أبونا هو الله
8: 41- 47
لو كان الله أباكم لكنتم تحبّونني.
لسنا أمام حرّية سياسية ولا أمام استقلال داخلي يصل إليه الفيلسوف. فالحرية تجاه الكذب والموت هي إمكانية العيش الكامل في الإتحاد مع الآب والإبن. وهذه الحرية التي تُعطى في نهاية الأزمنة هي موهبة ترتبط بالحقيقة (أو الحقّ الذي هو واقع الله بما أنه ملء الحياة الحقّة، ويشرك البشر في هذه الحياة) التي ندركها في يسوع.
لم يكن اليهود أحراراً من الوجهة السياسية. فهم خاضعون لسلطة الرومان. لقد فهموا أنّ يسوع يحدّثهم عن حرية نعيشها في علاقة مع الله. ولكنهم لم يفهموا ان الإمتياز الذي مُنح لنسل إبراهيم لا يكفي لكي يؤمّن لهم هذه الحرية. فالحرية هي وجه من وضع الأبناء الذي يقابل وضع العبيد. فالخطيئة التي هي تجاهل لله وانفصال عنه تحدّد وضع عبودية يخسر فيه الإنسان ذاته. الابن وحده هو من البيت وبالتالي حرّ بحرّية مطلقة لأنه متّحد اتحّاداً كاملاً بالآب.
ونسل إبراهيم ليس واقعاً بيولوجياً أو إجتماعياً (كمن يكون مسيحياً في الهوية). انه يتطلّب توافقاً بين موقف يعيشه المؤمن وموقف يعيشه أبو الآباء. وبشكل عملي، يظهر هذا التوافق حين يتعرّف اليهود إلى مرسل الله. أمّا محاولات قتل يسوع فهي علامة لا تخطىء بأن اليهود هم أبناء إبراهيم بالجسد (باللحم والدم)، لا بالروح. إبراهيم هو نموذج المؤمن، فأين إيمان اليهود الذين يعاصرون يسوع؟
هنا تصبح اللهجة قاسية وهجومية: ليس أباهم هو إبراهيم، بل الشيطان. وتتواجه هنا رؤيتان. من جهة، شدّد اليهود على هويتهم: إنهم أبناء إبراهيم. وعبر أبيهم في الإيمان يشدّدون على هويتهم بأنهم أبناء الله (لنا أب واحد هو الله). ومن جهة ثانية، يرفض يسوع أن يعطيهم هذا اللقب. إنهم لا يستطيعون أن يعتبروا نفوسهم أبناء إله يهدّدون ابنه بالقتل.
هنا يظهر للمرة الأولى الشيطان، وخصم يسوع الخفي. واليهود هم نتيجة عمله. هذا الشيطان سيظهر من جديد خلال الآلام. في 12: 31 قال يسوع: "الآن دينونة هذا العالم. الآن رئيس هذا العالم يُلقى خارجاً). أجل، سيُحكم على الشيطان الذي يعتبر نفسه سيّد "هذا العالم" الذي يقابل العالم الآخر حيث يملك الله. وفي 14: 30 قال يسوع في خطبة العشاء السرّي: "لا أحدّثكم بعد طويلاً، لأن رئيس العالم يأتي. ليس له فيّ شيء". أجل لا علاقة بين يسوع وبين العالم والذي يرئسه. فيسوع هو بلا خطيئة. أما العالم "فسيموت" في خطيئته. لا سلطة لسيّد هذا العالم على يسوع الذي يتمتّع بحرية مطلقة في محبته وطاعته التامة للآب.
وقال يسوع لتلاميذه في 16: 11: "إن رئيس هذا العالم قد دين" وحُكم عليه. إنتصر يسوع في موته، فقهر الشيطان بشكل نهائي ولا سبيل له إلى التأثير على يسوع. وفي 17: 15 طلب يسوع من الآب، لا أن يخرج تلاميذه من العالم (رغم وجود قوى الشرّ والبغض)، "بل أن يحفظهم من الشرّير"، أن يحفظهم من كل شرّ.
حاول اليهود أن يقتلوا يسوع، فبدوا مثل يهوذا فيما بعد، أداة في يد الشرّير: "كان إبليس قد ألقى في قلب يهوذا العزم على تسليمه" (13: 2). "وبعد اللقمة، دخل الشيطان في يهوذا" (13: 27).
يصوّر يوحنا اليهود هنا بشكل قاسٍ: ما يميّزهم هو الخطيئة، الكذب، الموت، العبودية. والذي يتقبّل يسوع يتقبّل حقيقة الله كما تجلّت في يسوع، فيصل إلى الحرية والحياة. فبين تأكيد اليهود في بداية المقطع (آ 41: لنا أب واحد، هو الله)، وفي نهايته (آ 47: لستم من الله) تتوسّع خطبة هجومية تحرمهم من أبوّة إبراهيم. وبشكل جذري، يحدّد موقعهُم في جانب الشّر في خطّ تاريخ البدايات كما نقرأه في تك 2- 3.
نقرأ في آ 44 أ حرفياً: "أنتم من أب الشيطان"، فهل يعني هذا أن للشيطان أباً أو جدّاً؟ كلا. إن هذا المضاف إليه هو تفسيري: أنتم من أب هو الشيطان. هو أبو الكذب أو أبو الكذّابين.
ونقرأ في آ 41 ب: "لم نولد من بغاء" (أو: لسنا أولاد فجور). هذا يعني لسنا أولاداً غير شرعيين. هذا في المعنى المادي. أما في المعنى الرمزي، فالزنى يدلّ على عبادة الأوثان، على خيانة الشعب لربّه. وهكذا طالب اليهود بأصلهم الإلهي، فدعوا الله أباهم ورفضوا أن يكونوا أولاد بغاء أو زنى مثل العمونيين والموآبيين (تك 19: 30- 38). إنهم أولاد الله الحقيقيين. إنهم أولاد الله الشرعيين.
هناك من بيّن انطلاقاً من النصوص التقوية أنّ حوّاء حبلت بقايين بفعل الشيطان. وهكذا يكون خصوم يسوع أبناء هذا القاتل أخاه (تك 4: 8). هنا نلتقي بما نقرأ في رسالة يوحنا الأولى: "من يعمل الخطيئة فهو من إبليس، لأن إبليس يخطأ منذ البدء. ولهذا ظهر ابن الله لينقض أعمال إبليس" (1 يو 3: 8). هناك من هم من الله (يسمّيهم تك 6: 2: أبناء الله)، وهناك من هم أولاد إبليس، وهم يتأثرون بشرّه ويضلّون بضلاله. وتتابع 1 يو 3: 12: "لا نتشبّه بقايين الذي كان من الشرّير فذبح أخاه".
إبليس هو الأب "الروحي" للذين يطلبون حياة يسوع. وإذا كان إبليس قد سمّي "كاذباً" (آ 44 ج)، فالكاتب يلمّح إلى كذب الحيّة في الفردوس الأرضي (تك 3: 4- 5).
في 7: 41- 42، إفترض يوحنا أن قرّاءه يعرفون مولد يسوع في بيت لحم. وهنا في آ 41 ب (لسنا أولاد فجور)، قد نرى هجوماً من اليهود على يسوع الذي يختلف عنهم. وسنقرأ في الأدب اليهودي اللاحق عن يسوع الذي ليس "بابن شرعي". ولكن قبل الفصح كانوا يرون فيه "ابن النجّار" (مت 13: 55؛ رج مر 6: 3).
ونصل إلى لاهوت هذا المقطع الذي لا يشدّد على أبوّة الشيطان، بل على أبوّة الله. والسمات الجوهرية لأبوّة الله، والتي تنتمي كلها إلى مملكة النور، تبرز بشكل لافت على خلفية مظلمة.
يبدأ تسلسل الأفكار الجديدة بحوار صغير. أكّد اليهود أن إبراهيم هو أبوهم. أجاب يسوع: إن كان إبراهيم حقاً أباكم، فلماذا لا تقتدون به (آ 39)؟ فإبراهيم قد أضاف الغرباء الثلاثة (تك 18: 1- 6). سالم ابن أخيه وأعانه في ضيقه (تك 13: 8- 9؛ 14: 14- 16). وتشفّع من أجل أهل سدوم رغم خطيئتهم (تك 18: 17- 33). وكان العالم اليهودي يتحدّث عن "أعمال" إبراهيم فيقولون: كان له "نظرة حنان، ونفس متواضعة، وروح وديعة".
وبغضُ اليهود القاتل ضدّ يسوع الذي يكلّمهم بالخير، يتعارض كل المعارضة مع استعدادات قلب إبراهيم (آ 40). إذن، أبوهم الحقيقي ليس إبراهيم، بل آخر، وهم يعكسون طبيعة ذاك الآخر. وان آ 41 أ (تعملون أعمال أبيكم) ترذل اليهود الذين يبغضون يسوع، حقيقة الله الموحاة، ونسل إبراهيم الحقيقي. هم خارج نسل إبراهيم بقدر ما يبغضون يسوع. ويعتبرون نفوسهم، لا أبناء آدم وإبراهيم فحسب، بل أبناء الله.
كل هذا يهيّىء خطبة يسوع حول الطريقة الشرعية أو اللاشرعية في اعتبار الله أباهم. ففي آ 42- 47، لا يقاطع أحد يسوع في كلامه. فيبدأ بنقطة حاسمة قاطعة: "لو كان الله أباكم" (آ 42 أ). كل من وُلد من الله ولادة روحية، يحبّ كل ما يأتي من الله، ويحبّه كما يأتي من الله.
في آ 42 ج (ما أتيت من عنده، بل هو أرسلني)، يستعمل يسوع الكلمات عينها التي استعملها في أواسط عيد المظال (7: 28)، فيدلّ على انه لا يأتي "من عنده". إنه مرسل ليحمل "بلاغ" الله. إنه كلمة الله.
ونجد في آ 43 جوّاً مأساوياً يسيطر على المشهد: حدّث يسوع معاصريه في فلسطين بلغتهم (أي: الأرامية)، ولكنهم لا يفهمون. إنهم مغلقون على العالم الإلهي، ومنفتحون على كل ما يعارض الله. بل هم يسرّون بما يسرّ الشيطان (آ 44 أ). وهذا التقارب الروحي مع الشيطان سيقودهم في النهاية إلى البغض القاتل لكل خير (آ 44 ب).
وهم يبغضون يسوع وتلاميذه لأنهم يحبّون إخوتهم. وهذا البغض لا يعود إلى زمن المسيح، بل إلى زمن البدايات. فقايين قتل هابيل لأن أعمال هابيل كانت صالحة (1 يو 3: 12). وحين يتكلّم هذا المقطع الإنجيلي عن "الثبات في الحقّ" (آ 44 ب)، فالمقابلة مع 1 يو 3: 10- 16 تدلّ على أنها تعني "محبّة الإخوة" و"الصدق".
ما يأتي من يسوع ومن عمق كيانه يسمّى "كلمة". وهذا ما نقوله أيضاً عن إبليس. فحين نقول انه ينطق "بالكذب"، نفهم حسب الكتاب المقدّس مفهوماً سلبياً واسعاً وسع ضده، أي الحقيقة. فكل لا عدالة هي في النهاية لا صدق ضدّ الضمير. فقبل أن ينطق الإنسان بالكذب ويقترف خطيئة، فهو يغشّ نفسه ويكذب على ذاته.
بعد آ 45، يعيد يسوع أنظارنا من الظلمة إلى النور. يبدأ كلامه فيقول: "أما أنا". ونستطيع أن نكمّل الجملة: أما أنا فلست كذلك. فيسوع يعيش كما ينطق. وأهم لفظة في هذه الآية هي "لأن". "لأني أقول الحق". هذه هي المفارقة التي تقابل اختباراً عاشه أبرار عديدون. "أنتم لا تصدّقوني، لأني أقول الحقّ".
ويرد في آ 46 سؤالان. الأول: من يثبت عليّ خطيئة؟ مثل هذا التحدّي مخيف، ولا يمكن أن يصدر من فم بشر. والجواب: لا أحد يثبت على يسوع خطيئة. فهو كلمة الله الأزلي. والسؤال الثاني: إن كنت أقول الحقّ، فلماذا لا تصدّقوني؟ هذا السؤال مجد جوابه في كلمات الخاتمة، في آ 47: "لأنكم لستم من الله". من كان من الله هو المولود من الله (1: 13) وهو يتقبّل زرع الكلمة الآتي من الله.
إنّ اسم إبليس لا يرد في كتابات قمران، على ما يبدو. هناك كلام عن بليعال (ابن الشرّير)، عن مثطمه (بغض، كراهية). ولكن الناس لا يدعون أولاده. أما الرجال الأشرار فيدعون في قمران "أبناء الظلمة". ولكن يوحنا (ولا الكتب المقدّسة) لم يستعِدْ هذه العبارة، فظلّ أميناً لما في الكتب المقدّسة لا لما في الأدب الاسياني.
غير أنّ يوحنا يعرف أناساً أشراراً سقطوا في سلطة الشيطان الشخصية (13: 27). حين نقابل يوحنا والإزائيين، نلاحظ أنّ يوحنا لم يروِ أي طرد للشياطين، ولكن التأكيدات عن الشيطان في آ 44، تدفعنا إلى أن لا نفسرّ الشرّ فقط بشيء خارج عن الإنسان.