نجيل يوحنا: كتاب الآيات :ماذا نفعل بهذا الرجل

ماذا نفعل بهذا الرجل
11: 45- 57

وآمن به يهود كثيرون ممّن أتوا إلى مريم ورأوا ما فعل.
إن خبر إقامة لعازر يمثّل وحياً عن يسوع. الخبر كله مركّز على يسوع. ففي كل متتالية، هو الوجه المحوري، وهو يكشف كل مرة عن وجهة من هويته.
حين كان في عبر الأردن، فسرّ مسبقاً بكلمته الأحداث، وبيّن أنه سيّد الزمن (حين يحضر لا يعود يعمل ليلُ الموت). واختار أن يمضي إلى ساعته في الوقت المحدّد (انتظر يومين). هو لم يأتِ قبل الوقت (كما ظنّ التلاميذ)، ولا بعد الوقت (كما ظنّت الأختان).
وبعد أن حدّد موقعه كيهودي مزمن تجاه قيامة الموتى، جعل نفسه في قلب الوحي مع عبارة "أنا هو". ونسب إلى نفسه سلطان إعطاء الحياة، وهو خاص بالله. هو لا يحلّ محلّ أبيه. فينبوع سلطانه ليس في ذاته، بل في الآب. وصلاته إلى الآب تثبت أن سلطان إعطاء الحياة يأتيه من الآب، ويؤثّر على العلاقات الحميمة التي تربطه به. وفهمت مرتا وحي يسوع، فاعترفت بيسوع كمسيح وابن الله: فيه يلتقي الرجاء اليهودي والجدّة المسيحية التي تدلّ عليها القيامة.
أمام مرتا بدا يسوع بقدرته الإلهية. وأمام مريم بدا بعواطفه البشرية: إضطرب، دمعت عيناه، رجف، وهو الذي أعلن عن نفسه أنه سيّد الموت. حين رأى يسوع موت لعازر (الذي ينبىء بموته)، حين شاهد علامات الحزن، إنجذب في هذه المظاهر الخاصة بالإنسان الواقف أمام محنة الموت. وهذا الإضطراب يدلّ على أنه يحسّ تجاه الموت بما يحسّ به سائر البشر. نقول في اللغة الكرستولوجية: إنه إنسان. هذا المشهد المؤلم يحيط به مشهدان من النور: نجد قبله كلام الوحي لمريم. وبعده العمل العجائبي الذي يحرّر لعازر من سلطة الموت.
وتدلّ آية إقامة لعازر على يسوع الآتي من الآخرة (عالم الحياة) إلى الإنسان المسجون في القبور. عرّض نفسه للموت، فاستطاع أن ينتزع الإنسان من حدوده القصوى، من الموت. وخرج لعازر، لأن كلمة يسوع أحيته. وما قيل في وحي في 5: 25 لكل الذين يسمعون صوت الله، بدأ يتحقّق هنا في موت لعازر، بانتظار أن يتحقّق في المسيح وفي جميع المسيحيين.
وتأتي آ 44- 45 فتنهي متتالية إقامة لعازر، وتفتح خبر محاكمة يسوع. "آمن به كثير من اليهود... ولكن بعضهم مضى إلى الفريسيين". هذه الخاتمة تبرز ما فعلته الآية. والآية التي صارت خبراً مكتوباً، تابعت طريقها ودعت القرّاء في كل زمان لكي يتّخذوا موقفاً منها. نحن في هذا الخبر وجهاً لوجه مع يسوع حامل الوحي، سيّد الموت والحياة. نقول له كما قال غريغوريوس النازينزي: "بكلمتك رأى النورَ ثلاثة من الأموات: ابن الأمير، ابن الأرملة، ولعازر الذي خرج من القبر بعد أن تفكّك نصف جسده. أعطني أن أكون الرابع".
أمام هذه المعجزة العظيمة، أحسّ اليهود بالخطر. فقالوا: ماذا نفعل بهذا الرجل؟
هناك أولاً ردّة الفعل على المعجزة (آ 45- 46). لقد تعوّدنا أن نرى آيات يسوع تولّد نتائج متضاربة: بعض الذين "جاؤوا ليروا مريم" آمنوا. لم تذكر مرتا. فظنّ بعض الشراح إنه وجد خبر لم يكن فيه إلاّ مريم. بل يجب أن نقول إن شهرة مريم جعلت الإنجيلي يذكرها وكأنه ذكر أختها. آمن البعض. والبعض الآخر، شاهدوا المعجزة ولكنهم لم يذهبوا إلى يسوع، بل إلى خصوم يسوع. لقد جعلوا ثقتهم في الفريسيين لا في يسوع، فشكوا يسوع أمام الفريسيين.
وكان ثانياً إجتماع المجلس الأعلى (آ 47- 53). إعتبر الإنجيلي أنّ عظماء الكهنة والفريسيين دعوا المجلس. في أيام يسوع، كان المجلس يتألّف من الكهنة والشيوخ والكتبة (وان كان عدد من الكتبة جزءاً من الفريسيين). أمّا يوم كتب يوحنا، وبعد الحرب اليهودية (70 ب. م.) فلم يبقَ في الساحة إلاّ الفريسيون: هم يعادون المسيحيين، ويهيمنون على الجماعات اليهودية.
جعل يوحنا هذا الإجتماع يلتئم قبل الفصح ببضعة أسابيع. غير أن الإزائيين لا يذكرونه. لسنا أمام جلسة إحتفالية. ولكن مثل هذا الإجتماع معقول جداً. أشار مت 26: 3- 4 إلى مؤامرة على يسوع: "عندئذ اجتمع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب في دار رئيس الكهنة، المدعو قيافا. وائتمروا أن يلقوا القبض على يسوع بحيلة ويقتلوه".
لا شكّ في انه كانت اجتماعات عديدة للمجلس. وكانت الجلسة الأخيرة التي "تميّزت" بتجاوزات خطيرة على المستوى القانوني. والإتهام المرفوع على يسوع يشير إلى اتهامات رفعت ضدّ يسوع خلال المحاكمة: "يريد أن يدمّر هيكل الله" (مت 26: 61). ولكن الإتهامات تبدو هنا في واقعيّتها ووضوحها.
وكان قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة (آ 49).
ردّد يوحنا ثلاث مرات في إنجيله أن قيافا "كان عظيم الكهنة في تلك السنة" (11: 94، 51؛ 18: 13). اعتبر بعض الشرّاح أن الإنجيلي تأثر بعبادات آسية الصغرى حيث يتبدّل رؤساء الكهنة كل سنة. بهذا عرف رئيس الكهنة يمارس مهمته مدى الحياة. نشير هنا إلى أن "الحاكم كان يتجاوز هذه القاعدة خلال فترات القلاقل". كما نشير إلى أن قيافا كان رئيس كهنة من سنة 18 إلى سنة 36، وأنه عُزل كما عُزل بيلاطس.
إذن، لماذا شدّد يوحنا على الحديث عن قيافا، رئيس الكهنة في تلك السنة؟ ليدلّ على أهمية تلك السنة التي فيها قُتل يسوع. إن إبراز سنة موت يسوع يشكّل نظرة المؤمن إلى سنة الخلاص.
و"تنبّأ" قيافا. إذا قرأنا نبوءته على مستوى أول، نفهم بأي وقاحة كان موت يسوع أسلوباً ليوفّر الموت على الشعب: "يموت رجل واحد ولا تهلك الأمّة كلها" (آ 50). ولست على مستوى آخر، هو مستوى المؤمنين وحدهم، رأى يوحنا والكنيسة في هذه الكلمة، نبوءة لم يعيها قيافا، وهي تتحدّث عن قدرة الخلاص في موت يسوع. والدعابة اليوحناوية تقود الإنجيلي إلى أن يجعل في فم الخصم الرئيسي ليسوع، كلمة لاهوتية وُضعت في فم يسوع في مر 10: 45: "جاء ابن الإنسان ليبذل حياته فدية عن كثيرين". فعلَ رئيسُ الكهنة كما فعل بلعام حين تنبّأ فبارك شعب إسرائيل رغماً عنه. ورئيس الكهنة أظهر بشكل سّري القيمة الخلاصية لموت يسوع.
ومما اكتفى الراوي بأن يوضح كلمة قيافا. بل زاد عليها ملاحظة تبيّن أنه رأى في موت يسوع ينبوع تجمّع أبناء الله في الكنيسة. لمّح بصورة غير مباشرة إلى موضوع شعب الله الملتئم في جماعة في العهد القديم، فتحدّث عن الكنيسة التي هي إسرائيل الجديد. نقرأ في أش 11: 12: "ويرفع الربّ راية في الأمم ليجمع حولها المنفيين من بني إسرائيل (مملكة الشمال) والمشتّتين من بيت يهوذا (مملكة الجنوب) في أربعة أطراف الأرض". وفي إر 23: 3: "وأجمع بقيّة غنمي من جميع الأرض التي طردتها إليها، وأردّها إلى حظائرها فتثمر وتكثر". ونقرأ في يو 11: 51- 52: "إن يسوع سيموت عن الأمّة. وليس عن الأمّة (اليهودية) فقط، بل ليجمع أيضاً في الوحدة، أبناء الله المتفرّقين".
وشدّد يوحنا على التوتّر الدراماتيكي حين تحدّث عن يسوع الذي اعتزل الناس، "فانطلق إلى بقعة قريبة من القفر". يصوّر هذا الإعتزال الجديد بألفاظ قريبة مما في 10: 40- 42: إنطلق (إعتزل)، أقام، مع التلاميذ. خرج يسوع مرة أولى من عزلته، وكأنه يمثّل في الرمز مسيرته عبر الموت والتمجيد. والمرة الثانية تدلّ على تتمة الساعة.
وظلّ يسوع أكثر من أي وقت آخر ذاك الذي "يقسّم"، يفصل الابن عن أبيه... صعد أناس إلى عيد الفصح وطلبوا يسوع (بحثوا عنه). أما رؤساء الكهنة والفريسيون فطلبوا أن يمسكوه. وسيعود يوحنا في ف 12 إلى اهتمام الشعب المتزايد بيسوع، كما إلى العداء المتنامي عليه من قبل الرؤساء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM