إنجيل يوحنا: كتاب الآيات : آخر أيام العيد


آخر أيام العيد
7: 37- 52

في آخر يوم من العيد، هتف يسوع: "إن عطش أحد فليجيء إليّ ليشرب".
نحن على ما يبدو في اليوم السابع (لا اليوم الثامن) من أيام العيد: كان الكهنة يطوفون سبع مرّات حول المذبح ومعهم مياه جاؤوا بها من بركة سلوام. وقف يسوع كما فعل في آ 28 (رج 12: 44) و"صرخ" بأعلى صوته، فدلّ على عظمة الوحي الذي يعلنه باحتفال.
إذن، هناك وحي عن "أنهار مياه حيّة". ثم ردّة فعل على هذا الوحي. ردّات فعل الجموع المتضاربة (آ 40- 44)، وردّات فعل السلطات التي حكمت على يسوع كما حكمت على عامة الشعب الذين هم ملعونون لأنهم يجهلون الشريعة (آ 45- 52).
ونبدأ في آ 37- 39 مع الحديث عن ماء الحياة. أين نضع علامة الوقف بين آ 37 وآ 38؟ أنضعها بعد "يشرب" أم بعد "من آمن بي"؟ في الحالة الثاني، تعني العبارة أن هذه "الأنهار" تجري من جسد يسوع. حينئذ نقرأ هاتين الآيتين كما يلي: "إن عطش أحد فليجىء إليّ. وليشرب من يؤمن بي. فالكتاب يقول: تفيض من صدره أنهار مياه حيّة". هذا يعني أنّ الإيمان بيسوع يروي ظمأ المؤمن. أما في الحالة الأولى، التي فيها نقرأ آ 38 ككل واحد، فنجعل من المؤمن ينبوع حياة. فتصبح العبارة: "إن عطش أحد، فليجىء إليّ ليشرب. فالذي يؤمن بي، كما يقول الكتاب، تخرج من صدره أنهار مياه حيّة".
إن الطقس الذي يورده النصّ، يوافق الحالة الثانية مع إيقاعها الشعري: إن عطش أحد، فليجىء إليّ. وليشرب من آمن بي. فساعة يمارس طقس رشّ المياه الآتي من سلوام، يقدّم يسوع نفسه كينبوع ماء حيّ، ويدعو المشاركين في الإحتفال إلى الشرب من هذا الماء. وهكذا يستعيد هذا الوحي الإحتفالي أقوال يسوع عند بئر يعقوب (4: 10- 14) وفي كفرناحوم (6: 35).
إن وحي يسوع يتجذّر في الكتب المقدّسة. فإيراد آ 38 لا يقابل أي نص بيبلي محدّد. بل يبدو أن الإنجيلي يستوحي بحرّية عدّة مقاطع بيبلية. مثلاً، يعلن حز 47: 12 أن المياه تخرج من المعبد وتُخصب الصحراء. ويتنبّأ يوء 4: 18 بأن ينبوعاً يتفجّر من بيت الرب فيسقي "وادي شطيم" (سيل يصل إلى البحر الميت). وفي المعنى عينه يرد إلى فكر المؤمن زك 13: 1 (يكون ينبوع مفتوح)؛ 14: 8 (مياه حيّة. يستعمل هذا النصّ في ليتورجية عيد المظال).
لقد سبق ليسوع وقدّم نفسه كالهيكل الجديد (2: 19). ومن الهيكل، هذا المكان المقدّس، سيعلن عن ولادة جديدة بقدرة المياه الخارجة من جنبه (من صدره، 19: 34)، حين تأتي الساعة. وستكون رؤ 22: 17 صدى لهذا الكلام: "من كان عطشاناً فليأتِ. ومن شاء فليأخذ ماء الحياة مجّاناً".
حين يتكلّم يسوع عن "عيد اليهود" (آ 2) فهو يحدّد موقعه بوضوح في زمن الإنفصال بين اليهود والمسيحيين. وحين نقل يسوع رمزية الماء من الهيكل إلى ذاته، فقد دلّ على مجيء زمن جديد. فالمياه ستجري من جسده الذي هو الهيكل الجديد. إنه يشبه الحكمة التي تنادي وترفع صوتها (أم 8: 2- 3) وتقول: "كلوا من خبزي واشربوا من خمري الذي مزجته" (أم 9: 5). إن يسوع يجسّد الحكمة الكاملة التي منها يصدر كل علم ووحي.
حسب لو 23: 17، "آخر يوم من العيد وأعظم أيامه"، ليس اليوم الثامن الذي يحتفلون فيه باجتماع الشعب للعيد، بل اليوم الأخير في الأسبوع، اليوم السابع. ما يميّز هذا اليوم السابع هو أن الكهنة يطوفون حول مذبح المحرقات. وإذ كان التطواف يصعد إلى الهيكل، كانوا ينفخون في الأبواق ليدلّوا الجميع على أنّ كلمة أش 12: 3 قد تمّت: "تستقون الماء بفرح من ينابيع الخلاص".
إن عطش أحد فليأتِ إليّ ويشرب. كلمات سامية وواضحة! فعلى بئر يعقوب، دعا يسوع البشر لكي يأتوا إليه ويطفئوا عطشهم الروحي (4: 14). وفي 6: 35 وعد المؤمنين به بأنهم لا يتألمّون من عطش روحي.
وبجانب آ 37 ومعناها الكرستولوجي، نقرأ أيضاً آ 39 وفيها يفسرّ الإنجيلي كلمات يسوع، فيرجعها إلى الروح الذي "سيقتبله" المؤمنون بيسوع. وهذا سيحصل بعد أن "يتمجّد" يسوع. وبحسب الإنجيل الرابع "سيمجّد" يسوع حين "يُرفع" (في معنيين، على الصليب وفي مجد القيامة) على الصليب. هذا ما يجعلنا نربط آ 39 مع 19: 34 حيث يتحدّث النصّ عن العطايا الروحية في صورة الدم والماء اللذين يجريان من جنب يسوع. ولكننا نستطيع أن نفكّر أيضاًْ بالربّ الفصحي (بعد القيامة) الذي ينفخ على تلاميذه فيعطيهم الروح (20: 22).
لهذا يجب أن نفسّر تفسيراً كرستولوجياً آ 38 المقحمة بين آيتين كرستولوجيّتين. وهكذا نكمّل آ 38 على الشكل التالي: هذا حقيقي (لا عن المزمن)، بل للمؤمن الذي سينال أنهار مياه حيّة تجري من المسيح. ولكن لا ننسَ أن يسوع، خلال خطبته هذه، يقيم في الهيكل وهو "يعلّم" (7: 28؛ 20: 8)، وأنه يتكلّم في 7: 16- 17 بشكل واضح عن "تعليمه". فما هي مياه يسوع الحيّة للمؤمنين بعد الفصح؟ هي بصورة خاصة تعليم الرسل والكنيسة. في خطبة خبز الحياة، شدّد يوحنا على الكلمة، وترك الحدث الأسراري في المرتبة الثانية. إذن، يجب أن نربط عطيّة الروح بالكلمة، بالتعليم الذي نسمعه وننقله (14: 26).
وهناك نصوص من العهد القديم والعالم اليهودي تدعونا لئلاّ نستثني من آ 38 فكرة التقليد الآتي من الرسل. نقرأ مثلاً في سي 24: 33- 34: "أفيض التعليم كالنبوءة... فأنا لا أعمل من أجل نفسي" (رج أش 58: 11- 12). ونقرأ في نصوص البحر الميت: "أعطيته أن يفتح في قلبه ينبوع معرفة لجميع العاقلين". ويقول رابي مئير (150 ب. م.): "الذي يهتم بالشريعة حبّاً بالشريعة، يكرّم ويُعطى عطايا كثيرة. فيصير مثل ينبوع لا ينضب، مثل نهر يقوى شيئاً فشيئاً".
يبدو الربّ كالحكمة المتجددة حين يدعو العطّاش لكي يأتوا إليه، وهو يدعو الجهّال إلى التعليم (أم 9: 4- 5). وتعلن الحكمة في سي 51: 23- 26: "أدنوا مني أيها الجهّال وتتلمذوا لي. لماذا تحسبون نفوسكم مكتفية ساعة تعطش حلوقكم؟ فتحت فمي وتكلّمت. إشتروا كلمتي بدون فضّة واجعلوا نفوسكم تحت النير فتتقبّل نفوسكم التعليم. إنه في قربكم. في متناول يدكم".
هنا نتذكر كلمات يسوع: "تعالوا إليّ أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم وتعلّموا مني" (تتلمذوا لي) (مت 11: 28- 29). إنّ تعليم الربّ الذي يريح ويرطّب هو الحكمة المتجسّدة، يسوع المسيح. وبالحكمة يعطينا الله روحه القدّوس (حك 9: 17).
كيف تقبّل الناسُ كلمات يسوع (آ 40- 44)؟ هل عرفوا فيه المسيح المنتظر؟ بل هم انقسموا تجاهه.
لم يحدّثنا الإنجيل الرابع عن الحبل البتولي بيسوع، عن مولده في بيت لحم. هل جهل هذه الأمور وهو الذي دوِّن متأخّراً؟ كلا ثم كلا. ولكن قرّاءه يعرفون كل هذا، فلماذا تكراره بالطريقة عينها؟ لهذا نراه يتّخذ أسلوب المداعبة، فيجعل خصوم الحكمة الإلهية يلعبون دور الجهّال، دور المجانين. ونحن نقرأ في هذا المقطع ما قرأناه في آ 25- 30. لقد دوّن الإنجيلي تقليدين مختلفين عن حدث تاريخي واحد. فنظر من زاويتين مختلفتين إلى سؤال طرحه الناس، "من أين جاء المسيح"؟
حين نفكّر بالحكمة الإلهية (هي الكلمة عند يوحنا، لوغوس) وبالروح الذي تعطيه (آ 39)، نفهم لماذا عاد الإنجيلي مرّة أخرى إلى السؤال: "من أين"؟
ففي آ 27، يُقابل أصل يسوع المعروف ظاهراً مع المتطلّبة اليهودية التي تفترض بأن أصل المسيح يكون مجهولاً. أمّا الآن، فالأصل الجليلي البارز يتواجه مع رأي المطالبين بمسيح يأتي من بيت داود ويولد في بيت لحم. ولكن تبقى المسألة الحقيقية في كل هذا: ما الذي يقدّمه لنا شخص يسوع؟ حكمة بشرية أم حكمة إلهية. وتجاه هذا السؤال الأساسي، ظهر اليهود بمظهر "مضحك" لأنهم اهتمّوا اهتماماً مفرطاً بأصل يسوع الأرضي. فالشيء الحاسم هو أن نعلم، هل يحقّ ليسوع أن يقول: "أنتم من أسفل، وأنا من فوق" (8: 23)؟
وينتهي المقطع فيذكر النصّ مرّة ثانية تهديداً ليسوع بالموت (آ 44). في النهاية، إن ما يعطي الخلاص ليس الكلام، بل الموت الذي يقود إلى الإرتفاع والتمجيد ليسوع. فلا يجب أن ننسى هذا الهدف (آ 39، 44)، أن ننسى أن "ساعته" ما جاءت بعد وما قالته آ 30 بوضوح (أرادوا أن يمسكوه) يكتمل في ما نقرأه في آ 44: "أراد بعضهم أن يمسكوه، فما مدّ أحد يداً عليه".
تحدّثت نصوص عديدة في العهد القديم عن ابن داود المنتظر. نقرأ في 2 صم 7: 12- 13: "أقمت من نسلك من يخرج من صلبك. وأنا أقرّ عرش ملكه إلى الأبد". وفي أش 11- 10: "يخرج فرع من جذر يسّى". وفي إر 23: 5: "الرب يقيم لداود نبتاً صادقاً".
وهناك نبوءة ميخا (لم يهتم لها العالم اليهودي المتأخّر إلاّ قليلاً): "وأنت يا بيت لحم افراتة، أصغر عشائر يهوذا. منك يخرج ذاك الذي يملك..." (مي 5: 1). لا تتحدّث هذه النبوءة عن موطن المسيح بصورة دقيقة، بل عن منطقة ترتبط بأصل المسيح. ولكن الجانب المسيحي هو الذي أوّل هذا النصّ واعتبره نبوءة عن مولد يسوع في قرية بيت لحم (مت 2: 5- 6). لم يطلب اليهود الذين عاصروا يسوع أن يولد المسيح من "قرية داود" بل هو الإنجيلي أراد أن يلمّح إلى مولد يسوع الحقيقي والفعلي في بيت لحم.
وتُطرح أسئلة عديدة في القسم الأخير (7: 45- 52)، فتدلّ على موقف السلطات من يسوع. ويكون الجواب (رج آ 47، 48، 51، 52): كلا. "أرأيتم واحداً من الرؤساء، أو الفريسيين آمن به"؟ الجواب: كلا. وتنتهي هذه الأسئلة بالحديث عن عامة الشعب، عن شعب الأرض، مع ما في هذه العبارة من احتقار وازدراء.
تتحدّث النصوص اليهودية عن لهجة التكبّر التي تميّز أعضاء المجلس الأعلى حين يتكلّمون عن "هذا الشعب" الذي يستحقّ اللعنة (آ 49). الذي لا يقدر أن يمارس فرائض الطهارة. وهنا لا ننسى معاملة الفريسيين للأعمى ولوالديه: "أنت كلّك مولود في الخطيئة، وتريد أن تعلّمنا" (9: 34)؟
ثم أن طريقة نيقوديمس بجعل الشريعة وكأنها شخص حيّ، تدخل في التقليد اليهودي (آ 51: "أتحكم شريعتنا على أحد"؟ روم 3: 19: "كل ما تقوله الشريعة"). ونظرة الإحتقار إلى الجليل توافق هذه الحقبة التي رافقت دمار الهيكل، وقبل أن يتهجّر المجلس الأعلى من أورشليم إلى الجليل.
ولكن لماذا تأخر الحرس فلم يعودوا إلاّ بعد بضعة أيام؟ لماذا لم يبرّروا فشلهم بتعلّق الشعب بيسوع؟ لهذا بدوا ضعفاء. وكيف يستطيع نيقوديمس أن يقول: حسب الشريعة (تث 1: 16)؟ يجب أن نعرف ما فعل المتهم. سنأخذ أقوال نيقوديمس كما وردت.
لم نجد أي نصّ يوازي النظرة القائلة بأن "القائد" المسيحاني لا يمكن أن يأتي من الجليل.
لقد أعلن يسوع بصفته الحكمة المجسّدة للعطاش: تعالوا إليّ واشربوا (آ 37). سمع بعض الناس كلامه، فرأوا في يسوع النبي أو المسيح (آ 40). والآن (آ 46) ها هم الحرس أنفسهم يؤكّدون أمام المجلس الأعلى أن هذه الكلمة ليست كلمة إنسان عادي: لقد أسّسوا في هذه الكلمات حضور اللاهوت.
أما الفريسيون فأغلقوا الباب على نفوسهم ورفضوا أن يعرفوا (آ 47). أما جوابهم على هذا الوضع فكان الهزء والسخرية، وهو سلاح رخيص.
إنّ كلمات الله التي وجّهها المسيح للعالم (آ 12) اعتُبرت كلمات "غشّ وخداع" تجاه الشعب. وجاءت البراهين ضدّها ضعيفة جدّاً (آ 48، 49) فدلّت على قوّة الحقيقة. وسيستعمل الفريسيون أيضاً أسلوب السخرية مع الأعمى منذ مولده (9: 24).
في هذا الوقت تدخّل نيقوديمس (آ 50). فبرز "الإنقسام" من جديد. برز موقفان في الشعب (آ 43) كما في المجلس الأعلى (آ 50- 52). فجسّد نيقوديمس اليهودي الذي تربّى بروح الشريعة. وقد أراد أن "يختبر" بدون موقف مسبق أقوال يسوع عن نفسه.
أعلن الفريسيون: ما من نبي جاء من الجليل. فأظهر هذا التأكيد الضعيف إلى أي حدّ اهتمت الكنيسة الأولى بموطن يسوع، بناصرة الجليل. ولكن يوحنا رأى ان السؤال عن "الجليل" ليس السؤال الحقيقي. فما يجب أن نتساءله في رأي يوحنا هو: كيف جاء القدّوس إلى هذا العالم الخاطىء (3: 16؛ 6: 69)؟ فمسألة أصل المسيح لا تزال تشغله. ولكن يوحنا قد أجاب جواباً أساسياً في آ 27- 28: "ما جئت من عندي. فالذي أرسلني هو حقّ". وسيتوسّع في هذا الجواب في 8: 12- 14، يعني في نصّ يرتبط مباشرة مع آ 52، وتذكر فيه مقاطعة الجليل. هنا سيكشف يسوع عن نفسه أنه النور الذي جاء إلى هذا العالم فنتبعه. إنه يعرف من أين جاء وإلى أين يذهب (8: 14). فماذا ننتظر لنذهب إليه؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM