إنجيل يوحنا: كتاب الآيات : شهادة الآب

شهادة الآب
5: 31- 40

الآب الذي أرسلني هو يشهد لي. ما سمعتم صوته من قبل.
وتتتابع الخطبة الكرستولوجية التي بدأت في آ 19، وستمتد حتى آ 47. في المقطع السابق نلنا وحياً حول هوية يسوع. وها هم الشهود آتون وهم ثلاثة: يوحنا المعمدان (آ 33- 35) الذي أرسله الله (1: 6). معجزات يسوع (مت 11: 5). والشاهد الثالث هو الآب نفسه. فشهادة الآب لا تعود إلى حدث خاص فقط (عماد يسوع)، بل إلى شهادة مجملة نجدها في العهد القديم: "الكتب المقدّسة تشهد لي" (آ 39).
نجد في هذا المقطع لفظتي "شهادة" و"شهد" إحدى عشرة مرة. هذا الرقم يكفي ليبيّن أن الإنجيلي يبني هنا إنجيل الشهادة.
إذا عدنا إلى مستوى اللغة، نجد في آ 33 الفعل في الماضي. لقد شهد. هناك شهادة سابقة. ولكن شهادة يوحنا لا تزال حاضرة وهي تتوجّه إلينا. وفي آ 34، يدلّ يسوع على أنه لا يحتاج إلى شهادة تأتيه من البشر.
يعلن يسوع في آ 32: أنا أعرف (هناك مخطوطات تقول: أنتم تعرفون). فيسوع يتكلّم عن أبيه وعن شهادته له. هذا يعني على المستوى اللاهوتي أن يسوع يستطيع أن يتكلّم عن الآب كأنه "آخر" رغم اتحاده به (10: 30). فإذا قرأنا آ 38 و14: 16 نكتشف أننا أمام ثلاثة أشخاص أو كما يقول اللاهوت: ثلاثة أقانيم متميّزة ومتّحدة.
هناك تعارض لافت بين ما يقوله يسوع في آ 39 عن شهادة الكتب، وملاحظات سنجدها في مقاطع أخرى (مثلاً، 20: 9: لا يفهمان ما جاء في الكتاب) تقول إن التلاميذ لم يروا إلاّ بعد القيامة العلاقة بين نصوص العهد القديم ومدلول عمل يسوع الخلاصي. إن المقطع الذي ندرس يتضمّن أفكاراً تعود إلى خبرة المرسلين المسيحيين بعد الفصح. وما نجده هنا بشكل إجمالي، هو دفاع الكنيسة الأولى ضد العالم اليهودي.
في آ 35، نصطدم بجملة لا يمكن أن تكون نتاج لاهوت الكنيسة المتأخّر، بل نتاج الساعات الأولى. ما يميّز لاهوت "المدرسة اليوحناوية" هو أن المعمدان أنكر انه إيليا (1: 21). أما هنا فيطبّق الإنجيلي على المعمدان صورة تذكّرنا بما قاله ابن سيراخ عن إيليا: "قام إيليا النبي كالنار، وتوقّد كلامه كالمشعل" (48: 1). وفي إنجيل متّى، يتحدّث يسوع بالطريقة عينها عن المعمدان: "هذا الذي كُتب عنه: ها أنا أرسل ملاكي قدّامك ليهيّىء الطريق أمامك"... "فإذا شئتم أن تصدقوا، فاعلموا أن يوحنا هو إيليا هذا الذي سيعود" (مت 11: 10، 14). إذن، في هذا الجزء من خطبة المسيح عند يوحنا، نجد نفوسنا أمام تقليد قديم جدّاً.
تألّم الإنجيلي من مسألة تقول: على ماذا يعتمد أولئك الذين يؤمنون أن الله هو الذي صار إنساناً في يسوع (1: 1، 14)؟ ألقى نظره إلى الوراء فأورد أربع شهادات: أرسلتم رسلاً إلى يوحنا، فشهد يوحنا للحق (آ 33- 35). لي شهادة أعظم من شهادة يوحنا (آ 36). والآب الذي أرسلني هو يشهد لي (آ 37- 38). الكتب المقدّسة تشهد لي (آ 39- 40). أربع مرّات يشهد "آخر" ليسوع (آ 31- 32: لو كنت أشهد لنفسي، ولكن آخر يشهد لي) ولكن بطريقة مختلفة. ثلاث من هذه الشهادات هي غير مباشرة وشهادة واحدة هي مباشرة.
الشهادة الأولى التي فيها يعبّر الآب عن نفسه بوسيط، هي شهادة المعمدان (آ 33- 35). نتذكّر هنا البعثة الرسمية التي جاءت من أورشليم إلى يوحنا، وأجوبة يوحنا لها (1: 19- 28). بدا المعمدان على أنه شاهد "للحقّ" (آ 33). وهو يُعتبر "سراجاً" يستطيع أن ينير الطريق الذي نأخذه. تعود هاتان الفكرتان (السراج، الحقّ أو الحقيقة) إلى الحياة الخلقية التي نمارسها كل يوم. إذن، هكذا هيّأ المعمدان الطريق للمسيح. بما أنه كان الصوت الصارخ في البرّية، فقد حرّض الناس على العودة إلى صوت ضميرهم، وبالتالي إلى شهادة الله لذلك الذي مجسّد الحقيقة (14: 6).
والشهادة الثانية تحمل ثقلاً لا تعرفه شهادة بشرية. هي تلك التي يعطيها الله ليسوع الناصري فيمنحه قدرة العمل على الأرض مع ملء القوّة الإلهية (آ 36). و"الأعمال" التي "يعملها" الابن أو "يتمّها" ليست فقط معجزات، كان كانت المعجزات مهمة. نتذكر شفاء بركة بيت حسدا (رج 7: 21). فالإنجيلي الرابع يرى أن العجائب تقدّم تعبيراً محدوداً وتحمل بعض القوة المبرهنة (14: 11: صدّقوني من أجل أعمالي). بل إن هذه "الأعمال" تمثل سلطة يسوع بأن "يعطي الحياة" منذ الآن، بأن يدين مند الآن (آ 25).
الشهادة الثالثة هي التي تمنحها الكتب ليسوع. نتذكّر هنا الأروقة الخمسة المذكورة في آ 2، والتي ترمز إلى أسفار موسى الخمسة. تحت هذه الأورقة وجد يسوع ذاك المريض القديم. وهناك كان بإمكان اليهود أن يجدوا يسوع لو اكتشفوا في الكتب مرضهم وشقاء خطيئتهم وعجزهم. لا يني العهد القديم يتحدّث عن خطايا البشر، لأنه ينظر إلى العالم بجدّية. ورغم ذلك، صارت التوراة للعالم اليهودي المتأخّر مناسبة تكبر وثقة مفرطة في برارته الخاصة. ولكن بالحقيقة، هذا هو الموقف الذي يمنع المؤمن من أن "يجيء" إلى يسوع (آ 40).
وسط هذه الشهادات القيّمة وإن كانت غير مباشرة، تنتصب شهادة مباشرة يؤدّيها "آخر" (آ 32) ليسوع. الله نفسه يتكلّم في قلب البشر (آ 37) ويدعوهم إلى سماع الحقيقة، و"يجتذبهم" إليه (6: 44). وفي كلمة الابن تلتقي كلمة "الآخر" مع الإنسان الطيّب. وكلمة الابن هذه هي كلمة الآب نفسه (7: 17). لا شك في أنه ليس من ضمانة عقلية محضة تؤكّد أن هذا الصوت الداخلي هو اجتذاب الله لنا ودعوتنا إلى الحق. وإذا كان يسوع يؤكد في آ 32 أنه يعرف أن شهادة الذي يشهد له هي حقّ، فهذا لا يعيننا في الشك. فمن يستطيع أن "يبرهن" لنا أن الابن، يسوع الناصري، يمتلك الحقيقة؟
"تفحصون الكتب المقدّسة...". لا تكون قراءة الكتب المقدّسة مثمرة إلاّ إذا أطعنا الوصايا، إلاّ إذا مارسنا الشريعة التي نتقبّلها بروح قويم وقلب متخشّع منكسر (مز 51: 19) لا بكبرياء راضية عن نفسها. فالحرف وحده يقتل (2 كور 3: 6). نجد في أسفار التوراة عدداً من المقاطع تتحدّث عن الثقة التّامة بالله، عن رحمة الله، عن أمانته لشعبه رغم خطاياهم، عن التوق إلى يوم الخلاص، إلى من يفدي الفقراء والبائسين، عن بَركة تمُنح للوضعاء في الأرض. فإن اهتمّ واحد منا بما اهتمّت به الأسفار المقدّسة، قادته قراءته لهذه النصوص اليوم أيضاً إلى يسوع.
نقدّم ملاحظة أولى عن اليهود في إنجيل يوحنا
استعملت كلمة "يهودي" بعد المنفى لتدلّ على اليهوذاويين (سكان يهوذا، أو مملكة الجنوب، وعاصمتها أورشليم). ثم امتدّت فعنت سكان فلسطين. هذا هو معنى الكلمة في زمن يسوع.
ترد عبارة "اليهود" مراراً في إنجيل يوحنا (60 مرّة مقابل 5 أو 6 مرّات في سائر الأناجيل). هذا الاستعمال يكشف المسافة والابتعاد بين المسيحيين واليهود ساعة دوّنت التقاليد الإنجيلية. وبما أن مجمل أشخاص الخبر الإنجيلي يكادون يكونون يهوداً (تسمي السامرية يسوع "اليهودي"، 4: 9). فهذا الفرز لا يمكن أن يعود إلى زمن يسوع.
إذا تفحصّنا النصوص رأينا أن معاني اللفظة هي عديدة. مرّة تعني جماعة أثنية (4: 9؛ 18: 35. سأل بيلاطس يسوع: أيهودي أنت؟ وهناك عبارة ملك اليهود في 19: 19، 21). في بعض الأخبار، تدلّ اللفظة على مجموعة بشرية قد تضمّ يسوع نفسه (4: 9، 22). مثل هذه التسمية تدلّ على تباعد (11: 19، 31، 33، 36) بين اليهود وبين المتكلّم. فمع أن كل الأشخاص هم يهود، إلاّ أن بعضاً منهم يسمّون بهذا الاسم. ونشير في المعنى عينه إلى "أعياد اليهود" (2: 13؛ 5: 1؛ 6: 4؛ 7: 2، لا أعياد المسيحيين). وهذا التشديد على الاختلاف قد يصل إلى اللاإيمان (6: 41، 52؛ 7: 11، 15، 35) بل إلى العداء (5: 18؛ 7: 1؛ 10: 31؛ 11: 8) مع عبارات قاسية: "وطلب اليهود أن يهلكوه".
أمام هذه النصوص نرى تأثير العلاقات البغيضة بين اليهود والمسيحيين في نهاية القرن الأول. وهذا العداء المتبادل ترك أثراً في النصوص الإنجيلية. الإنجيل هو كلمة الله، ولكنه في الوقت عينه كلمة بشر. لهذا نحن نقرأه في المحيط الذي دوّن فيه.
ونقدّم ملاحظة ثانية حول يسوع الابن.
قلّما ترد لفظة "الابن" بشكل مطلق (لا: ابن الله) في الأناجيل الإزائية (نجدها في مت 11: 27؛ 28: 19؛ مر 13: 32). أما في إنجيل يوحنا فنجد عبارة "الآب والابن". ترد لفظة "الابن" 18 مرّة (خاصة في ف 3، 5) في الأنجيل، وخمس مرّات في 1 يو ومرة واحدة في 3 يو.
بالإضافة إلى ذلك، يتوجّه يسوع خمسين مرّة إلى الله كأبيه أو يسمّيه بهذا الاسم (8 مرّات: "الآب الذي أرسلني"). نحن هنا في قلب الكرستولوجيا والحديث عن يسوع المسيح. هل نحن أمام كلمة تلفّظ بها يسوع نفسه، أم أمام استنتاج الجماعة لموقف من مواقفه؟ مهما يكن من أمر، فالإنجيل هو في الوقت عينه ذاكرة تاريخية عن يسوع وإعادة قراءة مؤمنة تتمّ في الكنائس. وهو يبيّن لنا يسوع المرتبط إرتباطاً عميقاً بأبيه، والمعلن عن اسم الله الحقيقي للبشر.
فيسوع يحدّثنا عن الله كالآب الذي أرسلني (5: 37؛ 6: 44؛ 8: 16، 18؛ 12: 49؛ 14: 24). ويشهد يسوع أنه نال من هذا الآب كل شيء: اسمه (17: 11- 12)، مجده (17: 22، 24)، العمل الذي أعطي له أن يعمله (5: 36؛ 17: 4). وأعطى الآب الابن أن يمتلك الحياة في ذاته (5: 26). وهذه الحياة الحميمة والعميقة التي توجد بين الآب والابن لا تنتهي في علاقة من الأنانية بين اثنين ينغلق الواحد على الآخر. بل هي تتوجّه إلى الخارج: فالله الآب سلّم إلى ابنه كل هؤلاء المؤمنين (6: 37، 39) لئلاّ يهلك أحد منهم. إنهم كخراف أوكل بهم الراعي. هم يعيشون في حماية الآب والابن "لأني أنا والآب واحد" (10: 30). يسوع هو عطية الآب للبشر (6: 33). والتجسّد يعرّفنا أن الله ويسوع متحدان اتحاداً وثيقاً في علاقة فريدة هي علاقة الآب بالابن. وأن هذه المحبة تفيض على البشر فتكشف هوية الله الحقيقية: "لقد أحبّ الله العالم حتى وهب ابنه الوحيد" (3: 16).
وهكذا يصوّر إنجيل يوحنا هذا الإتّحاد الوثيق بين الآب والابن. فالابن لا يصنع إلاّ ما رآه، ولا يقول إلاّ ما سمعه، ما تعلّمه من الآب (8: 28، 38، 40؛ 12: 49؛ 15: 10). في الحقيقة سلّمه الآب كل شيء (13: 3)، ومن رأى يسوع رأى الآب. قال يسوع لفيلبس: "من رآني رأى الآب. لماذا تقول: أرنا الآب؟ ألا تؤمن أنني في الآب وأن الآب فيّ" (14: 9- 10)؟ وحين عاد يسوع إلى الله، حدّد أنه ذاهب إلى "أي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (20: 17). فالمؤمن المولود من الروح قد صار ابن الله. ولكن هذه البنوّة بالتبنّي لا تماثل نبوّة الابن الوحيد (1: 14) الذي وُجد منذ الأزل.
منذ أولى صفحات الكتاب المقدّس إلى آخرها، نحن نشهد كشفاً تدريجياً لوجه الله. وانجيل يوحنا يشكّل المرحلة الأخيرة في هذا الوحي. فيسوع هو كلمة الله الأخيرة. صار الكلمة بشراً، ولكنه ظلّ كلمة الله فأعلن في وحيه أن الله أخبر عن ذاته في ابنه. هناك ألقاب عديدة دلّت على يسوع: ابن الإنسان، الرب... ولكن أفضل تعبير عن س الله نجده في علاقة الآب والابن.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM