قبل أن يكون إبراهيم
8: 48- 59
تاق إبراهيم إلى رؤية يومي، ورأى وفرح.
لم يستطع اليهود أن يتعرّفوا إلى صدق أقوال يسوع. وهذا يدلّ على أنهم لا ينتمون إلى عالم الله.
وهكذا اشتدت المواجهة بين يسوع واليهود. قال يسوع كلاماً قاسياً، فردّوا عليه بأقسى منه. قالوا إن يسوع ممسوس (فيه شيطان). قالوا إنه سامري، أي إنسان انفصل عن شعب الله وخضع لتأثيرات الشّر.
أعلن يسوع نفسه أنه ينتزع الإنسان من الموت. أما اليهود فيريدون أن يدمّروا الحياة. لهذا حاولوا أن يقتلوا يسوع.
ويظهر شخص إبراهيم من جديد، لا كسلطة عليا، بل كصاحب المواعيد التي تتحقّق في المسيح: "قبل أن يكون إبراهيم أنا هو" (آ 58). هذه الفكرة القائلة بأن التاريخ المقدّس يجد كماله في يسوع، نقرأها في مت 13: 17: "إن كثيراً من الأنبياء والصدّيقين اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا". كما نقرأها أيضاً في عب 11: 13: "على الإيمان مات أولئك جميعاً، ولم ينالوا الموعد، بل رأوه من بعيد وحيّوه".
نجد نفوسنا هنا في ذروة وحي يسوع، في آخر يوم من عيد المظال. في آ 12، أكد يسوع، قال: "أنا هو نور العالم". في آ 58، أعلن بصورة مطلقة: "أنا هو" (أي: يهوه، الرب، الكائن). هذا تأكيد واضح عن الوهيمه. وقد فهمه سامعوه، لهذا أرادوا أن يرجموه كمجدّف (لا 24: 16).
وهكذا كان يسوع قد جاء في السرّ (خفية) (7: 10). وها هو يمضي إلى مكان سرّي (توارى عنهم) (8: 59).
نقرأ في آ 50: "أنا لا ابتغي مجدي". فيوحنا يفكّر بمجد الرب الذي رُفع (8: 28). والوحي الذي يقدّمه يسوع عن نفسه: قبل ولادة إبراهيم أنا هو منذ الأزل.
في آ 57، نقرأ: رأيت إبراهيم. ولكن البردية 75 والنصّ السينائي يقول: رآك إبراهيم. نحن لسنا أمام جواب يشير إلى الماضي، بل أمام تهيئة لما سيلي.
تتحدّث آ 56 عن تمجيد إبراهيم، وهذا أمر يعرفه الجميع. فلا يكفي أن نعود إلى تك 17: 17: "فسقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في نفسه: ألإبن مئة سنة يُولد ولد"؟ ولكن الأمور تبدو مختلفة إذا فكّرنا بنصّ سفر اليوبيلات (ذكر في تفسير 7: 1- 13) لنصوّر المحيط الروحي لعيد المظال. فنحن هناك أمام فرح حقيقي أحد به إبراهيم، مؤسّس هذا العيد. فإنه قد رأى في روحه مسبقا زمن المسيح. فسفر اليوبيلات يقول: "هذا هو تاريخ تقسيم أيام الشريعة حسب أحداث السنة، حسب توزيعها أسابيع سنوات ويوبيلات". وإذا عدنا إلى لا 25: 8- 11، نفهم أن أسبوع سنوات يعني سبع سنين. واليوبيل يعني 49 سنة أو السنة الخمسين (السنة التي بعد 7×7). ويسوع لم يدرك هذه الوحدة الزمنية: "لا تزال دون الخمسين" (آ 57). وهكذا فالكاتب لا يشير إشارة دقيقة إلى عمر يسوع، بل إلى يوبيل لم يصل إليه. فكيف له أن يدرك كل اليوبيلات.
حين نقرأ آ 48- 59، نكتشف ما سيعلمنا به الإزائيون في المشهد قبل المحكمة العليا: أكّد يسوع أنه المسيح الحقيقي، وأنه لذلك مستعدّ للذهاب إلى الموت. لهذا، ترك يوحنا خبر محاكمة يسوع ولم يورده في 18: 27- 28. وذروة هذا الوحي نجدها في آخر وأقصر خُطب يسوع الثلاث.
نقرأ الخطبة الأولى في آ 49- 51 (أجاب يسوع: ليس بي شيطان). والخطبة الثانية في آ 54- 56 (أجاب يسوع: إن كنت أمجّد نفسي). والخطبة الثالثة في آ 58: فقال لهم يسوع: "قبل أن يكون إبراهيم، أنا هو". ويبقى الإتهام الأهم الذي وجّهه الخصوم إلى يسوع في آ 53 ج: من تجعل نفسك، من تعتبر نفسك"؟
وسوء التفاهم الذي تتضمّنه أقواله الخصوم (آ 52) يلقي الضوء على مفهوم آ 51: "لن يرى الموت أبداً". ففي الإنسان الذي يؤمن، تنبت حياة لا يستطيع الموت البيولوجي أن يوقف مسيرتها، بل هو يحرّكها ويدفعها إلى الأمام.
وفي آ 52 ب كرّر اليهود بشكل معدّل ما وعد به يسوع (آ 51: من يحفظ كلمتي لن يرى الموت). تحدّث يسوع عن "رأى" (رج لو 2: 26) الموت. فقالوا هم: "ذاق" (رج مت 16: 28) الموت. نحن هنا أمام تبديل في الأسلوب. ولكن "ذوق الموت" يتطلّع بصورة خاصة إلى مسيرة الموت على الأرض، مع الضّيق الذي يرافقه. إن يسوع لا يضع جانباً الموت البيولوجي. ولكنه يُبعد عن المؤمنين به الموتَ الروحي.
كانت كلمة يسوع في آ 51 إحتفالية وروحانية. فحين كرّرها اليهود في آ 52 ب (من يحفظ كلمتي لن يذوق الموت) صارت لا تحمل إلاّ آثار الوجهة الأرضية. ثم تساءلوا مستهزئين: هل يسوع هو أعظم من إبراهيم؟
يرى الفكر البيبلي أن الآباء هم أعلى درجة في الطريق الذي يقود إلى الله. فالله قد كشف عن نفسه أنه "إله إبراهيم واسحق ويعقوب" (خر 3: 6؛ رج يو 4: 12؛ لو 16: 22). فطريق التوراة لا تصعد إلى الله عبر عالم لا مادي، بل تنطلق من القدّيسين إلى الذي هو القدّوس وحده. ويسوع القدّوس يأتي من الآب إلى العالم فيحمل قداسة الآب. ويعود من العالم إلى الله فيحمل معه القدّيسين.
وجاء الإعتراض الأخير من اليهود (آ 57) فهيّأ الطريق للكلمة النهائية التي بدأها يسوع باحتفال فقال: "الحق الحق أقول لكم". أجبر فكشف عن نفسه كشفاً كاملاً. قال: أنا هو. هنا لا نفصل بين هذا الرب الذي هو منذ الأزل، وبين يسوع الذي يحفظ كلمة الآب (آ 55 ج) ولا يطلب مجده أبداً (آ 50، 54).
إن آ 59 تنهي مشهداً في حياة يسوع الدراماتيكية على الأرض. فبعد الشفاء الذي تمّ يوم السبت، قرب بركة بيت حسدا، أراد اليهود أن "يقتلوا" يسوع (5: 16، 18). وخلال عيد المظال، اشتدّ التوتّر. ذهب يسوع بشكل سرّي لأنهم كانوا يبتغون قتله (7: 1). والشعب نفسه خاف أن يجاهر برأيه خوفاً من اليهود (أي: السلطات، 7: 13).
وسأل يسوع: لماذا يريدون أن يقتلوه؟ فأجابوه: أنت تظنّ ذلك (7: 19- 50). ولكن المخططات لتوقيفه جاهزة (7: 25). بل إن الجموع تحاول الإمساك به (7: 30). أما شرطة الهيكل فلا تتجاسر أن تمدّ إليه يداً (7: 32، 46). وحاول الشعب مرة أخرى أن يعتقله، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل (7: 55). وكشف يسوع بنفسه مرة أخرى أهداف القتل التي يخفيها أولئك الذين يزعمون أنهم أبناء إبراهيم (8: 37، 40).
حينئذٍ، وللمرة الأولى، تناول خصومه "حجارة" ليرجموه (8: 59). لفظة "حجر" مهمة. لأن الرجم هو عقاب المجدّف (رج لا 24: 16؛ أع 7: 58- 59). إن الإزائيين بيّنوا توسّعاً دراماتيكياً يقودنا إلى الآلام، فاستعملوا لذلك الوسيلة التالية: جعلوا يسوع ينبىء بآلامه ثلاث مرّات (مر 8: 31 وز؛ 9: 31 وز؛ 10: 34- 35 وز) وصوّروا مسيرة يسوع الصاعدة إلى أورشليم (لو 9: 51؛ 13: 33). ويصوّر لنا سفر الأعمال (20: 38؛ 21: 13) بولس صاعداً إلى أورشليم مقتدياً بالرب يسوع.
أما يوحنا فلا يشير إلاّ لماماً إلى التبدّل في تصرّفات يسوع. ما ينمو ويكبر هو بغض قوى الظلمة للنور الذي يسطع في الوقت عينه ويبدو كل يوم أكثر نقاوة. وفي داخل هذا الإطار الدراماتيكي، تشكل آ 59 رباطاً مع المشهد اللاحق، وهو شفاء الأعمى منذ مولده.
وفي 10: 31، سيأخذ اليهود مرة أخرى حجارة ليرجموا يسوع بسبب تجديفه (10: 33، 36:). وفي 10: 39، نجد محاولة لتوقيفه، ولكنها تفشل. ولاحظ التلاميذ هم أيضاً على شاطىء الأردن أن اليهود أرادوا أن "يرجموا" معلّمهم في أورشليم (11: 8). وفي النهاية سيؤخذ القرار الحاسم في 11: 50: يجب أن يموت إنسان فلا يهلك الشعب كلّه.
هنا نتوقف عند الإسم الالهي: "أنا هو".
في سفر الخروج، كشف الله للبشر عن إسم سرّي يريد أن يعرفه به الناس ويكرّموه: "أنا هو الذي هو" (خر 3: 14). عبارة ملغزة تكوّنت إنطلاقاً من الفعل العبري "هيا" (هوا في السريانية) الذي يقابله في العربية الضمير "هو". هكذا سيصير في فم موسى: "هو" إله آبائكم... (خر 3: 15).
ونجد عند الأنبياء عبارة: أنا يهوه، أنا الرب أو أنا هو الرب. نقرأ في حز 13: 14: "وتسقط المدينة فتعلمون أني أنا هو". وفي أش 41: 4: "أنا يهوه (الرب). أنا الأول والآخر" (رج حز 13: 21، 23؛ أش 41: 13؛ 42: 6، 8). كما نجد "أنا هو"حسب اليونانية في تث 32: 39: "أنظروا الآن. أنا هو" (رج أش 43: 10، 13؛ 52: 6، 12).
نجد عبارة "أنا هو" مراراً في إنجيل يوحنا. يقول يسوع: أنا هو خبز الحياة (6: 35). أنا هو نور العالم (8: 12). أنا هو الراعي الصالح (10: 11). وهناك مقاطع تدل على سرّ الله. حين وصل يسوع إلى التلاميذ قال لهم: "أنا هو، لا تخافوا" (6: 20). هناك معنيان. فالرهبة المقدّسة لدى التلاميذ تشبه خوف الإنسان أمام حضور اللاهوت. وفي 18: 5- 8، قدّم يسوع نفسه للذين جاؤوا يمسكونه. قال: "أنا هو". حينئذٍ سقط خصومه إلى الأرض وكأنهم في حضور الله بالذات.
وهناك أربعة مقاطع واضحة. في 8: 24، قال يسوع لليهود: "إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون بخطاياكم". وقالت: "حين ترفعون ابن الإنسان، تعرفون أني أنا هو" (8: 28). وتجاه وجه إبراهيم العظيم، تجرّأ يسوع فأعلن: "قبل أن يكون إبراهيم، أنا هو" (8: 58). ونقرأ في 13: 19: "قلت لكم هذا منذ الآن، حتّى إذا ما كان تؤمنون أني أنا هو". طالب يسوع باللقب الإلهي، فبدت مطالبته جريئة جداً. وهكذا نفهم مقاومة السلطات اليهودية التي رأت في كلام يسوع اعتداداً لا يُحتمل: كيف يجعل نفسه مساوياً لله؟!
إن المسيحيين الذين علّمتهم قيامة يسوع، ربطوا بين وحي سفر الخروج ويسوع المسيح. فما بدأ في لقاء بين الله وشعبه، إمتدّ في تاريخ إسرائيل، وتمّ في شخص يسوع. إنه الإسم (والإسم هو الشخص في التقليد البيبلي)، إسم الله الذي لا يجاريه إسم. فيه وصل الحضور الذي تدشن في سيناء، إلى نهايته. وهذا الوحي قد تمّ على جبل الجلجلة: حين ترفعون ابن الإنسان تعرفون أني أنا هو" (8: 28).
أمام ف 7- 8 نجد موقفين. أولاً، تأكّدت بشكل واضح هوية يسوع ككائن إلهي تريب من أبيه بحيث يمكنه أن يطالب بلقب "أنا هو" الذي به نقل أشعيا الإسم الالهي يهوه. ثانياً، إن اللهجة الهجومية في الخطبة تدلّ على أن الزمن الذي كتب فيه إنجيل يوحنا انطبع بانفصال عنيف بين مجموعتين، بعلاقات عدوانية بين اليهود والمسيحيين. فالذي يستطيع أن يرى في اليهود أبناء الشيطان يعيش في وقت بدا الصراع على أشدّه بين اليهود والمسيحيين.