إنجيل يوحنا: كتاب الآيات : يسوع المسيح

يسوع المسيح
10: 19- 30

أنتم لا تصدّقون لأنكم لستم من خرافي. أمّا خرافي فتسمع صوتي.
نحن في عيد التجديد، الذي هو آخر الأعياد اليهودية التي يذكرها يوحنا منذ ف 5: السبت (ف 5)، الفصح (ف 6)، المظال (ف 7- 8)، التجديد (10: 22- 39). هذا العيد الأخير يحتفل بانتصار المكابيين على أنطيوخ أبيفانيوس الذي دنّس الهيكل ثلاث سنوات (167- 164 ق. م.) واضعاً قرب مذبح المحرقات تمثال زوش، إله الإلهة لدى الوثنيّين. أنهى يهوذا المكابي هذا التدنيس، فبنى مذبحاً جديداً وكرّس الهيكل المدنّس. وكان عيد التجديد السنوي يتذكّر هذا التكريس الجديد للمذبح والهيكل في شهر كانون الأول، أي بعد عيد المظال بثلاثة أشهر.
هناك اختلاف بين العيد في ف 7- 8 وبين عيد التجديد. ولكن للأحداث نقاطاً مشتركة عديدة. فهي تحصل في الهيكل. ثم إنّ "اليهود" يضغطون الضغط نفسه على يسوع (8: 25- 53). ونجد في 10: 24: أحاط به اليهود، حاصروه وضاعفوا الحصار. نحن في الشتاء. فمن خلال هذا الفصل القارس البارد، هناك قلوب "مجمّدة" كما يقول القديس أغوسطينس. وجاءت التهديدات ضدّ يسوع أكثر وضوحاً بسبب "ادّعائه" بأنه مساوٍ للآب.
كان يسوع قد قال: "أبي يحبني لأني أبذل ذاتي (بالموت)، لكي أسترجعها (بالقيامة). لا يستطيع أحد أن ينتزعها مني، وإنما أنا أبذلها بإختياري. فلي سلطان أن أبذلها ولي سلطان أن أسترجعها أيضاً. تلك هي الوصية التي تلقّيتها من أبي" (10: 17- 18).
وُضعت لفظة "أبي" في البداية والنهاية، فدلّت على أنه ينبوع نشاط يسوع وهدفه كل شيء يأتي منه، والوصية ليست إلاّ التعبير عن الحبّ. ويقدّم الموت في دينامية خاصة بيوحنا، على أنه عمل حرّ واختياري فيه يُتمّ يسوع وصيّة المحبّة لأبيه. فيسوع يبقى السيّد حتى في موته الذي هو اللحظة الذي يجرّد الإنسان فيها من سيادته على حياته. هو السيّد لأنه يتمّ ما طلبه الله في حبّه ليحمل الحياة إلى البشر. وهذه القراءة اللاهوتية لآلام يسوع، تبتعد عن العرض المأساوي الذي نجده في إنجيل مرقس، فيهيّئنا لقراءة خبر آلام يسوع على أنها تتميم اختياري لمشروع الآب.
فأثارت كلمة يسوع الشقاق (آ 19- 21). شقاق بين شهود شفاء الأعمى، بين سامعي المثل حول الراعي الصالح، بين القارئين لهذا التعليم في المستقبل (إذن بيننا). بعضهم سمّى يسوع "شيطاناً" لأن تعليمه مطبوع بطابع الشيطان والجنون (هناك ارتباط بين الإثنين في العالم القديم). والبعض الآخر رأوا في كلامه وفي أعماله علامة الله بالذات.
ويبدأ الجدال بين يسوع واليهود في عيد التجديد (آ 22- 30). فيتركّز المشهد حول سؤال طُرح على يسوع حول هويته المسيحانية: هل هو المسيح حقاً؟ والتعبير قريب ممّا نجد عند الإزائيين بمناسبة محاكمة يسوع أمام المحكمة العليا. "إن كنت أنت المسيح فقله لنا" (لو 22: 67).
ويترابط السؤال في يوحنا بشكل طبيعي مع ما يسبق: هناك كان يسوع قد كشف عن نفسه أنه الراعي. وصورة الراعي تدلّ تقليديًا على المسيح ابن داود. وكما فعل يسوع أمام المحكمة العليا (في الأناجيل الإزائية)، أجاب هنا بفطنة واعتدال، لأن لقب "المسيح" يرتدي في عصره انتظارات متنوّعة مع لون سائد من القدرة العسكرية وانتصار على الأعداء. نلاحظ هنا ان السامرية وحدها حصلت على جواب واضح في هذا الشأن. حدثته عن ذاك الذي يُدعى المسيح. فقال لها يسوع: "أنا هو، أنا المتكلّم معك" (4: 25- 26).
سأله اليهود، فلم يقدّم لهم يسوع جوابًا مباشراً، بل أبرز أعماله ولا سيما شفاء الأعمى. كانت المعجزات تعتبر آيات بها يعرّف المسيح عن نفسه. يمكننا أن نذكر جواب يسوع لمرسلي يوحنا المعمدان: "العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون" (مت 11: 5).
وتستعيد آ 26- 27 موضوع الراعي والقطيع الذي توسّع فيه المثل، وتشدّدان على الخراف "التي أعطاه الأب إياها". فالتعرّف إلى المسيح وتقبّله هما عطيّة من الله. ويترجم يوحنا هنا بأسلوبه الخاص، معطية تقليدية أشار إليها الإزائيون: إذا كان بطرس قد استطاع أن يعترف بيسوع على أنه المسيح، فهذا يعود إلى "الآب الذي في السماوات" (مت 16: 17).
وفي آ 29- 30، يعرض يسوع سرّ علاقته بالآب. فالآب هو سيد القطيع الذي يسلّمه للإبن. نقرأ في هذا السبيل ما قاله يسوع في خطبة خبز الحياة: "كل ما يعطينيه الآب يُقبل إليّ" (6: 37). وفي 17: 6، في الصلاة الكهنوتية، يقول يسوع: "إنهم كانوا لك، وأنت أعطيتهم لي".
إنّ يسوع يجعل نفسه تحت سلطة الآب. وهذا ما أعرب عنه مراراً (5: 19- 30؛ 8: 16- 19). وفي آ 30، يدرك وحيُ يسوع ذروتَه: "أنا والآب واحد". وهكذا راح يسوع بعيداً ليعبرّ عن حياته الحميمة واتحاده مع الآب (5: 30؛ 8: 16). هذه العبارة الجريئة ألهمت مجمع خلقيدونية (عقد سنة 451) ليؤكّد على ألوهية المسيح. أما اليهود التي سمعوها، فقد تشكّكوا، كما هو الحال في كل مرة قال كلاماً مماثلاً (5: 17- 18؛ 8: 58- 59): اعتبروه مجدفاً، وحاولوا أن يرجموه.
نحن هنا في آخر عيد قبل فصح الآلام والموت. والذين يسألون يسوع يسمّيهم الإنجيلي "اليهود" دون أن يعطيهم صفة أخرى (آ 24، 33). فالنقطة الوحيدة المهمة في نظره هي سرّ المسيح. سُئل يسوع فأجاب مرتين، وفي كل مرة (آ 25- 30؛ آ 34- 38) تعمّق فيما قاله من قبل عن علاقاته مع الآب. ونستطيع أن نقرأ آ 24 على الشكل التالي: إذا كان لك مِثْل ما يقوله بعض الناس عنك، فقله لنا بصراحة ووضوح.
ولكن يسوع كان قد تكلّم بأعماله بدون مواربة إلى معاصريه. ثم عبّر عن مسيحانيّته بوضوح أمام الذين يؤمنون. فالسامرية التي انتظرت بثقة المسيح، سمعته يقول لها: "أنا هو، أنا الذي يكلّمك". والأعمى الذي شُفي، والذي استعّد لكي يؤمن بابن الإنسان، سمع يسوع يقدّم له هذا الوحي: "قد رأيتَه وهو الذي يكلّمك" (9: 37). ولكن يسوع لا يستطيع أن يصغي إلى الذين لا يقدرون أن يأخذوا قرار الإيمان، مهما كانت كلمة الوحي واضحة.
إن الذين طرحوا السؤال في آ 24، أرادوا أولاً أن يفهموا البرهان. وبعد هذا، يتّخذون قرارهم بالنسبة إلى الإيمان. لقد نسوا أنه بعد فهم لفرضية اللاهوت، تصبح مستحيلة المخاطرة العجيبة حيث تؤمن الخليقة بالمجهول الذي صار معروفاً. ويؤكّد جواب يسوع في آ 25 أ (قلته لكم ولا تؤمنون) أنه، أمام هذا الموقف الجذري، كل ما عمله وقاله في السابق بدا عديم الجدوى. والسبب نقرأه في آ 26: "لأنكم لستم من خرافي".
وهذا ما يربطنا بموضوع الراعي الصالح. ولكن يسوع يتكلّم للمرة الأولى في آ 27 عن "خرافي"، وهو يميّزها عن تلك التي لا تخصّه. في آ 11، 15، كان يسوع قد تكلّم بشكل عام عن الخراف التي يبذل حياته من أجلها. لا شكّ في أن هناك خرافاً أخرى لم تدخل بعد في الحظيرة الواحدة. ولكنها تخصّ هي أيضاً الراعي. أمّا الآن فهناك خراف تسمع، وأخرى (عبارة متضمّنة) لا تسمع. وكلمة حزقيال تتحقّق في ظهور المسيح: "وأنتم يا غنمي، سأحكم بين ماشية وماشية، بين الكباش والتيوس" (حز 34: 17).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM