الفَصَل الرَابع وَالعِشرُون: عِظَةٌ خِتَامِيَّة

الفَصَل الرَابع وَالعِشرُون
عِظَةٌ خِتَامِيَّة
36: ا- 46

أ- المقدّمة
جعل الكاتب الملهم هذا الفصل في ختام شريعة القداسة، كعظة تلخِّص في بضع كلمات ما يعني بالنسبة الى المؤمن حفظ وصايا الله. في الزمن اللاحق للجلاء، والذي فيه يضيع اليهوديّ بين الأمم، يشدّد المشترع على ثلاثة أمور يجب أن يتميّز بها بنو إسرائيل عن سائر الأم: حفظِ يوم السبت، عبادةِ الإله الواحد الأحد، التعلّقِ بالهيكل الذي سيكون مَعبدَ اليهود الوحيدَ في العالم.
ما نقرأه هنا نجد مثله في الشرق القديم. فكل اتّفاق بين رئيس ومرؤوس تتبعه سلسلة من البركات واللعنات: هو الرب يجازي خيرًا الذين يكونون أمناءَ للاتّفاق، ويجلب النكبات على الخائنين.
عندما نقرأ النصوص القديمة، نلاحظ أنّ التهديدات واللعنات أكثرُ عددًا من البركات. فقانون حمورابي (حوالي سنة 1750 ق. م) مثلاً ينتهي بستةَ عشرَ سطرًا من البركات، ومئتين وثمانين سطرًا من التهديدات واللعنات تشبه الى حدّ بعيد ما نقرأه في هذا الفصل من سفر اللاويّين.
لقد اعتبر بنو إسرائيل الشريعةَ اتفاقًا بينهم وبين الله. الربّ هو السيّد وهم عبيدُه، ولهذا كانت هذه البركات والتهديدات. ولقد تعوّدوا في احتفالاتهم على قراءة الشريعة بصورة احتفاليّة، (تث 31: 1-13؛ 2 مل 23: 2؛ نح 8: 1-8)، وكانوا يختمون قراءتها كما نقرأ في هذا الفصل. "وبعد ذلك نادى (يشوع) بجميع كلام الشريعة من البركة واللعنة بحسب جميع ما كتب في سفر الشريعة" (يش 34:8؛ رج تث 27: 15-26). في الأصل كان الكهنة يقفون فوجَين، حول معبد شكيم العظيم: فوجًا على جبل جرّيزيم وفوجًا على جبل عيبال (تث 11 :29؛ 27: 11-13، يش 33:8): هؤلاءَ يُعلنون اللعنات، وأولئك يعلنون البركات. وبعد دَمار السامرة (722 ق. م)، حمل كهنة الشمال هذا التقليد، وأدخلوه في تشريع معبد أورشليم.
نجد في هذه العظة عناصرَ من لاهوت العهد: الخروجَ من مصر وقَبولَ الوصايا، إطاعةَ الله كعربون للسعادة (آ 3-13)، وعصيانَ الله كسبب للنكبة التي حلّت بالشعب (آ 14-39). أمّا الرجوع الى الرب فأمر ممكن لأنّ الله أمين (آ 40-45) فلا يمكنه أن يُنكر نفسه.
هذه العظة الختاميّة في سفر اللاويّين نقرأ مثلها في سفر تثنية الاشتراع (28: 1 ي ): "وإذا أطعتم الربّ إلهَكم وحرَصتم على العمل بجميع وصاياه... فهو يبارككم، ويبارك ثمار أرضكم".

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
(آ 26: 1-2) المقدّمة: يشدّد الكاتب على عهد الله مع شعبه، وبموجِب هذا العهد يفرِض على الشعب أن يحفظ الوصايا.
لا تذكر هذه المقدّمة كلّ الوصايا، بل تكتفي بالوصية الأولى، وهي الوصيّة الاساسيّة. ثم تُتْبعها وصيّة حفظِ السبت، وهي علامة مميّزة لبني إسرائيل المشتّتين في كل مكان.
لا يعبد العبرانيّون الأوثان (19: 14)، بل هم لا يصنعون لهم تماثيلَ في عبادتهم لإلههم.
النُصب هو حجرٌ ينتصب قُرب المعابد الكنعانيّة، فيمثّل الإله بعل (تث 21:16-22 ؛ 2 مل 2:3).
الحجارة المزخرَفة هي التي تُرسم صورةُ الإله عليها.
(آ 3-13) إن سلكتم في فرائضي أبارككم: في أساس هذه البركات نجد خمسة وعود يعد بها الله شعبه، إن هم حفظوا وصاياه. الوعد الأول (آ 4): المطر الذي يأتي في أوانه (خر 34: 26-27)، فتكون للشعب الغلالُ الوفيرة (تث 11: 10- 11). الوعد الثاني: السلام والأمان (حز 34: 25) وما يرافق ذلك من خير وعطاء. الوعد الثالث: النصرُ في الحرب. الوعد الرابع: نموُّ الشعب وتكاثرُه بحسب وعد الله لإبراهيم (تك 17: 1-6). الوعد الخامس: إقامةُ الربّ وسْطَ شعبه وتجديدُه عهدَه لهم (خر 6: 7؛ حز 37: 27).
(آ 14-39) إن كنتم لا تسمعون: وكما كانت الوعود خمسةً، كذلك ستكون التهديدات بالويل خمسةً. جاءت الوعود بطريقة إيقاعيّة، فرأينا فيها صدًى لكلمات قالها الكهنة في المعبد المقدّس، وجاءت التهديداتُ مرتّبةً بطريقة تصاعديّة لتدلّ على أنّ الشعب يزيد عقابَه عقابًا كلّما تمادى في العصيان. إذا أحصينا هذه التهديدات وجدناها سبعةً (عدد التمام) مضروبةً بأربعة (عدد الكون)، وقد نسّقها الكاتب على هذه الصورة ليدلّ على أنّ عقاب الله لا رجوعَ عنه.
التهديد الأول: الانهزام أمام الأعداء (آ 16-17) وما يتبع ذلك من ويلات. التهديد الثاني: الجوع بسبب نقص الغلّة وجفافِ الأرض (آ 19- 20). التهديد الثالث (آ 22): وحوش البريّة. التهديد الرابع: الوَباء والجوع داخل المدن المحاصرة (آ 25 - 26). التهديد الخامس: تدميرُ الأمّة وإرسالُ الشعب الى المنفى (آ 28-39).
هذه التهديدات تعكُس الحالة المريعة التي عاشتها مدينة أورشليم سنة 587: جاع الإنسان فأكل لحمَ بنيه (آ 29)؛ تهدّمت المعابد وتحطّمت المذابح (آ 30)؛ خرِبت المدينة وصار الهيكل قَفْرًا (آ 31)؛ فرَغت البلاد فلم يبقَ ساكن (آ 23-33). أمّا نكبة النكبات فهي الجلاءُ إلى أرض غريبة في ظروف محقِّرة مؤلمة.
(آ 40-46) أمل في المستقبل: رغم حكم الله الذي لا يُرَدّ (رج آ 38-39 وتبيدون بين الأمم)، فالكاتب يفتح باب الأمل أمام الذين ذهبوا الى الجلاء. إنّ الربّ لم ينبذ شعبه نبْذًا كليًّا، وهو يستطير أن يحافظ على شعبه في أرض غريبة، رغم اعتبار القَائلين إنّ قدرة الله لا تتعدّى أرض كنعان.
نجد في هذا المقطع تلميحًا خفيًّا الى أنّ المنفيّين سيعودون إلى بلدهم، وفي هذا التلميح ما فيه من إيمان عميق عند كاتب دوّن ما دوّن في يوم ضاع فيه الأملُ ودبَّ اليأس الى القلوب وتساءل الناس، أين الله؟ ولماذا لا يفعل شيئًا من أجل شعبه؟
يؤمن شعب الله أنّ العهد مبادرةٌ مجّانيّة من قبل الله، وهو لا يتوقّف على طريقة الإنسان في السير بحسب هذا العهد. ولهذا، وإن فرض الربُّ على شعبه أن يحفظ وصاياه، فخطايا الإنسان لا تستطيع أن تَقطع بطريقة نهائيّة علاقةَ الإنسان بالله. إنّ الرب يقدِر، في كلّ وقت، أن يتّخذ مبادرةً جديدة؟ فيحرّكَ التوبة في قلوب المؤمنين، ويدفعهم إلى مسيرة جديدة.
"إذا اعترفوا بآثامهم وآثام آبائهم، وإذا أَقرّوا بخيانتهم لي وتماديهم في مخالفتي.. ذكرتُ عهدي مع يعقوب وإسحق وإبراهيم (آ 40-44). نحن هنا أمام أحد هذه الاحتفالات العظيمة بالتوبة، والتي فيها يُقرّ الشعب علنًا بخطاياه.. "خطئنا نحن وآباؤنا، أسأنا يا ربّ وأذنبنا. آباؤنا في مصر لم يدركوا عجائبك، ولم يتذكّروا كثرة رحمتك... خلّصنا أيّها الربّ إلهنا، واجمعنا من بين الأمم لنحمد اسمك القدّوس" (مز 106: 1 ي ).
بما أنّ الربّ إلهٌ عادل، فهو يعاقب بني إسرائيل عندما يخطئون؟ ولكنّه يعاقبهم لا لينتقم منهم، بل لينبّههم إلى التوبة وإصلاح السيرة. العقاب هو دواء بيد الله الرحيم الغفور الذي يذكر عهدَه ويتذكّر ما وعد به الآباء الأوّلين. وعندما يتذكّر الربّ فهو يفعل.
تلك هي الفرائض... (آ 46)، تلك هي شريعةُ القداسة التي ترتبط بجبل سيناء، حيث أعطى الربّ وصاياه لموسى

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM