الفصل الثاني: العهد والشريعة

الفصل الثاني
العهد والشريعة
4: 1- 7: 36

أ- المقدّمة
بعد استعادة التاريخ، يبدأ موسى بإيراد الكرازة الاشتراعية بمواضيعها المميّزة. أوّلاً: سِرُّ الله الذي تجلّى عبر تاريخ شعبه (الوعد، الخروج، الشريعة، الأرض الطيّبة). يبدو الله ذلك القوي الذي يعمل عظائمه على عيون شعبه، ذلك الأمين الذي يعد ويفي بما يعد به. لهذا، فيهوه هو الإله الواحد وما عداه من آلهة هو صنع أيدي البشر من خشب وحجر. ثانياً: سرُّ الله في اختيار شعب له عبْر تتالي مراحل التاريخ: بنو إسرائيل هم حصّة الرب الخاصة وشعبه المقدّس الذي غمره بأنعامه فجعله كبيراً رغم صغر حجمه، وعامله كما يعامل الأب ابنه. ثالثاً: مثل هذا الاختيار الذي لا ينحصر في الماضي، بل يتعدّاه إلى الحاضر (ها أنتم اليوم كنجوم السماء. رج 1: 10) والمستقبل، يفرض على الشعب أن يلزم نفسه بوصايا الله وعهده فلا يعرّض نفسه لعبادات وثنية، بل يحيا من كلمة الله فيسمعها ويعمل بها.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- وعظ وإرشاد يستند إلى تاريخ الشعب: 4: 1- 49
بعد أن ذكّرهم الكاتب بالحياة في البرية عاد إلى الحالة التي تواجههم اليوم: عليهم أن يحفظوا الشريعة، وإن أهملوها عاقبهم الرب كما في بعل فغور. أمّا إذا حفظوا شريعة الرب فسيقودون سائر الشعوب إلى العهد الذي دشّنه الرب على جبل حوريب وأعلن عليه وصاياه العشر.

4: 1- 8: الأمانة للرب وما تجلبه من خير
"لا تزيدوا ولا تُنقصوا": أحكام الشريعة لا تتبدّل (رج 12: 13). نقرأ أيضاً خاتمة شريعة ليفيت عشتار البابليّة في القرن التاسع عشر ق. م. يعتبر الكاتب الملهَم أنّ الشريعة كاملة لا ينقصها شيء، مع أنّ لا شرائع مدنية فيها كتلك التي في كتاب العهد (خر 20: 22- 22: 23) والتي تورد ما يجب عمله إذا كان هناك ضرر.
"بعل فغور" (آ 3): رج عد 25: 1ي، حيث نقرأ عن كفر بني إسرائيل والعقاب المريع الذي حلّ بهم فما استطاعوا أن ينسوه. إنّ شعب إسرائيل لا يحيا إن لم يبق داخل العهد، إن لم يثبت على أمانته للرب.
"إحفظوها لأنّها تُظهر حكمتَكم وفهمكم " (آ 6). الرجل الحكيم هو الذي يبحث عن النظام (1 مل 3: 16- 28)، ووظيفة الشريعة أن تثبت النظام. فإن عاش شعب الله في نظام كان موضوع إعجاب الأمم الوثنية. نحن هنا في في جو حكي (سي 19: 18؛ 24: 32) مع فارق جوهري وهو أنّ النجاح المنتظر لا يكون للفرد، بل للأمّة كلّها.
"أيّة أُمّة كبيرة لها سُنَن " (آ 8). بهذا الكلام يعلن بنو إسرائيل افتخارهم بالشريعة ويعتبرونها أعظم أفضال الرب لشعبه (مز 19: 1ي؛ 119: 1ي؛ 147: 19). وهكذا ليس على شعب إسرائيل أن يحسد الممالك المجاورة (بابل، مصر، فينيقية)، ورسالتهُ تختلف عن رسالة الأمم، وليس له أن يسترضي الآلهة الوثنية وأن ينسب اليها كلّ هذا النجاح (2 أخ 33:28 ؛ إر 17:44- 19)، بل يتّكل على ربّه وحده.
هذه السنن صادقة وعادلة، لأنّها تساعد المشترع على حلّ مشاكل المتخاصمين بالعدالة، وعلى إنصاف المساكين وتخليصهم من يد الظلم.
آ 9- 14 ظهور الرب في سيناء
نحن هنا في إطار ظهور الرب كما على جبل سيناء، وستُعطى للشعب الوصايا العشر لا يقول الكاتب "وصايا" بل "كلمات " (دبريم في العبرانية، ولا ننسَ أنّ "دبريم " هو عنوان سفر التثنية في النص الماسوري) أي متطلّبات العهد فيذكّرنا بالمعاهدات بين الملوك وعمِّالهم (رج خر 20: 1؛ 27:24 ي؛ تث 10: 4).
سوف نرى أنّ الكاتب يميّز بين الكلمات، أي الوصايا العشر، التي كتبها الله على لوحين، وبين الواجبات والأحكام التي أعلنها موسى بوحي من الرب.
"على لوحين من حجر". لا نحسب أنّ قسمًا من الوصايا كتب على لوح، وقسمًا ثانياً على لوح آخر. فكلّ لوحة كانت تتضمن الوصايا العشر كلّها بحيث كانت هناك نسختان: نسخة بيد الله ونسخة بيد شعبه (نسخة بيد الملك ونسخة بيد عامله). عند الشعوب الوثنية كانت توضع النسخة في هيكل الإله كشاهد على المتعاقدين، أمّا في بني إسرائيل فاللوحتان أو النسختان موضوعتان في تابوت العهد (10: 1- 5؛ 31: 9- 26) حيث عرش الله ورمز حضوره مع "عامله" الذي هو شعب إسرائيل.
"علِّموها بنيكم ". على كلّ واحد أن يعرف الشريعة، لأنّ في الطاعة للشريعة حياة الأمّة. وواجب الآباء أن يعلّموا أبناءهم الديانة والشريعة، وأن يبيّنوا لهم مكانة بني إسرائيل في مخطّط الله. وكان التعليم يتمّ بشكل سؤال وجواب. ففي عيد الفصح مثلاً يسأل أصغر الحاضرين المحتفل فيجيبه راوياً له معجزة خلاص بني إسرائيل من مصر، شارحاً له رمز هذه الوليمة (خر 12: 26 ي). لا يجب أن ننسى أنّه كان للتقليد الشفهي المنتقل من الآباء إلى الأبناء دور هام في حياة بني إسرائيل. "إذا سألكم بنوكم... فقولوا لهم " (6: 20- 21؛ رج 32: 7). وقال مز 44: 2: "بآذاننا سمعنا يا الله، وآباؤنا أخبرونا بما عملته في أيامهم، في الأيّام القديمة" (رج مز 78: 3)
يحذّر سفر التثنية الشعب مراراً من أن ينسوا الرب (6: 12؛ 8: 11، 19؛ 26: 13)، أن يغفلوا عن أحداث حوريب (4: 9، 23) والبرية (9: 7)، ويدعوهم إلى أن يتذكّروا الرب (8: 18) ونجاتهم من عبودية مصر (5: 15؛ 7: 18- 19؛ 15: 15؛ 16: 3 ؛ 24: 8) واختباراتهم في بريّة سيناء (8: 2؛ 9: 7؛ 24: 9؛ 25: 7). بهاتين الكلمتين "نسي وتذكر" يلفت الكاتب الاشتراعي نظر الجيل الحاضر الى أحداث الماضي، ويدعوه إلى وعي متجدّد لما عمله الله له حين أخرجه من مصر، وما يمكنه أن يعمله له كلّ يوم.

آ 15- 24: تحذير من عبادة الأوثان
يقول التقليد إنّ بني إسرائيل لم يروا صورة للرب في حوريب، بل سمعوا صوته فقط. لهذا عليهم أن يمتنعوا أن يصنعوا للرب الصور والتماثيل.
هذا المقطع هو عظة عن الوصية الثانية (5: 8؛ خر 20: 4؛ 32: 1) التي تمنع المؤمن أن يصنع تمثالاً للرب، فيصبح الرب شيئاً في يد المؤمن يصنع به ما يشاء، وهذا ما يتنافى مع مبدأ سموّ الله وحرّيته.
لا صور، لا تماثيل. لا يصنع المؤمن صورة ليهوه، ولا يكون له تماثيل لآلهة أُخر فيعبدها وينكر إيمانه بربه.
"شكل ذكر أو أنثى" (آ 16). تعوّد الأقدمون أن يتصوّروا الآلهة بشكل ذكر وأنثى (أدونيس وعشتروت)، وهذا ما أرادت الوصية أن تحذّر المؤمن منه.
"شكل شيء من البهائم... " كما عند الأمم الوثنية (صورة الثور أو الأسد).
"لئلاّ ترفعوا عيونكم إلى السماء" (آ 19). كلّ عبادة للكواكب محرّمة في شعب إسرائيل (17: 3 ؛ 2 مل 17: 16 ؛ 23: 4؛ ار 8: 2؛ حز 8: 16)، ولكنّ الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى الأمم التي لا تعرف الله. لقد كان اعتقاد يقول إنّ الأجسام السماوية تؤثّر في مصير البشر (الأسترولوجيا أو علم التنجيم)، وكان الناس يهتمّون بهذا الاعتقاد بصورة خاصة عندما يكون المستقبل غامضاً، كما كانت الحالة في نهاية الملكية في يهوذا (2 مل 3:21-6).
فصّل سفر التثنية كلّ الصور الممنوعة التي نجد نماذج عنها في الديانة المصرية والكنعانية. أمّا سكّان المياه التحتية العائشة في المحيط السري الذي تقوم عليه الأرض، فهي كائنات مخيفة بنظر أهل بابل وأوغاريت، وما كانوا يعبدونها البتة.
ويتحدّث الكاتب عن الآلهة الكواكب التي انتشرت عبادتها بدخول الأشوريين إلى بلاد كنعان وسورية وفينيقية في القرن الثامن (2 مل 21: 3؛ 23: 4- 5 ؛ حز 8: 1 ي). كانوا يقولون إنّ الكواكب كائنات علوية إلهية وكانوا يسمّونها "أبناء الله " (أي 38: 7). غير أنّ التوراة ستجعلها مخلوقات (تك 1: 14- 19؛ أي 38: 31- 32) صنعها الله وهي تأتمر بأمره.
"الرب إله غيور" (آ 24) والغيرة هي قمة الحب. إنّ الرب يطلب من شعب إسرائيل الولاء له وحده. كلّ مرة يحس الله أنّ سائر الآلهة تهدّده في قلب شعبه، فهو يعلن أنّه الإله الغيور (خر 20: 5؛ تث 5: 19؛ 6: 15).

آ 25- 31: عاقبة عصيان الرب
إذا سقط بنو إسرائيل في المستقبل ضحية الشرك وعبادة الأوثان، فسيخسرون الأرض التي سيحتلّونها قريباً ويتشتّتون بين الأمم ويتعبّدون لآلهتها. أمّا إذا تابوا إلى الرب فسوف يجدونه، لأنّه بطبعه الإله الرحيم الذي لا ينسى وعده للآباء.
هذا المقطع يكشف عن معرفة كاتبه بنفي شعب الله إلى بابل سنة 587، ولكن رغم حكم الله القاسي، فالعهد يمكن أن يقوم، ولهذا كتب كتابه يحدوه هذا الأمل لعلّ الشعب يفهم.
"أُشهِد عليكم السماء" (آ 26). هكذا كانت المعاهدة بين السيد وعمّاله: يشهد عليهم القوّات العلوية والقوات السفلية (مي 6: 2). أمّا عبارة "السماء والأرض " فتدلّ على الخليقة كلّها (30: 19؛ 31: 28).
"جماعة معدودة" (آ 27). هذا هو واقع بني إسرائيل خلال الجلاء. وقد حصل لهم ما حصل عقاباً لهم على خطيئتهم.
تطلبون هناك (في المنفى) الرب فتجدونه إذا التمستموه (آ 29). هذا ما قاله إرميا (29: 12- 13) للمسببيّن واعداً إيّاهم بالعودة: تدعونني، تأتون إلي، وتصلّون إليّ فأستمع لكم. تلتمسوني فتجدونني إذا طلبتموني بكلّ قلوبكم.
في آخر الأيّام (آ 30). ضرب الرب شعبه ليعود اليه. بعد أن ذكر الكاتب ذهاب الشعب إلى المنفى (2 مل 17: 6؛ 25: 8 ي)، ها هو ينظر الى الشعب التائب في آخر الأيّام، فيما سيلي ذلك من أيّام، حين يملك الله في شعبه ويقيم معهم عهداً جديدًا لا يزول.
لا ينسى عهده لآبائكم (آ 31). بالنسبة الى الكاتب الاشتراعي، لا شيء ينسخ وعد الله للآباء، حتّى ولا النفي الى بابل. هذا يدلّ على نظرة متفائلة إلى المستقبل وإن كانت معلّقة بما سيفعله بنو إسرائيل: هل سيحافظون على العهد أم لا؟

آ 32- 40: الربّ إله ولا أحد سواه
يذكِّر موسى الشعب بعمل الله الخلاصي في تاريخه (الخروج من مصر، الوحي في حوريب) ليبيّن له طبيعة الله الواحد الذي يتميز عن آلهة سائر الأمم.
هل سمع شعب صوت الله وبقي على قيد الحياة (آ 33)؟ لا يستطيع إنسان أن يرى وجه الله (خر 33: 20) أو يسمع صوته، إلاّ إذا سمح الله بذلك.
"يد قديرة وذراع ممدودة" (آ 34). غالباً ما ترد هذه العبارة لتدلّ على قدرة الله وسعة سلطانه، وقد أعطى لشعبه علامات عن قدرته ليستطيعوا أن يتبيّنوا حضوره (إر 32: 21 ي). قال مز 40: 6 في ذلك: "يارب إلهي الذي لا شبيه له، ما أكثر ما صنعت لنا وأعجب ما فعلت لأجلنا! كيف لي أن أخبر وأحدّث بها، فهي أعظم من أن تحصى! " نقرأ في آ 39 فعل إيمان بالله: الرب هو الاله في السماء من فوق، وفي الأرض ومن أسفل، ولا إله سواه. فإذا كان الأمر كذلك فعلى الشعب الذي يعبده أن يحفظ سننه ووصاياه.
مع آ 40 تنتهي خطبة موسى الأولى: ذكّرهم باحتلال الأرض، ونبّههم إلى أنّهم سيخسرون الأرض إن هم خانوا الرب، ولكنّه فتح باب الأمل: إن هم رجعوا إلى الرب سامحهم الرب واعاد إليهم الحياة (أش 65: 20؛ زك 8: 4) والأرض (خر 36: 27- 28) التي خسروها.

آ 41- 43: إقامة مدن الملجأ في شرقيّ الأردنّ
مع هذه الآيات تبدأ خطبة موسى الثانية. كان موضوع الخطبة الأولى امتلاك أرض الميعاد، أمّا موضوع الخطبة الثانية فهو عرض لأسس الشريعة. قبل الخطبة الأولى قام موسى بعمل تشريعي فنظّم القضاء. وقبل الخطبة الثانية قام بعمل تشريعي آخر فعيّن مدن الملجأ (رج خر 21: 13؛ تث 19: 1-13؛ عد 35: 11- 34؛ يش 20: 1- 8) التي ستتخذ أهميّة كبرى في التشريع اللاحق في شعب إسرائيل.
تنظّمت مدن الملجأ بعد تركيز العبادة في أروشليم وتحريم المعابد المحلّية التي كان يلجأ اليه القاتل بدون تعمّد. نقرأ لائحة لهذه المدن في يش 20: 7 ي: قادش، شكيم... وقد قال هوشع (6: 8 ي) عن راموت جلعاد إنّها مدينة فاعلي الإثم ، وإنّ شكيم مملوءة بالكهنة الذين يقتلون الناس الآتين اليها.
"باصر في البرية". ذكرها نصب ميشع الموآبي.
راموت في جلعاد تقع شمالي جبل جلعاد (2 مل 14: 25).

آ 44- 49: مقدّمة الخطبة الثانية
كما أنّ 1: 4- 5 كان مقدّمة الخطبة الأولى (1: 6- 4: 40)، تشكّل هذه الآيات مقدّمة الخطبة الثانية (5: 1ي).
يسمّي النصّ "سيئون " جبل حرمون. وهذه التسمية غير معروفة في التوراة، ولهذا صحّحت الترجمة السريانية كلمة "سيئون " وجعلتها "سريون " الذي هو اسم جبل حرمون عند أهل اوغاريت، (تث 3: 9).

2- العهد في حوريب: 5: 1- 33
أدخل الكاتب الاشتراعي كلماتِ الوصايا فجعلها كمقدّمة للشريعة الاشتراعية كما جعلها الكاتب الالوهيمي مقدّمة لكتاب العهد (خر 20: 22- 22: 23). وفي الحالين يستنتج المشترع من الوصايا الأولى كلّ الشرائع اللاحقة التي يعتبرها مرتبطة بهذه الوصايا ارتباطاً وثيقاً.
في كتاب العهد نوعان مختلفان من الشرائع: الجرائم التي عاقبتها القتل، والأخطاء المدنية التي تُفدى بدفع ضريبة (خر 21: 12 ي). الجرائم ترتبط بالوصايا العشر، ومن اقترفها كان عقابه الموت. هذا ما كانت عليه الأمور في بني إسرائيل (قبل المنفى) الذين دمجوا الوصايا العشر بشرائع الكنعانيين عند دخولهم أرض الميعاد. أمّا الكاتب الاشتراعي فقد فهم علاقة الرب بشعبه بشكل معاهدة تحدّد مصير بني إسرائيل كلّه.

5: آ 1- 5: مقدّمة الوصايا
تبدأ المقدّمة بهذه العبارة: إسمع يا إسرائيل. وهي تتوجّه إلى الشعب لتدفعه إلى فعل إيمان جديد بربّه. وقد تعوّد سفر التثنية أن يحصر هذه العبارة بالخطب المهمّة (6: 4 ؛ 27: 9)، أو بتلك التي تدعو الشعب إلى الحرب (9: 1؛ 20: 3).
الوصايا هي نص عهد حوريب حيث كلّم الرب بني إسرائيل وجهاً لوجه كما يكلّم الشخص صاحبه. هذا لا يعني أنّنا أمام رؤية (4: 12 ؛ 34: 10)، بل أمام علاقة حميمة هي أبعد ما تكون عن الجو القانوني والتشريعي.
"لا مع آبائنا قطع ذلك العهد" (آ 3). نجد لهذه الآية معنيين. أوّلاً: عهد حوريب يقابل عهد الله مع الآباء. ثانياً: ليس العهد حدثاً ماضياً لا علاقة له بالأحياء اليوم، بل هو يتوجّه إلى السامعين اليوم ويدعوهم إلى أن يلتزموا به ويعيشوا بموجبه.
كان الرب يتكلّم وسط النار فيسمع له موسى ويوصل كلامه إلى الشعب. هذا يعني أنّ كلام الله لم يصل مباشرة إلى الشعب، بل عبر شخص موسى واللاويين من بعده.

آ 6- 21: الوصايا العشر (أو الكلمات العشر)
تبدو الوصايا العشر أساس العهد الذي يؤمّن لبني إسرائيل حماية ربّهم. من هنا أهميّة المقدّمة (آ 6) التي تعتبر جزءاً لا يتجزّأ من الوصايا. يعلن يهوه حقّه في فرض إرادته على شعبه، وهذا ما يجعل الوصايا في إطارها الديني الصحيح كما في سائر الديانات، كتعبير عن إرادة الله. وحقّ الربّ (أنا الربّ) لا يتأسّس على علاقة أسطوريّة، بل على حدث تاريخي هو تحرير شعبه من مصر في هذا الإطار تكون الوصايا "شريعة الحرية" (يع 1: 25) وكفيلة الحرية التي وُهبت لشعب الله والتي لا تدوم إلاّ بالأمانة للعهد وعبادة الرب وحده.

أوّلاً: لا يكن لك آلهة سواي (آ 7)
هنا تبدأ الوصية الأولى وهي تنبذ من عالم بني إسرائيل كل إله ما عدا الرب يهوه. هي عبارة موجزة ستفسّر في آ 9: لا تسجد لها ولا تعبدها. والعبادة والسجود يتمان في الإطار الليتورجي. الرب لا يقبل أن يزاحمه أحد في قلوب المؤمنين، لا يقبل أحداً معه أو أمامه (أي ضدّه وعلى حسابه). إنّه الإله الغيور (4: 24) الذي يريد حبَّ شعبه كلّه له (خر 34: 14؛ تث 6: 14؛ 32: 16؛ يش 24: 19).
هذه الوصية الأولى لا ترفض وجود آلهة أُخر، بل تمنع بني إسرائيل من أيّة علاقة بهذه الآلهة. وينتج عن ذلك رفض أي إلهة مؤنثة تكون صنواً للإله الذكر، كما عند الكنعانيّين، كعنصر يؤمَّن الخصب ونموّ المواشي. إن المعاهدة مع دولة كبيرة تتضمن اعترافاً بآلهتها. فعلى بني إسرائيل أن يعتمدوا على إلههم وحده، وهو الذي أعانهم على فرعون وسيعينهم على كلّ عدو.
الوصية الأولى تعطي المبدأ الأساسي الذي يطبّق في ما يحرم من طعام (14: 3 ي)، في معاقبة عابدي الأوثان ( 13 1ي؛ رج خر 22: 19)، في هدم المعابد الوثنية (7: 5 ،12: 3، خر 34: 13)، وفي رفض الزواج بالوثنيين (7: 3- 4).

ثانياً: لا تصنع لك تمثالاً (آ 8)
كلّ علاقة مع سائر الآلهة ممنوعة، كل صورة ليهوه (الإله الذكر) ممنوعة. هذا لا يعني أنّ الأقدمين كانوا يعتبرون الإله محصوراً في صورة. هم كانوا يعرفون أنّ الإله لا يُسجن في قطعة من الخشب أو الحجر، ولكنّهم كانوا يظنّون أنّه يدخل في هذا التمثال فيصبح بمتناول الإنسان. غير أنّ هذا الاعتقاد يتعارض ومبدأ بني إسرائيل الديني الذي يقول إنّ الله حرّ وأن لا شيء ولا أحد يفرض إرادته عليه. الله حرّ فلا تؤثّر فيه مناورات الإنسان ولا ينحصر في مكان فيقال إنّه هنا أو هناك. لقد عمل العبرانيون بهذه الوصية فكان الهيكل بغير صور ولا تماثيل. ولقد راح العبرانيون يمنعون وجود كل صورة مأخوذة من الطبيعة حتّى يطبّقوا هذه الوصيّة بحذافيرها.
هذه هي الوصيّة الثانية، وقد أخذت أهميتها عندما اتصل بنو إسرائيل بجيرانهم. بدأوا فرفضوا كل نظرة خاطئة الى يهوه قبل أن يهاجموا آلهة جيرانهم: كانت الديانات القديمة تحسب أنّه من الضروري وجود "تمثال " أو صورة ليتّصل الإنسان بالله. لم يكن هذا التمثال كائناً علوياً أو تجسيداً للإله، بل كان وسيلة ونقطة يلتقي فيها عالم الله بعالم الأرض. مثل هذا التمثال لا يعبده الإنسان، بل يستعبده ويستفيد منه.
قبلَ الشعب بالامتناع عن كل صورة، ولكن ماذا يعني بالنسبة إليه الروح المحض؟ هو لا يعني له الشيء الكثير، لأجل ذلك سعى إلى إعطاء الله وجهاً بشرياً أنترووبوموفيًّا، أعطاه شكل إنسان فجعله يغضب ويندم ويرى ويسمع وينزل ويصعد. إنّ الله يكشف عن ذاته في أحداث التاريخ، ساعة يشاء، وكما يشاء، لا في أشياء يسيطر عليها الإنسان.
كانت طقوس تابوت العهد من دون تماثيل، ولكنّ العبادة في البيوت كان لها تماثيلها فقال سفر التثنية (27: 15) في ذلك: "ملعون من يصنع منقوشاً أو مسبوكاً ويضعه في الخفاء" (رج خر 34: 17). وتلك عادة لم يتخلّ عنها بنو إسرائيل بسهولة (قض 17: 1ي). أمّا الشريعة فلا تريد أن يخلط المؤمنون بين يهوه والآلهة الغريبة، لذا رفضت العجل الذهبي (9: 16) الذي يجعل المؤمنين لا يميّزون الرب وآلهة مصر
لا تسجدْ لها (آ 9- 10). لا تسجد لهذه الآلهة، وإلاّ عاقبك الرب أنت ونسلك. الرب إله غيور، يعرف أن تكون له متطلّباته، يعرف أن يكون محبًّا ورحيمًا: تنتقل بركته من الآباء إلى البنين ويصل عقابه إلى الأبناء بسبب الآباء.

ثالثاً: لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً (آ 11)
الكلمة العبرانية التي تترجم "باطلاً" هي "شوا". وهي تعني الكذب والشرك والخطيئة. وهكذا تمنع الوصيّة الثالثة الدعاء باسم الرب بنيّة سيّئة لتغطية كذب، لإعلان لعنة، للتلفّظ بكلام سحر (لا 19: 12). وتمنع أيضاً استعمال اسم الرب كشيء ناقص نجس (الباطل هو الهزيل كلّ ما لا قيمة له)، والتعامل مع هذا الاسمِ السامي (خر 3: 5) كأنّه شيء غير مقدّس فننتهك حرمته. واحترام اسم الله يتضمّن أيضاً الامتناع عن الحنث باليمين وممارسات السحر.
عندما قطع الله مع شعبه عهداً كشف له عن اسمه. ولكنّ بني إسرائيل كانوا يعتبرون أنّ معرفة اسم شخص تعني امتلاك سلطة على هذا الشخص. فطبّقوا هذا الأمر على الله وظنّوا أنّ لهم سلطة على يهوه لأنّهم يعرفون اسمه. فصار العارف بالاسم كمالك التمثال، وهو ينتظر من الاسم أن يكون تعويزة تحميه مثل التمثال. وهكذا، فما يستحقّ العقاب ليس التجديف وحسب، والرب ذاته يحكم على المجدِّف بالموت (أي 2: 9)، ولا الحَلَف الكاذب فقط، والرب بنفسه يتّخذ الإجراءات ضد من يحلف بالكذب، بل استعمال اسم الله في كلام سحري ليفعل الله إرادة الإنسان بدل أن يفعل الإنسان إرادة الله.

رابعاً: إحفظْ يوم السبت (آ 12)
إحفظْ يوم السبت (آ 12). هذه هي الوصية الرابعة في صيغتها الإيجابية. أمّا الصيغة السلبية فيمكن أن تكون: لا تعمل عملاً يوم السبت (رج آ 14).
"سبت " تعني استراح، توقّف عن العمل، تعطّل وبقي بلا عمل. يفترق يوم السبت عن سائر الأيّام التي هي أيّام عمل. وهكذا تفصل الوصية بين أيّام العمل ويوم الراحة. بالإضافة إلى ذلك صار اليوم السابع في العهد القديم يومَ عيد يحتفلون به كما يحتفلون بسائر الأعياد (هناك رباط بين السبت وأوّل القمر. رج عد 28: 10- 11؛ 2 مل 4: 23؛ أش 1: 13؛ 66: 23)، يوم تكريس الزمن للرب. فكما يقدّم المؤمن للرب أولى غلاله، كذلك يقدّم له أوّل أيّام أسبوعه.
"قدّس " الشيء: جعله خارج الاستعمال اليومي ليكون مكرّساً ومخصصاً للرب. وعندما يقدّس المؤمن السبت فهو لا يعمل فيه إلاّ ما يأمره الله به أي الصلاة، ومطالعة الكتاب المقدّس، أعمال الرحمة... السبت ليس يوم البقاء بلا عمل فحسب (2 مل 4: 22 ي)، بل يوم تحرير الإنسان من رتابة العمل اليومي.
أُذكرْ أنّك كنت عبداً (آ 15). بما أنّ بني إسرائيل كانوا عبيداً في أرض مصر، فعليهم أن يحررّوا عبيدهم من العمل يوم السبت. وهنا يختلف التقليد الاشتراعي عن التقليد الكهنوتي الذي يربط راحة السبت بخلق العالم (تك 2: 1- 4). قال الكهنة: إنّ الله استراح بعد عمله، كذلك يستريح الإنسان بعد عمل ستة أيّام. أمّا سفر التثنية فيربط شريعة السبت بعبودية بني إسرائيل في مصر، حيث لم تكن لهم عطلة أسبوعية، فيعيشون دوماً في رتابة العمل اليومي. وهكذا فتنظيم يوم السبت يدلي على الاستقلال السياسي الذي يحرّرهم من حكم الفرعون وعبوديته، ويربطهم بسلطان الله وعبادته. بهذا الشكل يصبح السبت دليلاً آخر على حنان الله ورحمته لشعبه.

خامساً: أكرم أباك وأمّك (آ 16)
هذه هي الصيغة الإيجابيّة للوصيّة الخامسة، أمّا الصيغة السلبية فقد حفظت لنا في تث 27: 6: ملعون من يستخفّ بأبيه وأمه. وفي خر 21: 17: من لعن أباه وأمه فليُقتلْ قتلاً. ويمكن لهذه الصيغة أن تكون: لا تلعن أباك أو أمّك.
في إطار العائلة الواسع يتعدّى هذا الإكرام الطاعة البنوية ليفرض على الأبناء ألاّ يقسوا في معاملة الشيوخ (أم 19: 26)، وألا يتخلّوا عنهم وقت المرض والعجز (رج مر 9:7-13).
أكرِمْ (كبد في العبرانية) تدلّ على الخضوع (1 صم 15: 30؛ مز 86: 9)، فتطلب من الرجال أن يهتمّوا بالشيوخ فيؤمِّنوا لهم دفنة لائقة (رج طو 4: 3 ي). وهكذا يدلّون على أنّهم باقون على إيمان الآباء الذي انتقل اليهم كما انتقل اليهم مُلك أرض الرب. وهكذا يكون للوصية الخامسة علاقة بالرب وبالإيمان به.

سادساً: لا تَقتُلْ (آ 17)
أمّا الوصايا الخمس اللاحقة فهي مخصصة للعلاقات بالقريب: احترام حياته وبيته وحرّيته كلّ ما يملك
الوصية السادسة تمنع الإنسان من قتل أخيه الإنسان، ولكنّها لا تمنعه من الأخذ بالثأر (19: 1- 13) أو القيام بالحرب أو الحكم بالإعدام. غير أنّ العهد الجديد سيكون أكثر تطّلباً بالنسبة إلى هذه الوصية. سمعتم أنّه قيل: أمّا أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه، من قال له يا أحمق، يا جاهل، يستوجب نار جهنّم (مت 5: 21 ي).

سابعًا: لا تزْنِ (آ 18)
إنتهاك الوصيّة السابعة ليس خطيئة ضدّ العفّة بقدر ما هو ضدّ ملكية الرجل لامرأته.
لهذا جاءت الوصية السابعة بين المنع من القتل والمنع من السرقة (نحن هنا في إطار الأخلاقيّات الاجتماعية). بالإضافة إلى ذلك، يجب على الرجل أن يعرف من همْ أولاده (عد 5: 11- 31) ليستطع أن يقسم بينهم ميراثه وينقل إليهم اسمه.

ثامنًا: لا تسرق (آ 19)
الوصيّة الثامنة تتطرّق خاصة إلى سرقة الأشخاص وخطفهم وبيعهم كالعبيد (7:24). هذا ما فعل أبناء يعقوب بيوسف أخيهم، تصرّفوا معه وكأنّهم قتلوه (تك 18:37 ي). أمّا سرقة الأشياء فسنقرأ عنها في الوصيّة العاشرة.

تاسعًا: لا تشهد شهادة زور (آ 20)
الوصيّة التاسعة تمنع الإنسان من الكذب، وخاصة أمام العدالة (19: 15 ي). من شهد شهادة زور يعرض قريبه للقتل (رج 1 مل 21: 8- 16 وقصة نابوت اليزرعيلي).

عاشرًا: لا تشتهِ زوجة قريبك (آ 21)
كان النص القديم (رج خر 20: 17) يذكر المرأة بعد البيت وقبل العبد، فيجعلها أحد متاع الرجل. أمّا سفر التثنية فيجعلها في رأس اللائحة ويستعمل فعلين مختلفين ("حمد" للمرأة، "أوه " للبيت والحقل) وكأنّه بذلك يجعل من هذه الوصية العاشرة وصيتين متميزتين. إذاً نجد في هذا النص تطوّراً في النظر الى المرأة جاء إلى بني إسرائيل من مصر، فلم تعد الزوجة مجرّد متاع للزوج. إذا كان على المرأة من الواجبات ما على الرجل (7: 3 ؛ 13 :6؛ 15: 12- 17؛ 17: 2- 5 ؛ 22: 22)، فلها دور تلعبه في جماعة بني إسرائيل (12: 12، 18 ؛ 16: 11، 14 ؛ 29: 11، 18).
أمّا الإنجيل (مث 5: 27 ي) فيغيّر هذه النظرة إلى المرأة فيجعلها مساويةً للرجل في هذا المجال: من نظر الى امرأة فاشتهاها زنى بها في قلبه. وزاد بولس فقال: "لم يبق من بعد عبد أو حر، ذكر وأنثىً" (غل 3: 28). وقال أيضاً: "لا سلطة للمرأة على جسدها فإنّما هو لزوجها، وكذلك الزوج لا سلطة له على جسده فإنّما هو لامرأته " (1 كور 7: 4).

آ 22-33: تعيين موسى وسيطاً للعهد
يذكّرنا هذا المقطع بإطار ظهور الرب على الجبل، كيف أنّ الله لم يحتج إلى وسيط عندما أعطى شعبه وصاياه وتلفّظ بها بفمه. وكتبها بيده على لوحين من حجر (خر 20: 1-19). أمّا في عهد موآب، فموسى هو الوسيط بين الله والشعب. في كلّ معاهدة هناك رسول يرضى عنه الفريقان: الله رضي عن موسى (آ 31)، والشعب فوّضه وانتدبه. بهذه الطريقة لن يكون انقطاع بين عهد حوريب وعهد موآب، فيقبل الشعب أن تُعلنَ عليه الشريعة لا بفم موسى فقط، بل بفم القضاة (قض 10: 1- 4 ؛ 12: 7- 15) والأنبياء (18: 15) والمعلّمين. إنّ الشريعة هي واحدة في كل أسفار التوراة.
الجماعة (قهل في العبرانيّة) تدلّ في التقليد الاشتراعي على الشعب المجتمع عند أسفل جبل حوريب ليقطع عهداً مع ربّه ويتقبّل منه الشريعة (9: 10؛ 10: 41؛ 18: 16 ؛ 31:.3). وتدلّ على جماعة المصلّين الذين يكوّنون شعب الله (23: 2- 9، يش 8: 35 ؛ 1 مل 8: 33). استعمل التقليد الكهنوتي كلمة "عدة" (لا 8: 4 ؛ عد 1: 2، 53) ليحدّثنا عن جماعة شعب الله. أمّا النصّ اليوناني فترجم "عدة" بكلمة "سيناغوغي " (راجع كلمة "عدتو" في السريانية) التي تدلّ على المجمع والكنيس، أي على جماعة اليهود المصلّية. وترجم "قهل " بكلمة "إكليسيا" (في السريانية "كنوشتو" وفي العربية "كنيسة") التي تدلّ على الكنيسة أي على جماعة العهد الجديد.
"الله كلّم إنساناً" (آ 24). أجل، يستطيع الإنسان أن يسمع صوت الله ويبقى على قيد الحياة. خاف الشعب أن يجرّب الرب ويطلب إليه أن يسمعه كلامه مرّة أخرى. إنّ الشعب الذي ذهب إلى السبي اعتبر نفسه خاطئاً نجساً فلا يحق له التقرّب من الله. وعى أنّ هناك هوّة سحيقة تفصل بين كائن إلهي وكائنات من لحم ودم وعرضة للموت. وعى أنّ في الرب قوّة حياة تجعل طبيعة الإنسان تزول بمجرّد القرب منها: إنّ الله نار آكلة (عب 12: 29). أمّا رؤية الله، فهي تتمّ، نتيجة نعمة سماوية يقول فيها القدتيس يوحنّا: "أيّها الأحبّاء، نحن منذ الآن أبناء الله، وما كشف لنا بعد عما نصير اليه. نحن نعلم أنّنا نصبح عند هذا الكشف أشباهه لأنّنا نراه كما هو" (1 يو 3: 2 ؛ رج يو 1: 17- 18؛ 6: 46).
"فاحرَصوا أن تعملوا" (آ 32). ويعود النص إلى لهجة الوعظ والإرشاد فيشبّه الشريعة بطريق (رج 19: 9. "درك " في العبرانية. وفي العربية أدرك بمعنى بلغ) يسلكه بنو إسرائيل ليذهبوا إلى ربّهم.

3- القواعد الاشتراعية 6: 1- 7: 26
نصل هنا إلى خاتمة القسم الأوّل من سفر التثنية حيث نقرأ خمس قواعد تعبّر عن جوهر الديانة الاشتراعية بشكل كرازة مؤلّفة من عناصر مأخوذة من سائر التقاليد ومقولبة في مقالة مبتكَرة خاصة بسفر التثنية.

6: 1- 3: المقدّمة
إنّ مكافأة الشعب الأمين لربّه أرض تدرّ لبناً (حلب في العبرانية) وعسلاً (دبش في العبرانية). هذه العبارة نقرأها هنا (11: 9؛ 26: 9- 15؛ 27: 3؛ 31: 20) وفي سفر الخروج (3: 8، 7 ؛ 13: 5؛ 33: 3) واللاويين (20: 24) والعدد (13: 27؛ 14: 8؛ 16: 14)، وهي تدلت على غزارة المطر الذي هو أساس كلّ غنى في عالم الزراعة. يقول تث 11: 11- 12: "لكنّ الأرض يتعهّدها الرب إلهكم، وعيناه عليها من أوّل السنة الى آخرها". وتقول نصوص أوغاريت: " تمطر السماء لبناً وتسيل الأنهار عسلاً ".

آ 4- 9: القاعدة الأساسية: أحبّوا الرب إلهكم
"إسمعْ يا إسرائيل ". هذا المقطع يشكّل مع تث 11: 13- 21 وعد 15: 37- 41 صلاة العبراني اليومية، التي تدعو الشعب إلى اللقاء بربّه في إطار الحبّ والمودة.
الرب واحد. هذا التأكيد يتبعه التنفيذ العملي: محبة الله محبة كاملة لا يشاركه فيها أحد، ووصيّة المحبّة المحفورة في القلوب تتضمن سائر الوصايا. وتطبع بطابعها تفاصيل الحياة اليومية (رج يو 15: 14). وهذه المحبّة للرب تنتقل من الآباء إلى البنين، فيبقى بنو إسرائيل أُمناء لربهم محبّين له مدى أجيالهم.
ولكن ما هي الوسائل التي تذكّر المؤمن بواجب حبّه للرب؟
هناك الوسم على الجبهة كفّ اليد (لا 19: 28؛ أش 44: 5؛ حز 9: 4؛ نش 6:8).
وهناك العصائب على الجبهة وفيها أربعة مقاطع من خر 13: 1- 10؛ 13: 11- 16 وتث 4:6-9 ،13:11-21.
وهناك الكتابة على الأبواب، وهي عادة ما تزال نلاحظها في الشرق. كلّ هذه الوسائل تدل على أنّ شريعة الله تطبع بطابعها حياة الإنسان كلّها.

آ 10- 16: تجارب الشعب في أرض كنعان
التجربة الأولى: سيجد الشعب آباراً محفورة وكروماً مزروعة (8: 7- 11؛ 11: 13-17؛ 26: 10؛ 32: 4)، فيستولي عليها وينسى أنّها عطية مجانية من الرب. التجربة الثانية، هي أخطر من الأولى. يظنّ الشعب أنّ هذه الخيرات هي عطيّة آلهة الخصب عند الكنعانيين. ولكنّ يهوه ليس فقط إله الصحراء والحروب، بل هو أيضاً إله الأرض المزروعة والحياة بسلام. فعلى بني إسرائيل أن لا يخافوا بل لا يعبدوا إلاّ الله، ولا يحلفوا إلاّ باسم الرب الذي هو وحده الإله الحق (رج مز 63: 12؛ هو 2: 17).
إنّ حضور الرب وسط شعبه يعلّمه الأمانة (آ 15). فلا يسمح له أن يخطأ وإن أخطأ حل غضبه عليه. يهوه هو إله الحب، ولكنّه يعامل شعبه بشريعة المثل: إذا آمن الشعب كان له الخير، وإذا خان استعاد الرب حنطه وخمره (هو 1: 11).
كان الناس في القديم يذبحون أبناءهم ليحصلوا على خصب الأرض، وها هم اليوم يضحّون بالإنسان من أجل التقدّم والازدهار، فما تعلّموا بعدُ أن كلّ ما يحققه الإنسان من مشاريع هو عطية الله، وأن لا قيمة له إن لم يكن لسعادة الإنسان الحقّة.
التجربة الثالثة: يمتحن الرب شعبه فيفرض عليه شروطه ويحدّد له المجال الذي يعمل فيه. ولكنّ الإنسان يرفض آيات الرب الماضية ويطلب آيات أُخر فيخطأ ضدّ فضيلة الإيمان. هذا ما فعله الشعب في مسة: طلب ماء هناك ليرى هل الله معه أم لا (خر 17: 1-7). وهكذ جرّب الشعب اليهودي يسوع. بعد أن أعطاهم آيةَ تكثيرِ الخبز (يو 6: 1ي) طلبوا منه آية أخرى ليصدّقوه، وعملاً آخر ليؤمنوا به (يو 6: 29- 30) وهكذا نجرّب نحن الرب كلّ يوم، وكأنّ الآيات التي تحيط بنا لا تكفي لكي تدفعنا إلى الإيمان به والاتّكال عليه.

آ 17- 25: الأمانة لله
إحفظوا وصايا الرب لتلقوا خيراً. وهكذا يرتبط امتلاك الأرض بحفظ الوصايا.
وإذا سألك ابنك (آ20). يفكّر الكاتب الاشتراعي بمعاصريه (4: 9) فيعطي بصيغة ليتورجية ملخّصاً يرجع إلى عيد الفصح (خر 12: 26- 27؛ 13: 14- 15) كالأب يعلّم أبناءه. نحن هنا أمام مثَل من الكرازة العائلية التي يهتمّ بها سفر التثنية (7:6): "كررّوها على بنيكم، كلموهم بها إذا جلستم في بيوتكم، وإذا مشيتم في الطريق، وإذا نمتم، وإذا قمتم " (رج مز 44: 2 ؛ 78: 1- 8).
"كنّا عبيداً لفرعون " (آ 21). كان بنو إسرائيل في خدمة فرعون، فانتقلوا الى خدمة الرب الذي خلّصهم من العبودية ليخصصهم للعبادة، وهكذا ترتبط الشريعة بتاريخ الخلاص ارتباطاً حميماً وتصبح جواباً على الخلاص. فالعمل بالشريعة يؤكّد أنّ نعمة الله التي ظهرت في الخلاص من مصر، لا تزال ظاهرة اليوم من أجل شعب إسرائيل.

7: 1- 16: شعب الله الخاص يتميّز عن سائر الشعوب
عندما يدخل بنو إسرائيل أرض كنعان عليهم أن يقتلوا سكّانها ليحموا أنفسهم من إمكانية عبادة آلهتها. هذا هو موضوع هذا المقطع الذي يرتبط بالإخبار اليهوهي والالوهيمي (خر 23: 20- 33؛ 34: 11- 16) والذي يمنع على الشعب كلّ عهد أو زواج مختلط أو ممارسة شعائر العبادة الكنعانيّة. ولكنّ هذه الشريعة لم يعمل بها بنو إسرائيل الذين أخذوا بالكثير من عوائد الكنعانيين وطرق عبادتهم. لهذا اعتبر الكاتب الاشتراعي أنّ نكبة الجلاء سببها الابتعاد عن الله والتعلّق بالآلهة الغريبة. إذاً على شعب إسرائيل إلاّ يعود إلى خطأه القديم، عليه ألاَّ يثق إلاّ بالله وحده الذي أبان قدرته في الأمم يوم شتّتهم أمام شعبه، وهو مستعد أن يفعل اليوم الشيء عينه إن عاد شعبه إليه.
وتورد الشريعة لائحة بالشعوب الذين أقاموا في أرض كنعان قبل بني إسرائيل.
الحثيون هم بقايا مملكة كبيرة ازدهرت في آسية الصغرى وشمالي سورية في الألف الثاني ق. م.
الجرجاشيون: لا نعرف الكثير عنهم. والكتاب يكتفي بذكر اسمهم (تك10: 16؛ 21:15).
الأموريون: جاؤوا من بلاد الرافدين وأقاموا في المنطقة الجبلية.
الفرزيون: جماعة حثية أو حورية أقامت شرقيّ الأردنّ (3: 5) وفي مقاطعة بنيامين.
الحويّون: قبيلة أمورية (2 صم 21: 2) أقامت في جبعون (يش 9: 7) وشكيم (تك 34: 1) وأدوم (تك 36: اي).
اليبوسيون: سكّان أورشليم قبل مجيء داود اليها (2 صم 6:5-8).
يعدّد الكاتب هذه الشعوب ويشدّد على قوّتها ليبيّن بالمقابل قوة الله التي ستزيلها بلا شفقة. إنّ شعب إسرائيل سينفّذ أمر الرب فيفني هذه الشعوب فتكون تقدمة ليهوه، قائد جيوش بني إسرائيل، وتكون محرّمة عليهم.
ونتساءل: ما معنى هذه المذابح التي يأمر الرب بها؟ يجب أن نفهم هذا الكلام في إطاره التاريخيّ. كانت التقاليد الكتابية تعتبر أنّ احتلال أرض كنعان هو نتيجة حرب الرب من أجل شعبه، وأنّ القواد ينفّذون ما يأمرهم الرب به بحيث إنّ أوامرهم هي أوامر الرب بالذات. هكذا كانت تفعل الشعوب القديمة، وهكذا كان يفعل بنو إسرائيل، وستحتاج البشرية إلى أجيال ولن تزال تحتاج، لكي تبتعد عن عوائد همجية لم نتخلّص منها بعد.
ثمّ إنّنا لا نستطيع القول إلى أيّ مدى نفّذ بنو إسرائيل هذه التعليمات في كل المدن التي احتلّوها، هذا مع العلم أنّ سفر التثنية كُتب يوم لم تكن الحرب المقدّسة إلا أخباراً عالقة في ذاكرة الرواة.
وأخيراً نلاحظ أن آ 3- 5 لا تحدّثنا عن إفناء هذه الشعوب، بل عن الامتناع من مصاهرتهم ودعم معابدهم. وهذا تكون الشريعة التي نقرأ في آ 2 مجرد مثال لم يطبق يوماً، وقد جُعلت هنا لتدعو الشعب إلى عدم المساومة في أمور الديانة.
"أنتم شعب مقدّس للرب " (آ 6- 8)، أي فرزكم الرب وخصّصكم له. اختاركم الرب لأنّه أحبّكم. كان بنو إسرائيل قبيلة ضعيفة هزيلة، لا ثقافة لها ولا قوّة، ومع ذلك اختارها الله. نحن هنا أمام أوّل لاهوت عن مساكين يهوه، وهذا اللاهوت سيتوسّع في الحديث عنه الأنبياء والمزامير ويقول فيه القدّيس بولس: ما كان في العالم من غير حسب ونسب وكان محتقراً فذاك ما اختاره الله (1 كور 1: 28؛ رج مت 11: 25؛ يع 2: 1).
وينتهي هذا المقطع بسلسلة من البركات تعّودنا على سماعها: يباركك، يكثّرك، يبارك ثمرة أحشائك، وتكون مباركاً فوق جميع الشعوب.

آ 17- 26: الثقة بالله
ويعود بنا النص إلى جوّ الحرب المقدّسة.
ولكن يتساءل المؤمن: لماذا تأخّر احتلال الأرض مع أنّ الرب مع شعبه؟ الجواب: لأنّ بني إسرائيل لم يقدروا أن يفنوا جميع الأعداء لئلاّ يكثر عليهم وحش البريّة. كانوا بحاجة إلى بعض الوقت لينتقلوا من حياة البداوة إلى حياة الحضارة.

ج- المعاني اللاهوتية
1- شعب الله
الشعب مقدّس. هذا ما قاله سفر التثنية (7: 6) وردّده مراراً: "لأنّكم شعب مقدّس للرب إلهكم الذي اختاركم " (14: 2 ؛ رج 14: 21) وجعلكم فوق جميع الأمم (26: 19) وأقامكم له شعباً إذا عملتم بوصاياه وسلكتم في طرقه (28: 9). وهذه القداسة ليست صفة يمتلكها الشعب، بل هي عطيّة من الرب الذي اختاره ففرزه من سائر الشعوب وأفرده له. وهذا الاختيار سيفرض على الشعب تصرّفاً يوافق قداسة الله، سيفرض عليه أن لا يعيش كسائر الشعوب (12: 31؛ 18: 9- 14)، بل أن تطابق حياته إرادة الله.
شعب بني إسرائيل شعب صغير إذا نظرنا إليه بحدّ ذاته، ولكنّه شعب كبير بسبب اختيار الله له. وهذا الاختيار لا يبرّره إلاّ حبّ الله (4: 32- 38). وهذا ما ينزع من إسرائيل كل ذريعة ليتكبّر ويتشامخ (رج عا 9: 7). العاطفة الوحيدة التي يجب أن يتحلّى بها هي الإعجاب بعظائم الله وعرفان الجميل لما صنعه له.
وهذه العاطفة هي عاطفتنا نحن المؤمنين اليوم أمام الله الذي اختارنا ليعلن لنا سرّ ملكوته (1 بط 2: 9). ولهذا نتأمّل بكلام القدّيس يوحنّا (1 يو 4: 10) ونبقى صامتين أمام عظمة الله وجوده. "تلك هي المحبة: نحن لم نحب الله، بل هو الذي أحبّنا وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا".

2- الله محبّة
الله هو الإله الغيور (5: 9؛ 6: 15)، الإله العظيم الرهيب (7: 21؛ 10: 17) الذي يحنو على شعبه ويدعوه إلى محبّته. للمرّة الأولى يسمع الإنسان وصيّة سيقول فيها يسوع إنّها أوّل الوصايا (6: 5، رج مر 12: 28). وهذه المحبّة تدخل إلى عمق أعماق المؤمن وتضفي طابعاً خاصًّا على نشاطه العقلي والعاطفي والأخلاقي. هذه المحبّة تخرجه من ذاته وتدفعه باتجاه إلهه فيتمسّك به ويجد فيه حياته وطول أيّامه (30: 20 ؛ رج 11: 22؛ 5:13).
مثل هذه المحبّة تبدّل العلاقات بين الإنسان وخالقه، بين شعب إسرائيل والإله الذي يكشف عن ذاته له. هذا لا يعني أنّ المسافة بين الله والأنسان قد زالت، وأنّ الخوف لن يبقى عاطفة النفس الحقّة أمام جلالة الله، غير أنّ المحبّة تخفّف من حدّة خوف يجعل الإنسان أقرب إلى العبد منه إلى الابن. وإذ يذكّر الكاتب المؤمن أنّ عليه أن يخاف الله ويحبّه في آن واحد (6: 2- 5؛ 10: 12؛13: 14- 15) فهو يدعوه إلى إجلال الله وإكباره واحترامه احتراماً بنويًّا: "انتم أبناء الرب إلهكم " (14: 1).
ويتردّد نداء الرب (6: 5؛ 7: 9؛ 10: 12؛ 13: 4؛ 19: 9) داعياً المؤمن إلى أن يحبّه، وهذا الترداد يؤثّر في سلوك المؤمن وفي نظرته إلى الشريعة التي تعبّر عن علاقة الأب بابنه، لا علاقة المشترع البعيد بإنسان لا يهمّه إلا أن يخلص من عبودية الشريعة. يتصرّف المؤمن بمحبّة فيعبّر عن محبته هذه بإتمام ما تفرضه الشريعة بنيّة صادقة. "أحبّ الرب إلهك واعمل بأوامره وسننه وأحكامه ووصاياه كلّ الأيّام " (11: 1). والمحبّة تصل به إلى الأمانة فتنطبع الشريعة في أعماقه. "لتكن هذه الكلمات التي أنا آمركم بها اليوم في قلوبكم " (4: 4)، فيطبعها في قلب أبنائه (6: 7- 9) ويعلّقها في كل زاوية من زوايا بيته.
هذه المحبّة تفرض على المؤمن تصرّفاً خاصًّا بالنسبة إلى القريب. أوّلاً: هو يحبّ قريبه الإسرائيلي لأنّه أخوه ولأنه موضوع محبة الله مثله (23: 20- 21؛ 25: 1- 3). ثانياً: يهتمّ بالضعيف والقريب واليتيم والأرملة لأنّ الرب اهتمّ به يوم كان عبداً في أرض مصر (5: 14- 15؛ 15: 12- 18؛ 16: 11- 12). ثالثاً: لا يكره الأدومي لأنّه أخوه، ولا يحسب المصري رجسا لأنّه كان نزيلاً لديه في أرضه (23: 8). فأبناء مصر وأدوم هم أيضاً جماعة الرب (23: 9 ؛ قابل مع 23: 4- 7؛ 25: 17- 19).
لا شكّ أنّنا لم نصل إلى مستوى العهد الجديد الذي يفرض علينا أن نحبّ أعداءنا وندعو لمضطهدينا لنكون بني الآب السماوي (مت 5: 45)، ولكنّنا قد تقدّمنا في طريق طويل يعرّفنا إلى الله المحبة، إلى الله أبي جميع البشر الذي يشرق شمسه على جميعهم ويمطر غيثه على كل الناس.

3- أصل الوصايا وطبيعتها
من الواضح أنّ نص الوصايا كما نقرأه في تث 5: 6- 21 ليس نص العهد الأصلي وأنّ هناك نصوصاً سبقته إلى الوجود. فهناك نص الوهيمي نقرأه في خر 20: 1- 17 أو نص يهوهي نقرأه أيضاً في خر 34: 14- 26. كلّ هذه النصوص ترجع إلى أصل واحد مكوّن من عبارات قصيرة جاءت بحسب نموذج واحد وبشكل سلبي: لا تقتل، لا تسرق (أو ملعون من. رج 27: 16- 26).
إذا قابلنا النص الالوهيمي (خر 20: 1- 17) بالنص الاشتراعي (5: 6- 21)، استطعنا أن نكوّن فكرة عن النص الأصلي للوصايا الذي ستزاد عليه الشروح والتفسيرات. وإليك النص الأصلي على ما يبدو:
أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر
لا يكن لك آلهة أخرى سواي.
لا تصنع لك تمثالاً.
لا تنطق باسم يهوه باطلاً.
إحفظ يوم السبت وقدّسه.
أكرم أباك وأمك.
لا تقتل.
لاتزن.
لا تسرق.
لا تشهد على قريبك شهادة زور.
لا تشته زوجة قريبك ولا بيت قريبك ولا شيئاً ممّا لقريبك.
نستطيع أن ننطلق من هذا النص الذي أعدنا إنشاءه لنرى ما زاد عليه كلّ من التقليد الاشتراعي والتقليد الالوهيمي. إنّما يبقى أن نعرف أنّنا لسنا هنا أمام نص العهد (راجع مثلا 27: 15- 26؛ لا 19: 1- 4؛ 11- 18) بل أمام صيغة ليتورجية تلخّص متطلّبات العهد، وكانوا يلقّنونها للشعب في عيد تجديد العهد. وهذا ما يفسّر لنا تعابيرها القصيرة والمنظومة التي تسهّل عمل الذاكرة، ويوضح لنا مضمونها الأدبي الأخلاقي البحت. في هذه اللائحة الموجّهة الى أفراد الشعب، لا الى الكهنة، لا مكان للأحكام الطقسيّة. وإذا ذكرت وصيّة السبت فلأنّها تدلّ على طقس يتمّ في إطار عائلي وفي مجال الحياة اليومية.
لا شيء يمنع أن نقول إنّ الوصايا العشر قديمة جدًّا وإن مضمونها يعود إلى موسى، ولكن لا يجب أن ننسى أنّ صيغتها ليست بقديمة، إذ هي معاصرة لأوّل أعياد العهد ولاحقة لعهد شكيم (يش 24: 1 ي). ويرى العلماء تشابهاً بين نصوص الوصايا كما نقرأها في التوراة والنصوص البابلية (لويحة شورفو الثانية) والمصرية (كتاب الموتى 125) ومجمل الحكمة الشرقية.
ما تتفرد به الوصايا في الكتاب المقدّس هو دورها في حياة بني إسرائيل الدينية وعلاقتها بالعهد، وسفر التثنية يسمّيها "كلمات " أي بنود العهد الأوّل، ذلك العهد الأساسي الذي لولاه لما كان لإسرائيل من وجود.
لا نقرأ هذه الوصايا إلا في أسفار موسى الخمسة وفي وبعض التلميحات في هوشع (4: 1) وإرميا (7: 8) والمزامير. سيورد يسوع بعضها لا لينقضها بل ليكمّلها (مت 5: 21 ي، مر 7: 8- 13 ؛ 10: 17- 22). ويلخّمها القدّيس بولس في وصيّة المحبّة فيقول: "من أحبّ غيره أتمّ العمل بالشريعة فإنّ الوصايا تتلخّص في هذه الوصيّة: "أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك " (روم 8:13- 9).

4- الصور والتماثيل
قال سفر الخروج (20: 4): "لا تصنع لك تمثالاً ولا صورة شيء ممّا في السماء من فوق، ولا ممّا في الأرض من تحت، ولا ممّا في المياه من تحت الأرض ". وقال سفر التثنية (5: 8): "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً أو صورة ما ممّا في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل أو ما في الماء من تحت الأرض ". نفهم هذا المنع المطلق من الخوف من الأصنام وعبادتها، فتاريخ شعب الله هو تاريخ انسلاخهم عن الأوثان. فإبراهيم عبد آلهة أخرى (يش 24: 2) قبل أن يعبد الله الحي، وأهل يعقوب كان معهم "آلهة غريبة" (تك 35: 2) يتمسّكون بها (رج تك 31: 34)، ورفاق يشوع عبروا النهر واحتلّوا الأرض ولم ينزعوا بعد عنهم الآلهة التي عبدها آباؤهم (يش 24: 14)، ومعاصرو إرميا (2: 5) ابتعدوا عن الرب وساروا وراء آلهة باطلة.
الله هو الإله السامي والروحاني فلا يمكننا أن نحصره داخل تمثال تصنعه يد بشر. الرب لا إله سواه فكيف يعبده العبرانيون كما يعبد الكنعانيون آلهتهم فيصوّرونه بشكل عجل ذهبي (خر 32: 1 ي؛ 1 مل 12: 26- 33). غضب موسى على الشعب المتجمّع حول هارون والعجل الذي صنع، فاشتدّ غضبه وطرح اللوحين من يديه فكسرهما في أسفل الجبل (اللوحان علامة العهد، والشعب نقض العهد عندما عبد العجل)، ثمّ أخذ العجل الذي صنعوه، فأحرقه بالنار (خر 32: 19-20). وعلى مثال موسى سيثور الأنبياء على عجل دان وعجل بيت ايل، فيصرخ هوشع (8: 5-6): " قد زنخ عجلك أيّتها السامرة واضطرم غضبي... قد صنعه صانع وليس بإله ". ويهتف عاموس (4: 4): "هلموا إلى بيت إيل واعصوا، وفي الجلجال أكثروا من المعاصي ".
أجل هذا الخوف من العبادات الوثنية جعلت العالم اليهودي يمتنع عن كلّ صورة وتمثال (وإن وجد بعض الصور في مدافن اليهود في رومة، وفي مجمع دورا اروبس على الفرات)، وستتبع الكنيسة في بداية عهدها المبدأ اليهودي، ثمّ تنفلت منه شيئاً فشيئاً، فتعرف أنّ للصورة أهميّتها في حياة المؤمن المسيحي الذي بعُد به العهد عن عبادة الأوثان فما عادت تؤثّر فيه وهو الذي عبد الرب الحي القيوم. ولمّا قامت بدعة محاربة الإيقونات (القرن الثامن- التاسع المسيحي) كانت الكنيسة تكرم صور المسيح والعذراء والقدّيسين ولا ترى في ذلك إلاّ الخير. واجتمع أساقفتها في مجمع نيقية (سنة 787) فحرموا بدعة محاربي الأيقونات واعتبروا أنّ الإنسان هو على صورة الله، وأنّ الخليقة أجمل تعبير عن حضور الله في الكون، فيبقى أنّ الصورة كالكلام والنشيد والموسيقى تعبّر عمّا في أعماق القلب من حبّ للرب.

5- الآلهة الوثنية ويهوه
لا يختلف العهد القديم عمّا تقوله الجماعات السامية عن الله الذي هو كائن علوي، إنّه السيد والرب، إنّه المحامي عن الجماعة البشرية. وتقول أيضاً: إنّ لكلّ شعب آلهته، وتاريخ كل شعب هو نسخة طبق الأصل عن تاريخ إلهه في السماء.
لا تتردّد أسفار التوراة في القول إنّ الآلهة كائنات حقًّا، وإنّ لكل شعب الحق في عبادة آلهته (قض 9: 9- 13؛ 11: 24؛ 1 صم 26: 19)، وهي لم تعلن التوحيد بالنسبة إلى جميع البشر إلاّ في مرحلة متأخّرة من مراحل الوحي. ولكن على مرّ العصور سيتعلّم الشعب أمرين الأول: يهوه هو وحده إله بني إسرائيل، وكلّ ما لهم يأتيهم من يهوه (13: 7؛ 28: 64؛ 32: 12). فمن عبد إلها غير يهوه أغاظ الربّ إغاظة شخصيّة (32: 16؛ إر 8: 19) وأصاب حبّه في الصميم وكان زانياً تجاهه، خائناً له (31: 16، حز 16: 15 ي، 23: 1ي). في هذا الإطار يبدو الشرك أكثر من عمل باطل، أكثر من خرافة؛ إنّه إكرام وعبادة لعدو يهوه الرب (32: 17؛ لا 17: 7 ؛ مز 106: 37).
الثاني: تعلن التوراة تسامي يهوه. إنّه إله الآلهة وسيّدها (10: 17 ؛ مز 50: 1؛ 95: 3)، هو الإله الواحد الذي لا إله سواه (4: 35، 39؛ 7: 9؛ أش 37: 16)، هو الإله الحي بينما سائر الآلهة شياطين (32: 17؛ مز 96: 5: شديم في العبرانية. راجع كلمة شيدو في السريانية)، هي باطل وليست آلهة (4: 28؛ 32: 39؛ إر 2: 11). من هنا يعلن الكتاب يهوه إلهاً شاملاً، وإنّه وحده سيّد السماء والأرض (10: 14).
غير أنّ الحطَّ من قدْر الآلهة لا يتمّ قبل العهد الفارسي، والإيمان بيهوه كإله لا يدخل حقًّا في قلب الشعب قبل الجلاء. ثمّ يأتي يوم يفهم اليهود أنّ يهوه هو إله الشعوب كلّها. فيصوّر أشعيا (2: 2- 3) جميع الأمم آتية إلى أورشليم لتعبد الرب هناك، ويعتبر مصر شعب الله وأشور صنعة يده (أش 19: 23- 25). ويعتبر سفر يونان أنّ الرب مسؤول عن نينوى كما عن أورشليم وهو يرسل إليها نبيًّا إلى التوبة كما يرسل إلى شعبه الأنبياء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM