إنجيل يوحنا: كتاب الآيات : في منتصف العيد

في منتصف العيد
7: 14- 36

في منتصف أيام العيد، صعد يسوع إلى الهيكل وأخذ يعلّم.
هنا يبدأ المشهد الأوّل: يسوع يعلّم خلال أيّام العيد السبعة. إن هذا الجزء من الخطبة يرتبط مع ف 5. فالتلميحات إلى شفاء المخلّع عديدة وهي تلعب دوراً هاماً في الجدال.
يتّخذ يسوع موقفاً من السبت (آ 14- 24) فيتساءل الناس: ومن أين يأتي المسيح" (آ 25- 30)؟ وإلى أين يذهب المسيح (آ 31- 36).
يتركّز المقطع الأول على سرّ يسوع الذي يطرح تعليمُه تساؤلاً: إنه يعفم دون أن يكون مرّ في المدارس. ممن جاءه تعليمه وهو الذي لم يعرف مدارس الرابانيين؟ والجواب واضح: معلّمه هو الله. منه يأخذ تعليمه (آ 17) لأن علمه يأتي منه (آ 16) ويتحدّث عنه (آ 18).
وتتخذ العودة إلى موسى وظيفة دفاعية: إنتقد خصومه تعليمه، لأنه لا يتجذّر في تقليد موسى. ولكن حين يحاول اليهود أن يقتلوا يسوع، فهم أنفسهم يتجاوزون إحدى الوصايا العشر التي أعطاها موسى. وهذا التهديد ليسوع (5: 19) يبيّن أن المؤامرات على يسوع بدأت قبل الآلام بزمن طويل.
إن موسى المعلّم يسمح بالختان يوم السبت. ويسوع يتصّرف بالحرية عينها، لا سيّما وأن شفاء المخلّع أهم بكثير من ختانة موسى. هذا التعارض بين موسى ويسوع كان قد برز في 1: 17: "لأن الله بموسى أعطانا الشريعة، وأما بيسوع فوهبنا النعمة والحق".
وبعد المقابلة بين معلّمين هما يسوع وموسى، إنطلق وحي علني حول أصل يسوع ومصيره: من أين جاء وإلى أين يذهب؟
هنا يختفي موضوع السبت. ويتركّز الخبر كلّه على يسوع الذي يكشف عن نفسه "جهاراً" (آ 26)، "فيصرخ" بأعلى صوته في الهيكل. غير أن الوحي الذي يقدّمه يصطدم بكفر اليهود وعدم إيمانهم: عرفوا "حسب الجسد" (حسب اللحم والدم) أصل يسوع (أمه، أباه، موطنه، رج 6: 42، 52؛ 7: 42، 52)، فما استطاعوا أن يعتبروه المسيح الذي يجب أن يكون أصله مجهولاً (المسيح، لا يعرف أحد حين يجيء من أين جاء). ومع هذا، فلهم أيضاً هو المسيح الخفي لأنهم يجهلون "أنه يأتي من عند الله" (آ 29)، وأنه "يذهب إلى الله" (آ 33).
دلّ يسوع على سلطته حين "منعهم" من أن يوقفوه لأن "ساعته" (آ 30) لم تكن جاءت بعد. والحرس الذين كلّفوا بأن يمسكوه (آ 32) عادوا وحدهم وهم يقولون: "ما تكلّم إنسان مثل هذا الرجل" (آ 46).
ومع التهديدات ضدّ يسوع، يبدأ الاعلان عن ذهابه القريب إلى أبيه. هناك طريقة معروفة لدى يوحنا، طريقة "سوء الفهم"، فيفسَّر هذا الذهاب كانطلاق ممكن إلى الشتات اليهودي (آ 35). لم يكن هذا التأكيد صحيحاً في أيام يسوع. ولكنه صار أمراً واقعاً في أيام الإنجيلي، حين وصل إنجيل يسوع إلى مجمل حوض البحر المتوسّط.
"بعد زمن قليل": وهكذا أعلن يسوع لليهود إنطلاقه الكبير إلى الآب. وسيقول الشيء عينه لتلاميذه بكلمات قريبة من هذه: "بعد قليل لا ترونني، ثم بعد قليل ترونني لأنني ذاهب إلى الآب" (6: 16). أجل، نحن أمام انفصال موقت فيما يخصّ التلاميذ.
يصوّر يوحنا يسوع هنا بسمات تشير إلى الحكمة الآتية من عند الله (حك 9: 10؛ فأرسلها من السماوات؛ سي 24: 8: أوصاني خالق الجميع: اسكني في يعقوب)، إلى أصلها السري (ولكن الحكمة أين نجدها؟ أي 28: 12). فعليهم أن يطلبوا يسوع كما تُطلب الحكمة (حك 6: 12). أما الجهّال (لا عقل لهم) فهم سامعو يسوع (آ 34). "يطلبون الحكمة فلا يجدونها" (أم 1: 28).
في آ 14، حين نتحدّث عن "الهيكل" فنحن لا نعني فقط البعد الداخلي. بل كل ما يقع داخل حرم الهيكل من غرف وأروقة. وتبدأ آ 22 بأداة: لهذا. هنا نزيد: أقول لكم: موسى أعطاكم الختان.
قال اليهود في آ 15 فجاء اعتراضهم كما يلي: "كيف أن هذا الذي لم يتعلّم يعرف الحروف"؟ معرفة "الحروف" ليست عبارة تدلّ على معرفة الكتب المقدّسة بل أولى مبادىء القراءة والكتابة.
ونقرأ في آ 20: "فيك شيطان" (يمتلكك شيطان). هذا يعني عقلك مخرّب. أو: أنت مجنون (8: 48- 52؛ 10: 20). يبدو أن يوحنا لم يتكلّم عن الشياطين على مثال الإزائيين (مثلاً، رج مر 3: 20- 30).
في آ 28 ب: هناك عرف وعلم، فعلان متقاربان. وسنجد "أرسل" و"أرسل في مهمة". هنا نقرأ 8: 55: "أنتم لا تعرفونه، أما أنا فاعرفه. إذا قلت إني لا أعرفه كنت كاذبًا مثلكم. ولكني أعرفه وأعمل بكلامه". هنا المعرفة تقود إلى الالتزام والعمل.
في آ 34 (رج آ 36)، نجد "حيث أكون". إنها تعني الحاضر (الكون الآن) وقد تعني المستقبل (سأكون فيما بعد) كما في 12: 26 (حيث أكون أنا)؛ 14: 3، 17، 24. ولكن هذه النصوص التي أوردناها تدلّ على أنه يجب أن نفهم "حيث أكون" في معنى يتعدّى المكان والزمان: نحن أمام الكائن الأزلي القائم لدى الآب. إذن لن نترجم هذه العبارة: "حيث أذهب". فهذا المعنى نجده في 8: 22 حيث نقرأ حقاً: "حيث أذهب لا تقدرون أنتم أن تجيئوا".
تتحدّث آ 35 عن "الشتات اليوناني". هذا يدلّ على مدن تقع خارج فلسطين يعيش فيها اليهود "مشتتين" وسط اليونانيين، أو شرقيون تربّوا التربية اليونانية.
لا نجد في هذه "الخطبة" بنية منطقية بشكل حسابي. فالموضوع يتبدّل مراراً، و"الخطيب" يستعيد أفكاراً توسّع فيها سابقاً. هنا يتحدّث بعض العلماء عن "تبدّل" في موقع النصوص. ولكن هذه النظرية تنسى الأسلوب الشفهي في فم يسوع، والأسلوب التأملي في تدوين الجماعة لإنجيلها.
كيف نفهم آ 23؟ إذا قابلنا شفاء صغيراً بشفاء كبير، كان الختان يسبّب جرحاً. فلا بدّ من ضماده وشفائه في يوم السبت. فإذا حقّ لنا أن نشفي عضواً من أعضاء الإنسان، فكم بالحري يحقّ لنا أن نشفي الإنسان كلّه! وهكذا نستطيع أنا "نجذّر" آ 23 في جماعة تمارس الختان.
لا يقول ف 7 شيئاً عن تعليم يسوع نفسه، كما في خطبة الجبل أو الأمثال. فيسوع يحتفظ بالتعاليم الخلقية وبوصية المحبة لحلقة أصدقائه الضيقة. وهنا ينتقل مباشرة إلى النظر في أصل تعليمه، فيعيد السامعين إلى الموضوع الجوهري: من هو يسوع بالحقيقة؟
عاد يسوع في آ 21 إلى معجزة تمّت فيما مضى، فقرّب بعض الشرّاح هذه الآية من 5: 18. ولكن هذا التقريب لا يفي بالمراد. ففي ذلك الوقت، لم يتعجّب "كل" اليهود من هذا "العمل الوحيد". ثمّ إن النص لا يشير إلى المعجزات التي تمّت في أورشليم (2: 23؛ 7: 31). إن يوحنا يريد أن يتكلّم فقط عن الطريقة التي بها يشوّه هذا "العمل الوحيد" الذي به ترتبط اعتبارات أساسية. أجل، ليس يوحنا مقدّم "تقارير صحفية". إنه إنجيلي ينطلق من الواقع ويتأمل فيه ليحمل إلى المؤمنين تأملاً لاهوتياً.
قال اليهود: "وأما المسيح فلا يعرف أحد حين يجيء من أين جاء" (آ 27). نجد في النصوص بعض أقوال سكان أورشليم. بحسبها يجب أن لا يعرف أحد من أين يأتي المسيح الحقيقي. فبجانب أمل بمسيح يأتي من بيت داود (رج 7: 42)، وُجد انتظار "لمسيح خفي"، "لابن إنسان خفي". ظنوا أن أصله سيكون مجهولاً أو يبقى كذلك إلى يوم يعود إيليا فيمسحه بالزيت المقدّس ويعلنه للشعب.
نجد في هذا النص محاولتين متميزتين قام بهما اليهود لتوقيف يسوع. الأولى هنا في آ 30: "أرادوا أن يمسكوه". والثانية في آ 32 ساعة أرسلوا الحرس ليمسكوه في حرم الهيكل.
في القسم الأول (آ 14- 24) من هذا المقطع يبدأ يسوع بالكلام عن "موسى" وعن "الشريعة". ثم يعود إلى موضوع جديد. ففي كل ف 7 لا يذكر موسى إلاّ في آ 19- 23. في آ 22، يتعلّق يسوع بهذه الكلمة الأساسية "موسى" وإن لم يكن موسى قد أعطى الختان (آ 22 ب). فهدفه أن يبيّن أن موسى الذي يستند إليه خصومه، يتكلّم عنه. فيكون المعنى: موسى "صاحبكم" الذي تطيعونه بدون تحفظ، يُظهر أني على حق.
فموسى قال دوماً إنه يجب ممارسة الختانة دوماً في اليوم الثامن، ولو كان ذاك اليوم يوم سبت. ولكن ما صنعه يسوع للإنسان "كله" أكثر ضرورة من ختانة عضو من أعضائه. لماذا إذن تغضبون علّي (آ 23)؟ ربط الختان بموسى مع أنه يعود إلى إبراهيم (ق آ 22 ب مع تك 17: 10- 12). فشريعة السبت تعود إلى موسى لا إلى إبراهيم (خر 20: 8- 11). وكل شيء يؤول إلى شريعة السبت وتجاوزها (آ 23).
إذن، في تصرّف يسوع تجاه السبت تنكشف علاقته مع الله. وتأتي الخاتمة في آ 24 فتدعو اليهود للتعرّف إلى هذا الواقع الروحي، للحكم بعدل وإنصاف.
قبل أن يتحدّث يسوع عن موسى وعن الوصية المتعلّقة بالسبت، يبدو أن "التعليم" هو الموضوع الأساسي في آ 14- 19. ففي كتاب الآيات (ف 1- 12) لا تظهر لفظة "تعليم" إلاّ في آ 16- 17. يجب أن نعرف أن هذا "التعليم" يختلف كل الاختلاف عن أن تعليم أرضي. وفي نظر يوحنا، لسنا فقط أمام "تعليم" "المعلّم يسوع الناصري" قبل الفصح. قال يسوع: "ليس تعليمي من عندي". لهذا، نحن أيضاً أمام تعليم يعطيه البارقليط (الروح القدس) الآتي من عند الآب باسم يسوع.
أشار الإنجيلي إلى سمتين مميزتين نستطيع بهما أن نعرف أن تعليم يسوع هو تعليم إلهي. أولاً، إرادة ثابتة بأن نفعل ما يريده الله لكي نكتشف إذا كان تعليم يسوع يتوافق مع إرادة الله، أو يأتي من موضع آخر (آ 17). لا شكّ في أننا لسنا أمام "برهان" قاطع، بل أمام إستنتاج معقول يستفيد منه ذاك الذي يطلب مشيئة الله، ويتمتّع بحسّ يجعله يدرك ما يقابلها.
ثانياً، إن خطبة الذي لا يطلب مجده هي حقيقية وأهل للتصديق (آ 18). لم يبحث يسوع عن "شهرة" عالمية أرضية. وهذا واضح من رفضه اتباع ما عرض عليه "إخوته" (آ 3- 9). وواقع صلبه يبيّن بوضوح انه لم يبحث عن الكرامات البشرية. غير أن هذا لا يكفي ليدلّ على أن هذا التعليم صحيح. بل نستطيع أن نقول بشكل سلبي: كل من يتعلّق بنفسه، باسمه، بشهرته، لا يعلن حقاً تعليم الله.
وننتقل إلى القسم الثاني (7: 25- 30) وموضوعه: أصل المسيح. من أين يأتي المسيح؟ ماذا نكتشف هنا؟ ثلاثة أفكار. الصراع الروحي يشتدّ ويتفاقم. يسوع يسير مسيرته بارتياح سامٍ. والعلم الظاهر يقف حاجزاً بوجه الإيمان بطبيعة يسوع اللاهوتية.
أولاً: نجد في بداية هذا المقطع (آ 25؛ رج 7: 1) الجديد اللفظة الخاصة: "قتل". وُجدت للمرّة الأولى في 5: 18. واستعيدت في 7: 1، 19- 20. وستعود في 8: 37، 40 قبل أن يُعلن قرارُ "قتل" يسوع (11: 53) بشكل لا يقبل الجدال، ويبرّر تبريراً "وافيًا": "لئلا تهلك الأمة كلها" (11: 50).
شدّد الإنجيلي على الطابع الدراماتيكي للأحداث. وفي المقطع الذي ندرس، يتنامى الإنشداد والتوتّر. في البدء نظن أن خصوم يسوع قد ارتدوا وتابوا (آ 26): هل اقتنعوا حقًا أنه المسيح؟ ولكن يسوع تكلّم بلهجة تلغي كل مساومة. بعد هذا، كل الذين كانوا حتّى الآن على الحياد، انضموا إلى الذين يريدون أن يوقفوه (آ 30). وعاد يسوع يتحدّث عن نفسه بطريقة "صعبة" (6: 60)، فقلّ عدد الذين يستطيعون أن "يسمعوه". ما إن يتكلّم يسوع حتى ترتفع حدّة التوتر.
ثانياً: ولكن عداء العالم لا يصيب يسوع في صميم قلبه. هذا ما يقوله لنا الإنجيلي من خلال الرمز: لم يضع أحد يده عليه. لم يمسكه أحد (آ 30). "فساعته" لم تأتِ بعد. والساعة هي الوقت الذي حدّده الآب في زمن الخلاص، والذي يعطي يسوع إمكانية تتميم عمله الخلاصي. ساعة يسوع هي ساعة آلامه وموته وقيامته.
ثالثاً: ما الذي يمنع أهل أورشليم (هم يمثّلوننا) من أن يتعرّفوا إلى يسوع، يعرفوا من هو؟ الحاجز الأساسي هو اعتدادنا بأننا نستطيع أن ندرك في نظرة واحدة ظاهرة يسوع، وأن ندخله في مقولاتنا العلمية. فالفكرة المسبقة في العقل البشري مع ما فيه من تكبرّ، تظن أنها تستطيع بوسائلها الخاصة أن تقرّر أين يكون اللاهوت فتغلق في وجهنا الطريق التي تقود إلى التعرّف إلى يسوع الحقيقي. هنا نفهم آ 28 بالنظر إلى آ 40- 44 كما يلي: هناك وعي سرابي يحكم بحسب المظاهر الخارجية (آ 28 ب: أنتم تعرفوني وتعلمون من أين أنا). فيقدّم يسوع تجاهه المعرفة الحقيقية عن أصله: إنه جاء من عند الله الموجود منذ الأزل (آ 28 ج: ما جئت من عندي. ذاك الذي أرسلني هو حق).
ظنّ خصومه أنهم يعرفونه لأنهم علموا من أين يأتي: من الناصرة (آ 41؛ رج 6: 42). في الواقع لا يأتي يسوع من الناصرة ولا يرتبط بظرف بشري. هم يعرفون بعض الشيء. ولكن بما أنهم يتمسكون بعلمهم الجزئي، فلا يستطيعون أن يعرفوا الحقيقة كلّها. فالعلم المتحلّي بالجهل هو موضوع معروف عند يوحنا. إنه يحب هذه المفارقات، هذه التأكيدات التي تبدو متضاربة في الظاهر، لأنها تساعدنا على اقتراب من واقع المسيح السري.
في آ 24، طلب يسوع من الجمع أن لا يحكم "بحسب الظاهر". ولكنهم وقعوا في هذا الخطأ. إن أصل الإنسان يحمل في ذاته وظيفة الاسم. ومن عرف إسم إنسان عرف كيانه. إذن، السؤال عن الأصل يصل بنا إلى السؤال عن الكيان. عرف اليهود حقاً أن يسوع جاء من الناصرة، فعرفوا بعض الشيء عن كيانه. عرفوا أنه إنسان كسائر الناس. إنسان حقيقي. ولكن ليسوع أصلاً آخر. إنه يأتي من الآب. وهو وحده يعرف الآب. إن إنجيل يوحنا يشدّد بشكل خاص على هذه النقطة (1: 18: الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عنه؛ رج 6: 46؛ 7: 25)، التي ليست بغريبة عن الإزائيين. "لا يعرف أحد من الابن إلاّ الآب، ولا يعرف أحد الآب إلاّ الابن ومن يريد الابن أن يظهره له" (لو 10: 22؛ رج مت 11: 27).
في القسم الثالث (7: 31- 36) نتحدّث عن مصير يسوع. إلى أين يذهب المسيح؟
إن كلمات يسوع في آ 33- 34 تُدخل في الإنجيل أفكاراً سيستعيدها ويتعمّق فيها ف 7، 8 وخطب الوداع. إن يسوع يتكلّم للمرّة الأولى عن فعل "مضى". وللمرّة الأولى ترد عبارة "وقت قليل". وللمرة الأولى يعلن يسوع أنهم "يطلبونه" (يبحثون عنه) بدون نتيجة (لا يجدونه). وأخيراً، للمرة الأولى نعرف أن يسوع سيكون في مكان من الأمكنة، أنه سيمضي إلى مكان من الأمكنة حيث لا نستطيع أن نتبعه (نلحق به) (آ 21- 22؛ 12: 26؛ 13: 33، 36؛ 14: 3- 4؛ 17: 24). إن هذه الأفكار الجديدة والتي ترد هنا، تبدو ذات مدلول عميق، ويعبرّ عنها بإيقاع لافت بحيث ترد بشكل يكاد يكون حرفياً في آ 34 وآ 36.
في آ 25- 30، تساءلنا: من أين جاء يسوع؟ والآن نتساءل: إلى أين يمضي يسوع؟ هذا ما توقّعناه: لم يفهم اليهود النقطة الثانية كما لم يفهموا الأولى. ولكنها مناسبة لكي يتوسّع الإنجيل في هذه الأفكار الأساسية ليصل إلى الذروة في الخطبة بعد العشاء السرّي: "خرجت من الآب، وأتيت إلى العالم. والآن أترك العالم وأمضي إلى الآب" (16: 28).
جاء الله إلى عالمنا، و"نصب خيمته بيننا" (سكن بيننا) (آ 14)، ثمّ عاد إلى أبيه. هذه الصورة يخضع لها يوحنا كل إعلانه عن الابن، فيشهد أن ابن الإنسان نزل من السماء، ثم صعد من أجل خلاصنا.
قد عرف العالم اليهودي هذه الرسمة وطبّقها على الحكمة: جاءت من عند الله إلى البشر، ثم تعود إلى الله لأن البشر لم يستقبلوها. وقد وردت أيضاً في كتاب عزاء إسرائيل في أش 55: 10- 11: "كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك بل يروي الأرض ويجعلها تُخصب وتنمي لتؤتي الزارع زرعاً والآكل طعاماً، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي. فهي لا ترجع إليّ فارغة، بل تتمّ ما شئت وتنجح فيما أرسلتها له".
في أش 10: 25، قال الرب: "عمّا قليل، عمّا قليل جداً ينتهي وقت الغضب". ونجد أيضاً نصوصاً مشابهة حول قصر زمإن الغضب (أش 26: 20؛ 54: 7). وفي مقاطع أخرى، نقرأ وعداً ببركات غنية في زمن الخلاص، لأيام تأتي "بعد وقت قليل" (أش 29: 17). كما أن هناك نصوصاً أخرى تتحدّث عن الوقت القليل الذي سيمتدّ إلى يوم الدينونة، يوم الرب (إر 51: 33؛ هو 1: 4). في كل هذه النصوص، نجد أن الزمن الذي يسبق هدف كل تاريخ الخلاص، يتقلّص بالنسبة إلى هذا التاريخ فيصبح "قليلاً من الوقت".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM