الفصل الحادي عشر: المعجزات في إنجيل مرقس

الفصل الحادي عشر
المعجزات في إنجيل مرقس
الارشمندريت نيقولا انتيبا

يحفظ لنا المؤرخ أوسابيوس في كتاب "تاريخ الكنيسة" شهادة نقلها عن الأسقف بابياس حيث يقول: "إن مرقس، ترجمان بطرس، قد كتب بدقة، وإن بدون ترتيب، ما تَذكّره من أقوال الرب وأعماله، لأدب مرقس لم يسمع الرب ولا كان له تلميذاً، بل أصبح في وقت لاحق تلميذاً لبطرس". حرص مرقس كما سنرى على التقليد الايماني الذي وصله من الكنيسة الرسولية الأولى. وكان همه الوحيد تقديم "البشارة": يسوع الناصري هو المسيح ابن الله (1/ 1). وقد افتَتحت هذه البشرى الواصلة على يد المسيح طريقاً جديداً نحو الله. ثم كانت البشرى التي نادى يسوع بها: "تمَّ الزمان... وأقبل ملكوت الله..." (1/ 15).
يتدخل ملكوت الله قي عالمنا وبيئتنا وحياتنا ليس بواسطة أقوال يسوع فحسب، بل أيضاً بقدرته على صنع المعجزات. ويقف المؤرخ في عمله أمام "المعجزة" ليحلّلها لأنه ناقد، ثم يعود إلى الماضي ليدخل في كنهها، ليتعرّف إليها. إن المؤرخ ناقد، وهذه "علّته"، لأنه يريد أن يُوضح بعض الخفايا. هل يتأسّف على وضعية عيش المسيحيين الأوائل لأنهم قبلوا "المعجزات"؟ قبل كل شيء، عليه أن يدرس البيئة الدينية حيث وُلدت المعجزة ليفهم بالتالي معناها ودورها في مجرى المسيحية.
سنُعطي في بحثنا نظرة مجملة إلى "المعجزات" في الأناجيل الازائية وندرس معاً المفردات التي تقودنا إلى فهم دعوتنا إلى التوبة وجوابنا الايماني، وبالتالي الخلاص الذي يحصل من جرائها. ثم نشدّد في قسم ثان على "المعجزة" حسب ما فهمها الانجيلي مرقس، ونضعها في الإِطار الأدبي الذي استعمله ليوصل إلينا ما أخذه من التقليد الكنسي.

1) مفهوم المعجزات
إننا نلاحظ، إذا حصرنا نظرتنا في الأعمال المعجزة، أن عقلية الناس العاديين في العالم القديم لا تختلف اساساً عن عقليتنا اليوم. إننا ندرك في المعجزة ميزتها "خارقة الطبيعة" دون أن نعي كلياً "قوانين" الطبيعة. كان العرف الشعبي القديم محفوفاً بالتعاليم الخرافية الأسطورية المتعددة. كانت الأمراض، التي نحن بصددها اليوم وننعتها بالأمراض العصبية والتي وجد لها الأطباء النفسانيون حلولاً، كانت تُعتبر في وجهة من الوجهات "مسّا" من الشيطان أو متأتية من وجود "قوى" شيطانية.
لقد أنمى يسوع في تلاميذه إيمانهم بالاله الحقيقي الذي سينقّي الخرافات الشعبية. وبالتالي فإن معجزاته تروي تأسيس ملكوت الله بعيداً عن التفاسير التي وردت في مفهوم زمانه. يقول لوسيان سرفو: "لا يحقّ للمؤرخ ولمفسرّ الكتاب المقدس في عملهما أن يَنفيا المعطيات الدينية التي يقوم عليها جوهر الوحي. فالتقليد الشريف اليوم والذي هو بين أيدينا، وصلنا على أيدي الرسل وخلفائهم، وعليهما (المؤرخ والمفسرّ) أن يحافظا على أمانة التقليد ضمن حدود الكنيسة".
لم يعتبر يسوعُ نفسَه صانع معجزات أو ساحراً أو محتالاً مشعوذاً. فمعجزاته ملتصقة تماماً برسالته، وهذا ما ردده يسوع لمرسَلي المعمدان: "إذهبوا فأخبروا يوحنا بما تسمعون وترون: العميان يبصرون والعرج يمشون مشياً سوياً، البرص يبرأون، والصم يسمعون، الموتى يقومون والفقراء يُبشَّرون..." (متّى 11/ 4- 5). وهذا ما يعيده في عظته يوم أرسل تلاميذه للبشارة: "إشفوا المرضى، وأقيموا الموتى، وأبرئوا البرص، واطردوا الشياطين..." (متّى 10/ 8). وفي تبكيته لمدن الجليل، يستعمل يسوع تعبير "القوات" ليدلّ على المعجزات.
تعمل قوة الله بواسطة الرسالة في النفوس لتغيرّها، وبواسطة المعجزات الناتجة عن تلك الرسالة لتكشف القوة التي تعمل في المسيح. فلا تكمن أهمية معجزات يسوع في كونها جزءاً لا يتجزأ من الحدث المباشر فقط. لقد كانت لمعاصري يسوع سهلة المنال وصعبة الفهم في الوقت نفسه. ولكن اذا نظرنا إليها نظرة أخيرية (اسكاتولوجية) بعيدة عن اتصالها بالحاضر، فإن المعجزات كانت تُعِدّ الانسان للدخول إلى ضوء العمل الإِلهي، أي إلى دخول الملكوت. يجعلنا اذاً تماسك الذكريات الانجيلية والأمانة للتقليد ضمن الإِطار الشفهي، يجعلنا نصدّق صحة هذه المعجزات ونضعها بالكفة نفسها في الميزان التاريخي مع معطيات أخرى تُظهر هذه الأصالة.

أ) المفردات
لا يعرف العالم الكتابي الطبيعة في مفهومنا اليوم خارج نطاق الله. إنها خليقته وعمله، والله صانعها وبارئها. فالخليقة معجزة، وانسان الكتاب المقدس يختبرها دائماً باعجاب ويهتف: "ما أعظم أعمالك يا رب، لقد صنعت جميعها بحكمة" (مز 104/ 24). ولا ينفك البار يعظّم الله في مساعدته وخلاصه وفدائه، إذ إن أعمال الله الخلاصية كلها معجزات: "ما أكثر ما صنعت أكلا الرب الهي! لنا عجائبك وتدابيرك فما لك من مثيل. فلو أردتُ أن أخبر بها وأتحدث، لكانت أكثر من أن تحُصى" (مز 40/ 6؛ راجع مز 139/ 14). رغم ذلك كله، فإن المعجزة الرئيسية في العهد القديم هي تحرير الشعب اليهودي على يد موسى وهارون من عبودية فرعون. ونعلم أن هذا العمل المعجز كان محكوماً من قِبَل قدرات تاريخية. فنظر إليها الكتّاب الملهمون نظرة الإِيمان ورأوا فيه عملاً إلهياً خارق الطبيعة في سبيل الشعب وخلاصه. أجل، كان "الخروج" معجزة.
يتبنّى العهد الجديد مفهوم العهد القديم في المعجزة، لأنه يقدّم لنا صورة عن يسوع مستعيناً ليس فقط بالأقوال ولكن بالأعمال أيضاً، لأن الأعمال هي خاصة كل نبي. كانت هذه نظرة تلميذَيْ عماوس: "قالا له: ما يختص بيسوع الناصري، وكان نبيّا مقتدراً على العمل والقول عند الله والشعب كله..." (لوقا 24/19). يدلّ العهد الجديد على هذه الأعمال بمفردات مختلفة لا تتضمن في حد ذاتها حدثاً غريباً ولا غير عادي، كما إنها تختلف في الأناجيل الإِزائيّة عما هي في يوحنا، فهذا الأخير يستعمل بنوع خاص كلمة "علامة" . أما الازائيون فيستعملون مفردة "ديناميس" ليعبرّوا عن المعجزة رغم أنها تدلّ على "عمل قدرة". وأما تعبير "تيراس" أي "آية" فلا يستعمل لوحده ليدلّ على معجزة ليسوع. وبالتالي، كما يقول ريمون براون: "لا تشدّد المفردات في النصوص اليونانية على فكرة "المعجزة" والشيء "خارق الطبيعة".
فنحن بصدد صنفين من الأعمال المعجزة التي قام بها يسوع: الأشفية ومعجزات الطبيعة. لا يعتبر العديد من مفسري الكتاب المقدس، مثل رودلف بولتمان وفانسنت تايلور، ان معجزات الطبيعة متعلقة بالتقليد الأصيل الذي يعود إلى يسوع، بل انهم ينسبونها إلى التقليد الرسولي للكنيسة الأولى. لا يشكّل هذا الفصل بين المعجزات عائقاً هاما للإنجيليين، لأنهم لا يُظهرون اندهاشاً أمام الأشفية، كما أنهم لا يُبدون صعوبة في قبولها ووصفها. فلا غرو أن تؤلف المعجزات العدة الأساسية التي استعملها يسوع ضد الشيطان (مر 3/ 22 - 27)، ولذا فالمعجزة هي "عمل قدرة". حتى في إقامة الموتى وفي إيقاف قوى الطبيعة مثل العواصف، يُظهر يسوع قدرةَ الله على القوى الشيطانية.
مهما اختلفت المفردات التي تدل على المعجزة، فإنها تشير إلى عنصر هام كونها آية أو علامة. فالمعجزات بالتالي آيات وعلامات تقود البشر إلى الله، ولكنها تختلف عن الأعاجيب الظاهرة المصنوعة من قِبَل الشيطان (راجع 2 تس2/ 9). ويرفض يسوع في إنجيل مرقس "الأعاجيب" والأعمال الخارقة التي من شأنها أن تظهره كائناً "فوق الطبيعة". إنه يرفض مثل هذا العرض الذي يدل على أنه عمل تضليل، أي من عمل الشيطان". نزيد على ذلك أن المعجزات لم تكن تأكيداً خارجياً أو "برهاناً" لرسالة يسوع فقط، بل بالأحرى إنها أداة لايصال رسالته التي جاء من أجلها. فالكلام والعمل يعبرّان عن دخول قدرة الله في الزمان والمكان.
وتجرّنا فكرة "المعجزة" إلى "الاندهاش والعجب"، وهذا ما يدلّ عليه الفعل اليوناني "تومازين". إنها ردّة الفعل أمام العمل الإِلهي عند الجموع أو عند الذي استفاد من المعجزة. هذا ما جرى بعد شفاء الممسوس في ناحية الجراسيين: "فمضى وأخذ ينادي في المدن العشر بكل ما صنع يسوع اليه. وكان جميع الناس يتعجبون" (مر 5/ 20).

ب) دعوة إلى التوبة
لم يعمل يسوع المعجزات ليُشبع فضول الناس أو ليدعوهم للتعجب والاندهاش فحسب، بل ليوجّه إليهم دعوة إلى التوبة جواباً على رسالته: "توبوا، قد اقترب ملكوت السماوات" (متّى 4/ 17). إنه يدعوهم إلى تغيير جذري في قلبهم وعقلهم وحياتهم. لا بدّ لكل معجزة أن تكون للانسان ينبوع تفكير وتأمل، ولا يعني ذلك أنه في إمكان الإنسان أن يدرك جميع أسبابها ويرد إلى كنهها. يقول القديس أوغسطينوس في هذا الصدد: "لنسأل المعجزات: ماذا تستطيع أن تطلعنا عن المسيح؟ إذا فهمناها، فإنها تتكَلم بنفسها... إنها كلمة الله، وجميع أعمال كلمة الله هي أقوال موجهة لنا. ليست المعجزات بالتالي صورا ننظر إليها ونعجب بها، إنها رسائل علينا أن نقرأها ونفهمها". تصبح المعجزة لدى قراءتها وفهمها دعوة جديدة إلى اتّباع يسوع وقبوله مسيحاً.
تُوجّه الدعوة إلى كل شخص منّا، وكمثل سائر الدعوات، تُقبل أو تُرفض. إن قبول المسيح عمل تلقائي ولا أحد يجبر الشخص الآخر عليه. فالإِيمان به عمل حرّ وجواب نابع من أعماق النفس البشرية. لا يترك القبول بالمسيح جزءاً من حياة المؤمن دون أن يتفاعل معها وأن يبدّلها. وبالتالي لا يظهر الجواب الإِيماني اعترافاً شفهياً خارجياً فحسب، بل إنه يذهب إلى أعمق من ذلك، إنه عمل يتطلب التوبة. هذا هو الموضوع الرئيسي الذي عالجه الانبياء في العهد القديم، وهو موضوع تغيير الطريق والعودة بلا شرط إلى إله العهد: لقد أكمل يسوع أيضاً هذه الدعوة وجعل من التوبة قوة إلهية تولّد في المؤمن تغييراً جذرياً في حياته، وهي أقوى من الموت. إنها تحدٍّ للايمان وهي تقود إلى الإِيمان. هذا ما عناه يسوع عندما أجاب رئيس المجمع يائيروس: "لا تخف، آمن فحسب" (مر 5/ 26).

ج) جواب الإِيمان
تشهد المعجزات والأعاجيب لرسالة يسوع ولوضعه المسيحاني، وتُظهر مجده. فهي بالتالي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأقواله. فلا غرو في ذلك، إذ إنها توصل إلى حقيقة شخص المسيح. ويقول أ. باكس: "إن للمعجزة وجهين متكاملين، فردي وجماعي؛ إنهما مرتبطان معاً. تحصل المعجزة بادئ ذي بدء للشخص ذاته أو المستفيد منها، وهو عضو في الجماعة التي تقبل هذه المعجزة، ثم تأخذ منها موقفاً: قبول المسيح والإِيمان به". فتؤلف المعجزات البشارة نفسها لعمل الفداء (راجع رسل 10/ 38). فهي لا تشدّد على الخوارق، ولكن على إيمان الشهود واندهاشهم. وهنا يظهر العنصر الجامع بين الوجهين الفردي والجماعي. وتساعد بالتالي المعجزات الكرازة لتقرّب الانسان من الذي وطئ الموت بقيامته من بين الأموات.
فالمؤمن الذي تخامره فكرة عن الله، ويكتنز قلبه استعداداً للإيمان، يرى في الحدث الذي يبدو له خارقاً بادرة عطف من لدن الله. وهذا ما يصفه مرقس حين يقول: "فاشفق عليه يسوع ومدّ يده فلمسه وقال له: قد شئت فاطهر" (1/ 41). أو في معجزة الخبز والسمك: "فلما نزل يسوع إلى البر ورأى جمعاً كثيراً، فأخذته الشفقة عليهم، لأنهم كانوا كخراف لا راعي لها، وأخذ يعلّمهم أشياء كثيرة" (6/ 24).
يضع كسافييه ليون- دفور في مقطع جميل مقابلة بين الإِيمان والمعجزة ويقول: "إن موضوع الإِيمان هو معجزة، علينا أن نحصل عليها، لأن المعجزات وليدة الإِيمان وليست مسببتها. إنها علامات تدعونا إلى البحث عن الذي يعملها. وعندما يقع ناظرنا على المسيح، فإن الإِيمان يقتلع المعجزة من قدرة المسيح العظيمة... والإِيمان في قدرته الذي يطلبه يسوع هو جواب الانسان إلى الملكوت الذي يحصل بأعماله. ويصل هكذا الإِيمان إلى الله". فلا يقوم إيمانناً إذاً على المعجزات؛ بل الإِيمان انضمام إلى يسوع القائم من بين الأموات، لأن قاعدة إيماننا هي قيامة المسيح من بين الأموات كما يشدّد على ذلك الرسول بولس (راجع 1 كور 15/ 14). وليس هذا الحدث بمعجزة، بل هو سرّ لا يُدرَك إلاّ بالإِيمان. يقول اتيان شربنتيه: "وإذا كنت أؤمن بأن الله تدخَّل في حياة ذلك الإنسان، في حياة يسوع، صباح الفصح، فليس هناك من سبب يحملني على رفض امكانية تدخّله يا حياته أيضاً عن طريق المعجزات". فالمعجزة ترسم لنا طريقاً إيمانياً: إنها تقودنا من الإِيمان بالمعجزة إلى الإِيمان بالله، ومن المنظور الخارجي إلى المركز الداخلي الذي هو ينبوع المعجزة. ويصبح شفاء الجسد علامة لسلامة الروح (راجع معجزة شفاء المقعد في كفرناحوم، مر 2/ 1- 12). وتصل هذه الدينامية إلى الإعتراف والإِقرار بضعف الإِيمان أو بعدمه: "آمنت، فشدّد إيماني الضعيف" (مر 9/ 24).

د) الخلاص
تُولّد التوبةُ الايمانَ في نفس المؤمن الذي يقبل يسوع وعمله المعجز. ويدفعه الإِيمان بالتالي إلى الحصول على الخلاص. هذا ما جرى لزكا العشار عندما أظهر توبته من خلال القرار الذي اتخذه بأن يَقسم أمواله بينه وبين الفقراء. ويردّ يسوع على هذا الإِيمان: "اليوم حصل الخلاص لهذا البيت، فهو أيضاً ابن ابراهيم. لأن ابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلّصه" (لوقا 19/ 9- 10). فالخلاص والإِيمان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً عند المستفيد من المعجزة. تدعو طبيعةُ الأشفية القارئَ إلى رؤية المعجزات ليس بمنظار الخوارق، ولكن إلى رؤيته "كلاماً" يبشِّر بملكوت الله ويؤدي رسالة. يقول ليون- دوفور: "لا يقف القارئ أمام المعجزة ليبحث علمياً عن ما ورائياتها، ولكنه ينظر إلى كيفية سردها، لأنها أتت لتدلّ على أن الله القدير يعمل في المسيح، وهذا العمل هو خلاصي".
يظهر هذا الخلاص في العهد الجديد عندما يدلّنا الازائيون على أن مجيء المسيح قد تمَّ وأن ملكوت الله قد حضر. ونجد في الإِنجيل اقتناعاً أن ملكوت الله قد حضر بنوع خارق الطبيعة في حياة يسوع. وأنه يصعب علينا اليوم من خلال عقليتنا أن نعي جيّداً ما كان مفهوماً وواقعياً آنذاك. فالمعجزة في نظر يسوع، كما قلنا آنفاً، هي علامة بأن مجيء ملكوت الله وشيك، لا بل إن هذا الموعد قد حل بمجيئه. فلا غرو أن نفهم المعجزة ضمن إطار ذلك العصر وخلفيّته الدينية بأنها عمل الفداء، وأنها تبشر بأن الزمان قد تمّ وأن علاقة الله بالانسان عادت طبيعية كما كانت عليه في السابق. ويزيد ليون- دوفور علىٍ ذلك بقوله: "لقد وجدت الجماعة الأولى في المعجزات معنى مضاعفاً: إنها آيات أخيرية وهي تبشر بأن الزمان قد تمَّ. وإنها أيضاً أعمال رمزية وهي تكمّل الخط النبوي الذي يسبق الحقيقة المختلفة عن الرؤية". وتحمل المعجزة معها التعليم بأن المسيح يمنح الخلاص للذين عادوا إلى الله بالتوبة ثم قبلوا دعوته بإيمان.

2) المعجزات عند مرقس
بعد أن قدّمنا عرضاً عاماً عن المعطيات الكتابية عند الإِزائيين حول "المعجزة" ومفهومها وعلاقتها بالمستفيد منها، نحوّل نظرتنا الآن إلى درس "المعجزة" عند مرقس البشير. لقد استفضنا في درسنا العام للمعجزة، لأن مرقس يرتبط أيضاً بالتقليد الذي وصله من الجماعة الكنسية الأولى. وننطلق في درسنا لمفهوم "المعجزة" عند مرقس من بحثين قام بهما تييري سنوا في مجلة لوفان اللاهوتية، ومجموعة من الكتّاب الفرنسيين.

أ) إنجيل مرقس
لا يعدّ مرقسُ يسوعَ الناصري رجلاً مثل الآخرين. "فالصورة التي يجدها القارئ في إنجيل مرقس هي قدرة يسوع على صنع المعجزات، لأن الأهمية تكمن في الأعمال أكثر منها في العظات". ونعلم أن مرقس هو أول من قدّم لنا رواية عن يسوع، فلا غرو إذا سميناه الانجيل "الأقدم" و"المختصر".
نقسم إنجيل مرقس إلى جزءين ونسمي الجزء الأول (1/ 14 - 8/ 33) "سرّ المسيح"، والثاني "سّر ابن الإنسان". يشدّد مرقس في القسم الأول على معجزات يسوع مع أنه يقدّم لنا تعليم الجموع بالأمثال التي تهيّئ مجيء ملكوت الله. ويجهد يسوع في هذا القسم بأن يخفي "مسيحانيته" ويجعلها مكتومة (راجع 1/ 33- 34؛ 3/ 12؛ 5/43؛ 7/36؛ 8/26) مع أنه يوبّخ تلاميذه لعدم مقدرتهم على الاستيعاب والفهم (راجع 6/ 52). ويرتكز نشاط يسوع الرسولي في الانجيل المرقسي على كشف هويته نفسها ودوره في ملكوت الله الذي يتحقّق من خلال "تعليمه" الذي يتضمّن أيضاً المعجزات والتعزيمات.
ب) جدول للمعجزات
1) ممسوس كفرناحوم 1/23-28
2) شفاء حماة بطرس 1/29-31
3) جدول تلخيصي 1/32-34 و 39
4) ابراء أبرص 1/40-45
5) مقعد كفرناحوم 2/ 1- 4 و 10 - 12
6) رجل يده شلاء 3/ 1- 6
7) جدول تلخيصي 3/ 7- 12
8) تسكين العاصفة 4/ 35- 41
9) ممسوس ناحية الجراسيين 5/1-20
10) إحياء ابنة يائيروس 5/21-24 و 35-43
11) المنزوفة 5/5-34
12) تكثير الأرغفة 6/ 35 - 44
13) يسوع يمشي على المياه 6/45- 52
14) جدول تلخيصي 6/ 53- 56
15) ابنة الكنعانية 7/ 24- 30
16) أصم أبكم 7/ 31- 37
17) تكثير الأرغفة الثاني 8/ 1- 10
18) أعمى بيت صيدا 8/ 22- 26
19) صبي مصاب بالصرع 9/ 14- 27
20) أعمى أريحا 10/ 46- 52
21) التينة اليابسة 11/12-14 و 20-22
نستطيع القول إن نصوص المعجزات هي جزء لا يتجزأ من نصوص إنجيل مرقس، وإن نصف النصوص على وجه التقريب لحياة يسوع العلنية تسرد لنا المعجزات. هكذا بقي مرقس محافظاً على التقليد الذي وصله من الكنيسة الأولى، ولم يُرد، اذا استطعنا القول، أن يفقد شيئاً منه. إنه، على سبيل المثال، يورد لنا مرتين "تكثير الأرغفة" مع أنه وجد في تقليده بعض الفروق في العرض.
لقد رأى التقليد في المعجزات، منذ القدم، ظهور قدرة يسوع الخارقة الطبيعة. وهذا ما نكتسبه لدى قراءتنا نصوص معجزات مرقس. يقول لوسيان سرفو: "يطلق سلطانُ يسوع قدرةَ الله في تحقيق ملكوته، ويتسلّط على القوى الشيطانية كما على الماسي البشرية المبتذلة". "وكانت حماة سمعان في الفراش محمومة" (1/ 30؛ راجع مر 4/36- 41؛ 5/41-43). وفي موجز عن نشاط يسوع العجائبي في الجليل يرى مرقس حول يسوع وتلاميذه أناساً جاؤوا من الجليل واليهودية وأورشليم وأدوم وعبر الأردن ونواحي صور وصيدا. يعود سبب ذلك إلى أن يسوع "شفى كثيراً من الناس... وكانت الأرواح النجسة، اذا رأته، ترتمي على قدميه" (3/7- 12).
زد على ذلك أن الانجيل الثاني يحتوي على جداول تلخيصية للمعجزات استقاها الكاتب من التقليد الذي وصله. ويقول تييري سنوا في هذه الجداول وأهميتها ودورها في بنية إنجيل مرقس: "تلعب الجداول التلخيصية للمعجزات (مر 1/ 32- 34؛ 7/3- 12؛ 6/ 53-56) دوراً هاماً في بناء وتأليف الإِِنجيل وتعطيها لحمة في سياق عمل يسوع العجائبي خاصة في القسم الأول من الإِنجيل (1/ 1- 8/26)".
إنه ليصعب علينا أن نصنّف المعجزات لدى دراستنا مبنى الرواية. لأننا نجد معجزات تركِّز على موضوع مناظرة جرت بين يسوع والكتبة وتتضمّن جواب يسوع على النقاش (مر 3/ 1- 6)، أو أنها تهتم بأقوال يسوع وتعبرّ عن معنى رسالته (مر 1/ 1- 12). ويقول سنوا: "لا يحتوي يوم كفرناحوم الأول على ماهية "تعليم يسوع" (مر 1/ 21 - 22)، ولكن مرقس يقدّم لنا الأعمال والأشفية التي أجراها يسوع هنا. فالتساؤل الذي حدث للشهود عند خروج الشيطان يحمل في طيّاته معنى خاصاً: ما هذا؟ انه لتعليم جديد يُلقى بسلطان. حتى الأرواح النجسة يأمرها فتطيعه (1/27). لا تعود الفكرة إلى العظة التي ألقاها يسوع بل إلى عمل قام به". ونجد أيضاً معجزات تشدّد على عمل يسوع العجائبي (راجع مثلاً الأعداد 4 و 9 و 8... في جدول المعجزات).
رغم هذه الصعوبة، فاننا نستطيع أن نفصل بين معجزات "الأشفية" ومعجزات جرت "في الطبيعة" مثل تسكين العاصفة (4/ 35- 41) وتكثير الأرغفة (6/ 35- 44...). في نظر مرقس، كما في نظر العالم القديم، تعود قوى الشر إلى أسباب تفوق الطبيعة. فالله والشيطان يدخلان في منازعات للسيطرة على العالم. وبالتالي فإن الأشفية التي يعملها يسوع تدخل في إطار لاهوتي، وتصبح المعجزة وحياً. يدعونا هذا الفصل الوهمي بين معجزات الأشفية ومعجزات- الطبيعة إلى التشديد على قدرة يسوع ورسالته. لكنّ يسوع يرفض صنع المعجزات. ولم يخفَ ذلك على مرقس إذ إنه ينثر في رواياته تلك الأوامر الدائمة بحفظ "السرّ".

ج) عدم إباحة السرّ
يرفض يسوع في مر 8/ 11- 12 أن يعطي "آية" خارقة ليدلّ على التأييد الإِلهي، وبالتالي إنه يرفض أن يجرّب الله كما فعل الشعب قديماً في البرية (راجع كلمة "جيل" في الآية 11). تؤدي هذه المطالبة إلى إكراه الله على العمل، إلى تجربة الرب. ولا يخفى علينا بأية قوة أبعد يسوع المجرب الذي دعاه إلى الالقاء بنفسه من شرفة الهيكل على مرأى من الشعب. يقول لوسيان سرفو: "لا تنتمي معجزات يسوع إلى الفكرة بأن يستعمل الإنسان المعجزات ويجبر الله بها كما في عمل سحري ليحقق مآربه الشخصية. بل على العكس تماماً، فإن أعمال يسوع، أي أقواله ومعجزاته، تدخل في إطار الوحي الذي يصدر عن إرادة الله فقط ".
زد على ذلك أن يسوع يرفض صنع الآيات لأن المعجزات تَطلب إليه لأن يُظهر مسيحانيته. وإذا كانت المعجزات تشهد على قدرته، فذلك لا يدل على أن يسوع وافق على طلب الفريسيين، بل لأنه هو أرادها بهذه الطريقة. وعندما يرفض يسوع أن يعطيهم آية لتدعمه في رسالته، فانه يظهر حقيقة شخصيته: إنه يعمل ما يريد، ولا يترك أي شخص يجبره على عمل ما. هذه دلالة على أنه "ابن الله" (مر 1/ 1 و11؛ 3/ 11؛ 5/7...). وفي مقطع آخر (13/ 21- 23) يحذّر يسوع من صنع "الآيات والأعاجيب" ويرفضها، ليس لأنه يدافع عن منزلته العالية فقط، بل لأنهها من عمل المحتالين: "سيظهر مسحاء دجّالون وأنبياء كذّابون يأتون بآيات وأعاجيب، ليضلّوا المختارين لو أمكن الأمر" (آية 22).
ولكننا نستدل من جهة ثانية، أن يسوع لا يزال يعمل المعجزات. ونتبين من التلخيص الوارد في (مر 3/ 7- 12) أن يسوع يبحث عن الخلوة ولكنه لا يستطيع ذلك لأن الشعب تعلّق به من أجل المعجزات: "وتبعه جمع كبير... وقد سمعوا بما يصنع فجاؤوا إليه" (3/ 7- 8). ونستخلص أيضاً أن يسوع يريد أن يجعل مسيحانيته مخفية وسّرية، ولكن الشياطين تُظهرها وتشُهرها. فيفرض يسوع الصمت على الشياطين الذين يتكلمون بلسان الممسوسين، لأنهم يعرفون من هو: "ولم يدع الشياطين تتكلم، لأنها عرفته" (مر 1/ 34). ويعتقد مرقس من خلال فرض الصمت أن هناك ساعة حدّدها يسوع نفسه لإِظهار ذاته. ففي بستان الزيتون يتوجّه يسوع إلى تلاميذه النائمين بقوله: "ناموا الآن واستريحوا. لقد قُضي الأمر وأتت الساعة" (14/ 14)، وهي ساعة الآلام والساعة التي يتمّ فيها التدبير الإِلهي. ويعلّق سنوا على سر مسيحانية يسوع فيقول: "إن مسيحانية يسوع لا تُفهم ولا تُعلن إلاَّ من خلال آلامه وقيامته. يبتعد يسوع عن الحشود التي تتجمع حوله ما دام هذا الزمن لم يحضر بعد. إنه يمنع أن يشهر ابن الله ما لم يُعرف أنه ابن الله المتألم". نستطيع بعد ذلك أن نفهم أن فرض الصمت على الألقاب والإِعتراف بهوية يسوع مرتبطان بالفن الأدبي الذي استعمله مرقس لأن "افشاء هوية يسوع يؤدي حتماً إلى تسليمه إلى الموت. لذلك يعلن يسوع، بدون تمهيد، عن موته (8/ 31 ي)، ذلك الموت الذي يصبح حتمياً حين يجيب يسوع على سؤال عظيم الكهنة: "أنا هو". ويستنتج تييري سنوا في حاشية: "لا نجد في مرقس أي ظهور للمسيح القائم من بين الأموات، لأن القيامة تتحقّق في أقوال وأعمال المسيح الماضية، غير المفهومة والمبهمة طوال حياته الأرضية. وتجد هذه الأقوال والأعمال معناها الحقيقي في بشارة "الإِنجيل" بواسطة الكنيسة".

د) البشارة والخلاص
يُعدّ مرقس بين الإِزائيين راوية أكثر منه لاهوتياً. ونتأكد من صحة هذه الفكرة عندما نقارن نصوصه مع نصوص متّى ولوقا في روايته للحدث ذاته. كما اننا نتحسس من أن مرقس يهدف إلى تقديم يسوع كشخص حقيقي و"تاريخي" عاش بين الناس في زمان ومكان معينين. لقد أتى ليحمل بشارة الخلاص إلى عالم يعيش تحت وطأة سلطان الشيطان.
تشير فكرة "الخلاص" عند الإِزائيين إلى حدث مستقبلي وتدلّ على الدخول إلى ملكوت الله، كما أنها بالوقت نفسه تشير إلى حدث حاضر عندما يفسّر بأن شيئاً قد ضاع ثم وجد. وتدل فكرة "الخلاص" في (مر 10/ 26) على الدخول إلى ملكوت الله (10/24)، كما أنها تشير في (مر 13/13 و20) إلى الخلاص الأخيري بنوع عام. ويذكرنا تييري سنوا: "علينا أن ننتبه إلى فكرة الخلاص وصلتها "بالإِنجيل" (مر 13/ 9- 13). إنها فكرة ذات معنيين. كانت المعجزات في حياة يسوع تعيد "الصحة" إلى المرضى الذين يأتون إليه. وأما لقرّاء إنجيل مرقس فان المعجزات نفسها، بمعنى "البشارة"، تصبح حاملة الخلاص". ويستعمل مرقس مراراً الفعل اليوناني "سوزو" بمعنى الشفاء من المرض (راجع مر 3/ 4؛ 5/23 و 28 و 34؛ 6/ 56...). وإذا كان الخلاص هو انعتاق من سلطان الشيطان، فانه يحصل للضعيف وللمهدّد في حقوقه المعيشية، بواسطة ارتباط حماية يكون فيها يسوع الرجل القوي والقادر على أن يسعفه وأن يحرّره من واقعه الصعب.
عندما يستعمل الإِنجيلي مرقس فعل "خلّص" في معجزات الأشفية، فلا يدل الفعل على شفاء عضو واحد في الجسم فقط، بل على الإنسان بكامله. ففي معجزة شفاء المنزوفة يقول لها يسوع: "يا ابنتي، ايمانك خلّصك، فاذهبي بسلام، وتعافي من علّتك" (مر 5/ 34؛ راجع أيضاً 10/ 52). يعلّق فرنر فورستر على عبارة "إيمانك خلّصك" ويقول: (إن اختيار عبارة "إيمانك خلّصك" تدعونا إلى الإِدراك بأن قدرة يسوع الشافية وقوة الإِيمان المخلّصة يتعدّيان حدود الحياةَ الطبيعية".
لقد زاد التقليد المسيحي في الكنيسة الأولى الرمزية في بعض المعجزات ليدلّ بها على أهمية الخلاص بالإيمان. عندما يفتح يسوع عيني أعمى في بيت صيدا يصبح هذا العمل عند مرقس رمزاً للرؤية الروحية التي يستحوز عليها المؤمن بإيمانه في يسوع. لقد وبّخ يسوع تلاميذه لأنهم اصيبوا بالعمى والصمم (مر 8/18: "ألكم عيون ولا تبصرون، وآذان ولا تسمعون"؟). لا يدع مرقس في قوله مجالاًً للشك في الصلة التي وضعها بين شفاء الأصم (7/ 31-37) وشفاء الأعمى (8/ 22 - 26). "فالتلاميذ هم عميان وصمّ، لا يستطيعون أن يروا البرهان ويسمعوا الكلمة ويلبّوها بشهادة الإِيصان. وإذا استطاع بطرس أن يفهم باسم الجميع، فلأنه شُفي من عماه وصمَمَه، فانطلق لسانه أيضاً... لأن الإِيمان، بالرغم من كل العلامات، يظل عطية الله".
لا يجبر يسوع- المرقسي أحداً على الإِيمان بواسطة تعليمه، ولكنّ الذين يقبلون تعليمه يؤمنون به ويعترفون به. فالإِيمان بالتالي حاصل من وجود الشخص الذي يرى ويسمع ويشعر (راجع مر 5/ 30). وهذا الشخص الحسيّ هو موضوع الإِيمان الذي يدعو إليه مرقس. والبشارة الخلاصية هي العمل الإِلهي بين الناس أكثر منها رسالة جاءت من عند الله. فيتخذ مرقس العمل الإِلهي في الزمن الحاضر لينظر إلى الماضي فيتكلّم عمَّا كان في البدء، ويستنير بضوئه ليصف الوجود المسيحي. ويظهر لنا أن مرقس يؤمن بأنه إذا كان الراوي قادراً على تمثيل مشهد حيّ ليسوع وتقديمه للذين التقوا به، فالقبول بيسوع أي الإِيمان به يكون أيضاً سهلاً. وبالتالي فالبشارة الخلاصية هي شخص يسوع الذي يعمل ويعلّم معاً.

خاتمة: دعوة إلى الملكوت
يدخل المسيح- المرقسي بواسطة المعجزة في مجابهة مع قوى الشر ليخرج منها منتصراً انتصاراً باهراً. ونجد هذه المجابهة في بدء الإِنجيل في رواية "التجربة" (1/ 12- 13). ويشكّل هذا الانتصار تأسيس ملكوت الله الذي يظهر عند مرقس بادئ ذي بدء تحت صورة فكرة مستقبلية. وما "البشارة" إلاَّ إعلان هذا "الملكوت" الذي يدلّ على "الملك" و"الملكية" معاً (راجع تعبير "ملكوت" العبري). لقد اقترب هذا الملكوت من الناس في شخص يسوع وفي أقواله وفي أعماله. إنه التتميم للانتظار النبوي، لأن الله سيتدخل في هذه الآونة الأخيرة بحسب "الزمن" الذي حدّده لتحقيق مواعيده. ويقول بيدا ريجو: "إن الوقت هو نقطة انطلاق التحقيق النبوي. يظهر الله في شخص يسوع بصورة نهائية خارقة للعادة. يحلّ الروح في يسوع، ويقوده ويملأه قوة تعمل المعجزات من خلاله. فهو يغلب الشيطان والأبالسة... فعلينا أن نستقبله إذا أردنا الدخول معه إلى الملكوت".
فالأقوال التي نسمعها من يسوع والأعمال التي يقوم بها هي بدء البشارة، ونقطة انطلاق الزمن نحو تحقيق شامل للملكوت. وسيملك الله عندما يبعد الشيطان والشر والخطيئة والموت (راجع 1 قور 15/ 26). وهذا العمل هو عطية شخصية من قبل الله، لأنه يتدخل في الخليقة وهو الخالق. إنه يحوّل الزمن "العادي" إلى زمن "أبدي" ليجعله حدوداً لهذا الملكوت حيث ستتمّ الوليمة السماوية وحيث يُحسى "الشراب الجديد" (مر 14/ 25). ويشّرع يسوع أبواب الملكوت منذ الآن ليتركها مفتوحة للذين يريدون الدخول. وها إن مرقس يفتتح روايات معجزاته بإعتاق ممسوس (1/ 21- 28) في كفرناحوم. ثم انه يروي لنا بكثير من التفاصيل كيف أن يسوعٍ يطرد الشيطان في ناحية الجراسيين، كما أنه يقدّم لنا وصفاً دقيقاً قاتما لنرى من خلاله مشهداً للمجابهة بين الله والأبالسة (5/ 1- 20). وتشير هذه الرواية إلى انتصار يسوع على مملكة الشيطان ونهاية سلطانه وتوطيد ملكوت الله حتى في أرض الوثنيين. زد على ذلك أن التعزيمات تتصدّر مكاناً هاماً في رسالة يسوع حتى إن أُناساً من الذين لم يتبعوه، أصبحوا قادرين على شفاء الناس من الأمراض لأنهم دعوا "باسم يسوع" (مر 9/38).
فالمعجزة التي تعبرّ عن انتصار يسوع تُدخلنا إلى ملكوت الله حيث تلتقي النظرة المسيحانية بالنظرة الأخيرية في الحاضر والمستقبل. إنها تلاقي الأرض والسماء، إنها سّر تعاطف الاله مع الإنسان خليقته. وهذا ما يدل عليه الآباء اليونان بقولهم "التنازل" من العلاء. وتعيد المعجزة الخليقة بعد السقطة الأولى إلى مصدرها الأول، وتفتح أمامها باب الملكوت واسعاً. أجل، حان الوقت، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشارة" (مر 1/ 15).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM