اليهود لا يؤمنون
5: 41- 47
لكم من يشكوكم: موسى الذي وضعتم فيه رجاءكم.
ظهر الله في السابق. ظهر على جبل سيناء (آ 37؛ خر 19: 16 ي)، ظهرت كلمته وهي ما زالت تعمل حتى الآن (آ 38؛ خر 19: 5). ولكن اليهود لم يتقبّلوا كل هذا كما يليق. لهذا حين عمل يسوع، لم يروا عمل الله في هذا الإنسان الذي سيقولون عنه إنه ابن يوسف وهم يعرفون أباه وأمّه (6: 42).
الكتب المقدّسة هي ينبوع الحياة الحقيقية (تث 4: 1؛ 8: 1، 3). لهذا تكرّس لها المعلّمون بكليتهم. الكتب المقدّسة تورد الأحداث والأقوال التي بها هيّأ الله مجيء ابنه. ولكن كلمة الله ليست في قلب سامعيه، لهذا نقصتهم المحبّة الحقيقية تجاهه. فضّلوا مجد الناس على مجد الله.
فيبقى أن جذور اللاإيمان تقع في البحث عن مجد شخصي وعن تعلّق بهذا العالم. أما الإيمان فيفرض أن نتجنّد كلنا للآب وننتظر المجد منه وحده على مثال يسوع الذي "طلب المجد للذي أرسله" (7: 18).
هناك موازاة بين آ 41 و8: 50 (أنا لا أطلب مجداً لي) و12: 43 (فضّلوا مجد الناس على مجد الله). نحن لسنا فقط أمام "كرامة"، بل أمام أهمية ووزن. فالمجد في الأساس يدلّ على حضور الله، كما يشعّ نوراً على الأشخاص والأشياء، على موسى، على خيمة الإجتماع، على الهيكل. وفي النهاية يتجسّد في شخص يسوع.
قال يسوع لليهود في آ 45: "لا تظنّوا". نحن لسنا أمام الإيمان. بل أمام رأي واعتقاد. نحن هنا على المستوى البشري مع ما فيه من نقص وارتياب. أما موضوع الإيمان فهو ثابت لا يتبدّل في نظر يوحنا.
كان باستطاعتنا أن نحدّد الإطار التاريخي لو عرفنا من هو "الآخر" الذي "يأتي باسمه الخاص" في آ 43 ب. كانت محاولة للإجابة: هو الرئيس "المسيحاني" للثورة اليهودية الثانية (132- 135 ب م) الذي سمّي في وقته ابن الكوكب (بركوخبا). ولكن لا حاجة إلى القول بأن الإنجيلي لم يفكّر بأشخاص تاريخيين محدّدين. فالنصّ يتكلّم عن موسى فقط (آ 46)، لا عن الأنبياء. ثم إن برهان الإنجيلي يوافق زمن الغيورين والأسيانيين والصادوقيين. هذا يجعلنا في الزمن السابق لدمار الهيكل. إذن قبل سنة 70 ب. م. لهذا نقبل بأساس تقليدي أخذ به الإنجيلي وكيّفه حسب الوقت الذي كتب فيه.
إن يسوع يعطي هذا التنبيه في مر 13: 12: "فإن قالوا لكم: المسيح أو هنا أو هناك. فلا تصدّقوا". وفي مكان آخر نجد نفوسنا قريبين من التقليد القديم الذي صاغه يوحنا: "سيأتي كثيرون باسمي ويقولون: أنا هو" (مر 13: 6 وز). فيبدو إذن أن يوحنا والإزائيين الثلاثة استعادوا التقليد عينه عن "كثيرين آخرين" جاؤوا فصارت لهم شهرة لا يستحقّونها.
إن آ 41- 47 هي امتداد للآيات 31- 40 مع توسيعها وتقديمها بصورة مثيرة. فالجملة الأولى في المقطع الذي ندرس (آ 14) تذكرنا بالآية 34. فمكان "المجد" نجد مدلولاً أكثر تحديداً: "الشهادة".
فنظام الأفكار في بداية هذا المقطع يبدو على الشكل التالي: جاء يسوع (آ 40) يوبّخ اليهود لأنهم لم يستسلموا إليه في الإيمان. ولكنه لم يفعل لأنه مثلاً يحتاج إليهم أو إلى انتمائهم إليه. هو لا يهتم أي اهتمام بموافقة البشر على ما يعمل (آ 41). ثم، بما أنه ذاك الذي "يعلم ما في الإنسان" (2: 25)، فهو يعرف كل المعرفة أن اليهود يكنّون له من البغض أكثر من المحبّة. فهم لا يحبّون ما هو صالح، ما هو من الله.
وأكّد يسوع بشكل صريح (إ 42) أن "حب الله" ليس فيهم. أولاً، نحن نعني حبّهم لله لا الحب الذي أعطاه الله. ولكن وجود المضاف إليه "الله" بعد لفظة "حب" قد يدفعنا إلى القبول بالمعنيين.
ما أعلنه يسوع في آ 19، 30، تستعيده آ 43 أ (جئت باسم أبي). يعلن يسوع أنه يعمل بالمشاركة مع أبيه، فيدلّ على تجرّده الكامل. هو لا يعمل إلاّ ما يرى الآب بعمله. جاء يكلّم البشر عن الله لا عن نفسه.
ثم إن هذه العبارة: "فما قبلتموني" تستعيد أفكاراً عرفناها فيما مضى. فإذا عدنا إلى 1: 11 فهمنا النصّ على الشكل التالي: ومع هذا، ما قبلتموني. فهؤلاء "اليهود" يرون أنه من الأهمية بمكان أن يعترف بهم الناس وأن ينجحوا أمامهم، بحيث لا يستطيعون أن يحكموا على من يشبههم إلاّ من هذه الزاوية.
في آ 43 ب، لا يقابل يسوع بين مجيئه ومجيء شخص آخر، بل يشدّد على طريقته المختلفة في تقديم ذاته إلى البشر. حين يأتي إنسان باسمه الخاص، فهم يقبلونه من أي مكان جاء. فهذا يقابل في نظرهم الموافقة التي ينتظرونها من البشر (آ 44). "فالعالم" يحبّ دوماً ما يتوافق مع طريقته في الحياة (15: 19: لو كنتم من العالم لأحبّكم العالم).
نجد في آ 44 صورتين ترتبطان الواحدة بالأخرى ارتباطاً وثيقاً. الأولى، "تطلبون المجد بعضكم من بعض". الثانية، "لا تطلبون المجد الذي من الله". وهذا سيكون واضحاً جداً فيما بعد، خلال الجدال مع بيلاطس. هناك رفض اليهود أن يكونوا شعب الله ليسمّوا نفوسهم الأمة الأمينة والخاضعة للإمبراطور الروماني (19: 15: لا ملك علينا إلاّ القيصر). وبيلاطس أيضاً أغلق على نفسه إمكانية الإقتراب الروحي من يسوع، لأن ما يهمه هو أن يكون "من أصدقاء قيصر" (19: 12).
تستعيد آ 45 الفكرةَ المعروضة في 5: 22 داخل خطبة يسوع الكبرى التي لم تنتهِ بعد والتي فيها يعلن يسوع سلطته كديّان. فالقرار يكون بالنسبة إلى شخص يسوع. ولكن يسوع لا يتهم أمام أبيه أولئك الذين لم يؤمنوا به. نلاحظ هنا أن توالي الأفكار يبتعد عن وضع يسوع تجاه اليهود قبل الفصح. في ذلك الوقت عارض خصومه "اعتداده" بأنه يرتبط بالآب. ولكنهم ما كانوا ليخافوا يوماً أن يصبح يسوع متّهمهم أمام الله. ففي كرستولوجية يوحنا، نحن أمام علاقة المسيح بالتوراة. وإليك ما يريد أن يقوله: إن السلطة التي يطالب بها اليهود لنفوسهم لأنهم يظنّون أنهم يقدّمون له الجواب الوافي (آ 16)، تتكلّم في الواقع ضدّهم. فالبنتاتوكس (أي: أسفار موسى الخمسة) ليس النقطة النهائية، ليس الذروة في التوراة. إنه يعلن الأنبياء الذين سيأتون (تث 18: 15- 22)، ويخبر عن زمن الخلاص الذي لم يأتِ بعد (تك 49: 10).
سيدان اليهود لا بموجب النظرة المسيحية، بل بموجب شريعتهم الخاصة (آ 46). لا شكّ في أنهم يرجون أن يروا في موسى من يدافع عنهم، ولكنهم لم يمتثلوا لتنبيهاته. و"السخرية" التي تميّز إنجيل يوحنا هي أن موسى اليهودي وابن العهد القديم، يرافع ضدّهم حين يرفضون "المجدّد المزعج" الآتي من الناصرة. ونحن نسمع منذ الآن صراخهم: "لنا شريعة، وبحسب هذه الشريعة يجب أن يموت: لقد جعل نفسه ابن الله" (19: 7).
فالحالة المأساوية التي يتطلّع إليها يوحنا، هي أنهم يفهمون الشريعة فهماً خاطئاً، فيرون فيها شيئاً مغلقاً على نفسه. فالرغبة الحارة بأن يروا تمام المواعيد التي أحسّ بها الأسيانيون أو حتّى السامرية (4: 25)، كانت قد ضاعت في العالم اليهودي المتأخّر الذي امتلأ من نفسه فاعتبر نفسه قلب العالم وظنّ أنه لا يحتاج إلى شيء خارجاً عنه.
فالروح عينه يسود في كتابات موسى وأقوال المسيح (آ 47). نحن نرى هنا وهناك موقفاً لا يقبل به "العالم"، لأن ما يهمّه هو قضية النجاح لا قضية العدالة أو الظلم. هنا نستطيع أن نقابل بين تك 39: 9 (خبر يوسف) ويو 7: 7 (أشهد على فساد أعماله) و1 يو 3: 13- 14: "لا تعجبوا يا إخوتي إذا أبغضكم العالم". رفض يوسف أن يسير في طريق الشرّ ويخطأ إلى الله فأبغضه العالم المحيط به واستحق السجن. هذا هو وضع المؤمن في العهد القديم كما في العهد الجديد.
إنتهت خطبة المسيح الكبرى في ف 5. وستعود الفصول اللاحقة مراراً إلى الأفكار التي عبرّ عنها هذا الفصل، لا سيّما في 7: 15- 24. إنتصب يسوع أمامنا كشخص يعمل في اتحاد مع الله، فيتجاهله البشر (آ 17- 18). فهو يحسب مديح البشر من دون أهمية (آ 41). لقد تخلّى عن النجاح الأرضي، فيبقى على المسيحيين أن يقتدوا به ويتخذوه لهم مثالاً. ومع ذلك، نحن نهتمّ كثيراً بأن نربح ودّ العالم اليوم. كما نتساءل: كيف يصل تعليمنا إلى "السامعين"، وما الذي نستطيع أن نفعله بقوانا المحدودة؟ نحن بعيدون عن عالم الكتاب المقدّس عندما نهتم بالنجاح في "العالم الحديث". بأي معنى يجب أن نهتم بالعالم وبالناس إذا أردنا أن نتوجّه فنتّخذ المسيح لنا مثالاً؟
إليك ملاحظة أولى هامة: فالمسيح، النموذج الأول للمسيحية، كما يصوّره لنا الإنجيل الرابع، يتوافق في نظرته إلى "النجاح الخفيف" مع ما يقوله الإزائيون (مت 4: 6- 7) وما تظهره وجوه عديدة في تاريخ الخلاص. نتذكّر بولس حين كتب إلى التسالونيكيين. شدّد على أنه لم يكتب "ليرضي الناس"، ولم يطلب يوماً "المجد البشري" (1 تس 2: 4، 6). ونتذكّر وجه يوسف الذي لم يعتبره أخوته، فلم يبحث عن "رضاهم" مع أنهم ظنّوه غارقاً في الأحلام (تك 37: 19). وحنة التي ستصير أم صموئيل، اعتبرت نفسها عاقراً محتقرة (1 صم 2: 1- 11). وداود، أصغر أخوته كان يرعى الغنم، ساعة زارهم صموئيل باحثاً عن ملك (1 صم 16: 11). ماذا عدنا إلى سفر الحكمة (2- 5) رأينا أن البار ليس متعطّشاً إلى النجاح البشري، لهذا فهو محتقر. في هذا الخطّ قرأ الآباء حك 2: 12- 20 (إن كان الصديق ابن الله فهو ينصره وينقذه) وطبّقوه على المسيح.
ولكن هؤلاء الأبرار الحقيقيين الذين لم يهتموا بحكم الناس عليهم، لم يتبعوا طريقهم باكتفاء مليء بالكبرياء والثقة المفرطة بالنفس. هم لم يطلبوا مجداً لدى البشر، بل رضى الرب ومجده. فاهتمامهم يتوجّه كله إليه. وبهذا استعدوا ليقوموا بإصلاح في العالم. قد يسمح الله بأن يكونوا مطروحين، مجهولين، محتقرين. لهذا يرى يوحنا في موت الحبّة من الحنطة سر "الفشل" الخصب (12: 24- 26). إن يسوع لم يطلب يوماً رضى العالم. وفشله الذي قاده إلى الصليب، صار للعالم النجاح الأهم، النجاح الضروري.
وهكذا نكتشف في هذا الفصل الخامس:
يسوع الشافي. يهتمّ بأضعف الضعفاء، وهو الذي كان فقيراً لأنه اختار ذلك. "هو الغني صار فقيراً لكي نغتني بفقره" (2 كور 8: 9). هو فقير وقف أمام فقير فرفعه إلى غناه.
يسوع هو رب السبت. أبوه يعمل دائماً، يخلق دوماً. ويسوع يقتدي بأبيه.
يسوع هو الابن المرتبط ارتباطاً حميماً بالآب.
يسوع هو المساوي للآب. قال عنه اليهود: "ساوى نفسه بالآب". والمسيحيون يقولون عنه: "مساوٍ للآب في الجوهر".
يسوع هو قلب الكتب المقدّسة ومحورها. إتهموه أنه يتجاوز الشريعة، فدلّ على أنه الهدف الأخير للكتب المقدّسة. قال عنه المسيحيون: جاء يكمّل الشريعة ويصل بها إلى أقصى متطلباتها. قيل: لا تقتل. أما أنا فأقول.
يسوع هو المخلّص. شدّد يسوع على هويته كالابن. فبهذا يرتبط مشروع الله من أجل البشر، وإمكانية يسوع بأن يهب الحياة للعالم.