سفر العدد

سفر العدد

المقدمة

نحن نُسَرّ عندما نقرأ الأناجيل وأعمال الرسل والمزامير ونثابر على قراءة أسفار صموئيل والملوك طوعا لما فيها من أمور شيّقة... أمّا أن نقرأ سفر العدد، وخاصة بعض أجزائه، فأمر صعب إلى الغاية. أيّة فائدة من كل هذا! ونودّ أن نرمي الكتاب جانبًا. فمان كان غذاء لنفوسنا فهو غذاء لا يهضم، وإنْ كان يعرض علينا كلام الله، فكيف سيتكيَّف هذا الكلام مع نفسيّتنا؟ هذه الملاحظة التي أَوْردها ارويجانس في شرحه لسفر العدد قد تحققنا منها ونحن نقرأ هذا السفر للمرّة الأولى.
وكان كلٌّ من التقليد اليهوديّ والكَنَسي يعتبر هذا السفر كشريعة الله وكلمته، بعد أن اكتشف وراء "قشرته " القاسية تعليمًا يغذي المؤمنين وينعشهم. لهذا، إذا أردنا أن نَدخل في قلب هذا السفر نبدأ بفعل إيمان، ونبحث بتواضع عن كلام الله، ونتوسّل كل ما تركته لنا العلوم الدينية والتاريخية والقانونية لنصل إلى المعنى الروحي، وكلام الله روحٌ وحياة.
نَقرأ سفر العدد فنجد فيه لوحة ترسم لنا صورة مِثالية عن شعب الله. نقرأه فنكتشف تاريخ المرحلة الأُولى لتكوين الجماعة التي سارت وراء موسى. نتأمَّل في الصورة المِثالية لا لنأخذ بها بصورة حَرْفيّة، بل لنصل إلى المبادئ التي أعطاها الربّ. ونتأمّل في التاريخ فنعرف أنّنا أمام شعب يسير في طريق الربّ ويتفرغّ لعبادته. لن نجد في أخبار سفر العدد تاريخنا الخاص، ولكنّنا من خلال تاريخ خاص بشعب من الشعوب، نستشف طريقة الله في معاملة المؤمنين إلى أيّ شعب انتموا. ولهذا، نحن عندما نقرأ هذا السفر نستنير بكلام القدّيس بولس إلى أهل كورنتوس (10: 11): "حدث لهم (أي للعبرانيين) هذا كلّه (أي أحداث سفر الخروج والعدد) ليكون لنا نذيرًا، وهو مكتوب ليكون عبرة لنا نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة". "ومن له أذنان سامعتان فليسمعْ" (مَت 11: 15).
بهذه الروح سنقرأ سفر العدد ونسعى إلى فهمه ونعي متطلّباته فنكون أمناء لنداء القداسة في العالم الذي نعيش فيه.

أ- إِسم الكتاب وكاتبه وأقسامه
1- إسمُ الكِتاب
اله في العبرانيّة "بمدبر" أي في برّيّة (سيناء حيث كلّم الربّ موسى). نقرأ هذه الكلمات في الآية الأولى من سفر العدد فنتعرف إلى الأحداث التي يروجها هذا السفر، ونتعرف أيضاً الى مَسيرة العبرانيّين في البريّة وتوجههم إلى أرض كنعان، ونتعرّف أخيرًا الى المسيرة الروحية التي سارها شعب الله فامتُحِنَ في البريّة وتنقّى من خطاياه قبل أن يستطيع الدخول إلى أرض الميعاد.
إسمه في اليونانيّة "اريتموي " أي العدد ("منيونو" في السريانيّة من "منو" أي عَدّ) وهو يدلّ على قسم كبير من مضمون الكتاب: فنحن عندما نقرأ الكتاب نجد أرقاما تذكرُ عدد الذبائح الواجب تقدِمَتها (7: 15- 38، 28: 1- 29: 38) وتُحصي الأسلاب والغنائم التي غنمها رجال الحرب (31: 32- 52) وتُورِد الإحصاءات عن بني إسرائيل (1: 20- 46، 3: 15- 51، 26: 5- 51).
وسمّته المشناة (مجموعة التقاليد التي لم تدخل في التوراة. دُوّنت في بداية القرن الثالث ب م) "حومش ها نقوديم " أي خامس قسم من الإحصاءات أو من السُّنن والأحكام. وسُمّي أيضاً السفر الرابع من أسفار موسى فدلّت هذه التسمية على ارتباطه بمجموعة البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة، ونحن لا نستطيع أن ندرس سفر العدد دون أن نرجع إلى سائر أسفار البنتاتوكس، هذا إذا أردنا أن نتتبعّ مراحل تأليف الكتاب أو نكتشف المصادر التي استقى منها ونقدّر القيمة التاريخيّة التي يتضمنّها، ونصل إلى التعليم الديني الذي نستنتجه.

2- كاتبُ الكِتاب
كانت التقاليد القديمة من يهوديّة أو مسيحيّة تَنسب إلى موسى كتابة الأسفار الخمسة، ومنها سفر العدد. فنحن نقرأ (33: 1- 2): "هذه مراحل بني إسرائيل... كتبها موسى مرحلةً مرحلة... كما أمره الربّ ".
ولكنّ الدروس الحديثة أظهرت أنّ سفر العدد، وإن حُفظت أو دُوّنت نَواته في زمن موسى إلاّ أنّه لم يَظهر في صيغته النهائية قبل الجلاء (587 ق. م.). سنتعرّف إلى مراحل تكوين هذا السفر عندما ندرس مصادره، القديمة منها والحديثة.
في أساس سِفر العدَد نجد شخصيّة موسى، أما كاتبه بالصيغة النهائيّة فكاهن أو مجموعة من الكهنة خافوا أن تضيع التقاليد فدوّنوها لتُحفظ ولقّنوها لتلاميذهم وشرحوها لتكون للشعب قاعدة حياة.
في هذا السفر يبدو لنا موسى أوّلاً رجل الصلاة العائش مع الربّ في حياة حميمة لم يصل إليها أحد. وهو النبيّ الذي يرتفع فوق كل الأنبياء والذي هو مِثال لكل الأنبياء. قالت الربّ عنه (12: 6- 8): "إنْ يكنْ فيكم نبيّ، فبالرؤيا أَظهرَ له وفي حلم أُخاطبه، وأمّا عبدي موسى... فمًا إلى فَمِ أخاطبه، صُراحًا لا بألغاز". أجل موسى هو النبيّ الذي يتوسّل عن شعبه فينجّيه من الضَربات. يطب الشفاء لمريم (13:12) مع أنّها تكلّمت عليه بالسوء (12: 1)، ويسأل الخلاص لشعب يستهين بالربّ (14: 11- 12)، ويسعى إلى اقناع الربّ. ماذا سيقول المصريون؟ سيقولون: "لم يقدر الرب أن يُدخِل شعبه إلى الأرض التي حلف لهم عليها" (14: 16).
موسى هو ذلك الرجل القدّيس الذي يقود شعبه عبر البرّية إلى أرض الربّ، ولولا وجود شخص مثل موسى لبدت هذه المسيرة مستحيلة. موسى هو الرجل القوي وهو أيضاً الرجل الضعيف الذي تفتر هِمّتُه ساعةَ تكثر الصعوبات ويودُّ أن يتخلّى عن الرسالة الموكولة إليه. لقد قال للربّ يومًا: "لماذا تسيء إليّ، أنا عبدك، ولماذا لم أجد عندك حظوة حتّى وضعت أثقال جميع هؤلاء الشعب عليّ؟... لا أُطيق أن أحمِل هذا الشعب كلّه لأنّه ثقيل عليّ. فإذا كان هذا ما تفعله بي فاقتلني " (11: 11- 15). ولكنّه مع ضعفه يبدو رجل الأمانة والثقة. آمن بالله وخضع له فأمّنه الله على شعبه وكان على قَدْر الأمانة.
وموسى هو حامل كلام الله إلى شعب الله، وهو موصلُ الوصايا والسُنَن والأحكام إلى بني إسرائيل، بحيث صار اسمه خَتْمًا يدلّ على صدق الكلمة المنقولة وتأكيدًا على صحّة التنظيم الذي سيقوم به الشعب على مرّ العصور. يكني أن يَقرأ المؤمن "قال الربّ لموسى" أو "قال موسى" لكي يمتنع عن المناقشة ويأخذ بالوصيّة. وبقرب موسى نجد هارون، الكاهنَ الأعظم الذي يقف بجانب موسى ساعةَ ينقل موسى إلى الشعب أحكام الرب. ولقد تعوّد "كاتب " سفر العدد أن يُقحِم اسم هارون مع اسم موسى دون أن يغيّر شيئًا من النص وحتى دون أن ينقل الفعل من صيغة المفرد إلى صيغة المثنّى. نقرأ مثلاً في النص العبراني (9: 6-7): "جاء قوم إلى موسى وهارون وقالوا له " (بدل لهما). ونقرأ أيضاً (20: 10): "جمع موسى وهارون الجماعة أمام الصخرة وقال لهم (موسى وحده دون هارون): اسمعوا... ". إنّ الكاهن الذي وضع اللمسات الأخيرة على سفر العدد أراد أن يُبيّن سلطة الكهنة في الشعب، وأنّ العازار بن هارون هو بعدَ موسى صاحبُ أعلى سلطة في الشعب، والحامل الوحيد للوحي الإلهي (27: 11). تلك كانت الحالة يوم دُوِّن الكتاب بصيغته النهائية بعد الجلاء. فبعد ان زالت المَلَكيّة من بني إسرائيل ظلّت الكلمة الأولى لرئيس الكهنة.

3- أقسامُ الكِتاب
موضوع الكتاب موضوعان: موضوع تاريخيّ وموضوع روحيّ، فتأتي الشرائع بعد الأخبار في إطار زمنيّ وجغرافيّ. أمّا أقسامه فثلاثة. يبدأ القسم الأوّل بهذه الكلمات: "كلّم الربّ موسى في بريّة سيناء" (1: 1)، والقسم الثاني يجعلنا في بريّة فاران (15: 12)، والقسم الثالث في سول موآب (22: 1 ؛ 13:36).
في القسم الأوّل (1: 1- 10: 10) نجد نفوسنا عند سفح جبل سيناء (خر 19: 1). كان المشترع قد بدأ بتنسيق شعائر العبادة وتنظيم الشعب في سفر الخُروج (ف 25- 23، 25- 31 ؛ 35- 40) وفي سفر اللاويّين، وها هو يكمّل العمل في سفر العدد فيزيد مقاطع تتعلق بمواضيع متنوعة، ويربط كل هذا التشريع بالوحي على جبل سيناء. أحصى الجماعةَ ونظّمها، ورتّب القبائل حول خَيْمة الاجتماع (1: 1- 4: 9)، ثم أدخل في هذا الموضع شرائع تعود إلى أزمنة متعددة لا يربط بينها رابط إلاّ كونها تتعلّق بطهارة الشعب أو المحلّة، فدلّ على أنّ الشعب لا يستطيع أن يدخل أرض الميعاد إن لم يتحلّ بالطهارة والسخاء (5: 1- 6: 27). ومع الفصل السابع نجد ملاحق متفرّقة تتعلّق بتنسيق شعائر العبادة وتُدخلنا في جوّ الارتحال والمسيرة في البريّة (7: 1- 10: 10)
القسمُ الثاني (10: 11- 21: 35) هو القسم الرئيسي في الكتاب وفيه نجد الفنّ الأدبي الذي تعرّفنا اليه في سفر الخروج حيث تتعاقب الأخبار والنصوص التشريعيّة. فبعد أن تنظّم الشعبُ واستعد الاستعداد الكافي، يمكنه أن يرتحل (15: 11 ). في مرحلة أولى تبدأ في بريّة سيناء وتنتهي في بريّة فاران (10: 12- 12: 16)، يروي "الكاتب" كيف تذمّر الشعب على الربّ في "قبروت هتاوة" فأعطاهم السّلوى، كيف نزل روح الرب على السَّبعينَ شيخًا (11: 1ي)، كيف عارض هارون ومريم موسى فعاقب الربّ مريم (12: 1ي). ولمّا وصل العبرانيّون إلى أرض الميعاد، في منطقة قادش، أرسل موسى جواسيس يجسّون أرض النَّقَب، ولكنّ جبانة الجواسيس جعلت الشعب يثور على موسى (13: 1- 38:14) فانغلقت بوجههم الطريق إلى كنعان وهُزِموا في "حرمة" (14: 39-45). حينئذ أُجبر موسى على إعادة تنظيم شعبه لرفع معنويّات المقاتلين. بعد هذا الخبر يُورد لنا "الكاتب" نصوصًا تشريعيّة (15: 1ي)، ثمّ يورد لنا عِصيان قورح وداتان وأبيرام (16: 1ي). ويستفيد من هذه المناسبة ليقدّم لنا قواعد تتعلّق بالكهنة وبخدمتهم (ف 17- 19). وننتقل مع الشعب من قادش إلى سول موآب (20: 1- 21: 35) حيث تموت مريم ويخطأ موسى عند ماء الريبة ويموت هارون وينتصر الشعب على سيحون وعُوج في شرقيّ الأُردن.
أمّا القسم الثالث (22: 1- 36: 13) فتقع أحداثه كلّها في سهل موآب (كما في سِفر التَّثنية) وهو يجمع ذكريات ترتبط بشرقيّ الأردن ومنها قصّة بلعام (ف 22- 24) التي تدلّ كيف أنّ الشعب المبارك ينجو من كل اللعنات، ومنها قصّة فنحاس وغَيْرته في "بعل فغور" (25: 1ي) التي تبين أنّ الشعب صار قادرًا على الارتفاع فوق التجارب وعلى اقتلاع الشرّ من وسطه. وينتهي سفر العدد بنصوص متنوعة تتعلّق بالاستعدادات لدخول كنعان واقتسام أرضها (ف 26- 36). يُحصي موسى القبائل ويُقيم يشوع خلفًا له (ف 26-27)، ثمّ يتحدّث "الكاتب " عن الذبائح والنذور (ف 28- 30)، ويُورد خبر حرب مقدسة في مديان (31: 1ي) تمّت على أثرها قسمة شرقيّ الأردن بعد أن وَقعّت قبيلتا رأوبين وجاد اتفاقًا مع القبائل العشر الباقية تَعِدانها فيه بمساعدتها على احتلال غربيّ الأردن (32: 1ي). وأخيرًا يُعيد "الكاتب " أمام أذهاننا مراحل مسيرة الشعب من مصر إلى سهل موآب (33: 1- 49) قبل أن يورِد القانون الذي ينظّم اقتسام أرض كنعان واقامة كل قبيلة في المكان المحدّد لها (33: 5- 36: 13).

ب- مصادرُ سِفر العدد ومراحل تأليفه
إِن سفر العدد هو جزء من البنتاتوكس، ولهذا فقد تكوَّن من العناصر التي عرفناها في أسفار موسى الخمسة، فجاء الخبر فيه امتدادًا لسفر التكوين والخروج. انه يتابع الرواية التي قرأناها في سفر الخروج والتي ستنتهي في خاتمة سفر التثنية (ف 31- 34) وما تورده لنا عن موت موسى. أما نصوصه التشريعية فجاءت مشابهةً لتلك التي نقرأها في سفر اللاويين.

1- المصادر القديمة
عندما نقرأ سِفر العدد تطالعنا أخبار وعادات تبدو قديمةً جدًا وقد انتقلت بطريقة شفهيّة من جيل إلى جيل قبل أن تُدوَّن في كل من التقليد اليهوَهِي والالوهيمي والكهنوتي. وسنتعرّف إلى هذه العادات عندما نقابلها بنصوص وشرائع نجد مثلها عند سائر الشعوب.
هناك عناصر أخذها بنو إسرائيل عن الشعوب المجاورة. نذكر منها نشيد حشبون (21: 27- 30) ونبوءات بلعامَ وتلك التي قيلت في بني عماليق والقينيّين والفلسطيّين (24: 20- 24). ونذكر أيضاً بعض النصوص التشريعيّة التي تتحدث عن الطقوس الخاصة بتقدمَة الغَيْرة (5: 11- 17) أو بذبح البقرة الحمراء (19: 1- 10)، أو عن اللجوء في المدن التي يعيّنها الرب لشعبه (35: 9- 34).
وهناك عناصر تفترض أنّ الشعب كان يعيش حياة البداوة، قبل أن يقيم في أرض كنعان. نُثبت منها الهتاف لتابوت العهد (10: 35- 36)، ونشيد البئر (21: 17- 18)، وذكر مراحل ثلاثة أيام (10: 33)، وتنقّلات بني إسرائيل كما جمعها التقليد الكهنوتي (33: 1ي).
وهناك عناصر خاصة ببعض القبائل دون غيرها، وأهمّها تقاليد بني كالب المتعلقة بتسلّل بني إسرائيل عبر النَّقب: تجسّس أرض كنعان (ف 13- 14)، ومعركة حرمة (14: 43- 45: 21: 1- 3)، والخلاف مع بني أدوم (20: 14- 21). أمّا تقاليد بني رأوبين وجاد فقد خلّفت وراءها نبوءات بلعام وأخبار بعل فغور (25: 1- 5)، ولوائح مدن شرقيّ الأردن (32: 34- 38) المرتبطة بمملكة سيحون، واحتلال جلعاد (32: 39- 42؛ رج 21: 33- 35).

2- التقليدان اليهْوَهي والالوهيمي
أوّلاً: أخذ التقليد اليهوهي هذه العناصر وأدخلها في إطار خاص لا يشير إلى إقامة بني إسرائيل في سيناء. فشدّد على الارتحال إلى شاطئ البحر المتوسط (33: 5- 8) والتوجّه إلى قادش، وذكر احتلال أرض الرب من الجنوب.
نقرأ في التقليد اليهوهي خبر المفاوضات مع حُوباب (10: 29- 32) وتَذمّر الشعب في "تبعيرة" (11: 1- 3) والعصيان في "قبروت هتأوة" (11: 35) وإرسال السّلوى طعامًا للشعب في البريّة (11: 4- 33) واحتجاج مريم على موسى بسبب المرأة الكُوشية (12: 1-10).
والى التقليد اليهوهي تعود أيضاً الخطوط الأولى لتجسس أرض كنعان ونتائج الرجوع من التجسس (ف 13- 14)، وعصيان داتان وأبيرام (16: 1ي)، والحية النحاسية (21: 6- 9) والمسيرة إلى موآب (21: 1ي).
ثانيًا: نجد سِمات التقليد الالوهيمي في مقاطع عديدة من سفر العدد. نذكر منها الإرتحال من حوريب برفقة سَحابة الربّ (10: 33- 34)، وحلول روح النبوّة على السبعينَ شيخًا (11: 16- 17، 24- 30)، والنزاع بين موسى من جهة وهارون ومريم من جهة ثانية حول موهبة النبوّة (12: 2-. 1). وهذه السمات نجدها أيضاً في أخبار حُرمة وفي قصّة داتان وأبيرام، وموت مريم في قادش (20: 1)، وخروج الماء من الصخر (20: 2- 3) والدوران حول أرض أدوم (20: 14- 21).
ثمّ إنّ خبر بلعام يرجع بالدرجة الأولى إلى التقليد الالوهيمي وكذلك قصّة إقامة بني جاد ورأوبين في شرقي الأردن (32: 1- 32).
ثالثًا: وجاء "كاتب " فجمع بين هذين التقليدين. انطلق من النصوص القديمة وأحداث الماضي فتأمّل فيها وأعاد صياغتها بطريقة جديدة فما عدنا نميّز إلاّ بصعوبة بين المصادر القديمة التي استقى منها. من هذه الصياغة وصل إلينا القسم الرئيسي من الكتاب (10: 29- 21: 35) وهو الذي سيعود إليه الكهنة فيكمّلونه ويعطوننا سفر العدد في صيغته الحاليّة.

3- النّصوص الكهنوتية
إلى العالم الكهنوتي يرجع قسم كبير من سفر العدد (ف 1- 15، 14؛ 16، 26: 5 ي)، والى هذا العالم الكهنوتي وتقاليده المتعددة يعود تأليف الكتاب بشكله الحالي. في هذه التقاليد الكهنوتية نجد عناصر قديمة جدًّا مثل طقوس تَقْدِمة الغيْرة (5: 11- 13) وتكريس الكهنة (8: 5- 15) وذبح البقرة الحمراء (19: 1- 10) ولائحة الأعياد (ف 28- 29). وهناك عادات جعلها الكهنة بعد الجلاء في قوانين بدت جديدة وإن استندت إلى نظم قديمة: مُدن بني لاوي (35: 1- 8)، شريعة المنذورين للربّ (6: 2- 9) والقرابين (15: 1- 16) ونصيب الكهنة (18: 8- 9) والعُشور (18: 20- 32) وعقاب المخالفين لشريعة السبْت (15: 32- 36).
والى الحلقات الكهنوتيّة يرجع إحصاء الشعب من أجل تجنيده للحرب (1: 20- 47) ولائحة القبائل (26: 1- 65) وسلسلة المراحل التي قطعها الشعب ليصل إلى سل موآب (33: 1- 49).
إنّ التقليد الكهنوتي قد أخذ بكل هذه العناصر القديمة فجعلها في سياق تاريخي خاص به، وهكذا دخل سفر العدد بين الكتب الخمسة التي تبدأ بالخَلق وتنتهي بموت موسى، التي تبدأ ببداية سِفر التكوين وتنتهي بنهاية سِفر تثنية الإِشتراع.

4- تأليف سِفْر العدَد بشكله النهائي
بعد أن تعرّفنا إلى المصادر التي استقى منها الكاتب الكهنوتي، يبقى علينا أن نعرف كيف تمّ تأليف الكتاب على مرّ العصور. كانت هناك عملية استيعاب وهضْم بمعنى أنّ الكاتب الملهم لم يجعل المُعطيات السابقة تتوالى الواحدة قرب الأخرى، بل أعاد التأمّل والتفكير فيها على مثال ما سوف يفعله أهل التَّراجيم (الترجوم هو نقل موسّع للنصوص الكتابيّة من العبرانيّة إلى الآراميّة) والمدارش (المدراش هو بحث في الكتاب المقدّس وتفسير لنصوصه). وهذا يبيّن لنا أنّنا لسنا أمام ناسخ من النسّاخ تنقصه اللباقة والمهارة، بل أمام كاتب حقيقي، وأمام إنسان يتحلّى بالعمق الديني، إنسان قرأ النصوص القديمة وتأمّل فيها واستوعبها قبل أن يُعيد صِياغتها.
وما قام به الكاتب المُلْهَمُ بِالنسبة إلى الأخبار، قام به بالنسبة إلى النّصوص التشريعيّة، وقد عرفنا لدى قراءتنا سفر اللاويّين كيف أنّ جماعة الكهنة أَلّفت بين التشاريع العديدة وأعطتنا مجموعة مؤتلفة وموحّدة. وهذا ما سيفعله الكاتب الملهَم في سِفر العدد. سيرجع إلى مجموعات قديمة زاد عليها الشُرّاح ما زادوا وأوضح فيها المشترعون ما أوضحوا، فزادوها غموضاً وتعقيدا. سيعود كاتب سِفر العدد إلى النص فينفض عنه ما علق به من غبار على مرّ الأجيال، ويعمل على تفسير النُّظُم القديمة على ضوء فكر دينيّ متجدّد. نلاحظ هذه الطريقة في كل سِفر العدد، وبالأخص في الفصل المتعلّق بوظيفة اللاويّين (4: 1- 49) الذين عرفوا تنظيمًا جديدًا في زمن إصلاح يوشيَّا سنة 621 ق. م. ونلاحظها أيضاً في تنسيق شريعة المنذُورين والقرابين ونصيب الكهنة والأعياد والذبائح ومُدن الملجأ.
إذا نظرنا إلى الكتاب نظرةً إجمالية رأينا عند الكاتب اهتمامًا في التأليف بين العناصر المتنوعة واحترامًا للتقليد الذي وصل اليه عبر الأجيال. ففي إطار جغرافي وتاريخي فرضه الكهنة، نُسّقت الأخبار بحسب نظام توارثه الكهنة عن المصادر القديمة، وجُمعت النصوص التشريعيّة بحسب مبدأ ترابط المعاني وتوارُد الكلمات، ثمّ جُعلت في محيط سيناء أو قادش أو هول موآب. فالحديث عن تنظيم الشعب يرتبط بسيناء، والحديث عن الطّاهر والدّنِس يرتبط بقادش، والحديث عن الحياة في أرض الميعاد يرتبط بسجل موآب.
ونقول قبل أن ندرس البُعد التاريخي واللاّهوتي لسفر العدد إنّ التقليد اليهوَهي يهتمّ بالوجهات الإنسانيّة لتاريخ الشعب، ويشدّد على البُعد الشامل الذي يطبع مصير هذا الشعب المبارك بطابعه، ويضع المَعالم التي تهيّئ الطريق لمملكة دَاود التي هي تتويج لتاريخ بني إسرائيل في بداياته. واهتم التقليد الالوهيمي بوحدة الشعب، وشجب كل ميل انفصالي عند أفراده (16: 20- 34، 32: 1ي)، ورسم الخطوط الأولى للتنظيم النبويّ في شعب إسرائيل (11: 25- 29، 12: 1- 6).
أمّا التقليد الكهنوتيّ فأبرز أمامنا الصورة المثاليّة لشعب الله: شعب لا يحمل السلاح ولا يتدخل في السياسة الدُّولية، بل شعب يتعبّد لربه ولا يخدم سواه. شعب لا يقود ذاتَه بذاته بل يقوده الربّ وينظّم في داخله كل الأمور حتّى التفصيليّة منها. شعب لا يثبت في مكان، بل يتنقّل عبر هذه البريّة، لأنْ لا مكان مقدس فوق سائر الأمكنة، ولا هيكل مقدس يحتكِر حضور الله. الشعب يُقيم في الخِيام والربّ يقيم وسط شعبه في خَيمة من الخيام. وحضور الرب هذا يملأ قلب شعبه ثقةً واطمئنانا، ويملأه خوفًا ورعدة. كيف يقيم الرب القُدّوس وسط جماعة من الخاطئين؟ ألا يضربهم كالصاعقة (17: 28)؛ ولكنّ الكهنة واللاويّين يقفون حاجزًا بين الشعب والربّ الحاضر، ويحصلون على غفران الخطايا لِشعب يهدّده غضب الربّ.

ج- سِفر العدد والمُعطيات الجغرافيّة والتاريخيّة
1- نظرة إِجماليّة
عندما ندرس سفر العدد دراسةً أدبيّة مفصلة، سنكتشف أنّه ثمرة تأمّل في نصوص قديمة عاد إليها الكاتب الملهَم وأعطاها تفسيرًا دينيا. فالنظرة إلى هذا الشعب الكثير العدد (1: 46) الذي يسير في البرّية كما في طَواف (10: 11- 28)، ويطول طَوافه ويمتدّ أربعين سنةً (14: 34)، هي نظرة دينيّة بحتة. وسنكتشف أيضاً أنّ العناصر العديدة التي أدخلها بنو إسرائيل في تقاليدهم تعود إلى زمن قديم، وهي مشتركة بينهم وبين سائر الشعوب المجاورة. وهذا ما يجعلنا نرى كيفا أن جذور شعب إسرائيل ترتبط بعالم التاريخ في هذا الشرق.
إنّ هذه المصادر القديمة التي ترجع إلى زمن حياة البرّية أو احتلال الأرض، ترتبط بتقاليد كل قبيلة يوم كانت على حياة البداوة، أو يوم أخذت تنتقل من البداوة إلى الحضارة. فلكل قبيلة مراعيها ونقاط تنقّلاتها وأخبارها وذكرياتها. ويمكن أن تكون ذكريات الحياة في مصر، ومرحلة العُبور وحوريب وسيناء وقادش واحتلال أرض كنعان من الشّرق أو من الجنوب، يمكن أن تكون هذه الذكريات خاصة بهذه القبيلة أو تلك، ولكن الذين جمعوها نسبوها إلى كل القبائل. بعد أن اختبر الكاتب وحدة الشعب العميقة، أراد أن يعبّر عن هذه الوحدة فجعل القبائل كلّها حاضرة يومَ تراءى الربّ لشعبه على جبل سيناء، ويوم اجترح له الآيات العظام، ويوم أقام عهدَه معه.

2- المُعطيات الجغرافيّة
يَروي ف 33 مراحل تنقّل العبرانيّين من مصر إلى قادش: فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس ونزلوا بسَكوت، وارتحلوا من سكوت ونزلوا بإيتام... كلّ هذه المراحل يمكننا أن نتتبعها على الخريطة وهي تقع جنوبي خليج السويس أو بمحاذة البحر الأحمر، أو قرب جبل سيناء. هذه الطريق التي عرفتها القبائل في الشرق قد أوردها كل من التقليد اليهوَهي (11: 35، 12: 16) والالوهيمي (خر 13: 17 ي) والكهنوتي (33: 5 ي)، وهي طريق سلكها البدو بسبب المياه الموجودة هنا أو هناك، ونحن نتعرف اليها من خلال الحفريّات التي تمّت في هذه الأمكنة.
أمّا ما عرفناه عن طرق أخرى تسير بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط أو لا تمرّ في بريّة "سيناء"، فهي طرق خاصة بهذه القبيلة أو تلك. وما ذكره الشرّاح عن أنّ طبيعة سيناء (خر 19: 16- 19) البركانيّة تقودنا لا إلى بريّة سيناء، بل إلى الحجاز، يجعلنا نقول إنّ بعض القبائل مرّ في هذه الأمكنة قبل أن يجتمع إلى شعب الله، وإنّه حفظ في ذاكرته صورةً عن انفجار بركانيّ أدخله في التعبير عن ظهور الله، تلك النار الآكلة.
والإقامة في قادش (عين قديس الحاليّة) أمر تُثبته كل التقاليد من يهْوهيّة وإلوهيميّة (20: 1، 14) كهنوتيّة (13: 26، 20: 22، 33: 37) واشتراعيّة (تث 1: 19، 33: 2؛ قض 11: 16). أقام بنو إسرائيل هناك زمنًا طويلاً (تث 1: 46، عا 5: 25) ومارس موسى نشاطًا تشريعيًّا وقضائيًّا واسعًا (عين مشفاط أي عين الحكم والقضاء. تك 14: 7). من قادش ستنطلق بعض القبائل وتدخل أرض كنعان. هذا ما نقرأه عن الجواسيس الذين جسّوا الأرض وتوغّلوا فيها (13: 17- 25) وعن معركة حرمة (14: 45) وذكريات جبل هور (20: 22؛ 33: 38- 39) كلّها أمور تتوافق مع ما نقرأه في سِفر يشوع (15: 13- 14) وسِفر القضاة (1: 10- 15).
وترتحل بعض القبائل في شرق الأردن فتعبر نهر أرنون وتقيم في مملكة حشبون ويعزير، وهذا ما نتيقّنه عندما ندرس تحركات القبائل خلال الألف الثاني ق. م. على حدود ما يسمى الهلال الخصيب. كان البدو يتسلّلون خفية، والأرض لم تكن كثيرة السكّان في ذلك الوقت. كانوا يقاتلون من يقاتلهم، وكان مجال الهرب مفتوحًا أمامهم إن هم اندحروا. هذا ما فعلته قبيلة رأوبين وقبيلة جاد بحسب شهادة التقليد اليهوَهي (21: 12- 20) والتقليد الكهنوتي (33: 44- 49)، وذكرِ حروب الربّ (21: 13- 15) ونشيدِ حشبون (21: 27- 30) ولائحة المدن التي احتلتها قبيلة رأوبين.

3- المُعطيات التاريخية
يُعيّن الشراح فترةَ تنقّل بني إسرائيل في البرّية حوالي سنة 1250 ق. م. فإذا عرفنا أن التقليد اليهوَهي دُوّن في القرن العاشر، تكون قد مرّت ثلاثة قرون قبل أن تُسطَّر الخطوط الأولى لسفر العدد. وإذا عرفنا أنّ التقليد الكهنوتي دُوّن في القرن الخامس بشكله النهائي، تكون قد مرّت ثمانية قرون قبل أن يصل إلينا سفر العدد بالصورة التي نعرفها اليوم. ولهذا يبدو من غير المعقول أن نصل إلى المعطيات التاريخيّة البحتة التي لا شائبة فيها: لقد شوّهت ذكريات عديدة، وَبسَّط صاحب سِفر التثنية و"كاتب" سِفر العدد الأحداث ليشدّدا على وحدة الشعب، فلم يعرفا مجالاً للوصول إلى الحقيقة التاريخيّة كما يتصورّها المؤرخون اليوم.
ذكرنا في المعطيات الجغرافيّة تنقّل القبائل وقلنا إنّ الطريق التي يرعها لنا سفر العدد طريق معقولة بعد أن تبيّنا سير القبائل بحثًا عن الماء والكلاء. أمّا تذمّر الشعب على موسى فأمر تشهد به كلّ التقاليد الكتابيّة من يَهوهيّة (14: 1- 4) وإلوهيميّة (11: 4- 6) كهنوتيّة (17: 6- 7) وتُورد على ذلك أسبابًا متعددة. ولكن، إنْ يكن الكاتب المُلْهَم قد أعطى للحدث بعدًا حاضرًا فكيّفه وظروفَ الشعب الحاضرة، فهذا لا ينفي عنه تاريخيّته. وهذا ما نلاحظه في عصيان قورح (16: 1ي) حيث نرى الكاتب يلفت نظرنا إلى عظمة بني لاوي، وما نكتشفه في تذمر بني إسرائيل (11: 1ي) حيث ينبّه الكاتب الشعب العائش في زمانه إلى الخطر الكامن عندهم إن ظلّوا يتطلّعون إلى مصر وخيراتها على حساب الأرض التي أعطاهم الربّ إياها.
ويورد سفر العدد أعمال الله العظيمة في البرّية: وجود طيور السّلوى في المحلّة بكثرة جعلت الشعب يجمعها كما جمع المنّ من قبل (11: 4- 33)، المياهُ التي تخرج من الصخر (20: 11)، العِقاب الذي يصيب المتمرّدين بطريقة فُجائيّة (12: 9- 6، 16: 31- 35، 17: 11). وإذ يروي الكاتب هذه الأعمال يتتبعّ خُطى التقاليد الكتابيّة التي سبقته، ويستند إلى الأسباب الطبيعيّة التي تجعلا الطيور الرحّالة تحطّ على شاطئ البحر تعبةً لاهثة بحيث يسهُل التقاطها. ولكنّه يقدّم لنا كل ذلك في إطار فن أدبي يضخّم الأمور ويبيّن تدخل الله في حياة شعبه بصورة لا تترك أي مجال للشك عند المؤمن.
أمّا شخصيّة موسى، ذلك المولود في مصر، الذي مرّ في مدارس الكتبة هناك، فقد ضحّى بمستقبله الزاهر من أجل شعبه. أوحى الله اليه بكلمته فقاد الشعب عبر البرّية وعمل على توحيد القبائل في العبادة لله الواحد والطاعة لوصاياه. وجهه وجه نبيّ، لا وجه رجلِ حرب (رج خر 17: 8- 16)، وقد أُعطي مواهب من الله جعلت أقرباءه يحسدونه ويتكلّمون فيه سوءًا (12: 1- 3). هذا هو وجه موسى كما يبدو في سفر العدد: إنسان يعيش علاقةً حميمة مع الربّ ويقف حياتَه من أجل شعبه. ولكنّ الكاتب سيلقي ضوءًا قويًّا على هذا الوجه ويحيط بالعظمة هذا الإنسان الذي لعب دورًا فريدًا في تاريخ شعبه.
التّنظيم الكهنوتي في بني لاوي هو ذلك الذي عرفه الشعب في عهد الهيكل الثاني الذي بناه زرلابل بعد الرجوع من الجلاء. ولكن في أساس هذا التنظيم نجد عناصر قديمة جدًا.
ارتبط اللاويّون في البداية بقبائل الجنوب (يهوذا، كالب، شمعون 26: 58، رج تك 34: 40 ؛ 49: 7- 5) وثبتوا على عبادة الرب ثباتًا لا مساومة فيها. ظلوا يحنّون إلى حياة البريّة (خر 32: 25- 29)، من أجل هذا تأخروا في الأخذ بحياة الحضر أقاموا في مدن خاصة بهم تقع في المناطق الحدوديّة (35: 1- 8) وظلّت عائلاتهم في المدُن المشهورة بمعابدها (4: 1- 49 ؛ 26: 58- 61). ولمّا كان إصلاحُ يوشيا، أُجبروا على القيام بالخِدَم الوضيعة (3: 5- 13) في هيكل أورشليم، بينما احتفظ ابناء صادوق بن فنحاس الغيور بالخدم الكهنوتيّة (20: 22- 29 ؛ 25: 10- 13).
وهكذا يبدو سِفر العدد مليئًا بالذكريات التاريخيّة، مُستندًا الى المُعطيات الجغرافيّة، جامعًا الشرائع والعادات القديمة في إطار كهنوتي، معبّرًا في تأليفه عن تعليم دينيّ عميق. من أجل هذا لا يستطيع المؤرّخ أن يكوّن فكرةً واضحة عن حياة العبرانيّين في البريّة، ولكنّ هذا لا يهمّنا بقدر ما يهمّنا أن يكون الله قد كشف عن ذاته إلهًا حرّر شعبه من العبوديّة، إلهًا أقام عهدًا مع شعبه بواسطة موسى، وأن تكون جميع القبائل قد انضمّت إلى هذا العهد الذي يتجدّد كلَّ سنةٍ بين الله وبين بني إسرائيل. كل هذا يجعلُنا نفهمُ مرّة أخرى أنّ ديانة الكتاب المقدّس هي ديانة تدخلّ الله في التاريخ.

د- التعليم الدينيّ في سفر العدد
1- النظرة اللاهوتية في سِفر العدد
نلاحظ في سفر العدد تعاقب الأخبار والأحكام التشريعيّة ونتساءل عن معنى هذه الطريقة الغريبة التي لجأ إليه الكاتب الكهنوتيّ ليدوّن كتابه. ولكنّ هذا الأسلوب أمر معروف في اتفاقات الحثيّين وغيرهم من أبناء الشرق القديم: بَعد مقدّمةٍ قصيرة تُبرِز موضوع الاتفاقيّة، تُسرَد المتطلّبات الأخلاقيّة والقانونيّة. كل هذا نجده في فعل إيمان الإسرائيلي (تث 26: 5- 10، يش 24: 2- 14) وفي العهد بين الربّ وشعبه في سيناء (خر 19: 4- 6). فالكتاب المقدّس هو تاريخٌ وقاعدةُ حياةٍ معًا. والله يكشف عن ذاته في أعمال يفعلها في التاريخ وفي أعمال يطب إلى الإِنسان أن يقوم بها جوابًا على عطاياه.
كُتب سفر العدد فنقلَ الينا تقاليد تاريخيّة وطقوسًا قديمة، فجاء على طريقة التفسير الذي سيلجأ إليها المعلّمون في الأحاديث والإِخبار الديني، وفي السلوك والسيرة التقَويّة. وهذه الطريقة تدلّ عند الكاتب على احترام عميق لمُعطيات التقليد (والنصّ المكتوب) الذي يكشف لنا عن عطايا الله وإرادته، وعلى وعي أنّ التاريخ المقدّس والشريعة ليسا أحداثًا من الماضي وحسب، بل أحداثٌ حاضرة. دوّن الكاتبُ الملهَمُ الخبر والشريعة فأراد بذلك أن يذكّر معاصريه أنّ التاريخ المقدّس شأن كلّ واحدٍ مؤثم، وأنّ عليهم اليوم أن يسمعوا صوت الله ويعملوا بوصاياه.
إنّ طريقة جعل الماضي وكأنّه حاضر تُفهمنا أنَّ التاريخ يرتبط بمخطّط الله. فحدَث الخروج والمسيرة في البريّة يشكّلان تاريخًا نموذجيًّا لشعب إسرائيل. إنّ ما حدث في ذلك الزمان نعيشه نحن اليوم، والأشخاص الذين عاشوا في البرّية هم مثال لنا، والأحداث الماضية نبراس يُنير الأحداث اللاّحقة. هذا لا يعني أنّ التاريخ يُعيد نفسه دون زيادة أو نقصان، كما كان اليونان يقولون، ولكنّه يفترض أنّ مخطَّط الله واحد عبر التاريخ، وأنّ الماضي يبدو بشكل قاعدة يسير على هَدْيها المستقبل. وهذا ما يبرّر طريقة التفسير التي يأخذ بها المسيحيّون والتي ترى في العهد القديم صورةً عن العهد الجديد، ترى فيه تهيئةً لما سوف يتمّ عندما يُعطى لنا الوحيُ كاملاً في المسيح.
عندما نربط الحاضر بالماضي نفهم أسلوب الكاتب المُلْهم ومعنى بعض عبارات كادت تحيّرنا لأوّل وهلة. فشرحُ أسماء الأمكنة شرحًا إشتقاقيّا، وهو أمر متواتر في التقليد اليهْوهي، يرتبط بالعبادة وتاريخ الخلاص، وهو يجعل هذا التاريخ حاضرًا لهؤلاء الذين يَزُورون هذه الأمكنة أو يقرأون عنها (11: 3، 34، 13: 24، 20: 13، 21: 3) وهناك بعض أحكام وطقوس يوردها الكاتب بشكل ذكرانة (زكرون في العبرانيّة): يذكّر المؤمن بحدثٍ من التاريخ أو وصيّة من الوصايا (15: 39- 41 بالنسبة إلى أذيال الثياب، 17: 5 بالنسبة إلى مَجامر النُحَاس؛ 21: 8 بالنسبة إلى الحيّة النحاسيّة) ويذكّر الربَ بشعبه فلا ينساه (10: 9- 10، 31: 54).
والليتورجيّا (مجموعة شعائر العبادة) هي المكان والوسيلة التي تجعل هذا التاريخ حاضرًا. لهذا فكل الأعياد، مهما كان أصلها، تحمل ذكرًا تاريخيًّا (ف 28- 29). بالإضافة إلى ذلك يهتمّ الكاتب الملهم بذكر اليوم الذي وقعت فيه هذه الأحداث: كلّها وقعت يوم أربعاء أو يوم جمعة بحسب الروزنامة التي يأخذ بها، كل من الأربعاء والجمعة يومٌ ليتورجيّ (1: 1، 9: 11؛ 10: 11، 33: 3، 38). ثمّ إنّ تجاوزَ أحداث تاريخيّة من أزمنة مختلفة في النصّ الواحد (11: 1 ي، 16: ي)، وتحويلَ تفاصيل نصّ قديم واعطاءَها معنى جديدًا (20: 8، 11)، هي أساليب تُفهم القارئ أنّ هذه الأحداث كُتبت لأجله فلا يتصرّف حيالها وكأنّها لا تَعنيه. أمَّا ربط نُظُم وشرائع متأخّرة بشخص موسى، أو إعادة صياغة نصوص تشريعيّة وتكييفُها وظروفَ الحياة الجديدة فتبيّنان تنوعّ الممارسة الدينيّة في إطار الروحانيّة الواحدة عبر تاريخ الشعب. وهكذا فسِفر العدد ليس تاريخًا وحسب، ليس فقط مجموعةَ حقائق دينيّة أو قوانين عفا عنها الزمان. سفر العدد هو مدرسةُ حياة للمؤمن العائش اليوم.

2- شعبُ الله ومُميّزاته
أوّلاً: إذا أردنا أن نُوجز موضوع أسفار موسى الخمسة يمكننا القول إنّ سِفر التكوين تطرّق إلى الله والإنسان والكون، وإنّ سِفر الخروج تطرّق إلى الخلاص والعهد، وإنّ سفر اللاويّين تتطرق إلى الليتورجيّا والطقوس، وإنّ سفر التثنية تطرّق إلى مبادئ الحياة الأخلاقيّة. أمّا سفر العدد فقد تطرّق إلى شعب الله وإلى تقدّمه الروحيّ المرموز عنه بهذه المسيرة من جبل سيناء إلى جبل مُوآب.
دُوّن سفر العدد بعد الجلاء فجاء ما فيه انعكاسًا للتعليم الديني في هذه الفترة التي خضع فيها بنو إسرائيل لمملكة فارس، فلم يعودوا أمّةً مستقلّة، بل جماعة دينية كما قبْل عهد الملوك. غير أنّ بني إسرائيل ما زالوا شعب الربّ ووارثَ مواعيده، وهم يعتبرون أنّ الحالة التي يعيشونها حالةً مؤَقّتة ستتبدّل عندما يشاءُ الله.
ثانيًا: بنو إسرائيل شعب يرتكز تكوينه على صِلة القَرابة: السِّبْط (أو القبيلة)، والعشيرة، والبيت (أو العائلة الموسّعة). وانطلاقًا من هذه الصلة يتم إحصاؤهم (1: 20- 46؛ 2: 1- 34، 26: 2- 51)، وعلى هذا الأساس يختار موسى الجواسيس المُولجين بإحصاء الشعب واقتسام الأرض (1: 5- 16، 7: 10- 86، 13: 1- 16؛ 34: 7- 29). بنو إسرائيل شعب واحد، وتقاليدُ كل قبيلة هي جزء من هذا التاريخ الواحد، فلا ترتاح قبيلة بينما تشقى سائر القبائل (32: 6- 27)، ولا تفتقر قبيلة بينما تغتني سائر القبائل، ولا تتوسّع قبيلة على حساب سائر القبائل (27: 4 ؛ 36: 4- 9). الشعب هو إذًا جماعةُ بني إسرائيل المتحدّرين من يعقوب والوارثين للموعد: نزلوا جماعةً صغيرة في مصر وما عتّموا أن صاروا أمّةً كبيرة (1: 46؛ 11: 21، 22: 3- 4؛ 10:23 ؛ 51:26).
ثالثا: بنو إسرائيل جيش، ولهذا لا يحصي المشترع إلاّ القادرين على حمل السلاح والخروج إلى الحرب (1: 3، 26: 2)، وهو يجعل القبائل تحت رَايات (2: 1- 34) تقوم بحرب مقدّسة (6: 5؛ 10: 35- 36، 14: 44) فتسعى إلى احتلال الأرض المقدّسة (13: 1- 33، 32: 17) كما تسعى إلى استئصال الشر والخطيئة (31: 1- 24). في هذا المجال يفترق شعب إسرائيل عن سائر الشعوب. هو شعب فريد في نوعه، لأن الرب إلههم معهم (23: 9، 21).
رابعًا: بنو إسرائيل جماعةُ الرب (عده في العبرانيّة وهي تردُ ثماني مرّات في سفر العدد. راجع في العربيّة كلمة وعد وفي السريانيّة عدتو)، وجماعَة إسرائيل (16: 9؛ 32: 4)، وجماعة بني إسرائيل (1: 2، 53، 8: 9، 20، 14: 5، 7، 15: 25)، وجماعة يَهوه أي الربّ (27: 17، 31: 16، رج أيضاً قهل يهوذا أي جماعة يهوذا في العبرانيّة). عندما تجتمع هذه الجماعة لتحتفل بعيد ليتورجيّ تُسمّى محفلاً مقدّسًا (مقرا قودش في العبرانيّة راجع في العربية قرأ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض) لآنّ هدفها القداسة (28: 18، 25، 26، 29: 1، 7، 12): فالشعب مكرَّس للرب الذي اختاره، والشعب شعب قدّيسين لأنّ الربّ في وسطهم (16: 3). وحضور الرب وسط شعبه تدلّ عليه السحابة التي تغطّي خيمة الاجتماع (لاسيّمَا عندما يريد الربّ أن يكلّم شعبه)، التي تسير أمام الشعب أو وراءه، التي تأمره بالتوقّف أو الانطلاق، والتي تنصرف عنه عِقابًا له (9: 15- 32 ؛ 12: 5- 15، 14: 4، 17: 7). ووسط المخيّم (أو المحلّة) يقيم مَسكن الرب (16: 9؛ 17: 28)، المسكن (1: 50، 7: 1، 9: 15) الذي يحيط به اللاويّون ليحمدوه. في هذا المسكن يقوم تابوت عهد الربّ (10: 33) او تابوت العهد (4: 5) الذي لا يراه ولا يحمله إلاّ الكهنة واللاويّون (4: 5، 15) لأنّه يعبّر عن حضور الله الذي يسير أمام شعبه (10: 33- 36) فيقوده إلى النصر الرب حاضر وسط شعبه وهو مَلِكُه (23: 21، 24: 7- 8) وحاميه وقائدُه. يعطي شعبه أرض أعدائه (21: 3، 34) ويَعدُه بالانتصارات الباهرة (24: 7- 9، 17- 19)، ولكنّه يعاقبه بقساوة عندما يتعلّق ببعل فغور ويستهين بعهده مع ربّه (25: 1- 5).

3- ممّن تتكوّن جماعة الربّ
أوّلاً: هناك موسى قائد الشعب الذي يكلّمه الرب فمًا إلى فم ليكلّم بدوره الشعب. هو متّحد بالرب بحيث إنّ كل عصيان له يعتبر عِصيانًا للرب الذي سيتدخّل فيبيّن على عيون الجميع سلطانَ موسى وكرامتَه (12: 1- 8 ؛ 14: 10- 11، 16: 2، 31، 35، 21: 15). من أجل هذا، فكل الشرائع التي فرضها موسى كانت شرائع إلهيّة.
لم يكن موسى مَلِكًا ولكن سلطته مطلقة، فيقرّر ويأمر (32: 20-27). لم يكن موسى كاهنًا ولكنّه يكرّس رئيس الكهنة (20: 26- 28) ويتشفعّ إلى الله لشعبه الذي يحبّه (11: 12- 29) مهما كانت خطاياه ويصلّي لأجل جياعه (11: 10 ي) ومرضاه (12: 13) وأهل الإثم فيه (11: 1- 2 ؛ 12: 13، 14: 13- 19؛ 21: 7). وساطةُ موسى وساطة فريدة وهي فوق وساطة الأنبياء والملوك والكهنة.
موسى هو المُخلّص ومنظّم العبادة كفيل السلوك الأخلاقي. هو وارث المواعيد وأبو الشعب (14: 12؛ رج تك 12: 12، 26: 24، 28: 14) الذي ينقل إليه روحَه وسلطتَه (11: 17، 25؛ 27: 18- 21).
ثانياً: وهناك معاونو موسى وخلفاؤه. لم تنتقل كلّ سلطات موسى إلى شخص واحد، بل تقاسمها بعد موته أشخاص عديدون، فيشوع المشهور بشجاعته وبثقته بالله (14: 5- 9) سيحل عليه الروح (27: 18) فيرث عن موسى سلطته السياسيّة والحربيّة. ويرث ألعازار بن هارون (25: 25- 28) سلطته الكهنوتيّة فيفسّر الشريعة (27: 21) ويسهر على المسكن والأواني المقدسة (4: 16). ويرث الموهبة النبويّة السبعون شيخًا (11: 16- 25).
ثالثا: وهناك الأنبياء وهم على ثلاثة أنواع: الانبياء (او العرّافون) الكذبة الذين يعملون لحساب الملك فلا يعرفون من المستقبل أكثر من حِمار بلعام (22: 31- 35). والأنبياء المحترفون الذين يستقون وحيَهم من الأحلام والرؤى ويلجأون إلى الأضاحي يقدّمونها لله (11: 25، 12: 6، 22: 8، 19، 23: 1- 3). والأنبياء الحقيقيون الذين يكشف لهم الربّ وحده إرادته، وهم وحدهم يعرفون المستقبل ويتنبأون فيخبرون عن الله.
رابعًا: وهناك الكهنة بتسلسل رُتبهم: رئيس الكهنة اختاره الله (17: 16- 26) على صورة هارون وكرّسه تكريسًا خاصًا (لا 8- 9) وأعطاه سلطانًا إلهيًّا (16: 3، 17: 16- 26) وإمكانية التكفير عن الخطايا (17: 6- 15؛ 35: 25- 32). والكهنة يشاركون رئيس الكهنة في قداسته، ووظيفتهم المحافظة على الأواني المقدّسة (14: 1- 20) وإعلاء اسم الرب (6: 22- 27) والتكفير عن خطايا الشعب. واللاويّون يؤلّفون قبيلة منفصلة عن سائر القبائل (8: 14، 16: 9). لم يُحصوا مع سائر القبائل (1: 47-49)، ولم يُعطَوا حصة في أرض كنعان (34: 17- 29)، لأنّ الربّ هو حصّتهم (18: 25- 24). يقيمون حول المسكن فيدلّون على سُمو الله الساكن وسط شعبه (1: 53).
خامسًا: وهناك أفراد أسباط إسرائيل الاثني عشرَ الذين هم أعضاء في جماعة الربّ وقد باركهم (6: 22- 27) فجعلهم تحت حمايته وأراهم مجده (14: 10، 16: 19). لذلك عليهم أن يحتفظوا من كل نجاسة، لأنّ المحلّة التي يقيم الله فيها تكون مقدسة.
سادسًا: وهناك الغرباء والأجانب الذين يقيمون وسط شعب الله (9: 14 ؛ 15: 13-16، 35: 15) والذين يستطيعون أن يشاركوا بني إسرائيل في ذبائحهم وأعيادهم. أما الشعوب المشركون (31: 15- 18) والعبرانيّون الذين عبدوا الأوثان (25: 5) واقترفوا خطيئةً فظيعة بحق قداسة الله (9: 13، 15: 30، 19: 13- 20) فلا مكان لهم في شعب الله (14: 29- 32، 20: 12).

4- مَسيرة الشعب إلى أرض الربّ
الشعب جماعة مُكرَّسة للربّ ولكنهم ليسوا بعد مقدَّسين وطاهرين. من أجل هذا فُرضت عليهم مسيرة عبر البريّة قبل أن يصلوا إلى أرض كنعان، ومسيرة عبر المِحن والتجارب قبل أن يصلوا إلى ما طلبوا من الربّ.

أولاً: مسيرة عبر البريّة
عندما نقرأ سفر العدد في النسخة اليهوَهيّة (11: 35، 12: 16، 21: 12- 20) أو الكهنوتيّة (1: 1، 10: 11- 12 ؛ 20: 1، 21، 22: 1 ؛ 36: 13) التي تشكّل هيكليّة الكتاب وإطاره، أو عندما نقرأ في ف 33 ملخّص مراحل المسيرة في البريّة بتعابيرها الناشفة، نحسّ أنّنا أمام شعب يمشي بطريقة متواصلة من مصر إلى الأردن عبر سيناء وقادش وموآب. مسيرة تدوم أربعين سنة (وهو رقم رمزي) فتشبه طوافًا دينيًّا (10: 11- 28) يسير الربّ في مقدمته بواسطة السّحابة (9: 17- 18) أو تابوت العهد (10: 35- 36).
خلال هذه المسيرة يقود الربّ شعبَه كالراعي قطيعَه (27: 17): يسهر عليه، يُطعمه المَنّ والسَّلوى (11: 27، 31-32) ويسقيه ماء من الصخر (20: 7)، ينجيّه من الحيّات السامّة (21: 8) يُعْبره نهر أرنون كما أعبره البحر الأحمر (21: 15)، يسلّم أعداءه إلى يديه (21: 34)، يمنع كل لعنة عنه (22: 12)، وأخيرًا يقوده إلى أبواب الارض التي سيعطيها له ميراثًا (33: 5- 36: 13).
هذه الأرض التي أقسم الربّ أن يعطيها لشعبه (11: 12 ؛ 14: 16، 32: 11) هي أرض كنعان. ولكن الكاتب يعطي عن هذه الأرض تعليمًا دينيًّا خياليًّا: هي أرض عجيبةٌ غريبة فيها العنَب والرُّمان والتّين، هي أرض تدرُّ لبنًا وعسلاً وفيها كل خير (13: 23- 27)، هي أرض واسعة جدًّا بحيث لم يصل الشعب يومًا إلى حدودها الممتدّة من النيل إلى الفرات (34: 7- 9).
هذه المسيرة الجميلة عبرَ البرّية شبّهها الأنبياء بوقت الخُطبة بين العريس وعروسه (هو 2: 16- 17، ار 2: 2). غير أنّ سفر التثنية (8: 15 ي) سيرى في هذه المسيرة زمن اختبار ومحنة فيفترق بذلك عن سفر العدد. لقد عرف التقليدُ القديم العقابَ الذي أصاب الشعب يوم رفض المنّ والسّلوى وأرض الموعد فَفُرض عليه أن يتيه في البرّية. ولكنّ سِفر العدد اعتبر زمنَ البرية زمنَ اتّخاذ القرار والاختيار، زمنَ الجواب على عرض الله المجاني. وبعد أن يتّخذ الشعب قراره يُمكنه أن يخطو خطوة الإيمان والأمانة التي تجعل مواعيد الله تتمّ وتتحقّق.

ثانيًا: مَسيرة عبر المحن والتّجارب
إنّ زمن الحياة في البرّية يهدف إلى حَثّ الشعب على التوبة ودفْعهِ إلى حياة روحيّة تصل به إلى هدفه. عرف الشعبُ التعب والعَوَز (11: 6، 21: 5)، تعرّض للعطش (20: 2) وحيوان البر (21: 6) وعداء الشعوب المجاورة (20: 18، 21: 1ي) ولعنة العرّافين والسَّحَرَة (22: 6) فأحسّ بضعفه وعجزه. فكان أمامه طريقان: طريق اليأس والعِصيان أو طرق الأمل بوعد الله وأمانته (13: 30- 33). إِختار بادئ ذي بدء طريق العصيان فكانت قصّة "تذمُّرات " البريّة التي تتجدّد على مرّ العصور (11: 4- 6، 14: 2- 4 ؛ 13:16- 14 ؛ 3:20-5، 21: 5)، والتي سبّبت غضب الرب على شعبه وأعاقت مسيرته فطالت سنواتُ الانتظار (21: 15، 14: 33، 20: 12، 32: 15). هل سيبدّل الشعب استعدادت قلبه؟
لم يهدف عقاب الله لشعبه إلاّ إلى تنقيته وتجديده. وهذا العقاب يدلّ على قدرة الله المهيبة التي تدفع الشعب إلى الإيمان بصلاح الله القدير (11: 1- 2، 21: 6- 9) والتي تدعو الخاطئين إلى وعي خطيئتهم وإصلاح ذنوبهم (12: 9- 11)، وتحثّ الشعب على إزالة الشرّ من وسط الجماعة المقدّسة (16: 16- 35 ؛ 25: 4- 8).
بعد أن يصبح بنو إسرائيل شعبًا مجدّدًا بفضل العقاب الذي طهّره ونقّاه، شعبًا آخر، شعبًا عظيمًا وقويًّا، يمكنه أن يقف أمام أريحا من دون خوف (14: 12، 20- 38 ؛ 26: 63- 65). وهكذا بعد أن وصل بنو إسرائيل إلى مرحلة مسيرتهم الأخيرة، فهُم شعب لا يقهره عدوّ ولا تفعل فيه لعنة ولا تُسقطه تجربة. هو شعب جديد لا شرّ فيه ولا سوء. وها هو يستعد للدخول إلى أرض الميعاد عارفا أنّه يحمل في قلبه المواعيدَ العظيمة (3:24- 9، 15- 24) التي سيحقّقها الله له.

هـ- ألتفسيرُ اليهوديّ والمسيحيّ لسِفر العدد.
ظلّ التقليدان اليهوديّ والمسيحيّ يهتمّان بسِفرِ العدد كما بسائر الأسفار المقدّسة، فينقلانه إلى الأجيال الآتية، ويفسّرانه فيجعلانه قريبًا من القارئ العائش في كل عصر من العصور.

1- التقليدُ اليهودي
أولاً: الاسيانيّون ونصوص قُمْران. الاسيانيّون جماعة يهوديّة دينية، حياتها أشبه بحياة الرهبان بممارسة الفقر والطاعة والعفّة. يحفظون شريعة السّبْت ولكنهم يرفضون العبادة في الهيكل الذي يعتبرونه منجَّسًا. أمّا جماعة قُمْران فقريبة من جماعة الاسيانيّين وقد تركت نصوصاً اكتُشفت سنة 1947 قرب البحر الميت.
إنّ الاسيانيّين سعوا إلى نسخ حياة العبرانيّين في البرّيّة ونقلها إلى حياتهم. انعزلوا في بريّة يهوذا أربعين سنة، وحسبوا نفوسهم جماعة الربّ المنظّمة بشكل مُخيمّات مع الكهنة واللاويّين. استعدوا للبدء في الحرب المقدسة ضد أبناء الظُلمة: تلك كانت طريقتهم في جعل سِفر العدد حاضرًا في حياتهم خلال القرن الأوّل ق. م.
أمّا جماعة قُمران فقد تركت لنا شروحًا لمقاطع من سفر العدد نذكر منها: شرح البَركة الكهنوتيّة (6: 22- 27)، وقانون هتاف الحرب (10: 1- 10)، ونبوءة "الكوكب" (24: 15- 17) التي أُدخلت في مجموعة النصوص المسيحانيّة.

ثانيًا: الترجمة اليونانية السبعينية (القرن 3- 2 ق. م.)
هناك فروق بين النص العبراني الماسوريّ والترجمة اليونانيّة السبعينيّة (70 هو عدد الأم غير اليهوديّة، وهو عدد المترجمين كما تقول رسالة أرستيس). والسبب في ذلك هو أنّ المترجِم سعى إلى جعل النص منطقيًّا.
- فألغى الصعوبات. مثلاً في 1: 22 أُلغيت كلمة "فقديو" أي أحصوا ليكون التطابق مع ما نقرأ في 1: 20، 24. وفي 1: 24 زادت النسخةُ اليونانيّة "فرْدًا فردًا" ليكون التطابق بين هذه الآية والآيات السابقة.
- وشرَح الكتاب بحسب النظرة الهلّينيّة (أي المدنيّة اليونانيّة بعد الاسكندر الكبير) التي هي أكثر تجريدًا من النظرة العبرانيّة: مثلاً في 10: 31 يقول النص الماسوري: "تكون لنا عيونًا". فترجمت السبعينيّة "تكون لنا شيخًا" أي مشيرًا ودليلا.
- وتَرجم أسماءَ العلَم فاستخلص منها معنى أخلاقيًا: في 20: 24 مياه مُريبة تصبح في اليونانيّة مياه اللعنة. وفي 22: 39 "قرية حصوت " تصبح في اليونانيّة مدينة المخيمَّات.
- وعذَر اليهود وخَفَّف من مسؤوليتهم في الخطيئة: في 12: 11 يقول النص الماسوري: لا تُحمّلْنا مسؤولية الخطيئة التي ارتكبناها عن حماقة، أمّا النص اليوناني فيقول: لا تحملنا مسؤوليةَ الخطيئة لأنّنا لا نعرف كيف أخطأنا، يعني لم نعرف إلى أي حدّ كنا حمقى فأخطأنا بهذا الشكل.
- وشدَّدَ على صفات موسى وسموّ أخلاقه كما عظّم أخطاء الأعداء والآثَمَةَ، وخفّف من حِدّة الكلمات والأخبار التي تَصْدُم التقوى اليهوديّة، وشدّد على قداسة الله.
ثالثاً: التّراجيم. كان الكهنة يقرأون التوراة المكتوبة باللغة العبرانيّة على المؤمنين المتكلمين باللغة الآرامية، وكان مترجمٌ ينقل النص العبرانيّ إلى النص الآرامي، فيتوخّى التطويل أكثر من الدقّة ويزيد هنا ويفسّر هناك على الطريقة الإخباريّة، فيجيب على تساؤلات السامعين وصعوباتهم. لماذا تكلمت مريم على موسى؟ لماذا انتظرت السحابةُ الاِلهيّة شفاءَ مريم لتجعل الشعب يرتحل (12: 1- 16)؛ لماذا ضربَ موسى الصخرة مرّتين (20: 11)، ولماذا لم يحارب بني أدوم (20: 21)؟ ويحدّد المترجم الشرائع فيتوسع في الحديث عن سلوك الإنسان (18: 7-8، 30: 3)، ويرى في كل شيء علامات لحضور الربّ الحاني على شعبه بسبب استحقاقات مريم وموسى وهارون، ويقرّب بين أحداث البرية ومعجزات سفر الخُروج فيدلّ على وحدة مخطّط الله. ويضخّم المترجم الخبرَ فيعطيه أبعادًا مثاليةً ومسيحانيّة وإسكاتولوجيّة ويشرح النص شرحًا رمزيًا يستنتج منه تطبيقًا أخلاقيًا وروحيًا. وهكذا تصبح تقاليد الكتاب بمتناول الشعب في فلسطين وفي كل مكان يجتمع فيه اليهود يومَ السبت.

رابعًا: المشناة والتَّلمود وغيرها
المشناة هي مجموعة الشرائع الشفهيّة والتقاليد التي لم تدخل في الأسفار القانونيّة، والتّلمود هو كتاب يتضمّن شرائع اليهود وسُنَنهم. في هذين الكتابين نجد شرحًا ناشفًا ومعقّدًا لسِفر العدد وتوسيعًا في النصوص عن النُذور والعُشور والأعياد والسبت...
أمّا كتب فيلون الاسكندري (ولد حوالي سنة 20 ق. م.) فنذكُر منها "حياة موسى" وفيها أحداث من سِفر العدد. يبيّن فيلون أنّ موسى كان كاهنًا، ثمّ شرح المقاطع عن عصيان قورح وعصا هارون في هذا الإطار. ويقول أيضاً إنّ موسى كان نبيًّا فيُفسّر أقواله في هذه المناسبة أو تلك (15: 35 ؛ 27: 6- 11). يرى فيلون في غيْره فنحاس وشجاعة المحاربين ضد بني عماليق صورِةً عن فضيلة القوّة (25: 1ي؛ 31: 1ي) ويرى في اختيار موسى ليشوع خلفًا له، مثالاً عن روحه الطيّبة.

2- التقليدُ المسيحيّ
إنّ نصوص العهد الجديد، والترجمات المسيحيّة للعهد القديم، والنصوص الليتورجيّة، وشروح آباء الكنيسة وكُتّابها، قد فسّرت سفر العدد على الطريقتين: إمّا على الطريقة اليهوديّة التي ذكرناها، وإمّا على الطريقة المسيحيّة التي تفسّر نصوص التوراة بالنظر إلى المسيح والكنيسة.

أولاً: التفسيرُ بحسَب الطريقة اليهودية
سعَت الترجمة السريانيّة البسيطة واللاتينيّة الشعبيّة وغيرهما إلى التوفيق بين النصوص وتكييفها حسَب الفكر المسيحي، كما استفادت من التراجيم ففسّرت الشرائع بالمعنى الحَصْري. ففي 15: 31 نقرأ العبارة "يقطع قطعًا" فقالت اللاتينيّة الشعبية والسريانيّة: "يبيدُ ويُهلِك ". وقالت اللاتينيّة العتيقة "يسحق بالتوبة والندامة".
أمّا آباء الكنيسة فعادوا إلى التراجيم وتعليم المعلّمين وشروح فيلُون ليعطوا شروحًا اخلاقيةً وروحيةً ورمزية سنذكُر بعضها في سياق تفسيرنا لسفر العدد.

ثانيًا: التفسيرُ بحسَب الطريقة المسيحية
إنطلقت المسيحيّة من المقترحات اليهوديّة وأكّدت على الطابع المقدّس للتوراة، وعلى وحدة مخطّط الله وأهمية النّبوءات، فاعتبرت المسيحَ نقطة الوصول لتاريخ بني إسرائيل. فالكتاب أَعلن عنه بطريقة صريحة كما في النّبوءات المسيحانيّة. أو صوَّره ومثَّله في أحداث العهد القديم ونظمه. أمّا في سفر العدد فهذه الطريقة تعتبر أنّ البركة الكهنوتيّة (6: 22- 27) وأَقوال بلعام (ف 23- 24) وبالأخصّ النبوءة عن الكوكب (24: 7) هي نبوءاتٌ حقيقيّة تعلِن بطريقة صريحة عن مجيء يسوع المسيح.
هناك شرح كتابيّ مبنيّ على الأنماط والنّماذج وهو يفترق عن الشرح المبني على الاِستعارة التي تعتبر الأشياءَ مَجازًا لأفكار مجرّدة أو حقائق روحيّة تهمنا دون الباقي، فننسى النصّ الأساسي وننطلق في توسّع مستقلّ عنه. أمّا الشرح المبنيّ على الأنماط فهو يفترض وجود نوعين من الحقائق الثابتة داخل الخطّط الخلاصي الواحد: فحقائق العهد القديم تعتبر تصويرًا وتهيئة لحقائق العهد الجديد، وحقائقُ العهد الجديد تُوصل حقائق العهد القديم إلى كمالها. هذه الطريقة تَفترض أن الأحداث التاريخيّة والنّظُم القديمة هي وحي تدريجيّ لحقائق سماويّة يكون فيها يسوع نقطةَ النهاية. ولهذا لا يُفسَّر العهد القديم إلاّ على ضوء المسيح.
من أجل ذلك، لا تفسير نمطيًا جديّا إن لم يسبقه تفسير حَرْفيّ وبحث عن المعنى الظاهر، وإلاّ لكان لنا نقاط تقارب مصطنعة تصرفُنا عن لُبّ كلام الله أو تنقلنا إلى التفسير الاِستعاري الذي أخذ به بعض آباء الكنيسة فجعلوا المُسْرِج (8: 1- 4) مثلا يمثّل المسيح الوسيط المشعّ في مجد قيامته والمملوء من مواهب الرّوح السّبعْ.
ثالثا: طريقةُ القدّيس بولس. يحُثّ القديس بولس الكورنثيّين على الحياة المسيحيّة (1 كور 10: 10- 11) فيذكِّرهم بما حصل لشعب العهد القديم في البرّية مُعطيًا لِسفر العدد تفسيرًا نمطيًّا. يلفت انتباه المؤمنين إلى أحداث يعرفونها: إقامة في ظلّ السّحابة (9: 15- 23)، وعبور البحر الأحمر، عطيّة المنّ ومياه الصحراء (20: 1- 11)، تذمّر الشعب (11- 4)، الزّنى الذي هو خيانة الربّ في بعل فغور (25: 1- 9)، الحيّات السامّة (21: 5- 9)، العصيان لموسى (13: 32 ي) والعقاب المفروض على العُصاة (17: 12- 14). يستعرض القدّيس بولس هذه الأمور فيعود إلى الشروح السابقة ويستنتج الطابع الروحيّ لمعجزة المنّ ومياه الصخرة. يجمع الأحداث ويقرّب بعضَها إلى بعض مشدّدًا على كل خبر بحدّ ذاتِه من جهة، ومعتبرًا أنّ التّاريخ المقدّس هو وحدة كاملة من جهة ثانية. وأخيرًا يجعل كل هذه الاحداث داخل إطار مسيحي: فالعبرانيّون "تعمّدوا" في موسى عبر السحابة والبحر، وأكَلوا طعامًا روحيًّا وشربوا شرابًا روحيًّا على مثال المُعَمَّدين في المسيح بالماء والروح القدس والمغذَّين بالقُربان المُقدّس.
إذًا هناك نوع من الحقائق هو صورة ومثال للحقائق المستقبَلة التي تُساعدنا على تجنّب الدينونة الآتية والمتمثّلة بالعقاب الذي حلّ بالشعب في البرّية. يَذكُر القديس بولس هذا العقاب، لا ليهدّد المؤمنين، بل ليُدخلهم في إطار الخلاص وفي تدبير النّعمة الجديدة بيسوعَ المسيح. إنّ طريقة القدّيس بولس هذه سيتبعها آباء الكنيسة وستأخذ بها الليتورجيّا في نظرة نابعة من الإيمان.

رابعًا: بَعْد القدّيس بولس
موسى هو وسيط العهد والمُشترع والنبيّ، ولكنّ هذا العهد ناقص، وهذه الشريعة عاجزة، وهذه الروح النبويّة غير مُكتمِلَة. موسى هو إنسان خاطئ وهولا يستطيع أن يقود الشعب إلى الهدف الذي حدّده له الله. أمّا يسوع الذي لم يعرف الخطيئة فهو يرى الآب وجهًا لوجه ويوصل إلينا الرّوح القُدُس، وهو الكاهن الحقيقيّ الذي يتشفّع لأجلنا ويكفّر عن خطايانا ويقدّم ذبيحة العهد الجديد الذي هو ضحيّتها. أجل، يسوع هو وحده من يُدخل الشعب إلى الملكوت الحقيقي، إلى ملكوت السّماوات.
المسيحُ هو الكلمةُ الذي صار جسدًا. الذي جعل خيمته بيننا (يو 1: 14) فأخذ محلّ خيمة الاجتماع التي كانت قائمةً وسط المحلّة، وفي يسوع يجتمعُ شعب الله الذي هو الكنيسة. بعد هذا فكل النّظم والأعياد والأحداث التي نقرأها في سِفر العدد تُفسّر وكأنها نُظُم الكنيسة وأعيادها وأحداثها. فنرى في موسى وهارون وجهَ بطرس والأساقفة، وفي السبعين شيخًا وجهَ الكهنة، وفي المنذورين واللاويّين الرهبانَ والكهنة، وفي العُصاةِ والمتمرّدين الهراطقةَ والمنشقّين. أمّا نزول الروح على ألداد وميداد (11: 26) فيعبّرُ عن القداسة الحاضرة في كنيسة يقودها الروحُ القدُس. وأمّا دعوة موسى إلى حوباب وإلى ملك أدوم فتمثّل إعلان الإنجيل للشعوب الوثنيّة. وكما أنّ الشعب لم يصل إلى هدفه، بل ظَلّ يسيرُ عبر البريّة، كذلك لم تصِلْ الكنيسة بعدُ إلى هدفها، إلى الكمال، وعليها أن تتنقّى دومًا إلى يوم التجمّع الكبير الذي يتحدّث عنه سِفر الرؤيا (8: 6- 13، 10: 7 ؛ 15:11).
وإن مسيرة الكنيسة إلى مصيرها المحدّد لها في نهاية الأزمنة تتضمّن مسيرة كلّ مسيحيّ إلى مصيره الشخصي. ولهذا يرى أريجانس في مسيرة الصحراء صورةً عن سفر النَّفْس التي تترك هذا العالم لتذهب إلى السماء، كما يرى في هذه المسيرة صورةً عن تقدّم النفس نحو الكمال عبر البرّية وبقيادة الروُح القُدس. وهكذا يصبح التفسير المسيحي نداءًا إلى المؤمن ليسلك سلوكًا يلائم شريعة الله، ويصبح سفر العدد تاريخ الماضي، وتنبّؤًا عن المَلَكوت وقاعدةَ حياةٍ للمسيحيّ الذي يقوده الروح القدس عبر البريّة إلى الاقتداء بيسوع المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM