كفرناحوم (آ 23) حيث لم ينزل بعد (آ 31). إذا كان لوقا قد قدّم هذا المشهد، فلأنه يتيح له بأن يحدّد رسالة يسوع في إسرائيل مع ميزاتها الجوهرية. إن وقوفه في المجمع يدلّ على أن تعليمه يتوجّه الآن إلى اليهود في خطّ العهد القديم الذي يتمّه (آ 21). ويستبق بالنسبة إلى لوقا أسلوب المرسلين الذين يبدأون كرازتهم في المدن الوثنيّه بالوعظ في المجامع (أع 9: 20؛ 13: 5، 14، 44؛ 14: 1؛ 7: 1، 10، 17؛ 18: 4، 7، 19؛ 19: 8).
يقدّم يسوع نفسه هنا بالعودة إلى أش 61: 1- 2: مُرسل يحمل البشارة إلى الفقراء. وردّة فعل أهل الناصرة، ومحاولتهم للايقاع بيسوع (آ 28- 30)، ترسمان مسبقاً رفض إسرائيل ليسوع، والصليب الذي يتهيَّأ له. أما تذكّر المعجزات التي منحها إيليا واليشاع للوثنيين (آ 25- 27)، فتعلن أنه بعد رفض اليهود للبشارة، سيتوجّه المرسلون إلى الوثنيين أع 13: 40- 49؛ 18: 6؛ 22: 18- 21؛ 28: 23- 28). وهكذا يكشف كلُّ هذا المشهد رسالة يسوع لدى إسرئيل: إن "سنة النعمة" (أش 61: 2؛ لو 4: 19) تبدو كالزمن المقدّم لشعب العهد القديم: هل سوف يتوب ويتعرّف إلى ربّه؟
بعد هذين المشهدين الأولين، قام لوقا ببعض التحوّلات التي لها معناها. الأول هو نداء التلاميذ الأولين الذين ضمّهم إلى الصيد العجيب (5: 1- 11). جعل مت 4: 18- 22 ومر 1: 16- 20 دعوة سمعان واندراوس، يعقوب ويوحنا، في بداية مهمّة يسوع وقبل معجزات كفرناحوم. وجد لوقا هذا المشهد في ذات الموضع في مرجعه، وهو الذي يروي مجيء يسوع إلى بيت سمعان (4: 38)، ولكنه لا يعرّفنا بسمعان إلا في 5: 2- 3. لا شكّ في أنه أخّر خبر الدعوة بعد المعجزات ليجعل جواب التلاميذ معقولاً.
وخطبة الأمثال في 8: 4- 18 هي أقصر ممّا في مت 13: 1- 52 ومر 4: 1- 34. يبدو أن لوقا وجد في مراجعه خطبة أوسع، لأنه يورد السؤال حول هدف الأمثال (آ 19). ولكنه أوجز هذه الخطبة ونقل بعض عناصرها إلى موضع آخر (13: 8- 9؛ رج مت 13: 1 3- 32؛ مر 4: 30- 32: حبّه الخردل) ليعطيها مدلولاً أوضح. والمثلان اللذان يحتفظ بهما، يعطيان الخطبة معنى يوافق الخطبة كلَّها. فبعد تفسير مثل الزرع، حيث تُسلم أسرار ملكوت الله إلى التلاميذ وتخفى عن الآخرين (آ 19)، جاء مثل السراج (آ 16- 18) فحمل إضافة مهمة بالنسبة إلى لوقا: يُعطى النورُ لينير. والسّر ليُعرَف. فبعد الكرازة الخفيّة لإسرائيل، سيأتي الاعلان الفصحي وما فيه من وضوح.
وأخيراً، جعل لوقا حدث أمّ يسوع واخوته حالاً بعد خطبة الأمثال (8: 19- 21)، بينما جعله مت 12: 46- 50 ومر 3: 31- 35 قبلها. لا شكّ في أن مرجعه تبع الترتيب الذي عرفه مرقس، لأنه يواصل كلامه بخبر تهدئة العاصفة (8: 22- 25). فنظنّ أنه فصل خبر اخوة يسوع لينهي كلامه عن سماع كلام الله (آ 11- 12، 13، 14، 15، 18) بكلمة أخيرة هذا الموضوع (آ 21).
لماذا ميّز لوقا هذه الحقبة الأولى في رسالة يسوع العلنية (3: 21- 9: 50)؛ هل أعطاها معنى خاصاً ووظيفة خاصة في التاريخ المقدّس؟ إن الإطار الطوبوغرافي الذي يهيّئه لا يدلّ على أنه أراد أن يقدّم رسالة يسوع لدى إسرائيل. وما يسند هذا التفسير هو مدلول مشهد الكرازة في الناصرة الذي جعله في البداية، والمعنى الذي تتخذه عنده خطبة الأمثال. فالمضمون التعليمي لهذه الحقبة الأولى يوافق هذا الهدف: أعلن يسوع إنجيل الملكوت (4: 43؛ 8: 1؛ رج 6: 20؛ 7: 28؛ 9: 2، 11). واسند هذا الإعلان بانتصاراته على إبليس (4: 33- 37، 41؛ 6: 18؛ 7: 21؛ 8: 2، 12- 13، 26- 39؛ 9: 38- 43) وبمعجزاته (4: 38- 40؛ 5: 4- 7، 12- 26؛ 6: 6- 11، 18- 19؛ 7: 1- 7، 21؛ 8: 2، 22- 25، 40- 56؛ 9: 11- 17). إنه يستقبل الخطأة ويدعوهم إلى التوبة (5: 20- 29- 32؛ 7: 36- 50). يجمع حوله تلاميذ (5: 1- 11، 27؛ 6: 13- 16)، ويضمّهم إليه في رسالته (8: 1- 3؛ 9: 1- 6).
في هذا النشاط يكشف يسوع بشكل خاص سرّه. أولاً: مهمّته كنبيّ (4: 18- 19، 24- 28؛ 17: 16، 39؛ 9: 8- 19). ثانياً: لقبه كابن الإنسان في وضعه الحاضر مع سلطته وفقره (5: 24؛ 6: 22؛ 7: 34) كما في ألمه ومجده المقبل (9: 22، 26، 44). ثالثاً: لقباه كمسيح بطرس في 9: 20) وابن الله (أعطاه إياه الآب في 3: 22. أقرّ به إبليس والشياطين في 4: 3، 9، 41، 8: 28. كشفه الآب للتلاميذ في 9: 35). ويتدرّج هذا الوحي حتى نهاية هذه الحقبة التي تجد جديدها في إعلان موت وقيامة ابن الإنسان (22: 31، 44. هنا نسبَ لوقا إلى يسوع لقب "عبد الله" المختار في 9: 35 ولم يعطه إياه في العماد مثل مت 3: 17؛ مر 1: 11).
وهكذا جعل لوقا من القسم الأول من رسالة يسوع زمن اعلان لسرّ يسوع لإسرائيل. أما القسمان الآخران فيتحدّثان عن تتمّة هذا السّر.
د- صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51- 19: 27)
يشكّل هذا القسم عنصراً أصيلاً في الإنجيل الثالث، بسبب الأهمية الكبرى التي اتخذها. لا شكّ في أن لا 19- 20 ومر 10 يتحدّثان أيضاً عن صعود يسوع إلى أورشليم. ولكن ما دونّاه هو أقصر بكثير ممّا في الفصول اللوقاوية العشرة، ويقابل لو 18: 15- 19: 28. ثم إن مدلول ما كتباه أضعف مما عند لوقا، مع أنهما عبرّا عنه في مت 16: 21؛ 20: 18- 19؛ مر 18: 33- 34. إستقرض لوقا مواده من مراجع مختلفة، ولكن يده ظاهرة في كل مقطوعة والتحامها بما سبق، في الإشارات المتعدّدة إلى هذا السفر.
ما يحدّد هذا القسم هو مضمونه، وآيتان لوقاويتان تشكلان الفاتحة الاحتفالية (19: 51) والخاتمة (19: 28) التي تستعيد البداية: "ولما قال هذا ذهب في الأمام، صاعداً إلى أورشليم".
طوبوغرافية هذه السفرة غامضة جداً. كرّر لوقا مراراً أن يسوع "يمضي إلى أورشليم، (9: 51، 53؛ 13: 22- 33؛ 17: 11؛ 18: 31؛ 19: 11- 28). ولكنه يكتفي أن يشير إلى السفر (9: 57؛ 10: 38؛ 14: 25؛ 18: 37، 19: 1). كما أنه لا يقدّم إلا القليل من المعطيات الجغرافيّة الدقيقة: قرية سامرية (9: 52). "بين السامرة والجليل" (17: 11). أريحا (18: 35: 9: 1) "قرب أورشليم"، (19: 11). إن تفحّصنا مجمل هذه الإشارات الطوبوغرافية في هذا القسم، نكتشف أموراً غير طبيعية: إن "ويلات" يسوع ضد كفرناحوم وبيت صيدا وكورزين تأتي متأخرة (10: 13- 25)، وذلك بعد أن بدأ يسوع مسيرته نحو أورشليم (نقول الشيء عينه عن تهديد هيرودس في 13: 31، وقد جعله لو 3: 1، 23: 6- 7 في الجليل). الكلام الموجّه إلى أورشليم في 13: 34- 35 يأتي قبل الوقت، قبل دخول يسوع إلى المدينة المقدسة (نقول الشيء عينه عن حدث مرتا ومريم في 10: 38- 42، الذي حدّده يوحنا في بيت عنيا. رج يو 11: 1- 32؛ 12: 1- 3. إن لوقا عرف هذه القرية).
إذن، يبدو بناء هذا السفر مصطنعاً. هذا ما لاحظه الشّراح مراراً. ولوقا نفسه شعر بهذا الوضع، كما يدلّ على ذلك 13: 34- 35 (يا أورشليم، يا أورشليم). من الواضح أنه لا يسعى إلى تحديد موقع الأحداث، بل إلى بناء مسيرة دقيقة. أما ما توخّاه، فجمع عناصر إنجيلية في إطار له معناه العميق.
فما هو معنى هذا السفر، هذا الصعود إلى أورشليم؟ نجد الجواب على هذا السؤال في إشارات عديدة قدّمها لوقا في نصّه. الأولى: الفاتحة التي جعلها في بداية السفر (9: 51): سبب انطلاق يسوع إلى أورشليم هو اقتراب زمن اختطافه عن هذا العالم. بعد الإنباءات بالآلام القريبة (9: 22، 31- 44) صارت هذه السفرة مسيرة إلى الموت. وما يثبت هذا التفسير هو المكانة التي تحتلّها في هذا القسم الإنباءات بالآلام.
هناك أولاً نصوص موازية لمرقس ومتّى (18: 31- 34). بالاضافة إلى ذلك، يورد لوقا اضطراب يسوع أمام المعمودية التي سوف يتقبّلها (12: 50)، وإعلان نهايته الأخيرة في أورشليم كما يليق بكل نبيّ (13: 32- 33)، وضرورة الآلام المفروض على ابن الإنسان (17: 25). غير أننا نلاحظ أن لوقا لا يفصل هذه الآلام عن المجد الذي يدخل يسوع فيه (رج 24: 16): وهذا ما يعبرّ عنه حين يذكر الصعود في البداية (9: 51: ارتفاع على الصليب وفي مجد الصعود)، حين يعلن يوم ابن الإنسان (17: 22- 24، 30)، حين يعلن قيامته (18: 33؛ ق مت 20: 19؛ مر 10: 34) في مثل الوجيه الذي جاء ليتولىّ الملك (آ 10، 22، 27).
ولكن هذه النظرة الكرستولوجية لا تستنفد في نظر لوقا كل مدلول السفر. فهو يتضمّن عدّة عناصر تعليميّة: نداء بأن نتخذ قرارنا بالنسبة إلى يسوع وأمام الدينونة الآتية (12: 54- 13: 9؛ 13: 22- 30؛ 14: 15-24؛ 17: 26- 27؛ 19: 11- 27). تعاليم عن حياة التلاميذ الملموسة. هناك توجيهات عن الصلاة (11: 1- 13؛ 18: 1- 8)، عن التجرّد (12: 51- 53؛ 14: 26- 27)، عن المال (12: 13- 30، 14: 28- 33؛ 16: 1 ي؛ 18: 18- 30؛ 19: 1- 10)، عن الشهادة التي نؤدّيها ليسوع (12: 1- 12)، عن السهر إنتظاراً لعودة المعقم (12: 35- 48)... وطوال صعود يسوع هذا نحو الصليب، يشدّد لوقا على دروس يعطيها لتلاميذه في إطار ذهابه. إن هذه الوظيفة التعليميّة ظاهرة جداً في "صعود يسوع إلى أورشليم".
وتبقى لفظة مهمّة وإن كانت موضوع جدال. إن لوقا ربط سفَر يسوع بالسامرة: مرور في قرية سامريّة (9: 52- 56). عبور بين السامرة والجليل (17: 11). لا شكّ في أن مجمل أحداث السفر يجري في المناطق اليهودية حيث نجد الفريسيين والكتبة (11: 37- 12: 1؛ 13: 31؛ 14: 1- 6؛ 15: 2؛ 16: 14؛ 17: 20) ومعلّمي الشريعة (10: 25؛ 14: 45- 52؛ 14: 3)، ومجمعاً علّم فيه يسوع لا أحد السبوت (13: 10). هذا ما شعر به لوقا أيضاً. ولكننا نتساءل عن هدفه حين ذكر "السامرة" في بداية هذا القسم وفي نهايته. قد نكون أمام صورة مسبقة عن رسالة يسوع بين الوثنيين. هذا التفسير يجد سنداً له في الحديث عن رسالة السبعين تلميذاً (أو: 72. حسب المخطوطات عدد الأمم الوثنية هو 70 في العبرية، 72 في السبعينية) التي تفرّد لوقا فأوردها وجعلها في بداية السفر (10: 1- 17: يستعمل لوقا عناصر خطبة وجّهت إلى الرسل: مت 9: 37- 38؛ 10: 7؛ 16: 40؛ مر 6: 8- 11؛ لو 9: 2- 5). إن لهذه الرسالة مدلولين إثنين. الأول: دلّت على أن الرسالة لم تُحصر بالإثني عشر. الثاني: وهكذا نستعدّ لأخبار ترد في أع عن كرازة اسطفانس وفيليبس وبرنابا وبولس وأبلوس.... ولوقا نفسه. إن رقم 70 (أو: 72) هو رقم الأمم الوثنية حسب النظرة اليهودية. إذن، هو يدلّ على أن رسالة التلاميذ تشير مسبقاً إلى الرسالة في الأمم الوثنية بدءاً من السامرة كما قال أع 1: 8. ففي هذا الإنجيل الذي يهتم بشكل خاص بهذه الرسالة، تكون سفرة يعلن فيها يسوع مراراً مجيء الأمم (13: 25- 29؛ 14: 16- 24؛ رج 13: 18- 21)، إنباء بالمهمّة الرسولية.
هـ- يسوع في أورشليم (19: 28- 24: 53)
يتحدّد موقع القسم الثالث من رسالة يسوع في أورشليم. وينقسم ثلاثة أجزاء. يبدأ الجزء الثاني في الأناجيل الثلاثة الإزائية بمطلع الآلام (مت 26: 1؛ مر 14: 1؛ لو 22: 1). وينقلنا الجزء الثالث إلى صباح القيامة (مت 28: 1؛ مر 16: 1؛ لو 24: 1).
أولاً: كرازة يسوع في الهيكل (19: 28- 21: 28)
يبدأ هذا الجزء عند لوقا بوصول يسوع إلى أورشليم (19: 26- 44)، حيث نسمع هتاف الشعب لملك يسوع المسيحاني. وعند لوقا، جمهور التلاميذ هو الذي يهتف ليسوع، وينشد الله من أجل معجزات شاهدها. ويسمّون يسوع "الملك". يبدو هذا المشهد قريباً جداً من تتويج سليمان ملكاً (1 مل 1: 28- 40).
حدّد متّى ومرقس في الهيكل كل القسم التالي حتى الآلام (مت 21: 12- 16، 23؛ مر 11: 11، 15- 18، 27؛ 12: 35، 41) ما عدا الخطبة الاسكاتولوجية التي "أُلقيت" على جبل الزيتون (مت 24: 3؛ مر 13: 3) والليالي التي قضاها يسوع في بيت عنيا (مت 21: 17؛ رج 26: 6؛ مر 11: 11- 12، 19؛ رج 14: 3). أما لوقا فحدّد موقع الأحداث عينها في الهيكل (19: 45؛ 20: 1؛ 21: 1) وزاد عليها أيضاً الخطبة الاسكاتولوجية (21: 1- 5) وحاشيتين عامتين حول تعليم يسوع في الهيكل، في بداية هذا الجزء (19: 47) وفي نهايته (21: 37- 38). أما الليالي فقضاها يسوع على جبل الزيتون (21: 37؛ رج 22: 30). وهكذا دلّ لوقا على أن يسوع لم يترك أورشليم.
واستخلص بعض الشرّاح من هذه المعطيات الطوبوغرافية فرضيّة مبتكرة: حدّد لوقا موقع كل كرازة يسوع هذه في الهيكل معارضة مع أورشليم التي لن يدخلها يسوع إلاّ من أجل حاشه وآلامه (22: 7- 14). وهكذا نكون في خطّ مشهد الباعة المطرودين من الهيكل، وهو مشهد يدلّ فيه يسوع أنه عملَ عملَ الملك فوضع يده على الهيكل. إن لوقا يرى في الهيكل مركز اليهود الديني، وفي أورشليم المركز السياسي حيث يعمل هيرودس وبيلاطس.
غير أن أمام هذه الفرضيّة صعوبات، لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار كل معطيات لوقا. أولاً: نشكّ أن يكون لوقا رأى في مشهد الباعة المطرودين وضع يد يسوع على الهيكل. فلا إشارة إيجابية تدلّ على وضع اليد هذا. ولأن يسوع يعلن دمار هذا المعبد (21: 6؛ رج 13: 35). ثانياً: لا يفصل يسوع الهيكل عن المدينة المقدسة (4: 9؛ أع 21: 20- 30؛ 22: 17- 18). ثالثاً: توجّه القسم الثاني كله من لو نحو أورشليم. فهل يكون 19: 28- 21: 38 وقفة في هذه المسيرة نحو المدينة المقدسة؟! رابعاً: أدخل لوقا في هذا الجزء مقطوعتين عن أورشليم تشكّلان رمزاً مبتكراً جاء به (19: 41- 44؛ 21: 20- 24).
أما المقطوعة الأولى (19: 41- 44) فهي تلي المشهد المسيحاني للشعانين: حين رأى يسوع أورشليم بكى عليها. ولامها لأنها "لم تعرف ما هو لسلامها". وفي قول شبيه بأقوال الأنبياء، أعلن حصار المدينة المقدسة، وقتْلَ ابنائها، ودمارها، "لأنها لم تتعرّف إلى زمن افتقاده لها". هذه الكلمات تدلّ على معنى مجيء يسوع إلى أورشليم. جاء ملكاً مسيحاً، ودعا المدينة لكي تقرّ بملكه. وأعلن رفضها له والدينونة التي تعاقب هذا الرفض.
وفي المقطوعة الثانية (21: 20- 24) التي هي جزء من الخطبة الاسكاتولوجية، إستعاد لوقا أيضاً إعلان هذه الدينونة. سار في خطّ اللوحة الاسكاتولوجية عن الضيق الأخير في مت 24: 15- 22 ومر 13: 14- 20، فصوّر بوضوح حصار المدينة ودمارها (21: 20- 24). إن هذا، بالنسبة إليه، حدث تاريخي يتميّز كل التميّز عن الاسكاتولوجيا في 21: 25- 27 (هناك من يشدّد على الطابع الاسكاتولوجي لدمار أورشليم، لارتباطه بنهاية عمل الله في العالم). يجب أن نرى في هذه المقطوعة عملاً تدوينياً قام به لوقا، منطلقاً من أحداث سنة 70 (مرجع خاصّ به).
مهما يكن من أمر أصل هاتين المقطوعتين، فهما تعطيان مدلولاً مبتكراً عند لوقا لكرازة يسوع في أورشليم. ويشدّد لوقا أيضاً على أهمية هذه الحقبة بواسطة إشارات عامّة (19: 47؛ 20: 1؛ 21: 37- 38) تعطيها مدى أطول من ثلاثة أيام مرقس (1: 12- 20)، أو يومَيْ متّى (21: 18). في هدا الإطار، تتخذ العناصر الهجوميّة التقليديّة التي يستعيدها لوقا في ف 20، كل معناها، فتدلّ على قرار بالهلاك اتخذه رؤساء اليهود (20: 1- 19)، وعلى عداء سافر من قبل مختلف أوساط المعلّمين (21: 20- 47).
وتختم الخطبةُ الاسكاتولوجية هذا الجدال المأساوي بإعلان عن دمار المدينة، وعن افتتاح زمن الوثنيين (21: 20- 24). إن لوقا يرى أن كرازة يسوع في أورشليم تشكّل التنبيه الأخير للمدينة، و"الافتقاد" الذي فيه يتمّ مصيرها المأساوي. وقد يرى في هذه الكرازة التي لا معجزات فيها آية يونان التي أعلنها في 11: 29- 30: إن الآية الوحيدة التي قدّمها النبي إلى نينوى كانت إعلان دمارها (يون 3: 4). وهي الآية عينها يقدّمها يسوع إلى أورشليم حتى الآلام، وقبل أن يعطيها في النهاية آية القيامة.
ثانياً: آلام يسوع (ف 22- 23)
قدّم لوقا في هذا الجزء سلسلة الأحداث عينها التي نجدها في مت 26- 27 ومر 14- 15. ولكنه يبتعد مراراً عن هذين الخبرين، ويزيد عناصر جديدة من عنده. لقد عرف تقليدَ مرقس ومتّى. وحين يبتعد عنه، فهو يفعل ذلك عمداً، لكي يبرز فكرة شخصيّة.
وبين الإشارات التي لها معناها في بناء لوقا، نشير إلى ما يلي:
* أغفل المسح بالطيب في بيت عنيا (مت 26: 6- 13؛ مر 14: 3- 9)، لئلا يكرّر ما قال في 7: 36- 50 (الخاطئة في بيت سمعان الفريسي). وقد قيل: لأن هذا العمل تمّ خارج الهيكل. أو: إنه حدث ذو طابع بشري. أو: لماذا هذا المسح ويسوع لم يمت بعد؟ عندما يموت يمسحونه بالطيب. أسباب عديدة. ولكن مهما يكن من أمر، فهذا المشهد قدّم لمتّى ومرقس إطاراً للحديث عن خيانة يهوذا: هو الشيطان الذي يلهمه (22: 3)، كما سيتدخّل في الآلام (22: 31، 53؛ رج 22: 40- 46).
* قدّم خبر العشاء الأخير عند لوقا (22: 14- 38) بناء مبتكراً جداً. فخبر تأسيس الافخارستيا (آ 15- 20) قريب جداً مما نجد عند بولس (1 كور 11: 23- 25). وقد رتّبه بشكل يبرز التوازي مع الفصح القديم الذي سيتمّ في الملكوت. وتتبعه خطبة طويلة تضمّ عناصر عديدة نجد منها قسماً كبيراً في متى (18: 1؛ 20: 25- 28؛ رج 19: 28) ومرقس (9: 34- 35؛ 10: 42- 45): بجانب الإعلان التقليدي عن الخيانة والنكران (آ 21: 23 ثم آ 33- 34)، تشكّل هذه الخطبة وصيّة يسوع الأخيرة (آ 29) ومقدّمة لخطب يو 14- 17. يدعو يسوع تلاميذه ليخدموا مثله (آ 24: 27). ويعد الاثني عشر بأن يشركهم في ملكه (آ 28- 29). ويعلن دور بطرس في جذور الإيمان الفصحي (آ 12؛ رج 24: 34). ويحدّد زمن الصراع الذي تبدأه الآلام بالنسبة إلى تلاميذه (آ 35- 38: زمن التلاميذ مع يسوع، ماضٍ مثالي لا حرب فيه، وزمن المحنة الذي تدشّنه الآلام). كل شيء يتركز على زمن الكنيسة الذي يبدأ.
* إن تدوين لوقا لـ "لنزاع" في جتسيماني (خبر يبني الجماعة، يقرأه الشهيد تجاه محنته. استعمل فيه لوقا خبراً مستقلاً عن مت ومر) يدلى على الدرس الذي يتضمّنه من أجل التلاميذ (22: 40: صلّوا. لئلاّ تدخلوا في تجربة: 22: 46: صلّوا). إن المعطية الخاصة بلوقا عن ظهور الملاك، تستوحي إشارات مشتركة بين محنة يسوع ومحنة إيليا (آ 43- 45؛ 1 مل 19: 7- 8). لا ننسى القرابة عند لوقا بين يسوع المسيح وإيليا.
* جعل لوقا مثول يسوع أمام السنهدرين يتمّ في الصباح (22: 66- 70) وهكذا اختلف عن مت ومر، آخذاً بمعطية تاريخية. فإن تدوين آ 67- 69 يستعمل مرجعاً مع مت 26: 63- 65 ومر 14: 61- 64. وهكذا يميّز لوقا في هذا المقطع لقب "المسيح" ولقب "ابن الله" كما فعل في 1: 32- 35).
* وكانت زيادات خاصة أخذها لوقا من تقاليد خاصة، لكي يقدّم مواضيعه المحبّبة: إن مثول يسوع أمام هيرودس (23: 6- 12) يقابل مملكة يسوع مع مملكة هذا الملك الصغير على الأرض. وأقوال يسوع لبنات أورشليم (23: 27- 31) تعلن مرة أخرى دمار أورشليم. وصلاة يسوع من أجل صالبيه (32: 34؛ ق أع 7: 60) تدلّ على غفرانه. وحدَث "لصّ اليمين" (23: 40- 43) يقدّم تعليماً عن الارتداد والتوبة ويبرز مُلك يسوع. أجل، إن موضوع مُلك يسوع يشرف عند لوقا على ترتيب آ 37- 43 حيث آ 37 تقابل مت 27: 42، 40 ومر 15: 32، 30. أما آ 38 فتقابل مت 27: 37؛ مر 15: 26.
* إن أقوال يسوع الأخيرة وهتاف قائد المئة في لوقا (آ 46- 47) تختلفان عمّا في مت 27: 46، 50، 54 ومر 15: 43، 37، 39. ومع ذلك، لقد عرف لوقا تقليد مت ومر. يبدو أن لوقا فضّل أن يضع على شفَتي يسوع صلاة الثقة (مز 31: 6) لا تشكي مر 22: 2 الذي لا يفهمه القارئ اليوناني. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تجنَّب أن يجعل قائد المئة يعلن أن يسوع هو ابن الله. فهذا كلام سّري. غير أنه عوّض هذا التبديل حين جعل في بداية الصلاة نداء إلى أبيه (يا أبت، في يديك أستوح روحي). وهكذا تتجاوب آخر كلمات يسوع مع أولى كلماته (2: 49) فتعلن بنوتّه الإلهية.
إذا توقّفنا عند السمات الخاصّة بلوقا في خبر الآلام، نلاحظ أنها تقدّم لنا تعليماً. فالآلام هي هجمة إبليس الأخيرة (22: 3، 31، 53). العشاء السرّي هو تأسيس الفصح الجديد (22: 32، 41- 42، 44؛ 23: 34، 46). وهناك تعليم واضح عن الغفران (22: 32، 51، 23: 23، 34، 40- 43). كل هذا يرينا في يسوع المعلّم الذي يعلّم تلاميذه (22: 34- 38، 40، 46، 51) والنبيّ (23: 27- 31) وإيليا الجديد (22: 43، 45) وعبد يهوه (22: 27، 37) والملك (23: 3، 6- 12، 37- 43) وابن الله (22: 29، 42- 79؛ 23: 34، 46). إن الحاش والآلام في نظر لوقا هي وحي يسوع وتعليمه الأخير.
ثالثاً: قيامة يسوع (ف 24)
بُني ف 24 بناء بسيطاً في ثلاثة أحداث. القبر الفارغ (آ 1- 12. المقطوعة الوحيدة التي نجد ما يوازيها في مت ومر). تلميذا عمّاوس (آ 13- 35). الظهور للأحد عشر (في جزئين: عرفوه في آ 36- 43، حمّلهم البلاغ الفصحى في آ 44- 49). وكلّ هذا ينتهي بخاتمة قصيرة تتحدّث عن الصعود أناشيد شكر التلاميذ في الهيكل حيث بدأ الإنجيل. إن هذه المجموعة الأدبية تشكّل وحدة ثابتة بالعمل والمكان والزمان.
حدّد لوقا مكان الظهورات في أورشليم، واستبعد خروج الأحد عشر من المدينة المقدّسة (آ 48). هذا ما يعارض تقليد الظهورات الجليليّة التي نجدها في سائر الأناجيل (مت 26: 32؛ 28: 7، 16- 20؛ مر 14: 28؛ 16: 7؛ يو 21). عرف لوقا هذا التقليد، ودلّ على معرفته به حين أورد 24: 6 (تذكّرن ما قاله حين كان في الجليل) حيث حوّل معطية مت 28: 7 ومر 16: 7. ولكنه صمت عن هذا الواقع لكي يحافظ على بساطة بناء كتابيه: بنى إنجيله بشكل صعود إلى أورشليم. وسفر الأعمال بشكل انتشار ينطلق من أورشليم (أع 1: 8). مثل هذه الرسمة لا تترك مكاناً للعودة إلى الجليل. وهذا ما يوافق حرية التأليف التي يعرفها كاتب التاريخ في العصور القديمة. وهكذا جاء مؤلّف لوقا متوازياً في جزئيه، فأبرز وحدة حدث الفصح.
وجاءت وحدة الزمان شبيهة بوحدة المكان. فكل الأحداث الواردة تدخل في يوم كامل. هذا في الظاهر. أما في الواقع، فالسلسلة التي تصل إلى الصعود (آ 51) لا يمكنها أن تدخل في إطار 24 ساعة لتقدّم الليل حين وصل التلميذان إلى أورشليم (لا سيّما إذا قرأنا 160 غلوة لا 60 غلوة في 24: 13). ثم إن لوقا يعرف أنه وجد 40 يوماً من الظهورات قبل الصعود ليكون للأحد عشر "براهين عديدة" عن القيامة فيلجون معناها (أع 1: 3). ولكن نظرته لاهوتية لا كرونولوجية. فهو يريد أن يقدّم، شأنه شأن الإنجليين في أخبار الظهور للأحد عشر (مت 28: 16- 20: 19- 23)، في مشهد واحد مجمل الوحي الفصحي، حقيقة جسد القائم من الموت، الإعلان عن سيادته وسلطانه (لهذا جعل الصعود هنا، كما جعل يو 20: 22 الروح القدس يحلّ على الرسل قبل العنصرة)، المهمّة التي سلّمت إلى التلاميذ فجعلت منهم رسلاً. هذا اليوم هو يوم الفصح، وذروته الإنجيل، وخاتمة زمن يسوع (بعد هذا، يأتي زمن الكنيسة).
هذا اليوم هو أيضاً بداية حقبة جديدة، وهذا ما يشدّد عليه لوقا بشكل خاص. لا شكّ في أن جميع الإنجيليين يعرفون أن قيامة يسوع هي نقطة انطلاق المهمّة الرسولية (مت 28: 19- 20؛ مر 16: 15- 20؛ يو 20: 21- 23). ولكن تفرّد لوقا فكرّس كتاباً كاملاً لهذه المهمّة، ففصله عن الإنجيل. وهكذا ميّز زمن يسوع عن زمن الكنيسة. ودلّ على هذا التمييز حين ذكر الصعود مرتين: في نهاية الإنجيل، دلّ على ارتفاع يسوع وجلوسه عن يمين الآب، فاختتم الوحي عن المسيح الربّ. وفي بداية أع، دعا الرسل لكي يقوموا بالمهمّة التي أوكلوا بها.
ولكن إذ ميّز لوقا هاتين الحقبتين في تاريخ الخلاص، شدّد في الوقت عينه على تواصلهما العميق. فكل سمات الرسالة التي يرويها في أع ترتبط بظهور القائم من الموت على الأحد عشر في نهاية الإنجيل (24: 44- 49): إعلان موت المسيح وقيامته كما هو مسجّل في الكتب المقدسة (آ 46: 44- 45؛ رج أع 2: 32- 32؛ 3: 13- 15؛ 14: 10- 11؛ 5: 30- 31؛ 10: 39- 40؛ 13: 28- 30؛ 26: 22- 23). نداء إلى التوبة لغفران الخطايا (آ 47 أ؛ رج أع 2: 38؛ 3: 19؛ 5: 31؛ 10: 43؛ 13: 38- 41؛ 26: 18). الرسالة إلى جميع الأمم انطلاقاً من أورشليم (آ 47 ب؛ رج أع 1: 8؛ 2: 39؛ 3: 25؛ 13: 46- 47؛ 26: 17، 23؛ 28: 28). وظيفة الشهود التي سلّمت إلى رسل يسوع (آ 48؛ رج أع 2: 32؛ 3: 15؛ 5: 32؛ 10: 41؛ 13: 31؛ 22: 15؛ 26: 16). مجيء الروح الذي يتيح لهم بأن يحملوا هذه الشهادة (آ 49؛ رج أع 1: 4؛ 5: 2، 8، 31؛ 5: 32؛ 15: 19).
في نهاية هذا التحليل لبناء لوقا، نستخرج بعض الملاحظات.
* دلّ لوقا على قسمات في إنجيله واضحة، فتفوّق على مت ومر كما على التقليد السابق. وهذا ما نحسّ به بشكل خاص في حقبة يوحنا المعمدان، وصعود يسوع إلى أورشليم.
* تفرّد لوقا ففصل بين الإنجيل وحقبة المهمّة الرسولية. وصوّر هذه الحقبة دالاً على مراحل وصول الرسالة إلى الوثنيين.
* دلّ لوقا على موقع كل قسم بشكل محدّد. يوحنا هو في منطقة الأردن. مهمّة يسوع الأولى هي في أرض يهوديّة. تمّت الظهورات في أورشليم.
* هذه القسمات توافق مراحل وحي المسيح، لهذا صارت أزمنة في تاريخ الخلاص. فبعد أخبار الطفولة التي تقدّم سّر يسوع كلّه، ما زال زمن يوحنا المعمدان ينتمي إلى العهد القديم. وقُسمت رسالة يسوع إلى ثلاث مراحل متعاقبة بواسطة وحي سرّ الفصح. إنتهت المرحلة الأولى مع إعلانه. وشكلت المرحلة الثانية تهيئته. وسارت تتمته على مدى المرحلة الثالثة. أما أع فهو إعلان هذا السّر وتكوين الكنيسة التي وُلدت منه.
2- أسباب هذا البناء في لوقا
لماذا أدخل لوقا هذه التقسيمات في التقليد الإنجيلي؟ هناك أولاً سبب أدبي: إستقى لوقا من الكتّاب اليونان في عصره مقدّمة مع عنوان في رأس الكتاب (1: 1- 4؛ أع 1: 1- 2). ربطَ الخبر بالكرونولوجيا الرسمية في زمانه (3: 1- 3). دوّن خطباً عديدة في أع. وقسمَ كتابه إلى جزئين.
غير أن لوقا لا يريد أن يكون فقط مؤرّخاً دنيوياً. فالأحداث التي يوردها هي أعمال إلهيّة. فهو يتحدّث في مطلع إنجيله "عن أحداث تمّت (المجهول يدلّ على عمل الله. الله أتمّها) بيننا" ويسمّي "خدام الكلمة". ويدلّ على الطابع الإلهي لمؤلّفه حين يعود بشكل واضح أو ضمني إلى الكتب المقدّسة، فيجد فيها إعلاناً للأحداث التي يورد تفسيراً لها. تاريخه هو تاريخ مقدّس. وإن ميّز فيه حقبات، فلأنه اكتشف فيه مراحل متعاقبة في عمل الله.
أ- في الانجيل
ونبدأ مع الإنجيل حيث أسباب هذه القسمة واضحة، ولا تطرح سؤالاً. إذا كان لوقا قد ربط زمن يوحنا المعمدان بالعهد القديم، وفصله عن زمن يسوع، فإن أع يقول لنا السبب: يروي لوقا أن بولس التقى في أفسس بمعمّدين جدد لا يعرفون إلا معمودية يوحنا، ولم يسمعوا أبداً بالروح القدس (أع 18: 25؛ 19: 2- 3). وهكذا بيّن لوقا أن الخلاص لا يتمّ إلا بيسوع المسيح. إذن، ربط يوحنا بالحقبة السابقة، زمنَ العهد القديم.
وهناك سببان لقسمة رسالة يسوع إلى ثلاث مراحل: أراد أن يبيّن أن وحي يسوع كفه يتركّز على سرّ موت المسيح الذي أعلن، هيّيء، تمّ. كما ربط تتمة هذا السرّ بأورشليم التي هي مركز الوحي القديم ونقطة انطلاق الوحي الجديد. من هنا قسمة إنجيله حسب المكان في، "اليهودية"، في السفر، في أورشليم.
ب- بين الإنجيل والأعمال
وهناك قسمة بين الإنجيل والأعمال. بين زمن يسوع وزمن الكنيسة. ما هو سبب هذه القسمة؟
أولأ: تأخّر المجيء
إن تأخّر المجيء قاد لوقا لكي يميّز بين زمن الكنيسة وزمن المسيح. فالكنيسة الأولى انتظرت عودة ربّها بعد مهلة قصيرة، ولم تميّز زمن الفصح عن زمن الملكوت الاسكاتولوجي. وبما أن هذه العودة لم تتمّ، تصوّر لوقا زمن الكنيسة كشكل جديد لحضور يسوع الظافر لدى أخصّائه.
لا شك في أن لوقا احتفظ بالإنباءات الاسكاتولوجية التقليدية، وانتزع اللون الاسكاتولوجي عن بعضها. هنا نذكر دمار أورشليم في الخطبة الاسكاتولوجية (21: 20- 24) حيث يحُلّ لوقا محلّ قول اسكاتولوجي الإنباءَ بحدث تاريخي لاحظ أنه قد تمّ (سنة 70 ب. م.). ونجد حالة مشابهة في جواب يسوع إلى السنهدرين (22: 69) حيث يعلن لوقا ارتفاع يسوع الفصحي لا عودته كديّان اسكاتولوجي (مت 26: 64؛ مر 14: 62؛ رج لو 9: 27؛ ق مر 9: 1 الذي يعلن عودة منظورة. أما لوقا فيتحدّث عن وعد بملكوت منظور في الكنيسة بالايمان). إن نزع اللون الاسكاتولوجي عن توجيهات حوله حياة التلاميذ واضح في لوقا الذي يطبّق على حياة المؤمنين اليوميّة اقوالاً ارتبطت بالضيق الاسكاتولوجي (8: 11- 15؛ 9: 23؛ 12: 52).
ولكن هل تُعتبر هذه التفاسير تشككاً من قبل لوقا تجاه تأخّر عودة مجيء الرب؟ هنا يبدأ الجدال. فإن لوقا احتفظ بأقوال عديدة عن اقتراب الدينونة (18: 8، خاص بلوقا، 21: 32). وتعلّق بتعليم يسوع التقليدي عن الساعة (12: 35- 40؛ 17: 22- 37؛ 21: 34- 36). ثم نقول إن تأخر المجيء لم يكن خاصاً بلوقا، بل سبق لوقا. كما أن هناك أموراً أخرى غير تأخّر عودة الرب جعلت لوقا يعي الواقع الجديد لزمن الكنيسة.
ثانياً: عطيّة الروح القدس للتلاميذ
إن أول جديد في زمن الكنيسة هو عطية الروح القدس للتلاميذ. لا شكّ في أن لوقا دلّ في إنجيل الطفولة على أشخاص ألهمهم الروح القدس. إمتلأ يوحنا المعمدان من الروح القدس وهو في بطن أمه (1: 15- 41). وألهم الروح القدس اليصابات فباركت مريم (1: 41- 45)، وزكريا فأنشد "مبارك الرب الاله" (1: 67)، وسمعان الشيخ فتقبّل يسوع بين يديه في الهيكل وأعلن: "الآن تطلق عبدك بسلام" (2: 25- 35). ولكن في نظر لوقا، كل هؤلاء الاشخاص ينتمون إلى العهد القديم الذي ينتهي مع يوحنا المعمدان (16: 16)، وينالون الروح كما ناله الانبياء في الماضي (لا يقول لوقا إن مريم ألهمت فانشدت "تعظم نفسي الرب". لقد نالت الروح بشكل خاص فصارت في العهد الجديد).
وأورد لو علاقات يسوع مع الروح. دلّ مثل مت 1: 18- 20 أنه حُبل بيسوع من الروح القدس (1: 35). وكما في مت 3: 16؛ 4: 1؛ وكما في مر 1: 10- 20، رأى يسوع ينال ملء الروح في المعمودية (3: 22؛ 4: 1). ولكنه اختلف عنهما فلاحظ أن يسوع لم يخضع للروح القدس (4: 1؛ ق مت 4: 1؛ مر 1: 12). شدّد بالأحرى على عمل الروح في يسوع (4: 14، 18؛ 10: 21). ولاحظ وحده أن يسوع يرسل الروح (24: 49؛ رج أع 2: 33).
إن إرسال الروح بيد يسوع على التلاميذ، يشكّل بالنسبة إلى لوقا الحدث الأول في زمن الكنيسة. أعلنه يسوع ساعة انطلاقه (24: 49؛ أع 1: 4- 5). أتمّ وعده يوم العنصرة. ومنذ ذلك الوقت صار الروح في الكنيسة واقعاً ملموساً وحاضراً على الدوام (يذكر لوقا الروح 55 مرة في أع). أعطي الروح للاثني عشر لكي يكرزوا بالكلمة (أع 2: 4، 14؛ 4: 31). ليشهدوا ليسوع (4: 8، 5: 32). أرسل لكي يقود نشاطهم (5: 3، 9؛ 10: 11- 29؛ 11: 12؛ 20: 28). أعطي الروح للكارزين والمرسلين من أجل المهمّات عينها (6: 10؛ 7: 55؛ 8: 29، 39؛ 13: 4- 9؛ 16: 6- 7). إنه يلهم الأنبياء (11: 28؛ 21: 4- 11). ويُعطى بشكل خاص للمؤمنين ليكوّن الشعب المسيحاوي الذي أعلنه الأنبياء (20: 28؛ 6: 3، 5؛ 8: 15- 17؛ 9: 17، 31؛ 10: 44- 47؛ 13: 52؛ 19: 6).
قبل لوقا، وعد التقليدُ الإنجيلي بعطية الروح للتلاميذ في اعلانات يوحنا المعمدان (3: 16؛ مر 1: 8؛ مت 3: 11)، وفي تشجيع يسوع لشهوده أمام المحاكم (12: 12؛ مر 13: 11؛ مت 10: 29). غير أن لوقا زاد في إنجيله أموراً أخرى على هذه المواعيد: جعل من عطية الروح أفضل خير نناله في الصلاة (11: 13، يختلف عن مت 7: 11). طبّق على الشهادة الرسولية القول المتعلّق بالتجديف على الروح القدس (جعل 12: 10 قبل 12: 11- 12 في إطار اعتراف). جعل الوعد بالروح آخر كلمات البلاغ الفصحي (24: 49).
إن لوقا يرى أن عطية الروح للكنيسة واقع لاحظه فلفت نظره. رأى فيه علامة تدخّل الله في الكرازة الإنجيلية، علامة عمل يسوع القائم من الموت في كنيسته. هذه العلامة تضمّ في نظره زمن الكنيسة إلى زمن المسيح وزمن الأنبياء، وتميّز هذه الحقبات الثلاث لأن عمل الروح يختلف بين حقبة وأخرى (الالهام للنبي، الملء ليسوع، المواهب في الكنيسة). وهكذا نجد اساساً متيناً لنرى في اختبار لوقا للروح، أحد الينابيع الهامة لكي يقسم تاريخ الخلاص كما فعل.
ثالثاً: الكرازة الرسولية
وهناك واقع آخر تلا عطيّة الروح وجعل لوقا يتصوّر زمناً خاصاً بالكنيسة. هو الكرازة الرسولية التي نراها مراراً وتكراراً في مؤلّف لوقا (لو+ أع).
خلال مهمة يسوع العلنيّة، كان نشاط الاثني عشر محدوداً. فالأناجيل تتفق على هذا الرأي في انطلاقتها من التقليد الذي لا يقدِّم لها إلا معطيات ضئيلة عن رسالة الاثني عشر في الجليل (9: 1- 6، 10؛ مر 3: 14- 15؛ 6: 7- 13، 30؛ مت 10: 1). إحتاج التلاميذ إلى بعض الوقت لكي يلجوا تعليم معلّمهم وسرّ شخصه. واحتاجوا خصوصاً إلى واقع الفصح، وهم الذين لم يفهموا شيئاً حين أنبأ يسوع ثلاث مرات بآلامه وقيامته (9: 45؛ 18: 33؛ مر 8: 31- 33؛ 9: 32؛ مت 16: 22- 23).
وربطت الأناجيل أيضاً وعي الرسل لمهمتهم ككارزين، بظهور القائم من الموت. في هذا المجال، كان لوقا في التقليد المشترك. ولكن لفتت نظره جدّة هذه الكرازة، فدوّن البلاغ الفصحي (24) 44- 48) في تعابير الكرازة الرسولية. وخصّص أع كله ليعرض هذه الكرازة. أظهر بدايتها في العنصرة وفاعليتها المباشرة في تكوين الجماعة الأولى. وتتبّع انتشارها من أورشليم إلى السامرة وفي العالم الوثني بواسطة بطرس وبولس.
وتبرز لغة لوقا الجديدَ الذي تمثّله الكرازة الرسولية. يسميها أكثر من 20 مرة شهادة: أع 4: 33؛ 22: 18. شهد: 2: 40؛ 8: 25؛ 10: 42؛ 18: 5؛ 20: 21، 24؛ 23: 11؛ 26: 22؛ 28: 23. شاهد، شهود: 1: 8، 22؛ 2: 32؛ 3: 15؛ 5: 32؛ 10: 39، 41؛ 13: 31؛ 22: 15، 20؛ 26: 16. وإذ يتحدّث لو عن الشهادة لتلاميذه، نجد مقطعين من ثلاثة يشيران إلى الرسالة المقبلة (21: 13؛ ق مر 13: 9؛ مت 10: 18؛ لو 24: 14، 48: خاصان بلوقا). أما المقطع الثالث فهو قول جارٍ (9: 5؛ ق مر 6: 11). قبل الفصح، قال لوقا مرة إن الاثني عشر "بشروا" (أنجلوا) خلال مهمة جليلية قصيرة (9: 6). ولكنه يطبّق هذا الفعل 14 مرة على نشاط المرسلين في أع 5: 42؛ 8: 4، 12، 25، 35، 40؛ 11: 20؛ 13: 32؛ 14: 7، 15، 21؛ 15: 35؛ 16: 10؛ 17: 18. ونزيد على هذا لقب "المبشِّر) الذي أعطي لفيليبس (21: 8).
وأخيراً، انتظر لوقا العنصرة ليتحدّث عن "تعليم الرسل" وعمل مشاركيهم (أع 2: 42؛ 5: 28؛ 13: 12؛ 17: 19). ليرينا أياهم يعلّمون (أع 4: 2، 18؛ 5: 21، 25، 28، 42؛ 11: 26؛ 15: 1، 35؛ 18: 11، 25؛ 20: 20؛ 21: 21، 28؛ 28: 31) ويسمّيهم "معلمين" (ديدسكالوس) (13: 1). إن إنجيله لا يطبّق هذه الألفاظ أبداً على التلاميذ عكس مت 5: 10 ومر 6: 39.
هناك سمة تميّز الكرازة الرسولية في أع هي استعمال الكتب المقدسة. أشار لوقا قي أخبار الظهورات الفصحية إلى أن القائم من الموت "فتح أذهان" تلميذي عماوس (24: 25- 27، 32) والأحد عشر ليفهموا الكتب المقدسة (24: 44- 45). قال التقليد حتى الآن إن التلاميذ لم يطبّقوا على يسوع إلاَّ مز 18: 25- 26 ليحتفلوا بدخوله إلى أورشليم (19: 38، مر 11: 9؛ مت 21: 9). في العنصرة برز التأويل الذي سوف يتوسّع في خطب الكرازة.
إن الكرازة الرسولية وتأويلها هما في نظر لوقا واقع جديد يميّز الحقبة التي بدأت مع العنصرة. لهذا تحدّث لوقا عن وجهة خاصة بهذا الزمن، زمن الكنيسة.
رابعاً: الاضطهاد ضد تلاميذ يسوع
لم تتأخّر الكرازة الرسولية، فحرّكت عداوة السلطات اليهودية، وأثارت الاضطهاد ضد تلاميذ يسوع.
هذا ما سبق وأعلنه يسوع في بعض أقواله التي ضمّها التقليد في عدة مجموعات. حالة التلاميذ (مت 16: 24- 27؛ مر 8: 34- 38؛ لو 9: 23؛ مت 10: 16- 39 يتوجّه إلى الرسل. ومر ولو إلى التلاميذ). شجب المضطهدين اليهود (مت 23: 29- 35؛ لو 11: 47- 51). الضيق الاسكاتولوجي (مت 24: 19- 13؛ مر 13: 9- 13؛ لو 21: 12- 19). هذه المجموعات التي تكوّنت في التقليد، تشهد أن الكنيسة الفتيّة عرفت الاضطهاد باكراً على مثال معلّمها.
إحتفظ لوقا بهذا التقليد، ولكنه أضاف عليه إشارات جديدة. روى كيف أن نبوءة يسوع تمّت منذ أيام الكنيسة الأولى: في تدخّل السنهدرين ضد بطرس ويوحنا (أع 4: 1- 31). وضد الاثني عشر (5: 17- 41). ثم في موت اسطفانس (6: 9- 7: 60). ثم في الهجوم على كنيسة أورشليم (8: 1- 3؛ 12: 1). ضد المؤمنين في دمشق (9: 1- 2)، ضد بولس (9: 23، 29)، ضد يعقوب (12: 2)، ضد بطرس (12: 3- 5). إن ذكر الروح الذي يفعل في شهود يسوع أمام المحاكم (أع 4: 8؛ 5: 32؛ 7: 55) يدلّ على تتمّة وعد يسوع في لو 12: 11- 12.
إن هذه الخبرة دعت لوقا في إنجيله إلى التمييز بين هذا الاضطهاد والضيق الاسكاتولوجي. هذا ما لاحظناه في لو 8: 11- 15؛ 9: 23؛ 12: 52. وهذا ما نلمسه في الخطبة الاسكاتولوجية التي تميّز بوضوح زمن النهاية (21: 10- 11، 25- 27) عن زمن الاضطهاد ودمار أورشليم (21: 12- 24). إن يسوع يدعو تلاميذه إلى الثبات (21: 19)، لا إلى الصبر إلى المنتهى كما في مت 10: 22؛ 24: 13؛ مر 10: 13. إن لوقا يرى أن الاضطهاد هو سمة تميّز حقبة الكنيسة التاريخية.
ونجد الطابع التاريخي (لا الطابع الاسكاتولوجي) للاضطهاد عند لوقا، حين لا ينظر إليه كضرورة لا مهرب منها، كضرورة نتحمَّلها بطريقة منفعلة (لا نتحرَّك)، بل يسعى إلى الدفاع عن الكنيسة في مؤلَّفه. هذا ما نشهده في خبر محاكمة يسوع أمام بيلاطس الذي يعلن ثلاث مرات أن هذا المتهم هو بريء (لو 23: 4، 14، 22). ونجد المعاملة عينها لدى الحكام الرومان تجاه تلاميذ يسوع (أع 13: 7- 12؛ 16: 35؛ 18: 14- 15؛ 25: 14- 21، 25- 26؛ 26: 31).
كل هذه الميزات تعطى كامل معناه لكلام يسوع في لو 22: 35- 38. إن واقع الاضطهاد في الكنيسة الفتيّة ساعد لوقا على ادراك الزمن الجديد الذي يلي آلام يسوع.
خامساً: الرسالة لدى الوثنيين
وهناك واقع لوقاوي يميّز زمن الكنيسة عن زمن يسوع هو الرسالة لدى الوثنيين. عرف التقليد الانجيلي منذ البداية إعلان يسوع حول خلاص الوثنيين (13: 28- 29؛ مت 11: 12؛ لو 14: 16- 24؛ مت 22: 1- 10). تحدّث متّى ومرقس عن نشاط يسوع لدى الوثنيين. ومع أنهما عرفا أن مهمة الرسل وسط الأمم لم تبدأ قبل الفصح، فمع ذلك أوردا إنباءات عديدة في هذا المعنى جعلاها على شفتي يسوع (مت 10: 18؛ 24: 14؛ مر 13: 10؛ مت 26: 13؛ مر 14: 9).
أما لوقا فشدّد على أن الرسالة لم تبدأ قبل الفصح. لا شكّ في أنه أورد في إنجيله أقوالاً عن خلاص الوثنيين مثل 13: 28- 29؛ 14: 16- 24. نزيد: قول سمعان الشيخ عن يسوع النور الموحى للوثنيين (2: 32). تتمة أش 40: 3 (مت 2: 3؛ مر 1: 3) حتى آ 5: "كل بشر يرى خلاص الله" (لو 3: 6). إعلان أزمنة الأمم التي بدأت بدمار أورشليم (21: 24). وهناك صور نمطيّة نجدها في 4: 25- 27، ولا صعود يسوع إلى أورشليم عبر السامرة. ولكن هذه كلها انباءات فقط. لقد اختلف لوقا عن متّى ومرقس فلم يورد أي نشاط ليسوع في أرض وثنيّة، كما لم يتحدّث قبل الفصح عن نشاط واضح للتلاميذ وسط الوثنيين (لا نجد في لو ما يقابل مت 10: 18؛ 24: 14؛ مر 13: 10؛ مت 26: 13؛ مر 14: 9).
سوف ننتظر بعد القيامة لنرى يسوع يسلّم إلى شهوده مهمّة إعلان البشارة على جميع الأمم (24: 46- 48). وسيصوّر أع هذه الحقبة الجديدة منذ 1: 8، فيرينا بأي بطء وبأي صعوبات وعى الاثنا عشر مهمّتهم المسكونيّة.
إذا كان لوقا قد ميّز بين زمن الكنيسة وزمن يسوع، فقد وجّهه إلى ذلك خبرةُ أمور جديدة ميّزت كنيسة عصره: حضور الروح، الكرازة الرسولية، الاضطهادات، الرسالة لدى الوثنيين. هذه الأمور المجهولة في زمن يسوع، هي ميزات تحدّد واقع الكنيسة التي تنتظم وتنمو في الزمن. حين كان يسوع حياً، لم يختبر شهوده هذه الاختبارات، فلم يروا المستقبل الذي لم يتحرّر بالنسبة إليهم من النظرة الاسكاتولوجية.
غير أن لوقا رأى هذا الزمن الجديد كامتداد طبيعي لزمن يسوع. فيسوع قد أعلن وهيّأ هذا الجديد خلال حياته على الأرض. وكانت قيامته نقطة الانطلاق. لقد وجّه كل شيء وهو يحقّقه اليوم كالرب العامل بقدرة روحه. أجل، إن الكنيسة في نظر لوقا هي العمل الذي أراده يسوع.
خاتمة
ماذا يعني قسمة الزمن هذه التي طبعت مؤلَّف لوقا، انجيلا وسفر أعمال؟ أنها تدلّ على نمّو عمل الله في الوحي وعلى تحقيق سرّ الخلاص. فالعهد القديم أعلنه حتى يوحنا، ويسوع كشفه وأتمّه في إسرائيل. وأعلنه الرسل حتى أقاصي الأرض. وهكذا يتحقّق قصد الله في التاريخ على مراحل. وهذا العمل المتدرّج يفجّر مبادرة الله السامية وحكمته المتنوّعة بلا حدّ (أف 3: 10) وقدرته الظافرة.
إن هذه الحقبات المتعاقبة تشكّل لسامعي الانجيل مراحل تربويّه. إنهم يتعرّفون شيئاً فشيئاً إلى وجهات السرّ. ويسمعون أيضاً النداء لكي يشاركوا فيه يوماً بعد يوم بطريق أعمق: بالتوبة والارتداد. بالرسالة. بالاتحاد في سرّ الصليب. بالشهادة للقائم من الموت. بتشييد الكنيسة. وعبر هذه المراحل المتعاقبة يكتشفون يوماً بعد يوم أنهم مسؤولون عن عمل الخلاص.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM