إنجيل يوحنا: كتاب الآيات : هوية الابن

هوية الابن
8: 21- 30

أنتم من أسفل، وأنا من فوق. أنتم من هذا العالم، وأنا لست من هذا العالم.
إستعاد يسوع كلمة قالها في 7: 34 (حيث أنا ذاهب لا تستطيعون أنتم أن تأتوا). وكان سوء تفاهم أول في 7: 35: "هل سيذهب إلى اليهود المشتتين وسط اليونانيين" (7: 35)؟ ثم سوء تفاهم ثان: "هل سيقتل نفسه" (8: 2)؟
وقابل يسوع بين موطنه (العالم العلوي) وعالمهم (العالم السفلي). فإذا أردنا أن نرافقه، وجب علينا أن نؤمن "أنه هو". وستجبرهم هذه العبارة على طرح السؤال الذي يتجاوز كل سؤال: "من أنت" (آ 25)؟
وجاء جواب يسوع بشكل لغز. قدّم نفسه كالموحي، كحامل الوحي: كما أن الكلمة كان في البدء (1: 1)، فما يقوله يأتي من البدء (8: 25: ما أقوله من البدء). وكل هذا يحيلنا إلى الوحي السامي الذي سيتمّ على الصليب. "حين ترفعون ابن الإنسان، تعرفون أني أنا هو".
بعضهم آمن. بعضهم لم يفهم. فكلام يسوع يولّد "سوء التفاهم". كما تخيّل اليهود أنه سيذهب إلى المنفى (7: 35)، ظنوا الآن أنه سيقتل نفسه (آ 24). فالإنطلاق والموت هما جزء من برنامج يسوع، ولكن كعودة إلى أبيه وتمجيد على الصليب. إنّ التعرّف إلى هوية يسوع يرتبط بارتفاعه على الصليب.
ويرتبط سوء التفاهم أيضاً بالسرّ الذي به يحيط يسوع أباه: لم يفهموا أن من أرسله هو الآب. أمّا القرّاء فيحصلون على هذه المعلومة في تفسير آ 27: "لم يفهموا أنه يكلّمهم عن الآب". ومع ذلك، فما سبق في الإنجيل أوضح العلاقة بين الآب ويسوع. يكفي لذلك أن نقابل بين 5: 19 و5: 30 و8: 28.
نتوقّف بصورة خاصة عند آ 25 ب: ما منذ البدء أقوله لكم. يجب أن نعرف إذا كان يسوع يعطي جواباً حقيقياً، أم يتهرّب من الجواب. فإن تهرّب قرأنا: "لماذا أتكلّم معكم؟ لا فائدة". أمّا إذا أراد يسوع أن يعطي جواباً حقيقياً، يجب أن نقول: منذ البدء، قبل كل شيء أنا هو ما أقوله لكم. يعني: أنا الكلمة.
لا ننسَ أننا لسنا أمام مقابلة (صحفية)، بل أمام عرض للكرستولوجيا المسيحية الأولى بشكل حوار وجدال. ثم، حين يطرح اليهود (عند يوحنا) سؤالاً حقيقياً في مثل هذا الحوار، يأتي جواب حقيقي من يسوع الذي يعمّق المعطيات تعميقاً لاهوتياً. وإذا قرأنا آ 26، نفهمها فهماً أفضل إذا كان يسوع قد قدّم جواباً حقيقياً لمحاوريه.
إنّ عبارة "في البدء" تحمل عند يوحنا ثقلاً لاهوتياً: "في البدء كان الكلمة" (1: 1). "ذاك الذي كان من البدء" (1 يو 1: 1). وهذا ما يقوله بدء (مبدأ) خلق العالم" (رؤ 3: 14).
قام الشرّاح بمحاولات لتبديل موضع النصوص. مثلاً، جعل 8: 21- 29 كله بعد 12: 44- 50. واقترح آخرون بجعل ف 8 كما يلي: 8: 15، 25- 27، 19، 28- 29. كل هذه المحاولات تنبّهنا إلى الأفكار التي تتكرّر، ولكنها تقدّم للمؤولين صعوبات أكبر ممّا نجد في النصّ التقليدي.
نحن نعرف هذا النوع من المجادلات الذي يُبنى حسب رسمة سوء التفاهم. من "آمن به كثيرون" في آ 30؟ هم اليهود (آ 31) الذين بعد هذا بقليل (آ 33) سيعارضون يسوع "ويطلبون قتله" (آ 37). نحسّ أن آ 30 وُضعت هنا من أجل ضرورات التأليف.
كل مرّة يتكلّم يسوع، هناك من يرذله، وهناك من يطلبه بعض الشيء (آ 20 ب). هذه هي النتيجة التي توختها آ 30.
إن كلمات المقدّمة في خطبة يسوع (آ 21) تكرّر بشكل ملحّ أفكاراً قرأناها في 7: 33- 34 (أمضي وتطلبوني ولا تجدوني). ويتبعها في آ 22 سؤال أول يطرحه اليهود (هل يقتل نفسه؟)، وفي آ 25 أ سؤال ثانٍ (من أنت؟). نحن هنا كما في المقطع السابق (8: 12- 20) حيث الأسئلة تساعدنا على فهم النصّ. وحين لا يفهم اليهود يسوع، فهم يدلّوننا، عن طريق المفارقة، على الوجهة التي فيها نطلب الحلّ الحقيقي.
السؤال الأول: إلى أين تمضي؟ ظنّ اليهود أنه سيقتل نفسه (آ 22). أما نحن فنرى يسوع في الطريق الذي يقوده إلى الآب عبر قيامته وارتفاعه. أن "يمضي" (آ 21) يسوع، يعني أن "يُرفع" (آ 28). وفي آ 23- 24، يبزر يسوع ما قاله في آ 21. يشرح: "من أسفل"، "من فوق". يعنيان: "من هذا العالم"، "لا من هذا العالم". ولكنه لا يقول إن "لا من هذا العالم" يعني "من الآخرة".
"فالعالم" هنا هو عالم الضعف البشري والخطيئة. فيسوع وأخصّاؤه (15: 18- 19؛ 17: 14- 16) ليسوا "من هذا العالم"، لأن فيهم شيئاً يأتي من الله، فيهم الحياة الأبدية. والعبارة "مات في الخطيئة" ترد مراراً في العهد القديم خلال الحديث عن وصايا الله. نقرأ مثلاً في حز 3: 19: "إذا أنذرت الخاطىء ولم يتب من خطيئته ومن طريقه الشرير، فهو يموت بسبب إثمه". وفي 18: 24: "إذا ارتدّ البارّ عن برّه (أي: حياته بحسب وصايا الله، بحسب مشيئة الله)، وصنع الإثم ومات فيه، فإنه يموت بسبب إثمه الذي صنعه".
ولكن "الخطيئة" هنا تدلّ على رفض الإيمان بأن ليسوع الحق بأن يقول عن نفسه: "أنا هو" (آ 24 ب). ويسوع يفعل ما يفعل بصفته الحكمة الإلهية الذي يحدّثنا بحياته (8: 12). إنه ذاك الذي يفعل كما يفعل الروح، فيفيض أنهار مياه حيّة (7: 39). والكفر الذي يشجبه يسوع هو قريب ممّا يسمّيه الإزائيون: الخطيئة ضدّ الروح القدس (مر 3: 29).
السؤال الثاني: من أنت؟
تساءل اليهود باحتقار: "من أنت حقاً"؟ وسيسألون فيما بعد: "من تجعل نفسك؟ من تعتبر نفسك" (8: 53)؟ وسيفتح جواب يسوع مجالات جديدة في واقع يسوع إذا ألقينا نظرة مسبقة إلى 8: 58 حيث يقول يسوع: "قبل أن يكون إبراهيم أنا هو". وإلى 8: 31، 43 اللتين تتحدّثان عن "كلمته"، حيث نكتشف أن ما قلناه في آ 25 ب يدخل في توسّع الأفكار.
يُبعد النصّ كل ما يتعلّق بأقل يسوع الأرضي، ويقدّم أمام ناظرينا للمرة الأولى ما سبق سرّ التجسّد. ونلاحظ أن يسوع الأرضي هذا يشارك الإله الذي يكلّم الإنسان في قلبه. والمعلومة التي يعطينا يسوع عن نمسه تشبه تلك التي أعطاها للسامرية: "أنا هو الذي يكلّمك" (4: 26).
إن كلمته "في العالم" (آ 26) تعني للبعض الخلاص، وللآخرين الدينونة والحكم. فالجملة عينها تتضمّن أيضاً هذه الكلمات: "ولكن الذي أرسلني هو حقّ". هذا يعني أن الآب أيضاً هو حقّ. حين نفهم هذه الكلمات على هذا الشكل، فهي تدلّنا إلى أي حدّ اهتمّ الابن بأن لا يتلفّظ بعبارة "أنا هو" راجعاً بها إلى نفسه وحدها. فالملاحظة المتوسّطة (آ 27) تؤكّد أننا أمام مساواة في الطبيعة. وهذه الوحدة بين الآب والابن هي الحقيقة التي لم يعترف بها اليهود ولم يفهموها.
وتستعيد آ 28- 29 من زاوية جديدة الفكرة حول "أنا هو" الإلهي، وفكرة الشركة مع الآب التي لا تستطيع أن تبدّلها عبارة "أنا هو". أمّا اللفظة الأساسية فهي "رفع". هي لا ترد إلاّ ثلاث مرات في إنجيل يوحنا، ومع ذلك فهي تحدّد لاهوت هذا الإنجيل كله.
نقرأ في 3: 14: "كما رفع موسى الحيّة في البرية، كذلك ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان". إن يسوع سيرُفع على الصليب الذي سيصبح موضع وعلامة ارتفاعه في المجد. ونقرأ في 8: 28: "إذا ما رفعتم ابن الإنسان، تعرفون أني أنا هو". وفي 12: 32- 34: "وأنا متى رُفعت عن الأرض اجتذبت إليّ الجميع". قال يسوع هذا ليدلّ على أية ميتة كان مزمعاً أن يموتها. فأجابه الجمع: ولقد علمنا من الناموس أنّ المسيح يثبت إلى الأبد، فكيف تقول أنت: ينبغي أن يرفع ابن الإنسان"؟
يجب أن نعتبر كشيء واحد "إرتفاع" يسوع و"تمجيده". حين رُفع ابن الإنسان على الصليب (آ 28 أ) دلّ على حقه بأن يقول: "أنا هو".
الموت على الصليب مهمّ. ولهذا فهو ارتفاع وهو تمجيد. ونجد الفكرة عينها في أقوال أخرى من هذا المقطع الذي ندرس. أن يكون يسوع "من فوق" (آ 23)، يعني أنه "ليس من هذا العالم". هذه الكلمات تذكّرنا بشهادة المعمدان: "إن الذي أتى من العلاء هو أرفع من الجميع... الذي يأتي من السماء هو أرفع من الجميع" (3: 31). نحن أمام الأصل السماوي ليسوع. ولكن ما تدلّ عليه كلمة الرب هو جوهر آخر يسمّى تسمية مصوّرة: "يأتي من العلاء". ما هو هذا الجوهر؟ هذا ما تدلّ عليه كلمات الختام: "أنا أصنع دوماً ما يرضيه" (آ 29 ج). والنصّ الوحيد الذي يتحدّث عن "العلاء" نجده في كو 3: 1- 2: "لقد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما هو فوق (في العلاء) حيث يقيم المسيح جالساً عن يمين الله. إهتمّوا لما هو فوق، لا لما هو على الأرض".
حين نقرأ نصّ الرسالة إلى كولي، ونتوقّف عند العبارة: "حيث يقيم المسيح جالساً عن يمين الله"، قد نفكّر في السماء مع أن كياننا لا يدرك "العلاء". أما الكلمات التي ندرسها في يوحنا، فهي تبرهن أننا لا نفصل الواحد عن الآخر. فالعلاء الذي يقيم فيه المسيح، هو الموقف الذي يسعى إليه كل مسيحي على خطى المسيح الذي يعمل كل ما يرضي الآب. وهكذا لن يكون المسيحي "أبداً وحده" (آ 29 ب)، بل يكون مع المسيح يجمعهما عمل مشيئة الآب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM