الفصل الثالث
اعتبار إسرائيل وتأمّله في تاريخه
8: 1 – 10: 11
أ- مقدّمة
نجد هنا مقاطع ذات طابع لاهوتي، وهي تعطي عن لاهوت العهد لمعات جديدة يمكن أن نعتبرها خاصة بالكاتب الاشتراعي الذي يستقلّ فيها عن التقاليد التي اعتاد أن يستقي منها.
خلال الأربعين سنة التي قضاها بنو إسرائيل في البرّية، أراد الرب أن يمتحن صدقهم وولاءهم له، ورغب أن يفهموا إلى أي مدى هم مرتبطون به. هذا الاختبار كان ضروريًا قبل الدخول إلى أرض كنعان التي تغري الشعب فتجعله يترك ربّه الذي لم يعد ضروريًّا، ويتّكل على غناه الجديد ليحميه من العوز. ولكن إن فعل الشعب كذلك يكون وكأنّه ينتحر.
ثمّ إنّ امتلاك الأرض لم يكن نتيجة برارة خاصة لدى بني إسرائيل، بل وليد نعمة الله وحدها ورحمته. وبسبب هذه الرحمة التي لا تزال حاضرة، يمكن للجيل الاشتراعي (القريب من نكبة أورشليم) أن يترجّى ألاّ يكون مصيره مصير هؤلاء الشعوب الذين طردهم الرب من أمام وجهه.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- الرب يربي شعبه في البرّية: 8: 1-20
في خطبة سابقة (6: 10- 15) كان سفر التثنية قد شرح الوصية الثانية وحذّر الشعب من خطر الغنى والرخاء. أمّا في هذا المقطع فهو يبيّن أنّ زمن البرّية هو زمن التجربة وامتحان الرب لشعبه: "أُذكر جميع الطرق التي سيّرك فيها الرب ليقهرك ويمتحنك ليعرف ما في قلبك ".
في البرّية أحسّ بنو إسرائيل كم هم مرتبطون بالله، وكم هم بحاجة إليه. فإن أرادوا أن يأكلوا لن يجدوا شيئًا في هذه الأرض القاحلة الجرداء. ولهذا فهم يحتاجون إلى أن يعمل الله لهم شيئًا، أن يجترح معجزة المنّ. وما يهمّ الكاتب الملهم ليس الوجه المدهش لهذا الطعام، بل عمل الله من أجل شعبه وموقف الشعب بالنسبة إلى الرب. فمن خلال جوع الجسد اكتشف بنو إسرائيل جوعًا آخر، جوعًا إلى الله. اكتشفوا في مسيرة الحياة اليومية أنّ الإنسان لا يحيا بالخبز فقط (رج مت 4: 4؛ لو 4: 4)، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله. كان المنّ مِحَكًّا للشعب (خر 16: 4؛ عد 11: 6؛ 21: 4- 5). اقتبلوه فاعترفوا أنّ ما يأتيهم من الله هو الأهمّ. إنّ قبول المنّ هو تفضيل مغامرة الإيمان على الضمانات البشرية (خر 3:16؛ 11: 5). وكما أنّ الشعب وثق بربه في الحرب المقدّسة فما عاد يهتمّ لعدد الجيوش الآتية إليه، كذلك يثق بربّه في هذه البرّية ولا يخاف أن يموت جوعًا رغم إمكانية العيش المحدودة في مكان لا طعام فيه ولا شراب ولا مأوى ولا موضع حماية.
نجد في التوراة نصوصاً عديدة تجعل من السنوات التي عاشها الرب في البرّية معجزة متواصلة. مز 78: 24- 25 يقول: " فأحضرت مَنًّا ليأكلوا، فكانت كحنطة نزلت من السماء. فأكلوا خبز الملائكة كزاد أرسله للشبع ". وقال مز 105: 40- 41: "طلبوا فجاءهم السلوى، ومن خبز السماء أشبعهم. فتح الصخرة فسالت المياه وجرت أنهارًا في القفار". وقال حك 16: 20: "أمّا شعبك فبدلاً من ذلك أطعمتهم طعام الملائكة، وأرسلت لهم من السماء خبزًا مُعَدًّا لا تعب فيه، يتضمن كلّ لذةِ ويلائم كلّ ذوق ". ولكنّ سفر التثنية كان أكثر واقعية من هذه النصوص فاكتفى بالقول إنّ الرب اهتمّ بشعبه وساعده في حاجاته (آ 4)، واستخلص العبرة من هذه الأحداث: "كما يؤدّب الأب ولده، أدّبك الرب إلهك " (آ 5).
بعد آ 6 يطبّق الكاتبُ كلامه على الأجيال الجديدة، المعاصرة له: فاعملْ بوصايا الرب وسرْ في طريقه. غير أنّه يصوّر كنعان فيجعلها جنّة في عيون شعب آت من الصحراء: فيها العيون والينابيع. فيها الأشجار المثمرة من كرم وتين ورمان... فيها يأكل الإنسان فيشبع...
في آ 15 يذكر البرية الشاسعة المخيفة (رج عد 6:21) وكأنّه يحذّر الشعب: إن هم خانوا الرب يعودون إلى هذه الصحراء.
في آ 17 نجد تحذيرًا آخر لا من الشرك، بل من الكبرياء والاكتفاء الذاتي. "لئلاّ تقول في قلبك: إنّني بقدرتي وقوّة ساعدي اكتسبت... ". يجب على الشعب أن لا ينسب إلى قوى البشر ما هو عطية من الله (هو 7:13 ؛ أم 9:30؛ مز 127: 1). الرب هو الذي ربح المعارك الحربية وأعطى شعبه الأرض، فإن تصرّف الشعب بمعزل عن الرب خسر الرب وخسر الأرض.
إنّ الامانة للعهد شرط لبقاء شعب إسرائيل. فإن نقضوا العهد شابهوا الكنعانيين فتحلّ عليهم لعنة الله ويبيدون مثل سائر الشعوب.
2- خيانات بني إسرائيل: 9: 1- 10: 11
أراد الكاتب ان يدوّن على طريقته الخاصة ما رواه التقليد اليهوهي والالوهيمي (خر 32: 34) عن عبادة العجل الذهبي، وعن تحطيم لوحي الوصايا، وعن استبدالهما بلوحين آخرين. هناك فروق عدة بين نص سفر الخروج ونص سفر التثنية، إنّما الفرق الرئيسي هو أنّ اللوحين الجديدين لم يتضمّنا الأحكام التي نقرأها في خر 34: 12- 16، بل الوصايا العشر ذاتها كما كتبها الله بيده (10: 2- 5). ولقد أراد المؤرّخ الاشتراعي حين ذكر هذا التبديل أن يبيّن أنّ إصلاح الملك حزقيا لم يكن كافيًا. لا شكّ في أنّه هدم المشارف (2 مل 18: 4)، وفرض الاحتفال بالأعياد الرئيسية الثلاثة في معبد أورشليم المركزي (خر 34: 22- 24)، إلا أنّه لم يهدم كلّ المعابد القديمة ولم يجعل كلّ شعائر العبادة تقام في معبد أورشليم. أمّا والمؤرّخ الاشتراعي قد كتب ما كتب بعد إصلاح الملك يوشيا الذي جاء بعد حزقيا، ففضّل أن لا يلمح إلى ما فعله حزقيا وقد تعدّاه الزمن.
هدف المؤرّخ الاشتراعي من إدخال رواية العجل الذهبي في هذا الموضع من الكتاب أن يدلّ على أنّ الشعب تمرّد على ربّه منذ أوّل عهده مع ربّه، فهل يكون جيل الجلاء أفضل من جيل البرّية الذي عبد العجل الذهبي، ونقض العهد مع ربّه. ولكنّ الإله الرحيم أعاد العلاقة بشعبه فكتب الوصايا العشر (علامة العهد) مرّة ثانية على لوحي الشريعة، وهو يستطيع أن يفعل الكثير من أجل شعبه المقهور في المنفى فيعيده إلى صداقته السابقة.
9: 1-3: مقدّمة
نقرا أوّلاً كلمة يحثّ فيها موسى الشعب على القتال، وهي تعبّر عن لاهوت الحرب المقدّسة، وتبيّن تفاؤلاً عظيمًا بما ستؤول إليه الحالة قريبًا (رج 1: 28- 30؛ 20: 2- 5). لن يكتفي الرب بأن يبيد الأعداء قليلاً قليلاً (رج 7: 22)، بل يدمّرهم كنار آكلة. الأعداء أقوياء (بنو عناق: رج 2: 10)، ولكنّ الله أقوى منهم.
آ 4- 6: عطاء الله المجّاني
لماذا انتصر بنو إسرائيل: لأنّ الله ساعدهم ونصرهم. ولكن هل استحقوا هذا النصر بسبب برّهم واستقامة قلبهم؟ كلاّ. فهم منذ زمن البرّية شعب عنيد قاسي الرقاب كالبغل الشموس (خر 32: 9؛ 33: 3- 5). غير أنّ الرب أحبّهم وإن كانوا لا يستحقّون هذا الحب.
آ 7- 24: استعراض للأحداث الماضية
ويستعرض الكاتب بعض الأحداث من الزمن الماضي. في البرّية أغظتم الرب، وفي حوريب أغظتم الرب. ويذكر"تبعيرة" (عد 11: 1- 2)، "قبروت هتأوة" (عد 11: 4 ي)، مسة (عد 16:6)، قادش (عد 1: 21 ي)، كلّها أمكنة ترتبط بتمرّد الشعب على الرب خلال مسيرته في البرّية.
25:9- 10: 11: تفرع موسى وتشفّعه بالشعب
توسّل موسى من أجل الشعب: تضرّعت أمام الرب... فسمع لي الرب هذه المرة أيضاً.
صلاة مؤثّرة كتلك التي نقرأها في تث 3: 24. أمّا الحجج التي يقدّمها موسى ليجعل الرب يعفو عن الشعب، فهي تقليدية: إذا هلك الشعب ماذا سيقول المصريون عن يهوه؟
وما قيمة التزام الرب بشعبه في التاريخ؟ وأيّة فائدة من وعد الله للآباء كلّ معجزات الخروج؟ مثل هذه الحجج (27:32، خر 23: 1ي) قد ردّدها في زمن الجلاء كلّ من حزقيال (36: 22) وأشعيا (48: 9) والمزامير (79: 9؛ 106: 8؛ 109: 21).
بعد هذا التوسّل عفا الرب عن شعبه وأمرهم بالتوجّه إلى أرض كنعان.
في 10: 1- 5 نقرأ عن لوحي الشرائع وعن تابوت العهد. إلا أنّ ما يلفت النظر هو أنّ سفر التثنية لا يذكر تابوت العهد مع أنّه لعب دورًا هامًّا في حروب بني إسرائيل، ونتساءل عن السبب فنجد الجواب في أنّ تابوت العهد صار مُلكًا لسلالة داود فصرفت مملكة إسرائيل النظر عنه. ثمّ إنّ سفر التثنية اعتبر أن لا مقام للرب على الأرض، فكيف يقول المصدر الالوهيمي إنّ الله يقيم فوق تابوت العهد؟ بالنسبة إلى سفر التثنية، الشريعة هي محور ديانة بني إسرائيل، واهمّية تابوت العهد تكن، لا في أنّه معبد مقدّس كما تعتبره النصوص الكهنوتية (خر 37: 1- 9)، بل في أنّه صندوق حوى وثيقة العهد الأوّل.
في 6:10- 7: نقرأ عن موت هارون في موسير، شرقي قادش. أمّا النصوص الكهنوتية (خر 32: 50؛ عد 20: 22؛ 38:33) فتجعل موت هارون في جبل هور.
في آ 8- 9 نقرأ عن اللاويين. لم يكن اللاويون في القديم قبيلة مكرّسة للرب (تك 34: 1ي)، غير أنّهم سيحصلون على حق ممارسة شعائر العبادة فيما بعد، وسيكونون مسؤولين عن تعليم الشريعة. لم يكن للاويين أرض خاصة بهم، بل كانت لهم حصة من ذبائح المؤمنين (8: 1- 5).
عندما تركّزت العبادة في أورشليم، خسر اللاويون العائشون في المناطق سبل العيش، واتّكلوا على الإحسان والصدقة (12: 12 ؛ 18: 1- 8؛ 26: 12 ي). وسيحطّ قدر اللاويين مرّة أخرى، فلا يعود يسمح لهم بالاقتراب من المذبح (حز 44: 10- 14)، فلم يبقَ لهم إلاّ أن يكونوا معلّمين ومرتّلين ومدبّرين للأمور المادية في الهيكل.
تولّى الكهنوت ألعازار بن هارون. رغم الدور الذي لعبه هارون في قضية العجل الذهبي، لم يحرم الرب نسله من ممارسة الكهنوت. ثمّ إنّه في الشرق القديم، أكان عند العبرانيين أم عند غيرهم، فالكهنوت ينتقل بالوراثة، وهكذا يعتبر كهنة بني إسرائيل أنّهم من نسل هارون.
ج- ملاحظات حول الفصل الثالث
أوّلاً: كما يؤدّب الأب ابنه (تث 8: 5). هذا الموضوع قد تطرّقت إليه الآداب الحكمية. فقال سفر الأمثال (12: 1): "من يحبّ التأديب يحبّ المعرفة، ومن يبغض التوبيخ فهو غبيّ ". وقال أيضاً (3: 11- 12): "لا ترفض تأديب الرب ولا تكره توبيخه لك. فمن يحبّه الرب يوبخه ويرضى به كأب بابنه "، وقال سفر الحكة (11: 9- 10) ملمّحًا إلى حياة بني إسرائيل: "بامتحانك لهم، مع أنّك أدّبتهم برحمة، فهموا كيف كان عذاب المنافقين المقضي عليهم بالغضب. أمّا أخصّاؤك فقد امتحنتهم كما يمتحن الأب أبناءَه ".
أمّا القدّيس بولس فيرى الله يؤدّبنا حين تحلّ بنا الضربات فيقول: "الرب يؤنّبنا" (1 كور 11: 32). ويرى "أنّ آلام هذه الدنيا لا توازي المجد الذي سيظهر فينا" (روم 8: 18). وتستعيد الرسالة إلى العبرانيين مقال سفر الأمثال (3: 11- 12) وتعقّب عليه: "فتحمّلوا التأديب، والله إنّما يعاملكم معاملة البنين، وأي ابن لا يؤدّبه أبوه " (عب 12: 7 - 8)؟ ويشجّع القدّيس بطرس المؤمنين على تقبّل ما يأتيهم من محن فيقول لهم: "إنّ ما يصيبكم الآن من أنواع المحن يمتحن إيمانكم كما تمتحن النار الذهب " (1 بط 1: 6- 7).
ثانيًا: يشدّد سفر التثنية على اهمّية العمل بسفر الشريعة: إسمعوا السنن الأحكام التي أعلّمكم إيّاها لتعملوا بها ولتحفظوها (راجع كلمة "شمر" العبرانية، وسمر في العربية التي تعني سهر وجدّ). هذه الكلمات التي نقرأها أيضاً في 4: 1 تتكرر كالردّة في القصيدة لتترسّخ في قلوب السامعين. تعلّموا السنن واحرصوا أن تعملوا بها (5: 1). علّمتكم السنن لتعملوا بها في الأرض التي أنتم عابرون إليها (6: 1؛ رج 8: 1؛ 8:11- 9). من عمل بهذه السنن يحيَ (4: 21؛ رج حز 18: 1ي؛ 27:36 ي؛ لا 18: 5).
ثالثا: يشدّد سفر التثنية على أنّ الله لا يزال يصنع اليوم أعمالاً عظيمة من أجل شعبه. فكما خلق وما زال يحافظ على خلقه في الوجود فلا يسمح للعدم أن يصل إليه، كذلك خلّص شعبه مرّة أولى في مصر وما زال يفعل، وأعطاهم أرضاً وهو لا يزال يعطيهم هذه الأرض مدافعًا عنهم بوجه أعدائهم. هذا هو معنى العبارة "كهذا اليوم " (38:4)، أي إنّكم سوف ترون اليوم كيف أعطيت لآبائكم هذه الأرض وما زلت أعطيكم أنتم العائشين اليوم رغم النكبة التي حلّت بأورشليم (رج 7: 1 ؛ 1:9؛ 21: 23؛ يش 11:2).
رابعًا: عرف بنو إسرائيل الرب أوّلاً كالإله الخلّص، كالإله الحاضر في تاريخ شعبه، ثمّ عرفوه فيما بعد الإله الخالق الذي منه خرجت البشرية كلّ موجود على الأرض. يشدّد سفر التثنية على ذكر الإله المخلّص ولا يذكر إلاّ مرة واحدة الله الخالق (4: 32) الذي "خلق الإنسان على الأرض ". في هذا المجال نقرأ في عاموس(4 :13) عن الله "صانع الجبال وخالق الريح " وفي أشعيا (40: 28) أنّ "الرب إله سرمدي خالق أقاصي الأرض " (رج تك 1: 1ي).
خامسًا: بالنسبة إلى سفر التثنية، الله هو إله الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب (1: 21)، وقد وعدهم وحلف لهم بأن يعطي نسلهم أرض كنعان (8:1، 35؛ 6: 10 ؛ 8: 0؛ 10: 11). أحبّ الآباءَ فاختار بني إسرائيل وحرّرهم من العبودية (4: 37، 7: 8) وألزم نفسه بهم (15:10) وقطع عهدًا معهم (12:7). وهذا العهد يربط نسلهم بالرب، وهو لا يزال يتجدّد مع كلّ جيل من أجيالهم إلى اليوم (10: 15). ونضيف فنقول: إنّ سفر التثنية يلفت نظرنا دومًا إلى الجيل الذي عاش زمن الخروج: فما رأوه بعيونهم قادهم إلى الإيمان، وشهادتهم ستبقى الأساس الذي عليه تبني الأجيال الآتية إيمانها.
سادسًا: في سفر التثنية يهوه هو الإله الذي يحبّ شعبه. أحبّ (اهب في العبرانية) آباءكم وأخرجكم بقدرته العظيمة من مصر (37:4)، ولمحبّته لكم أخرجكم بيد قديرة (8:7). تعلق قلب الرب بآبائكم فأحبّهم واختار ذرّيتهم من بعدهم (10: 15؛ رج 23: 6). فالرب ليس الإله الذي نخافه وحسب، بل هو أيضاً الإله الذي نحبّه. ويتوجّه سفر التثنية (5: 10) إلى الذين يحبون الرب ويحفظون وصاياه، فيطلب إلى كلّ واحد منهم أن يحب الرب بكل قلبه وكل نفسه وكلّ قدرته (6: 5)، أن يحبّه ويعبده بكل قلبه كل نفسه (12:10 ؛ رج 13:11)، أن يحبّه ويعمل بسننه وأوامره (11: 1)، ويسير في طرقه كلّها ويتمسّك بها (22:11؛ رج 16:30). فإن امتحن الرب شعبه وطهّرهم كما تطهّر النار المعدن (6:30) فلكي يعرف هل يحبّونه من كلّ قلوبهم ونفوسهم (4:13).
ويعبّر الإنسان عن حبّه للرب بأن يُلزم نفسَه إلزامًا كاملاً (رج 2 مل 23: 25) بوصاياه وشرائعه، أن يذهب إليه بكلّ قلبه ونفسه فيحبّه (6:30)، ويطلبه (29:4) ويخافه ويسلك في طرقه ويعبده (10: 12) ويحفظ سننه وأحكامه (16:26) ويسمع كلامه (30: 2) ويعود إليه تائبًا. كلّ هذه الأفعال ترسم أمام المؤمن الطريق التي يسير عليها الشعب ليعبّر عن حبّه لربّه.
سابعًا: تُجمع التقاليدُ الكتابية على القول إنّ موسى لم يُتَح له الدخول إلى أرض الميعاد، وإنّه مات قبل عبور نهر الأردن (34: 5- 6)، وهي ترى في ذلك نتيجة قرار اتخذه (31: 2؛ 34: 4) بسبب تمرّد الشعب في البرّية. بما أنّ موسى متكافل متضامن مع الجيل الخارج من أرض مصر، فقد أصابه العقاب الذي أصاب شعبه (1: 37؛ 4: 21 ؛ مز106 : 23). أمّا في عد 20: 12 فنقرأ: "بما أنّكما، يا موسى وهارون، لم تؤمنا بي إيمانًا يظهر قداستي على مرأى بني إسرائيل، فضربتما الصخرة مرتين بدل مرّة واحدة، لذلك لا تُدخلان أنتما هؤلاء الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها لهم " (رج عد 27: 12- 14).
ثامنًا: إنّ الإنسان لا يحيا بالخبز وحده (تث 8: 3). إنّ بيد الرب وسائل عديدة يحيي بها البشر، وهو من خلق كلّ شيء بكلمته. وهو يحيي شعبه إسرائيل بالوصايا التي تخرج من فمه. هذه الحقيقة تردّدها التوراة المرّة تلو المرّة. فيقول عاموس (8: 11): "ها إنّها ستأتي أيّام، يقول السيّد الرب، أُرسل فيها الجوع على الأرض، لا الجوع إلى الخبز، ولا العطش إلى الماء، بل إلى استماع كلمة الرب ". ويردف سفر الحكمة (16: 26) قائلاً: أعطيت بنيك لكي يعلموا هم "الذين أحببتهم، أن ليس ما تخرج الأرض من ثمار هو ما يغذو الإنسان، لكنّ كلمتك هي التي تحفظ المؤمنين بك ". ويتابع يشوع بن سيراخ (19:24- 21) بلسان الحكمة: "تعالوا إليّ أيّها الراغبون فيّ، واشبعوا من ثماري. فإنّ ذكري أحلى من العسل وامتلاكي الله من شديد العسل. من أكلني عاد إليّ جائعًا، ومن شربني عاد ظامئًا" (رج نح 29:9؛ أم 9: 1- 5).
في هذا السبيل سيحدّثنا يسوع عن الماء الذي يعطيه هو للإنسان فلا يعطش (13:4) وعن الطعام الذي يأتي إليه الإنسان فلا يجوع (يو 6: 35). أمّا العبارة: إنّ الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، فقد أوردها يسوع أمام المجرّب الذي نصحه بأن يحوّل الحجارة إلى خبز يسدّ به جوعه (مت 3:4- 4؛ لو 3:4- 4). ولكنّ يسوع سيفهم الثلاّب ما أفهم تلاميذه فيما بعد أنّ طعامه هو أن يصنع مشيئة من أرسله (يو 34:4).
تاسعًا: العجل الذهبي (9: 16 ي). تذكَّر سفر التثنية حادثَ العجل الذهبي (خر 23: 1ي) الذي سبكه بنو إسرائيل في برّية سيناء، فقابله بما فعله يربعام الأوّل يوم صنع عجلين وجعلهما في معبدَي بيت ايل ودان، بعد انقسام مملكة سليمان إلى قسمين (1 مل 28:12). لقد كان العجل في الديانة الكنعانية يرمز إلى القوّة والخصب. ولكن كانت صورة الإله الكنعاني فوق تمثال العجل، بينما لم يجعل يربعام شيئًا فوق العجل، معتبرًا أنّ العجل هو موطئ قدم لإله بني إسرائيل الذي رفض في شريعة العهد أن يكون له تمثال أو صورة. وهذا ما يفسّر لنا لماذا لم يحتَجْ النبي إيليا إلى أن يشجب العجل، ولا ياهو أن يحطّم تمثاله (2 مل 10: 29). أمّا هدف يربعام الأوّل من صناعة العجلين فهو أن يؤمّن للمملكة الجديدة (مملكة الشمال) عبادة ملائمة تزاحم العبادة المبنية على تابوت العهد الذي هو عرش الله الذي لا صورة له والذي يسكن في هيكل أورشليم (مملكة الجنوب). فعل يربعام ذلك فنزع كلّ طابع أُسطوري عن العجل، رمز الكنعانيين الديني. غير أنّ الأجيال اللاحقة ستأخذ عمل يربعام على غير حقيقته: عبد الناس العجل، ونتج عن ذلك مزج بين عبادة إله إسرائيل وبين عبادة البعل (هو 8: 5 ي؛ 10: 5؛ 13: 2)، وبالتالي عبادة للتماثيل التي ستكون السبب الأوّل لدينونة الرب لمملكة الشمال. وهذه الدينونة ستظهر في احتلال الأشوريين للسامرة سنة 721 ق. م. (2 مل 17: 1ي). ولمّا رأى حزقيا، ملك يهوذا، ما حلّ بمملكة الشمال، أسرع فحطّم الأنصاب والتماثيل (2 مل 18: 4) لينجو من دينونة الله وعقابه.
على ضوء هذا الإصلاح قرأ الكاتب الاشتراعي خر 32: 1ي الذي هو شجب مباشر لما فعله يربعام، واعتبر أنّ مملكة الشمال قد جحدت ربّها منذ بداية عهدها بسبب هذين العجلين اللذين جُعلا في بيت إيل ودان.
عاشرًا: اختيار الله لشعبه. إختبر بنو إسرائيل اختيار الله لهم لما عرفوا أنّ مصيرهم غير مصير سائر الشعوب، وأنّ هذا المصير لا يرجع إلى الصدفة والحظ، ولا إلى عمل الناس، بل إلى مبادرة حرّة من الله السامي. إنّ وعي هذه الحقيقة قديم قدم وجود شعب الرب، وهو لا ينفصل عن العهد، بل يعبّر عن طابعه الفريد القائل إنّ الرب اختار بني إسرائيل وحدهم من بين الشعوب.
عندما يعلن الإسرائيلي إيمانه (26: 1- 11) في صلاته اليومية، فهو يذكر مبادرة الله التي أخرجت العبرانيين من مصر وجاءت بهم إلى أرض مباركة، إلى أرض تدرّ لبنًا وعسلاً. وعندما يجدّد الشعب عهده لربّه، كما في أورشليم، فهو يورد كلام الرب: أخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر (يش 24: 3) أي اخترته اختيارًا خاصاً. مثل هذا الكلام يتردّد في سفر الخروج (34: 9): تجعل منا ملكك وميراثك. أو (19: 5): نكون لك خاصة من جميع الشعوب لأنّ جميع الأرض هي لك.
ولقد حدّثنا سفر التثنية بصورة خاصة عن هذا الاختيار وأبان لنا مدلوله.
يرجع الاختيار إلى مبادرة مجانية من عند الله. "لأنّكم شعب مقدّس للرب إلهكم الذي اختاركم، اختاركم لمحبّته لكم " (7: 6- 8)، اختاركم لتكونوا من نصيبه وأنتم أبناء الرب إلهكم (14: 1- 2).
لماذا اختار الرب بني إسرائيل؟ ليجعل منهم شعبًا مقدّسًا مكرّسًا للرب، شعبًا فوق جميع الشعوب بالكرامة والمجد والعظمة (19:26)، شعبًا يخبر بين الشعوب بعظمة الله وجوده، ويبيّن بممارسته للشريعة أنّه يفترق عن سائر الشعوب (7: 1- 6).
أمّا نتيجة هذا الاختيار: أن يفتح أمام بني إسرائيل مصيرًا مدهشًا عجيبًا: فإمّا سعادة ما بعدها سعادة وإمّا شقاء ما بعده شقاء، إمّا أن يكونوا مباركين ومقدّسين، وإمّا ملعونين ومنبوذين (28: 1ي). "انظروا. ها أنا اليوم جعلت بين أيديكم الحياة والخير، والموت والشر... فاختاروا الحياة لتحيوا أنتم وذرّيتكم".
أجل، اختار الرب شعبه للحياة. ولكنّ الشعب اختار طريق الموت. قال لهم الرب: اختاروا من تعبدون (يش 24: 15) فاختاروا البعل وصاروا عبيدًا للخطيئة. من أجل هذا عاقبهم الله على كل شرورهم (عا 3: 2). وسينتظر كاتب سفر التثنية أن يعود الله ويبارك شعبه، لأن لا ندامة في هبات الله ودعوته (روم 29:11) واختياره