إنجيل يوحنا: كتاب الآيات : الطّيب على قدمي يسوع
 

 

الطّيب على قدمي يسوع
12: 1- 11

دهنت قدمي يسوع ومسحتهما بشعرها، وعبق البيت برائحة الطّيب.
يعطي الراوي تفاصيل عن لعازر (آ 1: 2) ليست ضرورية لقرّاء الإنجيل، وقد عرفوها في الفصل السابق. أما هذا الإهتمام بإعلام القارىء، فهو يعكس استعمال وحدات إنجيلية صغيرة ومستقلة في الليتورجيا.
إذا عدنا إلى الأناجيل الإزائية، وجدنا مشهدَي دهن بالطّيب مختلفين: أولاً، عند متّى (26: 6- 13) وعند مرقس (14: 3- 9)، صبّت إمرأة مجهولة على رأس يسوع طيباً كثير الثمن. كان ذاك في بيت رجل اسمه سمعان الأبرص، في بيت عنيا، قبل موت يسوع ببضعة أيام. ثانياً، يروي لو 7: 36- 50 دهناً آخر بالطّيب على قدمَيْ يسوع. جاءت إمرأة خاطئة إلى الجليل، إلى بيت فريسي اسمه سمعان. مقابل هذا، لا يقول لوقا شيئاً عن الدهن بالطّيب الذي رواه متّى ومرقس ويوحنا، وجعلوه قبل موت يسوع ببضعة أيام. يجب حينئذٍ أن نفترض أن لوقا والإنجيليين الثلاثة الآخرين يوردون حدثين مختلفين قد امتزجا في التقليد الشفهي. بهذه الطريقة تفسَّر التقاربات بين لوقا ويوحنا (الدهن على القدمين).
ولكن يجب أن نتجنّب السعي إلى التوفيق بين التفاصيل كلّها. هناك مثلاً من جعل من سمعان والد لعازر، ويهوذا أخ لعازر!! لماذا؟ لأننا نقرأ في 6: 71: يهوذا بن سمعان. أقحم يوحنا حدث الدهن في إنجيله مستعملاً تفاصيل أخذها من لوقا واستعملها بحرّية، وأعطاها المعنى الروحي بعد أن أعاد قراءتها. لهذا لن نبحث بحشرية لا جدوى منها عن الحدث المادي، بل نصل بسرعة إلى الدرس الذي يقدّمه لنا الإنجيل الرابع في إطار الإستعداد لآلام يسوع.
المقدّمة (آ 1- 2). هي تربط هذا النصّ مع ما سبق: الأشخاص هم: مرتا تخدم، لعازر مع المتّكئين، ومريم. وبالأخص يسوع. يُذكرون هنا. ويُذكر المكان: بيت عنيا. والزمان قريب من حدث إقامة لعازر. ففي 11: 55، نعرف أن الفصح قريب. وفي 12: 1 نقرأ: "قبل الفصح بستة أيام". ويبقى يسوع قلب الخبر ومركزه. ومرتا تصوّر في دورها التقليدي كما في لو 10: 38- 42. أما لعازر فهو "ذلك الذي أقامه يسوع من بين الأموات". يعيد يوحنا السمات التي تتيح للقارىء أن يحدّد موقع هؤلاء الأشخاص تحديداً أفضل.
وتأتي فعلة الدهن بالطّيب (آ 3- 4). أخذت "رطل" طيب. و"الرطل" هنا يساوي 330 غراماً تقريباً. وهناك من يقول: "قارورة طيب" ولا يحدّد الكميّة. مهما يكن من أمر، نحن أمام عطية لا تقدّر، وهي تدلّ على احترام عميق وتقدير عظيم ليسوع. ونحن نستطيع أن نجد ملاحظة كرستولوجية في انتشار الطّيب في كلّ البيت. فإقرار مريم بعظمة يسوع انتقل إلى الجميع: جميع الحاضرين، الجماعة المسيحية في أيام يوحنا، وجميع القرّاء. قد يكون البيت هو الكنيسة التي فيها تلتئم الجماعة المسيحية. وجميع الحاضرين فيها قد تنشّقوا رائحة الرب.
تحدّث مرقس عن دهن الرأس (مر 14: 3 كما نفعل في بعض الإحتفالات) فجاء عمله في تقليد هذا الشرق. مع التشديد على المعنى الروحي بالنسبة إلى الآلام: "طيّبت جسدي" من أجل الدفن. أما يوحنا، فتحدّث عن دهن القدمين ليهيّىء التفسير المتعلّق بالموت. فالتقليد اليهودي يجعل دهن الرجلين يتمّ للموتى لا للأحياء. وهكذا اعتُبر يسوع منذ الآن "ميتاً"، بعد أن أعطى الحياة للعازر.
ما معنى هذه الفعلة التي قامت بها مريم (آ 4- 8)؛ إن قول يسوع حول فعلة هذه المرأة يبرز سرّ كيانه. فأمام الموت الذي يقترب (أعلن الحكم في 11: 53: قرّر الفرّيسيّون على قتل يسوع)، رأى في هذه الفعلة علامة حبّ من قبل هذه المرأة. وقابل بين شخصه وبين الفقراء الذين هم معنا وبيننا كلّ حين. وشدّد على سموّ كلّ إنسان على أية "بضاعة" مادية مهما غلا ثمنها. ولكنه في الوقت عينه أبرز بعضاً من كرامته الخارقة، وهذا ما يسمح بالإفراط في المصروف والبذخ: "الفقراء هم معكم كل حين، وأما أنا فلست على الدوام معكم" (آ 8؛ مت 26: 11؛ مر 14: 7).
وتتقابل نظرتان إلى يسوع: نظرة هذه المرأة ونظرة يهوذا. النظرة الأولى تجعل يسوع فوق كلّ شيء، وتدلّ قبل موت يسوع بقليل على حبّ لا حدود له. والنظرة الثانية تجعل قيمة "البضاعة" التجارية فوق شخص يسوع.
من قال هذا الكلام: "ولِمَ لم يُبع هذا الطّيب"؟ في متّى، التلاميذ هم الذين يغتاظون و"يثورون". في مرقس، بعض التلاميذ فقط استاؤوا في نفوسهم. أما عند يوحنا، فيهوذا وحده يحتجّ، يهوذا الذي كان مزمعاً أن يسلّمه. ويشدّد الإنجيلي الرابع بتفسير لا نجده عند الإزائيين، على تعلّق يهوذا بالمال. "لأنه كان سارقاً".
نلاحظ أن متّى ومرقس يحدّدان موقع خيانة يهوذا حالاً بعد هذا المشهد. فنقرأ في مر 4: 10- 11: "وذهب يهوذا الإسخريوطي، أحد الإثني عشر، إلى عظماء الكهنة، ليسلّمهم يسوع. ففرح هؤلاء بما سمعوا، ووعدوا أن يعطوه فضة، وكان يتحينّ فرصة ليسلّمه" (رج مت 6: 14- 16). كما نلاحظ أنهما يشيران إلى المال الذي سيقبضه يهوذا كثمن للخيانة.
ومريم ترمز هنا إلى التلميذ الحقيقي الذي يقرّ أن يسوع يساوي أكثر من كل ذهب العالم. الذي يستعدّ لأن يتخلّى عن كلّ شيء ليسير وراء المسيح. الذي يعرف أن يجلس عند قدمَي المعلّم "يسمع كلامه" فيختار النصيب الأفضل (لو 10: 39، 42). ويهوذا يبكي، لا لأن يسوع قد مات، بل لأن المال قد صُرف "في غير محلّه"، أو صرف ولم يكن له فيه حصّة. والحزن الذي عرفه الشاب الغني حين فضّل ماله على يسوع (مر 10: 22) سيصبح يأساً في قلب يهوذا.
لا نفسّر هذا الخبر وكأنه تفضيل لشعائر العبادة على الفقراء، كمن يقول: الله يستحق كلّ جمال. ففعلة مريم تشير إلى نقطة واحدة أساسية، ولا معنى لها إلاّ بأن تتوجّه إلى يسوع في كرامته الفريدة.
إن آ 9- 11، تشكل انتقالاً وتدلّ على التناقض بين رؤساء يريدون أن يقتلوا يسوع، وبين يهود آمنوا بيسوع. فيمكن أن يكون يوحنا قد روى الإنشقاق الذي "سبّبه" يسوع، فأشار إلى وضع كنيسته، حيث كان عدد من اليهود يرتدون عن المجمع ويذهبون إلى الكنيسة لأنهم آمنوا بيسوع.
وتنتهي مسيرة لعازر هنا. لقد قرّر رؤساء الكهنة أن "يزيلوه". فالناس "يرتدّون بسببه". نحن هنا أمام تهديد حقيقي، لا نعرف نهايته. فالراوي لا يريد أن يبتعد في خبره عن الشخص الرئيسي الذي هو يسوع. إن آية لعازر قد أتت ثمارها، وأي ثمار. بعضهم آمن. والبعض الآخر ظلّ معاندا ولم يُقبل إلى الإيمان.
قال بولس في رسالته إلى أهل رومة: "شاركناه في موته... حتّى نسلك أيضاً في حياة جديدة. فإذا كنا اتحدنا في موت يشبه موته، فكذلك نتحدّ به في قيامته" (روم 6: 4- 5). ونقرأ في 1 بط 4: 13: "إفرحوا بمقدار ما تشاركون المسيح في آلامه، حتى إذا تجلّى مجده فرحتم متهلّلين". فالإتحاد مع المسيح في موته، هو عربون وبداية حياة مع يسوع. ومقابل هذا، نجد في إنجيل يوحنا بمناسبة الحديث عن لعازر: حين نتّكىء لنأكل مع يسوع، حين نعيش معه، ندلّ على استعدادنا لاتباع الرب حتّى الموت. جمع اليهود لعازر مع يسوع، فكان مصيرهما واحداً وهو تهديد بالقتل. فالمسيحية لا تقود إلى سعادة سريعة. بل هي تقود عادة إلى الصليب والهوان. وبعد هذا يأتي المجد والقيامة.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM