أبونا إبراهيم
8: 31- 40
إن كنتم أبناء إبراهيم فاعملوا أعمال إبراهيم.
في المقطع السابق، قال لنا يوحنا إن يسوع هو من الله. وهو يقول لنا إنه ابن الله.
إذا قرأنا يوحنا كلّه، لا نجد اسم إبراهيم إلاّ في 8: 33- 58. ونجده هنا إحدى عشرة مرّة. هذا ما يوحّد هذا القسم الذي نقسمه إلى ثلاثة مقاطع. الأول، يشرف عليه موضوع الحرية (8: 31- 38). الثاني يقابل بين أبوّة الشيطان وأبوّة الله (8: 39- 47). والثالث: يسوع هو المسيح الحقيقي الذاهب إلى الموت (آ 48- 58).
نقدّم المقطع الأوّل في هذا الفصل (آ 31- 40)، تاركين المقطع الثاني (8: 40- 47) والمقطع الثالث (آ 48- 58) إلى فصلين لاحقين.
أعلن اليهود: "إن أبانا إبراهيم" (آ 39).
ان هذا الذكّر لابوّة إبراهيم، التي نرتبط بها بصورة آلية، قد ندّد بها يوحنا المعمدان ويسوع نفسه في الأناجيل الإزائية. أعلن المعمدان في مت 3: 9 أن "الله يستطيع أن يخرج من هذه الحجارة أبناء لابراهيم". والغني الذي لم يرحم لعازر اعتدّ بنفسه فسمّى إبراهيم أباه (لو 16: 24). وسينبّه يسوع سامعيه بمناسبة شفاء الضابط الروماني فيقول لهم: "كثيرون من الناس سيجيئون من الشرق والمغرب ويجلسون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما من كان لهم الملكوت، فيُطرحون خارجاً في الظلمة" (مت 8: 11- 12).
إن موضوع الحرية والعبودية يرتبط بإبراهيم في غل 3- 4، ومقابلة ابن الأمة وابن الحرة نجده في غل 4: 21- 31. إن يوحنّا يرى أن الحرية الحقيقية هي ميزة تلميذ يسوع الذي يسمع كلامه، الذي يثبت (أميناً) في كلامه.
ويقدّم يوحنا محاوري يسوع بشكل غريب: إنهم "اليهود الذين آمنوا به" (آ 31). بعض الشرّاح رأى في هؤلاء اليهود مسيحيين متهوّدين يحاولون أن يوفّقوا بين تعلّقهم بالإيمان اليهودي وإيمانهم الجديد بيسوع. ولكن كيف نفسّر أن يكون هؤلاء اليهود قد نووا على قتل يسوع (آ 37)؟ من الأفضل أن نرى في أولا محاوري يسوع يهوداً معادين ليسوع. وفي إنجيل يوحنا، طبّق قسم من الخطبة على مسيحيين متهوّدين تردّدوا في إيمانهم بيسوع.
والحرية التي يتحدّث عنها يسوع ليست تحرّراً من نير الشريعة كما عند القديس بولس (غل 5: 1)، بل تحرّراً من الخطيئة (آ 34). والعودة إلى إبراهيم تشدّد لا على الإيمان (كما عند الفدية بولس)، بل على الأعمال الرديئة (قتل يسوع) التي تعارض التعلّق بأبينا إبراهيم.
تستعمل في آ 33 أ (نحن زرع إبراهيم) وآ 37 أ (إنكم زرع إبراهيم) لفظة زرع. إنها تعني الذرية في معنى الجمع لا في المعنى المجازي. هنا تكمن "السخرية" في هاتين الآيتين وفي المقطع اللاحق (آ 39- 44). إذا نظرنا إلى الوجهة البيولوجية، عرفنا أن محاوري يسوع يتحدّرون من إبراهيم. أما من الوجهة الروحية، فليسوا أبناءه.
في آ 38، نجد محاولات مختلفة للتمييز بين "أبي" و"أبيكم"، وللموازاة بين آ 38 أ (اليهود الذين آمنوا به) وآ 38 ب (تكونون تلاميذي). إذا وضعنا علامة الوقف بعد آ 38 ب (تكونون تلاميذي)، يكونا "الأب" هو إبراهيم. ولكن يظهر أن هنا يبدأ التعارض بين الخير والشر (آ 39- 44). ويتعرّف القارىء الواعي في آ 38 أ إلى اتحاد الكلمة بالآب (ق آ 38 أ مع 1: 18)، وفي آ 38 ب إلى علاقة اليهود مع إبليس (آ 44).
إن هذا المقطع (آ 31- 38) يدخل دخولاً عضوياً في الجدال حول يسوع وابراهيم (آ 31- 59)، بحيث لم تنجح كلّ محاولات تبديل موقع الآيات. يمكن أن تكون اقحمت آ 31 أ حول اليهود الذين آمنوا. وآ 37 حول طلب قتل يسوع، أقحمت فيما بعد لكي تزمّن الرباط الأدبي مع آ 30.
حين نقرأ آ 33 أ (ما كنا قط عبيداً لأحد) وما فيها من تضخيم، نتذكّر كبرياء الغيورين التي ظهرت بصورة خاصة خلال صعود قلعة مصعدة (73 ب. م.). ولكن يبقى انه يجب أن يبحث عن تجذّر آ 31- 59 في الكنيسة الأولى خلال جدالها مع العالم اليهودي، في محيط الحجّاج الذين كانوا يملأون أروقة الهيكل وقاعاته في خريف سنة 29.
كان موضوع خطبة يسوع: الحرية (آ 32). فردّ عليه اليهود بكلمة أساسية: إبراهيم (آ 32). وكل خطبة الرب اللاحقة ستدور حول هاتين الفكرتين (آ 34- 38).
قابل يسوع إيمان اليهود المتزعزع (آ 31) مع ما يجب أن يفعل ذاك الذي يريد أن "يثبت" فيه: عليه أن "يثبت" في كلمة يسوع. وعلى كلمة يسوع أن "تثبت" فيه (5: 38). "كلمته" تعني "تعليمه" (2 يو 9) الذي يصل إلى الآخرين بمثل حياته وموته. فكل من يعمل بحسب هذا المثال "يعرف" "الحقّ" لأنه يعمل في الحقّ (3: 21).
"فالحقّ" المذكور في آ 32 ليس بمضمون عقلاني. هذا ما تدلّ إليه نظرة نلقيها على آ 44. فإذا كان العمل المتجرّد الذي نعمله على مثال يسوع الذي هو الحقّ الذي "يحرّرنا"، فهذا يعني أن يسوع نفسه ينجيّنا (آ 36). حين نعرفه ونتعرّف إليه شخصياً، نتعرّف إلى الحقيقة (آ 32) ونحصل بالتالي على الحرية.
بدأ يسوع خطبته بحصر المعنى بالعبارة الاحتفالية: "آمين، آمين، الحقّ، الحقّ" (آ 34). واعتبر أن سامعيه هم أحرار في الخارج ولكنهم عبيد في الداخل (في حياتهم). إنهم مستعبدون لقدرة خارجية فلا يستطيعون أن يتعلّقوا بالحقّ الذي يلتقونه شخصياً. هم في داخل بيت الله (آ 35)، ويسقطون إلى مستوى العبودية.
كما طرد إبراهيم اسماعيل (تك 21: 10) وأعاد اسحق إلى البيت كابن شرعي (غل 4: 30)، هكذا سيُطرد الذين ليسوا أولاد الله الحقيقيين.
نستطيع أن نرى في آ 35 مثلاً أو استعارة: "العبد لا يقيم في البيت على الدوام. أما الابن فيقيم على الدوام". فينتج عن هذا (آ 36) أن التحرير بيد الابن الشرعي يوافق التبني. بعد هذا، لا نستطيع أن نتبيّن الفرق بين الابن الذي يحرّر (آ 36) والحقيقة المحرّرة (آ 32).
كان اليهود قد قالوا شيئين في آ 33: إنهم أبناء إبراهيم، إنهم لم يكونوا يوماً عبيداً لأحد. بيّن لهم يسوع أولاً أنهم خطأة. ولهذا فهم عبيد ولا يحقّ لهم بأن يقيموا في البيت (آ 34- 36). وها هو الآن يتساءل حول وضعهم الحقيقي كأبناء إبراهيم (آ 37). وفي الوقت عينه يدخل فكرة جديدة حول البنوّة.
فالاداة "ولكن" (أو: ومع هذا) هي التي تشكل نقطة الاتصال بين ما سبق وما لحق (أنتم ذرية إبراهيم ولكنكم تريدون قتلي). فإذا ألقينا نظرة إلى آ 39، نفهم كل الفهم ان هذا "لكن" يطرح السؤال: هل نسل إبراهيم بالجسد هم أيضاً ابناؤه بالروح؟ وحين نقرأ آ 37 ج (لأن كلامي لا ينفذ فيكم) ندهش. كنا ننتظر: "لأنكم لستم أبناء ابراهيم الحقيقيين". ولكن كلمات الإنجيل تعبرّ عن أكثر من هذا: إن أبناء إبراهيم الحقيقيين هم أيضاً أبناء الله (آ 41 ب: لنا أب واحد هو الله). إن زرع الكلمة يولّد هذه البنوّة الإلهية (1 بط 1: 23: ولدتم من زرع غير فاسد بكلمة الله الحية). إن كلمة يسوع (الذي هو الكلمة) هي كلمة الله بالذات وهي تحمل شهادتها معها. إن شيئاً بدأ ينمو عند أبناء الله الحقيقيين حين نالوا الكلمة، الابن الوحيد.
لا يستعمل يوحنا إلاّ في هذا المقطع لفظة "حرّر" ولفظة "أحرار". فالحقّ أو الابن هو الذي يحرّر. ماذا يعني كل هذا؟ نحن نفهمه إنطلاقاً من 2 كور 3: 17: "حيث يكون روح الرب هناك تكون الحرية".
فروح الرب الذي هو في جوهره روح الحقّ (14: 17) يولّد الحرية حين يدخل المسيحيون في مشيئة الآب مثل المسيح ومع المسيح وبالتالي في روح المسيح. يدخلون بحرية، كأبناء أحرار فيشاركون في حرية الله التي لا حدود لها.