الفصل الثاني عشر: الآلام بحسب إنجيل مرقس

الفصل الثاني عشر
الآلام بحسب إنجيل مرقس
15: 33- 41
الخوري يوسف فخريّ

مقدمة
في بحثه عن "لاهوت الرجاء"، في كتابه "الإِله المصلوب أساس اللاهوت المسيحي" يبرز يورغن مولتمان، اللاهوتي الإِلماني، الأهمية العظمى لحدث الجلجلة كما رواه مرقس البشير (15/ 33- 41). فيجد في شخص يسوع المصلوب كمال الوحي الإِلهي وبالتالي تجلي ملء الرجاء المسيحاني لشعب الله وللأمم. وفي الواقع هذا ما يركز عليه إنجيل مرقس فيعكس بنوع خاص، همّ الكنيسة الأولى وهو الإِيمان والإِقرار بأن يسوع الناصري هو المسيح إبن الله (مر 1/ 1). والغاية من هذا الإقرار هي التشديد على ضرورة الكرازة بهذه الحقيقة الأزلية إلى الشعوب كافة ودعوتهم إلى الوليمة الإِفخارستية والخلاص (مر 6/ 30- 8/ 10).
البحث في قصة الآلام حسب مرقس، في الفصلين 14 و 15، يدفعنا إلى التركيز على حدث الجلجلة الذي محوره يسوع المتألم والصارخ: "ألوي ألوي لما شبقتاني؟" (مر 15/ 34).
حدث الجلجلة هذا يتمحور حول آلام يسوع ويبلور قمة الكرازة المرقسية. فيسوع المنازع على الجلجلة والذي يحتضر خلال الثلاث ساعات المغمورة بالظلام (مر 15/ 33) وساعة إنشقاق حجاب الهيكل (مر 37/15)، نسمعه يطلق صرخة الرجاء: "ألوي ألوي لما شبقتاني"؟ والصرخة هذه تكشف عن حقيقة سر الوهيته الأزلية فتذهل الأمم في شخص القائد الروماني الوثني، فيقلع عن وثنيته ويقرّ بإيمانه ومعرفته لله. وهكذا، في حدث الجلجلة، يتحقق قصد مرقس في اعتراف الأمم بأن يسوع هو إبن الله (مر 1/ 1).
حول هذه المرتكزات الخلاصية في هذا الحدث (مر 15/ 33- 41) سنحاول التوقف، حول أبعادها لاستقطاب أطرها البيبلية حسب مرقس قاصدين النفاذ من الحدث الأساسي إلى معانيه الكتابية وغاياته الكرازية.

أ- البعد الأول: الظلام وحدث الجلجلة (مر 15/ 33)
يتوقف مرقس عند إضطراب كوني يلازم يسوع على الصليب. يقع هذا الإضطراب ساعة اقتراب النهار من ظهيرته: فإذا بظلام دامس يخيّم على الأرض كلّها من الساعة السادسة حتّى الساعة التاسعة. حدثٌ كهذا لا يقرّه علم التغييرات الجوية، لا سيّما وأن الصلب حصل في زمن يُستبعد فيه مثل هذا التغير وفي أسبوع يكون فيه القمر بدراً. وطوارئ الخسوف والكسوف لا تشير إلى أي وثيقة علمية معاصرة أو قديمة تدل على إمكانية حدوثها. فما هي الظلمة التي تصدها مرقس؟
إن الكلمة اليونانية "سكوتوس": الظلام، لا ترد في إنجيل مرقس إلاّ في حدث الجلجلة. غير أن الإِنجيلي عندما يتحدّث عن مجيء إبن الإنسان في آخر الأزمنة، يستعمل الفعل سكوتيزوماي للتعبير عن كسوف الشمس: "... في تلك الأيام، بعد ذلك الضيق، تظلم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه" (مر 13/ 24). فالظلام يعبرّ عن حالة توحي بالموت والعدم. هذا الإختبار نجده في سفر التكوين، في رواية الخلق الأولى (تك 1/ 1- 2/ 4)، حيث كان الظلام يغمر الأرض الخاوية الخالية (توهو بوهو) قبل بدء عمل الخلق. إن ظلام سفر التكوين هذا، ليس بغريب عن ظلام الجلجلة ولا عن مرقس الذي يفتتح إنجيله بكلمة "ارخي" = بدء (مر 1/ 1)، بِرِشيتْ= في البداية أو في البدء (تك 1/1). فلقد أصبح ظلام الجلجلة كظلام سفر التكوين، الشاهد الأول على ولادة عالم جديد وخليقة جديدة.
والظلام هو أيضاً، الضربة التاسعة التي حلّت بأرض مصر (خر 10/ 21- 29) وهيأت الضربة العاشرة وهي موت أبكار المصريين وتحرير شعب الله (خر 11/ 1- 10). فموسى الباسط يديه إلى السماء، نزولاً عند أمر إلهه، يُحدث ظلاماً على كل أرض مصر ولمدة ثلاثة أيام (خر 10/ 21- 22). ويسوع الباسط يديه على الصليب في صلاة خاشعة ("ألوي ألوي لما شبقتاني؟")، يغمر الجلجلة وكل الأرض بالظلام ولمدة ثلاث ساعات (مر 15/ 23). فإن كان ظلام الخروج قد أدّى إلى قتل أبكار المصريين (خر 11/ 1- 10) وتحرير شعب الله (خر 14) وبالتالي أدّى به إلى عبادة الله الحق، فظلام الجلجلة أيضاً، أدّى إلى قتل بكر الآب، وبقتله تمّ نصر الخليقة الجديدة على العدم وظلام الموت وحملها على عبادة الله بالروح والحق وإنشاد يسوع بكر الآب. ولكن بين يسوع الجلجلة وموسى الباسط يديه إلى السماء علاقة أعمق وآفاق أوسع، فحضور موسى- سفر الخروج في شخص يسوع على الجلجلة يتبعه كلام عن النبي إيليّا: "فقال بعض الحاضرين: إنّه ينادي إيليّا" (مر 15/ 35). هذا يدعونا ألاّ نفصل حدث التجلي عن حدث الجلجلة (مر 9/ 2- 10). ولكن كيف نوفّق بين نور جبل التجلي وظلام الجلجلة؟ إن صاحب المزامير ينشد: "الرب قد ملك فلتبتهج الأرض" (97/ 1). ويزيد: "النور والظلام يحيطان به" (مز 97/ 2).
وللظلام دور هام في الكتب النبوية، فهو علامة من علامات الأزمنة الأخيرة، وهو ينبئ بحلول "يوم الرب العظيم"، يوم الإفتقاد وبدء الزمن الإسكاتولوجي. فالظلام هو ساعة الدينونة المعلن عنها في عاموس النبي: "في هذا اليوم، يقول الرب، سآمر الشمس أن تغيب في وضح النهار فيغمر الظلام الأرض ساعة الظهر... سأجعل الحداد في البلاد كما لموت إبن وحيد وتكون نهايته كيوم مملوء مرارة" (عاموس 8/ 9- 10). ظلام سكوت الله وظلام غياب الله. هذا الظلام يعبرَّ عنه الكتاب بهذه الصرخة التي يطلقها يسوع من أعلى الصليب: "ألوي ألوي لما شبقتاني"؟ هذه الكلمات تفتتح المزمور 22 الذي ينتهي بنشيد النصر: "سأبشِّر باسمك اخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك. للرب تحيا نفسي وإياه تعبد ذريتي" (مزمور 22/ 23 و 30). ولكن هذا النصر لا يظهر إلاّ ساعة القيامة. هذه الساعة هي بالنسبة لمرقس، ساعة الظلام، ولا يجب أن نخفّف من مرماها. هي الساعة التي جاء فيها الذي أراد نفسه خادماً وخادماً متواضعاً فشرب حتى الثمالة كأس خطيئة البشرية (أشعيا 53/ 3- 9).

ب- البعد الثاني: إيليا المنتظر على الجلجلة (مر 15/ 35- 36)
إن بعض الحاضرين عند الصليب سمعوا يسوع ينادي إيليا الذي ينتظرونه آتياً في آخر الأيام. فقام واحد من الحاضرين بحركة شفقة، وقدَّم اسفنجة مملؤة خلاًّ للمصلوب (مر 15/ 36). ضحك الآخرون، لأنهم لم يفهموا معنى الكلمات التي تلفّظ بها يسوع فاستنتجوا أنه يدعو ايليا لمساعدته. رأوا في هذه الصرخة آخر اقرار ضعف عند هذا المسيح المزعوم. إن مهمة إيليا على الجلجلة هي مهمة الإنقاذ، لأن التقليد اليهودي يرى فيه العضد للبائسين والمزمع أن يأتي قبل يوم الرب العظيم كما يقول النبي ملاخي: "هاءنذا أرسل اليكم إيليّا النبيّ قبل أن يأتي يوم الرب العظيم الرهيب" (ملا 3/23). إن وجود إيليّا على جبل الجلجلة وقت نزاع يسوع، هو علامة حلول يوم الرب وبدء الأزمنة الأخيرة. ولكن لحضور إيليّا على الجلجلة مفهوم آخر. فهذا الحضورُ يُذكر في الساعة التاسعة (مر 15/ 34)، ساعة الصلاة عند اليهود وتقديم ذبيحة المساء (أعمال 3/ 1؛ 10/ 3 و 30)، وهو يحوّل أنظارنا من إيليّا المنتظَر إلى إيليّا جبل الكرمل (1 ملوك 18) حيث يتحدّى بذبيحته إله الأوثان (بعل) وكهنته.
هناك، على جبل الكرمل، يكتشف إيليا عن غيّ وضلال عبادة الإِله المصنوع، ويُهدي عبّاده إلى معرفة الإِله الحقيقي فيصرخون بملء أفواههم: "الرب هو الإِله، الرب هو الإِله" (1 ملوك 18/ 39). وعلى الجلجلة، يجدّد يسوع حدث ذبيحة الكرمل، إذ إنه بتقدمة ذاته لأبيه كفارة عن العالم أجمع، كشف عن ضلال الشعب المختار وأظهر الحقيقة للأمم، فاعترفت به في شخص القائد الروماني الوثني مخلصاً وفادياً (مر 15/ 39).

ج- البعد الثالث: إنشقاق حجاب الهيكل (مر 15/ 34)
تخبر نصوص الآلام عند الإزائيين، أن حجاب الهيكل الذي يحجب قدس الأقداس ويخفيها عن الأعين، والذي يصفه بدقة المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه "حرب اليهود"، قد انشق في وسطه عندما لفظ يسوع الروح. لمعرفة أبعاد هذا الحدث، يجب توضيح نقطتين أساسيتين. أولاً: دور الهيكل في إنجيل مرقس. وثانياً: إستعمال الفعل اليوناني سخيزو: إنشق أو إنشطر.
أولاً: دور الهيكل يا إنجيل مرقس
يعتبر مرقس أن هيكل أورشليم هو بيت الرب (مر 11/17) والمكان المقدس (14/49)، ولكن سيأتي يوم لن يبقى فيه حجر إلاّ ويُنقض (13/ 14): لقد كان عقيماً ولم يعط ثمراً. هذا ما عناه يسوع في مثل التينة اليايسة (مر 11/ 20- 25). وقبل الدخول في الآلام، جلس يسوع في جبل الزيتون وحدّث تلاميذه عن خراب الهيكل (مر 13/ 2). وخلال محاكمته أمام عظيم الكهنة، اتُهم يسوع على دفعتين بأنه سيهدم الهيكل المصنوع بالأيدي وبعد ثلاثة أَيام يبني هيكلاً آخر غير مصنوع بالأيدي (مر 14/ 58). وعلى الجلجلة، كان الماروّن يهزأون به قائلين: "يا هادم الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام" (مر 15/ 29). فكان الجواب: إنشقاق الحجاب من أعلى إلى أسفل، أي إن النبوءة تحققت، لأن الهيكل قد نُقض وليس لنفضه قيامة، ومن واجب كل يهودي أن يفهم هذا الحدث كحكم من الله. كما لا بد لكل مؤمن من أن يرى فيه ما رأته الرسالة إلى العبرانيّين: أصبح الدخول إلى الأقداس منذ اليوم مسموحاً به لجميع المؤمنين بواسطة يسوع المسيح. ويمكننا أيضاً أن نزيد: إنشقاق الحجاب هو هدم الفكرة القديمة التي كانت تفصل بين المقدّس والغير المقدّس، بين شعب الله والأمم. (عب 9/ 1 - 14؛ 10/19- 22). في هذا الصدد، يتحدّث الكتاب المنحول "وصيات الآباء الإثني عشر"، في وصية لاوي فيقول: إن إنشقاق الحجاب هو نهاية الهيكل، وإن الرّب الساكن في قدس الأقداس قد ترك أورشليم وتبدد وراءه الشعب اليهودي. وتتحدث وصية بنيامين عن النبي، الإبن الوحيد الذي سيزور أورشليم، وهناك يهُان ويُعلَّق على شجرة، فينشق الحجاب ويغادر روح الرب الهيكل ويسكن ما بين الأمم.
إن انشقاق حجاب الهيكل يدحض سخرية المارين (مر 15/ 29)، ويثبت ما قاله شهود الزور: "سأهدم هذا الهيكل... وأبني آخر" (مر 15/58). وساعة ذاق يسوع العذاب وهول الصلب والسخرية وأرسل صرخته إلى الآب صلاة ملؤها الرجاء ("ألوي ألوي لما شبقتاني"؟)، وسأله أن يحكم بين ذبيحته على الصليب وذبائح الهيكل، وبين الهيكل المصنوع بالأيدي والهيكل الغير مصنوع بالأيدي، خرج الرب عن صمته، وشق حجاب الهيكل معلناً بذلك نهاية المصنوع بالأيدي ودالاًّ على أن أرضه ستكون مسكناً للأمم.
كان لا بدّ لهذا الهيكل بوجهه القديم وكيانه الماديّ المصنوع بالأيدي، أن يسقط ليقوم الهيكل غير المصنوع بالأيدي. وهذا التحوّل في الهيكل (خراب-بناء) نراه متجسداً في شخص عبد- يهوه المتألم. فترجوم يوناتان لأشعيا (أش 53/13 و 15) يرى في عبد- يهوه المتألم، المسيح العتيد، وهذا العبد المتألم سيذوق العذاب والآلام، ثم يبني الهيكل من جديد ويعرف المجد والقيامة.
تحدّث يسوع عن خراب الهيكل في مناسبات عدّة أثناء حياته التبشيرية. ففي حديثه الأخير (مر 13/ 12)، أكد أنه يجب أن يبشَّر بالإنجيل في كل الأمم، وفي آخر إنجيله، يرسل تلاميذه إلى كل الشعوب (مر 16/ 15). وهذا ما يبغيه يسوع في مَثَل الكرّامين القتلة (مر 12/ 1- 12) ومَثل التينة اليابسة (مر 11/ 20- 25). ففي كلتا الحالتين، يطلب يسوع ثمراً فلا يجد. لهذا يسلِّم ربّ الكرم كرمه إلى فَعلة آخرين (مر 9/12): "من عند الرب كان ذلك وهو عجيب في عيوننا" (مزمور 118 / 22- 23).

ثانياً: الفعل "سخيزو" في إنجيل مرقس
يعني هذا الفعل إنشق أو إنشطر. لا يستعمله مرقس إلاّ مرة واحدة خارج قصة الآلام، وبالتحديد في اعتماد يسوع (مر 1/ 9- 11)، حيث انشقت السماوات وهبط الروح القدس في شبه حمامة واستقر فوق رأس الإبن الحبيب. في الترجمة السبعينية نجد هذا الفعل في ذبيحة إسحق (تك 22/ 3) حيث يشقق إبراهيم الحطب ليقدّم إبنه قرباناً لله. أليست ذبيحة الإبن الوحيد إسحق مقدمة لذبيحة الإبن الوحيد على الصليب؟ فالتقليد الكنسي وآباء الكنيسة يرون في ذبيحة إسحق الذي حمل الحطب وصعد وأبوه إلى الجبل ليقدّم ذبيحة الله، مقدِّمة لسر الفداء الذي تجلّى في الإبن الوحيد الذي حمل صليبه وصعد إلى جبل الجلجلة ليكون ذبيحة للآب السماوي.
ونجد هذا الفعل أيضاً في سفر الخروج، في رواية عبور بحر الأحمر (خروج 14/ 21) حيث أرسل الرب ريحا شديدة طوال الليل، فشق البحر ودخل شعب الله في وسطه بأقدام ثابتة. إن هذا يدعو إلى قراءة حدث الجلجلة في جو فصحي وضمن إطار سفر الخروج.
يوم اعتماد يسوع إنشقت السماوات. ويوم موته إنشق حجاب الهيكل. فهل وجود الفعل "سخيزو" في هذين الحدثين صدفة أدبية أم إستعمال له مغزى لاهوتي؟ إن يسوع قد أعلن سابقاً في جوابه على إبنَيْ زبدى يعقوب ويوحنّا قائلاً لهما: "اتستطيعان أن تشربا الكأس التي سأشربها، أو تقبلا المعمودية التي سأقبلها" (مر 10/ 38)؟ هذا تأكيد صريح بأن يسوع ينتظر معمودية ثانية على الجلجلة. ففي المعمودية الأولى شهد الآب للإبن، وفي المعمودية الثانية شهد الإبن للآب، وشهد القائد الروماني للإنسان الجديد. في الترجمة السريانية لانجيل مرقس، نرى الفعل "سخيزو= صطر" يُستعمل في رواية محاكمة يسوع: مزّق عظيم الكهنة ثيابه لأنه سمع يسوع يجدّف حين أجاب: "أنا هو، وسوف ترون إبن الإنسان جالساً عن يمين القدير وآتياً في غمام السماء" (مر 14/ 63). إن تمزيق عظيم الكهنة ثيابه الكهنوتية لهو مقدمة لتمزيق حجاب الهيكل، وبالتالي لتمزيق كهنوت العهد القديم الذي كان عميقاً. إن وجود الفعل "سخيزو" في حدث الجلجلة، يجعلنا نرى في يسوع المصلوب، ذبيحة إسحق وعبور بحر الأحمر، والعماد في نهر الأردن وتمزيق ثياب الكهنوت القديم. هذه اللوحات الكتابية الأربع، تجد في شخص يسوع على الجلجلة الرمز والغاية، وتحقيق النبوات، وبداية عهد جديد حيث يُعبد فيه الرب بكهنوت جديد.

د- ثمرة إنشقاق حجاب الهيكل: إيمان القائد الروماني (مر 15/ 39)
تنتهي حادثة الجلجلة بانشقاق حجاب الهيكل واعتراف القائد الروماني بالوهية يسوع: "كان هذا الرجل إبن الله حقاً" (مر 39/15). هذا الإعتراف هو بمثابة جواب على سؤالين: الأول طرحه عظيم الكهنة على يسوع قائلاً: "أأنت المسيح إبن المبارك؟" فأجاب يسوع: "أنا هو" (مر 14/ 61- 62). والثاني طرحه عظماء الكهنة والكتبة حين هزأوا بيسوع قائلين: "خلّص غيره من الناس ولا يقدر أن يخلّص نفسه، فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن" (15/ 31 - 32)0 إن اعتراف القائد الروماني بألوهية يسوع، يشكّل الهدف الأساسي للكرازة المرقسية التي تبدأ بهذه الآية: "بدء إنجيل يسوع المسيح إبن الله" (مر 1/ 1). وهذا الإعتراف هو إختصار لكل الإعترافات في إنجيل مرقس: في العماد، يعترف الآب بألوهية الإبن (1/ 11)، في التجلي أيضاً (9/ 7)، وعلى دفعتين تعترف الأرواح الشريرة بألوهيته (3/ 11 و5/ 7)، ولكن على الجلجلة، وهي المرة الأولى والأخيرة في إنجيل مرقس، يعترف رجل وثني (غير يهودي) بألوهية يسوع. لقد آمن دون أن يشهد آية أو يطلب آية (مر 15/ 32)، آمن متأثراً بسخاء وسمو اتصف بهما موت يسوع على الصليب. إن القائد الروماني، يمثّل هنا عالم الوثنيّين. وأيا كان معنى تسمية "إبن الله" على لسان أحد الوثنيّين، فإن مرقس يرغب أن نرى فيها فعل إيمان المسيحيّين الذين أتوا من الوثنية. إيمان القائد الوثني يعني أن قصة يسوع لم تنته بالموت، بل انطلقت أقوى وما تزال، وأن مجد الرب الساكن في هيكل أورشليم وسط شعبه قد غادر مكانه دون عودة واستقر ما بين الأمم كما سبق وتنبأ حزقيال النبي (حز 1- 3).

خلاصة
إن آلام يسوع تؤلف المحور الرئيسي للكرازة المرقسية، إذ فيها يكشف يسوع عن سر ألوهيته. فإن إعلانه أمام المجلس الذي يحكم عليه بالموت بأنه إبن الله (مر 14/ 61- 62) واعتراف القائد الروماني بهذا السر (مر 15/ 39)، يلتقيان بما أوحاه الله عند المعمودية والتجلي (1/ 11 و 7/9)، ويؤيدان عنوان الإِنجيل، وهو أن يسوع هو المسيح وإبن الله. وفي أثناء ذلك كُمّت أفواه الشياطين عن الكشف الخبيث للأسرار (1/ 24، 34 و 3/ 11) وأُسكت التلاميذ عن إعلان إيمانهم بالمسيح (8/ 29)، إذ لا يمكن كشف معنى تلك الأقوال قبل آلام المسيح وموته، فاعلان هذا السر الإِلهي محفوظ ليوم الجلجلة والقيامة.
لقد أصبحت الجلجلة، ليس فقط محور الآلام، بل محور خلاص البشرية المتجددة. أصبحت سفر تكوين خليقة جديدة، سفر خروج شعب الله وهيكل الرب الجديد حيث تعبده الأمم والشعوب كافة بالروح والحق وبكهنوت أزلي. هذه هي مشيئة الآب: أن يشرك العالم الجديد بمجده. فلقد دعى البشرية، بواسطة إبنه الوحيد إلى التجدد. فيوم المعمودية قدّم الآب إبنه للعالم (1/ 11)، ويوم التجلّي دعى العالم إلى سماع بشارة الإبن (9/ 7) ويوم الجلجلة، لبّت الأمم هذه الدعوة فاعترفت بيسوع إبن الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM