الفصل العاشر: مدخل إلى إنجيل مرقس

الفصل العاشر
مدخل إلى إنجيل مرقس
الخوري بولس الفغالي

ظل إنجيل مرقس حتى القرن التاسع عشر غير مفسَّر تقريباً في الكنيسة. فالقديس إيرونيموس مترجم اللاتينية الشعبية انطلق منه ليعظ الرهبان، فاكتفى ببعض التطبيقات التقوية. ولن نجد لدى الآباء اليونانيين إلا اسم تيوفيلكتيس (القرن الحادي عشر) واسم افتيميوس (القرن الثاني عشر). وإذا جعلنا جانباً بين اللاتين باديوس المكرم (القرن الثامن)، سوف نصل إلى القرون الوسطى وما بعدها، لنجد اهتمام توما الأكويني وكاجتان وغيرهما بإنجيل مرقس. أما في العالم السرياني فسننتظر ايشوعداد المروزي (القرن التاسع) وديونيسيوس ابن الصليبي (+ 1171) وابن العبري (+ 1286) ليقدموا لنا تفسيراً سريعاً عن مرقس. إعتبر الآباء والشراح أن ما في مرقس نجده بصورة أوسع عند متى ولوقا. ولكنهم توقفوا عند مضمون النصوص الإِنجيلية ونسوا السمات الخاصة بهذا الإِنجيل الذي هو وثيقة لا يحل محلَّها وثيقة، وقد غذى الكنيسة التي وُلد فيها عثرات السنين.
وعاد الشراح إلى مرقس خلال القرن التاسع عشر، وما زالوا يدرسونه. قالوا: إنه المرجع الرئيسي لمتّى ولوقا. وسينطلقون منه ليقدموا "حياة يسوع" بوجه المشككين والمرتابين بتاريخية ما ورد في الأناجيل. وكانت التفاسير العديدة في اللغات الغربية وقد عرف الشرق تفسيرين أو ثلاثة لا يتعدون التفسير الحرفي للإنجيل.
إلى هذا الإِنجيل سنتعرف: كاتبه والأشخاص الذين توجه إليهم. تأليفه الأدبي وعلاقته بالتاريخ، وأخيراً المواضيع اللاهوتية في إنجيل يحدّثنا عن يسوع الذي هو المسيح وابن الله.

أ- كاتب إنجيل مرقس
لا شيء في النص الإِنجيلي يساعدنا على اكتشاف صاحب هذا الإِنجيل. فالعنوان وُضع في بداية القرن الثاني المسيحي. أما الكتاب فعُرف بأولى كلماته: "بدء إنجيل يسوع المسيح". ولكن التقليد يتفق اتفاقاً تاماً على إسناد هذا الإِنجيل إلى القديس مرقس. والنقّاد المعاصرون يُقرون بأهمية هذا التقليد، ويعتبرون أنه لو أراد القدماء أن ينسبوا هذا الإِنجيل إلى أحد، لنسبوه إلى شخص عظيم، لا إلى شخص مغمور مثل مرقس، الذي قد يكون أشار إليه الإِنجيلي في حدث الشاب الذي "فرَّ عريانا" (14: 51- 52) حين أراد الجنود أن يمسكوه في بستان الزيتون.


1- شهادة بابياس
أقدم الشهادات عن إنجيل مرقس هي شهادة قدَّمها بابياس الذي وصفه إيريناوس، أسقف ليون في فرنسا بثلاث صفات في النص الذي يورده عنه. هو رجل قديم، أي إنه ينتمي إلى جيل آخر سبق إيريناوس المولود سنة 115. هو رفيق بوليكربوس، أي كان أسقفاً مثله. سُقف بوليكربوس سنة 100 تقريباً بيد معاصري المخلص، كما يقول أوسابيوس القيصري، ووُلد حوالي سنة70. فقد يكون الأمر مماثلاً بالنسبة إلى بابياس. وهو أخيراً سامع ليوحنا الرسول. كل هذا يدل على أن بابياس هو شاهد جليل ومحترم. فما هي شهادته التي قد تعود إلى سنة 125- 130 كما يقول فيلبس (الذي من سيديس في بمفيلية- تركيا الحالية، حوالي سنة 630)؟
ماذا يقول بابياس في مرقس الإِنجيلي؟ "هذا ما اعتاد الشيخ أن يقول لنا: كان مرقس ترجمان بطرس فكتب بدقة، لا بترتيب، كل ما تذكّره من أقوال الرب وأعماله. فهو لم يسمع الرب ولم يتبعه، بل كما قلت، تبع بطرس فيما بعد. قدَّم بطرس تعليماً حسب الحاجة ولم يؤلف أقوال الرب تأليفاً مرتباً. وهكذا لم يخطئ مرقس حين دوّن بعض هذا التعليم كما تذكَّره. لم يكن لديه إلا هَمّ واحد؛ أن لا يهمل شيئاً مما سمعه، أن لا يقول شيئاً كاذباً".
نلاحظ هنا ثلاثة تأكيدات: كان مرقس ترجمان بطرس. تبعه واستظهر تعليمه. كان أميناً حين كتب، وأمانته ترتبط بأمانة بطرس الذي عاش مع الرب منذ البداية حتى القيامة والصعود. وأخيراً، كتب بدون ترتيب مجمل الإِنجيل، أي أقوال يسوع وأعماله، فاتبع طريقة بطرس الذي كان يقدم التعليم حسب حاجة السامعين.

2- شهادات تقليدية أخرى
نذكر أولاً يوستينوس (ابن نابلس في فلسطين) حوالي سنة 150. هو لا يسمي مرقس، ولكنه ينسب إلى "ذكريات بطرس" تعليقاً يورده مرقس وحده في 17:3 حين يلقب ابنَيْ زبدى: بوانرجس. وأعلن إيريناوس (+ 220): "بعد موت بطرس وبولس، نقل إلينا مرقس نفسه أيضاً، وهو تلميذ بطرس وترجمانه، نقل إلينا كتابة ما وعظه بطرس". وحدثنا ترتليانس (ابن قرطاجة في أفريقيا) (+ 220) عن مرقس "ترجمان بطرس". وأكد اكلمنضوس الإِسكندراني (+ 215) أن مرقس كتب حسب ما سمعه من بطرس وتحت نظر بطرس. وحدّد أوريجانس (+ 254) أن مرقس ارتبط ببطرس حين كتب إنجيله. وتحدث التقليد الروماني بلسان هيبوليتس (+ 235) وعبر المطلع المناهض لمرقيون الهرطوقي (+ 160) عن مرقس في خط ما قاله عنه إيريناوس.
قال أوسابيوس القيصري (فلسطين+ 340) وإيرونيموس (توفي في بيت لحم سنة 420) أن مرقس كرز في الإِسكندرية. ولكن هذا التقليد لا يَرِد لا عند إكلمنضوس ولا عند أوريجانس، فاعتبر النقاد أن هذا القول غير صحيح. وتخيل أبيفانيوس (ابن فلسطين،+ 403) أن مرقس كان من تلاميذ الرب السبعين.
ونقول أخيراً إن التقليد الآتي من آسية الصغرى (تركيا الحالية) ومصر وأفريقيا الشمالية ورومة، يجُمع على التأكيد أن الإِنجيل الثاني كُتِب بيد مرقس، وارتبط بكرازة بطرس.

3- مرقس والعهد الجديد
يساعدنا العهد الجديد على التعرف إلى شخص مرقس. يتحدّث سفر الأعمال عن شخص اسمه يوحنا ولُقِّب بمرقس. نقرأ في أع 12: 12 "وبعد التفكير، توجّه (بطرس) إلى بيت مريم أم يوحنا الملقب بمرقس، حيث كان إخوة كثيرون مجتمعين يصلون". إذن كان بيت مرقس "كنيسة" تجتمع فيها الجماعة المسيحية الأولى للصلاة وكسر الخبز. ويروي سفر الأعمال أن مرقس سار مع برنابا وبولس من أورشليم إلى أنطاكية (أع 12: 25)، ثم رافقهما خلال الرحلة الرسولية الأولى التي قام بها بولس (13: 5). ولكنه ما عتّم أن تركهما (13:13). وهذا ما حدا ببولس أن ينفصل عن برنابا. حينئذ إختار بولس سيلا وأخذ برنابا مرقس (أع 37:15- 39).
وارتبط مرقس ببطرس الذي يتحدث عنه في رسالته الأولى (5: 13) ويسميه "مرقس ابني". ويشير بولس في رسائله إلى مرقس الذي هو رفيقه ساعة الأسر (كو 4: 10؛ فلم 24). وهو يطلب من تيموتاوس أن يستصحبه إليه "لأنه ينفع للخدمة" (2 تم 4: 11). وهكذا يكون مرقس اتصل ببطرس أولاً ثم ببولس (من 44 إلى 49 ثم من 61- 63) وأخيراً ببطرس (63- 64).

4- مرقس "إنجيل بطرس"
سمّى التقليدُ القديم مؤلَّف مرقس "إنجيل بطرس". وهذا ما تؤكده معطيات الإِنجيل نفسه. فنحن نجد شهادة بطرس في عدد من الأخبار التي نقرأها في إنجيل مرقس: دعوة الرسل الأولين (1: 14 - 20)، يسوع في كفرناحوم (2: 1- 12)، دعوة متّى (2: 13- 17)، رفض أهل الناصرة ليسوع (6: 1- 6)، إعتراف بطرس بيسوع (8: 27 - 33)، التجلي (9: 2- 13)، الشاب الغني (10: 17- 27)، طلب ابنَيْ زبدى (10: 35- 45)، دخول يسوع إلى أورشليم (11: 1- 11)، تطهير الهيكل (11: 15-18)، تضميخ يسوع بالطيب (3:14-9)، يسوع في جتسيماني (26:14- 31)، القبض على يسوع (43:14- 52)، جحود بطرس ليسوع (14: 66- 72).
وقال الشرّاح، وفي قولهم بعض الصواب، إن مرقس أعطى مكانة مميَّزة لبطرس في إنجيله. ففي يوم كفرناحوم (1: 21- 38) يلعب بطرس الدور الأهم. "إنطلق سمعان ومن معه في طلبه. ولما وجدوه قالوا له: الجميع يطلبونك" (1: 36- 37). ثمّ إن بطرس يتدخّل أمام التينة اليابسة من جذورها (11: 21) كما يتدخل خلال الخطبة الإِسكاتولوجية (منتهى العالم، 3:13). وحين تسلمت النسوة مهمة إعلان القيامة، ذكر لهن الملاك اسم بطرس منفرداً عن التلاميذ (7:16). وسيتبع متّى ولوقا إنجيل مرقس في التشديد على شخص بطرس.

ب- وجهة إنجيل مرقس
نطرح هنا على نفوسنا ثلاثة أسئلة: إلى من وجِّه إنجيل مرقس؟ أين دوِّن؟ ومتى دوِّن؟
1- إلى من وجّه إنجيل مرقس؟
من الواضح أن إنجيل مرقس وجّه إلى مسيحيين من أصل وثنيّ لا يعيشون في أرض فلسطين. هنا نقابل بين مرقس ومتى. يتحدث متّى مثلاً عن الشريعة وعلاقتها بالعهد الجديد (متّى 17:5 - 19؛ 10: 5؛ 9:19)، وهذا ما لم يفعله مرقس. لا نجد عند مرقس الشيء الكثير من تتميم النبوءات ومن هجوم يسوع على الكتبة. هناك استشهادات ترِدُ على لسان يسوع (6:7؛ 12:9؛ 4:10 ي؛ 11: 17: 12: 10؛ 24؛ 14: 21، 27) وأخرى علىٍ لسان مرقس (2:1 ي؛ 49:14؛ 28:15). ولكنّها قليلة جداً بالنسبة إلى ما نجده في إنجيل متّى. وإذ يُفرد متّى أقلّه فصلاً كاملاً يهاجم فيه الكتبة والفريسيين (23: 1- 38)، يكتفي مرقس بثلاث آيات (12: 38- 40) يتحدث فيها عن الكتبة "الذين يحبون التجول بالحلل الفضفاضة، والتحيات في الساحات، والمجالس الأولى في المجامع...". هذا يدل على أن الصراع لم يزل ضعيفاً بين العالم المسيحي والعالم اليهوديّ، وأننا بعيدون عن سنة 90 تقريباً، يوم تم الانفصال بين المجموعتين في مجمع يمنية (رج يو 22:9، 34).
ويهتم مرقس بتفسير العادات اليهودية. حين اكتفى متّى (15: 2) بآية واحدة فتحدث عن تقليد الشيوخ، أحسّ مرقس بالحاجة إلى بضعة آيات (7: 2- 4) ليفهم القارئ هذا التقليد: "فإن الفريسيين، واليهود إجمالاً، لا يأكلون ما لم يغسلوا أيديهم حتى المعصم..." (رج 14: 12؛ 15: 42). وعمل مرقس على ترجمة الكلمات الآرامية الواردة في إنجيله. حين أحيا يسوع ابنة يائيرس قال لها: "طليتا قوم". أورد مرقس العبارة وزاد: "أي، يا بنية لك أقول: قومي" (5: 41؛ رج 5: 9). وقدّم مرقس تحديدات جغرافية يجهلها الغرباء عن أرض فلسطين (5:1، 9؛ 5: 1؛ 11: 1)، كما شدّد على مضمون الإِنجيل الموجَّه إلى الوثنيين. مثلاً نقرأ في 17:11 بلسان يسوع: "أما هو مكتوب، أن بيتي يُدعى بيت صلاة لجميع الأمم" (أي الأمم الوثنية)؟ أما نص متّى الذي يوازي هذا النص فيقول: "بيتي بيت صلاة يُدعى" (متّى 13:21). ونقرأ أيضاً في مر 10:13: "ولا بدّ من قبل، أن يُكرز بالإِنجيل في جميع الأمم". أجل، لم يدوّن إنجيل مرقس لمسيحيين جاؤوا من العالم اليهودي، كما هو الأمر بالنسبة إلى متّى، بل لمسيحيين جاؤوا من العالم الوثني وأقاموا في رومة أو في جوارها.

2- أين دوِّن إنجيل مرقس؟
قال إكلمنضوس الإِسكندراني وإيرونيموس وأوسابيوس القيصري وأفرام، إن مرقس دوّن إنجيله في رومة. وانفرد يوحنا فم الذهب فقال إن هذا الإِنجيل دوِّن في الإِسكندرية، مستنداً إلى تفسير خاطئ لتقليد أوسابيولس حول كرازة مرقس في الإِسكندرية.
إن الإِرشادات التي تتوخه إلى قرّاء الإِنجيل الثاني توافق بصورة خاصة جماعة تقيم في رومه. فالتعابير اللاتينية كثيرة. اسم المجنون "لجيون" أي فوج من الجيش (5: 9)، وإن مرض يفسر الكلمات اليونانية بألفاظ لاتينية. نقرأ في 12: 42: "وألقت (الأرملة) فلسين، قيمتهما ربع آس"، والآس هو عملة نحاسية رومانية. وفي 15: 16: "إقتاد الجند (يسوع) إلى داخل الدار أي دار الولاية" (براتوريون، وهي كلمة لاتينية).
واقترح بعض الكتاب أن تكون أنطاكية هي المكان الذي فيه دوِّن إنجيل مرقس، واستندوا إلى الأسباب التالية: ارتباط تقليد بابياس بالشرق، علاقات بطرس بأنطاكية، ذكر سمعان القيريني (15: 21؛ رج أع 11: 20؛ 13: 1)، وجود الكلمات الآرامية... ولكن هذه البراهين لا تكفي. لهذا نحافظ على التقليد الذي يجعل من رومة المركز الذي فيه دوّن إنجيل مرقس.

3- متى دوِّن إنجيل مرقس؟
لا يتفق التقليد على الزمن الذي فيه دوِّن إنجيل مرقس. قال إيريناوس متتبعاً خطى بابياس، إن مرقس دوَّن إنجيله بعد موت بطرس. وقال إكلمنضوس الإِسكندراني: قبل موت بطرس. إن الاختلافات المنسوبة إلى إكلمنضوس في كتاب أوسابيوس تدلنا على توسع للتقليد شبيه بذلك الذي جعل من مرقس تلميذاً ليسوع. قال بابياس: تذكَّر مرقس ما علّمه بطرس فكتب. ولكن شيوخ الإِسكندرية أرادوا أن يكون بطرس قد عرف ما فعله مرقس، بل أن يكون وقّع على الكتاب. ما هو أكيد، هو أن مرقس لم يكن المرجع الأول، بل عاد إلى بطرس، كما قال إيريناوس وأوريجانس وأبيفانيوس وإيرونيموس وقانون موراتوري (حوالي سنة 180).
أما دراسة النص فتدلّ على أن هذا الإِنجيل دوِّن قبل سنة 70، سنة دمار أورشليم. فلا شيء في هذا الإِنجيل يلمِّح إلى هذا الدمار. أما نص لوقا الذي دوّن بعد هذا التاريخ فهو واضح وفيه نقرأ: "إذا رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فأعلموا عندئذ أن خرابها قد اقترب" (لو 21: 20).
نحن لا نتبع الموقف "الأصولي" الذي يجعل تدوين إنجيل مرقس حوالي السنة 40 ليكون النص قريباً من الأحداث، ولكننا لن نتعدى، كما قلنا سنة 070 أما الرأي الذي يأخذ به معظم الشراح فيجعل تدوين إنجيل مرقس بين سنة 65 وسنة 70.

ج- التأليف الأدبي في إنجيل مرقس
حين نقرأ إنجيل مرقس نكتشف وجهتين في أسلوبه: وجهة الشاهد الحي، وجهة التقليد الموجز. يتفق الشّراح فيؤكدون التقليد الذي يرى في إنجيل مرقس إنجيل بطرس. ولكنهم يختلفون في تحديد المراجع الأدبية الرئيسية. فإذا قابلنا مرقس مع الإِنجيليين الإِزائيين (مت+ لو) الآخرين، نجد أنه يفترض وجود إنجيل سابق له. حين نقابل متّى ولوقا نجد أنهما يتفقان على مرقس. إذاً، كانت هناك نواة إنجيل سابقة لإنجيل مرقس. ما هي هذه النواة؟ قال بعضهم: مرقس الأولاني. وقال آخرون: متّى الأرامي. ولكن فئة ثالثة تترك البحث عن هذه الوثيقة الأولى، لتكتشف المراجع الجزئية التي جمعها مرقس ونسَّقها.

1- المواد التي استعملها مرقس
نتوقف هنا عند أقوال يسوع وعند الأخبار التي تُبرز لنا عمل يسوع في الجليل واليهودية قبل الوصول إلى أورشليم. ما نلاحظه بالنسبة إلى الأقوال هو أن الخطب قليلة وقصيرة. حين نعرف أن متّى بُنِيَ على خمس خطب يمتد بعضها على فصلين أو ثلاثة، لا نجد عند مرقس إلا خطبة الأمثال (4: 1- 34) التي هي أقصر مما نجده عند متّى (13: 1 - 52)؛ وخطبة نهاية العالم (13: 3- 37) التي يوازيها مت 24 ولو 021 أما التعليمات الرسولية والكنسية التي توسّع فيها متّى فلم يبقَ منها عند مرقس إلا بقايا وفقرات قليلة. ماذا بقي من متّى 10؟ أربع آيات هي: 6: 8- 11، موزعة على خطبتين. أوصاهم قائلاً: "لا تحملوا شيئاً للطريق...". وقال لهم أيضاً: "أي بيت دخلتم...". وماذا بقي من مت 18 وما يتضمّنه من وصايا تتوّجه إلى الكنيسة؟ 15 آية تقريباً. ونقول الشيء عينه عن الجدال حول بعل زبول (23:3- 30)، والويلات الموجّهة ضد الكتبة والفريسيين (12: 38- 40؛ ق مت 23: 1- 36).
ومقابل هذا، يتحدّث مرقس مراراً عن "التعليم" الذي يُلقيه يسوع. نقرأ في 1 :39: "يكرز في المجامع في الجليل". وفي 2: 2: "إجتمع خلق كثير... وكان يبشّرهم بالكلمة". وفي 13:2: "أقبل إليه الجمع كله، وكان يعلّمهم". ونستطيع أن نورد مقاطع أخرى تشدّد على مهمة يسوع التعليميةِ دون أن تورد هذا التعليم الذي نجده عند متّى أو لوقا. هنا نستطيع أن نقرأ 1: 21- 22: تقول آ 21: "أتوا كفرناحوم... دخل المجمع وأخذ يعلّم". أما الآية التالية فتشير إلى إعجاب الجموع: "بُهتوا من تعليمه، لأنه كان يعلّم كمن له سلطان، لا كالكتبة". نقابل هاتين الايتين مع ما نجده من آيات عند متّى قبل عظة الجبل (مت 23:4) وبعدها (مت 29:7)، فنحسّ أن مرقس أغفل عظة الجبل، كما أغفل أمثالاً عديدة. وهذا الأمر يتأكد لنا حين يعدنا (بالأمثال) ولا يورد إلا مثلاً واحداً (12: 1). إذن، نحن أمام تقليد موسَّع استقى مرقس بعضه، وتوسَّع متّى ولوقا في البعض الآخر أيضاً.
كانت الخطب قصيرة عند مرقس، ولكن الأخبار كانت موسَّعة. لا شك في أن هناك أخباراً قصيرة مثل تجربة يسوع (1: 12- 13) ودعوة التلاميذ الأولين (1: 16- 20) والمجادلات الأخيرة في الجليل (2: 13 - 3: 5). ولكننا نجد خمسة أخبار أخرى استفاض فيها مرقس: شفاء المخلع (2: 1- 12)، مجنون الجدريين أو الجراسيين (5: 1- 17)، إحياء إبنة يائيرس (5: 21- 43)، مقتل يوحنا المعمدان (6: 17- 29)، شفاء مصروع (9: 14- 29). لماذا شدَّد مرقس على هذه الأخبار؟ لأنه اعتبرها تعليماً، شأنها شأن أقوال يسوع. مثلاً، حين شفى يسوع مجنون كفرناحوم (1: 21- 28)، ذُهل الجميع حتى سأل بعضهم بعضاً قائلين: "ما هذا! تعليم جديد يلقى بسلطان" (آ 27).
ما هي المواد التي وجدها مرض حين دوَّن تعليمه؟ هناك أولاً خبر الآلام (ف 14- 15) الذي تكوَّن في الكنائس في وقت مُبكر. ثم مجموعات تعليمية: 2: 1- 3: 6 (مخلع كفرناحوم، دعوة موتى، مباحثة بشأن الصوم، يسوع رب السبت)؛ 3: 20- 35 (إفتراء الكتبة، قرابة يسوع)؛ 4: 1- 34 (الأمثال)؛ 7: 1- 23 (جدال حول التقاليد)؛ 11: 27 - 12: 44 (رسالة يسوع، الكرامون القتلة، ضريبة قيصر، حقيقة القيامة، الوصية العظمى، المسيح ابن داود، رئاء الكتبة، فلس الأرملة)؛ 13: 1- 37 (خراب أورشليم ومنتهى العالم). ونجد أيضاً مجموعة أخبار ردّدها المؤمنون في اجتماعات الصلاة وكسر الخبز: كرازة يوحنا واعتماد يسوع (1: 1- 13)، إنتخاب الرسل (3: 13- 19)، بعثة الرسل (6: 6- 13)، طلب المحلّ الأوَّل (9: 30- 37)... وسيجد مرقس أيضاً بعض الإِجمالات التي تربط المقاطع بعضها ببعض. مثلاً: "وبعدما ألقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل وهو يكرز بإنجيل الله ويقول: لقد تم الزمان، واقترب ملكوت الله؛ فتوبوا وآمنوا بالإِنجيل" (1 : 14- 5؛ رج 7:3- 12). كل هذا استعمله مرقس ليقدّم لنا تصميماً متناسقاً.

2- تصميم مرقس
كيف بحث الشرّاح عن تصميم لإنجيل مرقس؟ إنطلقوا من إشارات جغرافية. تبدأ حياة يسوع في الجليل، وفي 11: 1 ينتقل إلى أورشليم. "ولما قربوا من أورشليم... أرسل اثنين من تلاميذه". ولكن نستطيع أن نسمي 7: 24- 10: 52: خارج الجليل، ولا سيما حين يذهب يسوع الى شرقي الأردن في 10: 1. وما نستطيع أن نقوله هو أن يسوع يقضي وقته يتنقل من مدينة إلى أخرى، من صور (7: 24) إلى صيدا والمدن العشر (7: 31)، إلى بيت صيدا (8: 22) وقيصرية فيلبس (8؛27). هو يتنقل من أجل الرسالة، فلا يقيم في مكان واحد. مثلاً، لما حاولوا أن يمسكوه قال: "هلمّوا إلى القرى المجاورة، فأكرز فيها أيضاً، لأني لأجل هذا خرجت" (من كفرناحوم، رج لو 4: 43، أو من عند الآب).
وهناك إشارات أدبية تدل على أقسام إنجيل مرقس. يبدأ مرقس حياة يسوع العلنية بإجمالة عن الكرازة وبدعوة التلاميذ الأولين (آ: 14). ثم يقدّم إجمالتين عن نشاط يسوع (3: 7) وخبرين عن الكرازة (3؛ 7؛ 6؛ 6). وهكذا نجد ثلاث حلقات تنتهي كل واحدة منها بموقف معاصري يسوع تجاهه: الفريسيون الذين "تآمروا عليه ليهلكوه" (3: 6)0 أقاربه الذين تجاهلوا جوهر رسالته (6: 1- 6). بطرس الذي يعترف به فيقول له: "أنت المسيح" (8: 27- 30).
وهكذا نصل إلى الاشارة التعليمية التي تدل على حقبتين في موضوع الوحي وتدبيره، يفصل بينهما إعتراف بطرس. قبل هذا الاعتراف، يكشف يسوع عن نفسه أنه المسيح ويفرض على الجميع أن يحفظوا السر (1 : 34، 44؛ 12؛ 5: 43؛ 7: 36؛ 8: 6. هذا ما يسمى السر المسيحاني). نرى هنا أن التلاميذ لم يفهموا شيئاً كثيراً من سرّ يسوع (4: 41؛ 6: 51- 52؛ 8: 16- 21) الذي يجد ذروته الأولى في اعتراف بطرس (8: 29- 30).
بعد الإعتراف المسيحاني، بقي على التلاميذ أن يُدركوا مصير يسوع الذي هو ابن البشر الذي "سيتألمّ كثيراً... ويقتل بعد ثلاثة أيام" (8: 31). سيكتشف المؤمن سر المسيح ثم سرّ ابن الانسان قبل أن يعلن ما أعلنه قائد المئة عند الصليب: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (15: 39).
وها نحن نقدّم تصميماً مفضَلاً لانجيل مرقس.

1- المقدمة:
(1: 1- 13). ثلاث لوحات. في الأولى نسمع كرازة يوحنا المعمدان (1: 1- 8)، في الثانية، نشاهد اعتماد يسوع الذي يعلنه الآب ابنه الحبيب (1: 9- 1)، وفي الثالثة، نشاهده يجرَّب أربعين يوماً (1: 12- 13).
القسم الأول: سر المسيح (1: 14- 8: 30). نجد هنا ثلاث حلقات. تبدأ كل حلقة بإجمالة عن نشاط يسوع وخبر عن التلاميذ، وتنتهي بالإِشارة إلى موقف الناس بالنسبة إلى يسوع.
* الحلقة الأولى: يسوع والشعب (1: 14- 3: 6).
- مقدّمة: إجمالة حول الكرازة بملكوت الله (1: 14- 15) ودعوة التلاميذ الأولين (1: 16- 20).
- يوم رسولي في كفرناحوم (1: 1 2- 38) ينتهي بإجمالة (1: 39) وملحق (شفاء الأبرص، 1: 40- 44) وإجمالة أخرى (1: 45).
- خمسة جدالات وبعض الأخبار (2: 1- 3: 5).
- خاتمة: عزم الفريسيون على قتل يسوع (3: 6).
* الحلقة الثانية: يسوع وأقاربه (3: 7- 6: 6).
- مقدّمة: إجمالة حول الأشفية وإخراج الشياطين (3: 7- 12)، وتنظيم الاثني عشر (3: 13- 19).
- أخبار: اعتبر ذوو يسوع أنه متهوس مجنون، وسماه الكتبة رئيس الشياطين. أمَّا يسوع فأعلن نهاية سلطان الشيطان، وهدّد الذين لا يؤمنون، وأعلن: "من يعمل مشيئة أبي هو أخي وأختي وأمي" (3: 20 -35).
- الأمثال (4: 1- 34).
- معجزات كبيرة: تسكين العاصفة، مجنون الجدريين، شفاء نازفة الدم وإحياء ابنة يائيرس (4: 35- 5: 43).
- خاتمة: موقف أقارب يسوع (6: 1- 6): "تعجَّب من عدم إيمانهم".
* الحلقة الثالثة: يسوع وتلاميذه (6: 6- 8: 30).
- مقدّمة: إجمالة عن تعليم يسوع (6: 6). وبعثة الاثني عشر وعودتهم مع خبر موت يوحنا المعمدان (6: 7- 30).
- تكثير الأرغفة الخمس (6: 31- 44) ثم المشي على البحر (6: 45 - 52) مع أشفية عديدة (6: 53- 56). وبعد جدال حول تقاليد الفريسيين وتعليم حول الطاهر والنجس (7: 1- 23)، نقرأ خبر معجزتين: المرأة الكنعانية (7: 24- 30) وشفاء الأصم الألكن (7: 31 - 37).
- تكثير الأرغفة السبع (8: 1- 10). وبعد جدال مع الفريسيين (8: 11- 13) وتعليم للتلاميذ (8: 14- 21) نقرأ خبر شفاء أعمى بيت صيدا 81: 22-26).
- خاتمة: إعتراف بطرس بيسوع الذي يوصي تلاميذه "أن لا يقولوا لأحد عنه شيئاً" (8: 27- 30).
القسم الثاني: سر ابن الشر (8: 31- 16: 20).
* الحلقة الأولى: طريق ابن البشر (8: 31- 10: 52).
تتوزعّ هذه الطريق إنباءات ثلاثة عن مصير ابن البشر، ونجد بعد كل إنباء تعليماً عن مصير التلاميذ.
- إنباء أول سيرفضه بطرس (8: 31- 33). سيتبع هذا الإنباء تعليم يسوع (8: 34-9: 1) ثم ملحق عن تجلي يسوع (9: 2-13) وشفاء مصروع (9: 14- 29).
- إنباء ثان يعلنه يسوع وهو يسير عبر الجليل (9: 30- 32)، وتعليم عن الخدمة (9: 33- 50)، ثم ملحق تعليمي عن الطلاق والأولاد والغنى وعن الجزاء الذي ينتظر التلاميذ (10: 1- 31).
- إنباء ثالث يعلنه يسوع وهو صاعد إلى أورشليم ( 10: 32 – 34) وتعليم يرافق طلب ابنَيْ زبدى (10: 35- 45) ثم ملحق عن أعمى أريحا (10: 46- 52).
* الحلقة الثانية: دينونة أورشليم (11: 1- 13: 37).
- دينونة بالقول والعمل. دخول المسيح إلى أورشليم (11: 10 - 11) وطرد الباعة من الهيكل (11: 15- 19) في إطار خبر التينة التي يبست (11: 12- 14، 20- 25). جدال حول سلطة يسوع (11: 27- 33) يُختتم بمثَل الكرّامين القتلة (12: 1- 12).
- جدالات ثلاثة وتعليم. الجدال الأول: ضريبة قيصر (12: 13 - 17). الجدال الثاني: حقيقة القيامة (12: 18- 27). الجدال الثالث: ألوصيّة العظمى (12: 28- 34)0 أما التعليم فيتحدث عن المسيح الذي هو ابن داود وربّه. وينتهي كل هذا بتحذير من رؤساء الكتبة: "احذروا من الكتبة" (12: 35- 40)، وملحق عن فلس الأرملة (12: 41- 44).
- دمار الهيكل ونهاية العالم (13: 1- 37).
* الحلقة الثالثة: الآلام والقيامة (14: 1- 16: 20).
- المؤامرة والخيانة مع مشهد نرى فيه امرأة تضمّخ يسوع بالطيب (14: 1- 11).
- في السر- تهيئة أسرارية للذبيحة وصلاة في جتسيماني بانتظار الساعة (14: 12- 42).
- في العلن- أوقف يسوع (14: 43- 52). حَكَم اليهود على يسوع لأنه المسيح (14: 53- 15: 1)، والرومان لأنّه ملك (15: 2 - 20). صُلب ومات (15: 21- 41) وقُبر (15: 42- 47).
- الخاتمة: القبر الفارغ (16: 1- 8).
- ملحق: ظهورات القائم من الموت (16: 9- 20).

د- علاقة الانجيل الثاني بالتاريخ.
إذا إنطلقنا من هذا التصميم الموسّع الذي أوردناه، لا نستطيع أن نكتب "سيرة يسوع" بالمعنى الحديث للكلمة. ولكن الاشارات المتعددة التي ذكرنا، تجعلنا بحضرة شخص حي، بحضرة شخص وُجد في التاريخ. غير أن الانجيلي أخضع كل ما كتبه لهدف تعليمي. أراد ان يدخلنا في طريق نتعرّف فيها إلى يسوع الذي هو المسيح وابن الله. كل هذا يدفعنا الى أن نتوقّف عند الأمور التي تميّز انجيل مرقس.
أجل، ما أراد مرقس أن يكتب سيرة يسوع، بل أن يقدم انجيلاً. أراد ان يبينّ أن ألوهية المسيح تستحق أن نؤمن بها. بعد هذا لن نبحث عن الوجهة البشرية والسيكولوجية التي يمكن أن تكون معقولة أو غير معقولة. إن فعلنا هكذا، أخضعنا الأمور الالهية للأمور البشرية. فنحن لا نقدر أن نحكم من الخارج على كتاب يتوجّه الى الإِيمان. كل ما نستطيع ان نبحث فيه هو الاسباب التي حوّلت التقليد في اتجاه العقيدة المسيحية.
إنجيل مرقس هو تاريخ ديني، ولهذا يبدو من الطبيعي أن تُعرض الأحداث في منظار ديني. قد يشدّد الكاتب على هذه النقطة أو تلك لتُبرز وجهة من التقليد. هذا ما نتبيّنه حين نتحدّث عن السر المسيحاني أو لاهوت إبن الله. واعتبر بعض الشرّاح أن مرقس شدَّد على الوجهة الإِسكاتولوجية لتعليم يسوع، فأغفل أقوالاً تدل على أن الإِسكاتولوجيا حاضرة على هذه الأرض. ولكن هذا لا يمنع أن يكون ملكوت الله قد بدأ عمله: "الأرض من ذاتها تثمر، تخرج الساق أولاً، ثم السنبلة، ثم الحنطة ملء السنبلة. فإذا أدرك الثمر أَعمل فيه المنجل لأن الحصاد قد حان" (4: 28- 29).
مرقس هو اللاهوتي. ومرقس هو المدافع عن الإِيمان. أراد أن يبيّن أن يسوع هو إبن الله، وأن يسوع يُتم الكتب المقدسة. ولكن مع هذا، نجد إشارات عديدة تدلّ على وجه يسوع البشري. إعتبره أقرباؤه أنه رجل متهوس، أضاع رشده (3: 21). هو يوسف النجار وإبن مريم، والكل يعرفون إخوته وأخواته (6: 3). هو القوي الذي لم يقدر أن يجترح معجزة في الناصرة (6: 5- 6)، والمعلم الذي ما أراد أن يسمَّى الصالح (18:10)، وإبن الإنسان الذي جهل ساعة الدينونة (13: 32) وأحسَّ أن الآب تركه (15: 34).
إن يسوع يتصّرف حسب طبيعته البشرية. هو يفعل كما يفعل كل إنسان: يأكل، ينام، ينظر في ما حوله ليرى (5: 32)، يتألم ويموت. عواطفه عواطف إنسان: إغتم لتصلّب قلوب الفريسيين (3: 5) وأحسَّ بالشفقة (34:6؛ 22:9)، وتحنّن على الجموع التي بدت كخراف لا راعي لها. إغتاظ حين رأى التلاميذ يُخرجون الأولاد (10: 14)، وبدا ساخراً سخرية مُرَّة حين قال لتلاميذه في جتسماني: "ناموا الآن واستريحوا" (14: 41)0 أحبّ ذلك الشاب الذي كان مجهولاً حتى الآن (10: 21)، واحتضن الأولاد ولاطفهم (10: 16)، وتعلّق بالتلاميذ تعلّقاً عميقاً.
تنبع هذه العواطف من عقله (8:2) أو من نفسه (14: 34) فتجعله يحس بالحزن العميق بل بالوهن والإِرتخاء. تتميّز إرادته كل التمييز عن إرادة أبيه. هو يصلي ويطلب أن يُعفى من كأس الآلام مع الإِستعداد لقبول ملء مشيئة الله. ترتبط معرفته بالخبرة، وهو يطرح الأسئلة كما يفعل كل إنسان (30:5؛ 8: 5؛ 16:9- 21)، مع أنه لا يحتاج إلى جواب ليعرف (9: 33- 34).
هـ- المواضيع التعليمية في إنجيل مرقس
1- العناصر الليتورجية والكرازية.
نحن نكتشف أولاً عناصر ليتورجية في الحياة المسيحية التي عرفها مرقس. هو يتحدّث عن الصوم (2: 20)، عن مسحة المرضى (13:6)، عن الصلاة (29:9؛ 11: 24- 25). ونقرأ خبر تأسيس الإِفخارستيا ليلة الفصح (14: 16- 25)، وبمناسبة تكثير الأرغفة (6: 41؛ 8: 6). تعود هذه الذكريات إلى يسوع، ولكنها انطبعت بالممارسة المسيحية في القرن الأول.
ونكتشف ثانياً مواضيع كرازية واضحة. هو يفسّر الإِشارات الجغرافية والكلمات الآرامية والعوائد اليهودية. حين تحدّث عن الناصرة أوضح لقرائه أنها تلك الواقعة في منطقة الجليل (9:1)، وحين ذكر بيت فاجي وبيت عنيا، زاد: "على مقربة من جبل الزيتون" (11: 1). أما الكلمات الآرامية الواردة فهي عديدة، وكل كلمة تلقى تفسيرها: بوانرجس أي ابني الرعد (3: 17)، بعل زبول أي رئيس الشياطين (22:3)، طليثا قوم أي يا بنيّة قومي (5: 41)، قربان أي تقدمة مقدسة (7: 11)، افتّح أي انفتح (7: 34)، جهنم أي النار التي لا تطفأ (9: 43)، برتيماوس اي ابن تيماوس (10: 46)، أبّا أي يا أبتاه (14: 36)، الجلجثة أي موضع الجمجمة (15: 22)، إلهي إلهي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني (15: 34). ويفسر مرقس العادات اليهودية، ولا سيّما غسل الأيدي قبل الطعام (7: 2- 4)، ووقت التهيئة الذي يقع ليلة السبت (42:15).
ونجد أيضاً مجموعات مهيّأة من أجل التعليم: الجدالات الخمسة (2: 1- 3: 5)، الأمثال (4: 1- 34)، المناقشات حول تقاليد الفريسيين (7: 1- 23). كما نجد إشارات ترتكز على الذاكرة فتجمع أقوالاً متفرقة: مثل السراج والمكيال في 4: 21- 25، وجوب التجرّد في 8: 34- 9: 1، المعثرة وشرّها في 9: 37- 50. والأمر واضح جداً في 23:11- 25 حيث ينتقل الإِنجيلي من الجبل، إلى الإِيمان الذي ينقل الجبال، إلى الصلاة المؤسّسة على الإِيمان، إلى المغفرة التي هي شرط من شروط الصلاة الصادقة. وأخيراً ترد مواضيع قد يكون المؤمنون تذكّروها في اجتماعهم الأسبوعي. هذا ما نجده في ف 10: الزواج المسيحي (آ 1- 12) يرتبط بالأولاد (آ 13- 16)، والشاب الغني يفتح الدرب للتعليم عن التجرد (آ 28- 31). كل هذا يدلّ على ما عملته الجماعة المسيحية الأولى لتكوّن مجموعات سيستفيد منها الإِنجيليون ليدوّنوا أناجيلنا الأربعة. وهذه الأناجيل ترتبط بأناس رافقوا الرب يسوع منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي فيه ارتفع إلى السماء (أع 1: 22).

2- يسوع ابن الله
نشير أوّلاً إلى أن مرقس يسمّي المعلِّم "يسوع" (81 مرّة)، لا المسيح يسوع. أما لفظة المسيح فلا نجدها مرة واحدة في فم يسوع، ويجب أن تبقى سراً (8: 29). وهناك ألقاب مثل النبي (6: 15؛ 8: 28) وابن داود (10: 47- 48) والرب (11: 3؛ رج 7: 28) وابن مريم (3:6). كل هذه الألقاب تبدو نادرة، ولكن لقبَيْ ابن الله وابن الإنسان يتوزّعان الكتاب كله. لهذا سنتوقف عندهما وننهي حديثنا عن مرقس بالتوسع في موضوع السر المسيحاني. ونبدأ الآن بموضوع يسوع ابن الله.
إن عنوان الكتاب يحدّد هدف مرقس: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله". هكذا بينَّ يسوع المسيح أنه ابن الله.
إختلف مرقس عن متّى الذي وزّع تسمية "ابن الله" في إنجيله توزيعاً واسعاً، فاحتفظ بها من أجل أوقات معيّنة لأنه يعتبرها لقباً لاهوتياً. فإذا وضعنا جانباً الاعتراف بابن الله في فم الشياطين في أحد الأخبار (5: 7) وإجمالة تورد أن الأرواح النجسة كانت تخرّ له وتصرخ: "أنت ابن الله" (3: 11)، فعبارة ابن الله موجودة في الأماكن المهمة من الإِنجيل. يوم العماد هتف صوت من السماوات، صوت الآب: وأنت إبني الحبيب، بك سررت" (1: 11). ويوم التجلي، ظللت الغمامة الرسل الثلاثة، والغمامة هي علامة عن الحضور الإِلهي، وخرج صوت من الغمامة يقول: "هذا ابني الحبيب، فاسمعوا له" (7:9). وفي المرة الأخيرة برز هذا اللقب في فم الضابط الروماني (قائد المئة) الذي أعلن باسم الوثنيين ثمار موت يسوع. حين رآه يسلّم الروح قال: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (15: 39). إذن، يريد الإِنجيل الثاني أن يكشف للوثنيين مضمون البشارة: يسوع المسيح هو ابن الله، لا بالمعنى المسيحاني الذي يعتبر كلَّ ملك ابنا لله، بل بالمعنى الحقيقي والشخصي.

3- يسوع ابن الإنسان
مجيء الرب هو سر، ولهذا يحاول كل إنجيل أن يكشف لنا هذا السرّ. حدّثنا متّى عن ملكوت السماوات. أما مرقس فركَّز إنجيله على شخص يسوع الذي هو الملكوت بالذات، ركَّزه على سر ابن الإنسان.
هناك تقليدان في أصل عبارة ابن الإنسان. تقليد يرتبط بحزقيال فيقابل بين عبارة ابن آدم (= في الآرامية، إبن الإنسان) بالضمير. مثلاً، نقرأ في حز 2: 1: "يا ابن البشر، قف على قدميك". هذا يعني: أنت أيها الإنسان (رج مز 8: 5؛ عب 6:2). وهكذا يلفت يسوع النظر إلى شخصه دون أن يتخذ بصورة رسمية لقب المسيح. ولكن يبقى نصّان مهمّان يشيران إلى مجد يسوع. الأوّل نقرأه في الخطبة عن نهاية العالم. يقول يسوع: "حينئذ يشاهدون إبن البشر آتياً في السحاب، في كثير من الجلال والمجد" (13: 26). إن السحاب يدلّ على حضور الله (خر 34: 5؛ لا 16: 2؛ عد 11: 25)، وابن الإنسان هو شخص سماوي. وهذا ما نكتشفه أيضاً في النص الثاني. سأل رئيس الكهنة يسوع: "أ أنت المسيح ابن المبارك" (أو ابن الله" واليهود لا يتلفظون باسم الله)؟ فقال له يسوع: "أنا هو. وسترون ابن البشر جالساً من عن يمين القدرة (أي يمين الله القدير)، وآتياً في سحاب السماء" (26:14).
تربطنا هاتان الآيتان الأخيرتان بما قاله دانيال والأوساط الجليانية. إن ابن الإنسان يمثّل شعب قديسي العلي. هو يصعد من الأرض مع سحاب السماء، ويتقدم الى عرش قديم الأيام (أي الإِله الأزلي) لينال منه المُلك (دا 13:17). إذن، نحن هنا أمام شخص يمثّل الشعب كله. سيجلس عن يمين الله القدير، وسيمارس الدينونة. وهكذا تتجاوز مزايا ابن الانسان مزايا المسيح، أي الملك الذي ينال المسحة: إنه يأتي من عالم السماء، من عالم الله.
أجل، إن يسوع كابن الإنسان، يمارس منذ حياته على الأرض وظيفة الديّان (2: 10، 28): جاء يخلّص الخطأة غافراً خطاياهم ويدشن الملك المسيحاني. وهو يعلن بلقب ابن البشر المجدَ الذي سيكون له بعد عبوره في الألم الذي يتحمله. وهكذا ترتبط هذه العبارة بعبارة "عبد الله المتألم" الذي تحدّث عنه أشعيا: "ينبغي لابن البشر (أي لي أنا) أن يتألمّ كثيراً، وأن ينتبذه الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وأن يُقتل، ويقوم بعد ثلاثة أيام" (8: 31؛ رج 10: 33، 45).

4- السرّ المسيحاني
لقد أراد يسوع أن يُخفي هويته الحقيقية فرفض أن يُفشى سّره. هو "لم يدع الشياطين يتكلّمون" (1: 34)، بل كان ينتهرهم كثيراً أن لا يشهروه (3: 12). وفرض على الذين شفاهم أن لا يقولوا لأحد شيئاً (1: 44؛ رج 5: 43؛ 7: 36؛ 8: 26)، كما "أوصى التلاميذ أن لا يقولوا لأحد" إنه المسيح (8: 30)، أن لا "يخبروا أحداً بما رأوا" (9: 9) على جبل التجليّ.
طلب يسوع من يائيرس وإمرأته "أن لا يعلم أحد" بقيامة ابنتهما (43:5). ولكن كيف يمكن هذا، والشعب الحاضر هناك عرف بموت الصبية وناح عليها؟ ثم إن هناك أشفية حدثت بعيداً عن الجموع وكأن يسوع يريد أن يُخفي سَّره وعملَه عن الناس.
كيف نفسرّ هذا الموقف الذي اتخذه يسوع؟ قال البعض: هذا يُبرز الطابع المتواضع لحياة يسوع. ورأى آخرون فناً تربوياً لدى يسوع: فسّر اليهود مسيحانيته بطريقة بشرية فتنازل لئلا يبهر معاصريه بوحي ساطع عن ألوهيته.
ولكننا لسنا فقط أمام خطة قام بها يسوع، بل أمام شرط من شروط الوحي: لم يكن باستطاعة يسوع أن يكشف عن هويته قبل أن يدل بموته على مضمون الألقاب التي تعطى له، كالمسيح وابن الإنسان... أجل، إن الإنسان لا يقدر أن يدرك الله، ولكن الله هو الذي يعطيه بعض هذا الإِدراك. وهذا يعني أنّ "السر المسيحاني" يعود إلى يسوع نفسه.
هناك عيون الجسد وهناك عيون الإِيمان. وقارئ إنجيل مرقس يسير مسيرة الإِيمان متلمساً طريقه. هو يحاول بعين الجسد أن يدخل في سر ابن الله، وهو يتمنى أن يصل إلى النور الكامل، وهذا لن يتم إلا يوم القيامة.

خاتمة
الإِنجيل هو الخبر السار والبشارة الموجَّهة إلى كل البشر: حقّق الله بالمسيح مواعيده، فلا يبقى لنا إلاّ أن نعلن الإِنجيل "في جميع الأمم" (13: 10)، "في العالم كله" (9:14). فعمل الله الذي ظهر في حياة يسوع وموته وقيامته ما زال يتواصل في العالم بالكلمة التي سلمها إلى تلاميذه، وإلينا نحن اليوم. والإِنجيل هو أيضاً عمل الله بين البشر وهو يدعونا أن نتخذ موقفاً بالنسبة إليه. فنعلن مع بطرس أن يسوع هو المسيح، ومع قائد المئة أنه ابن الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM