الفَصل الثالِث وَالعِشرُون: السَّنَواتُ المقَدّسَة

الفَصل الثالِث وَالعِشرُون
السَّنَواتُ المقَدّسَة
25 : 1 – 55

أ- المقدّمة
بعد هذه الأحكام التي تكرّس الربَّ مشترِعًا على الأرض المقدّسة وعلى ساكنيها، سَواءٌ أكانوا من بني إسرائيل أم غرباءَ نُزَلاء بيت أفراد شعب الله ، سيختم "ناشرُ" شريعةِ القداسة كلامَه بنصٍّ يؤكّد أنّ الله هو السيّد المطلق على كل أرض مملوكة في الارض المقدّسة. هذه هي شريعةُ السنة المقدّسة، أي السنةِ السابعة التي فيها ترتاح الأرض.
مهما يكنْ من أصل هذه العادة، سَواءٌ أكان أنّ الأرض تحتاج إلى راحة، أم أنّه يجب تركُ غلّة الأرض مرّةً كلَّ سبع سنوات للمساكين (خر 23: 10- 11) فسفرُ اللاويّين (آ 1-7) يعتبر أنّ السنة السبتيّة تُدخل الأرض في نظام إلهيّ يتتابع فيه العمل والراحة، فتترتّب حياةُ الإنسان في إطار سُباعيّ، على صورة أسبوع الأيام. هذه الفترات من الراحة التي يأخذها الناس أسبوعيًّا (والأرض كلَّ سبعِ سنوات) تعبّر عن خضوعهم الواثق لله، وتذكّرهم أنّهم بشر، لا آلاتٌ صنعت للإنتاج وحسْب.
في هذا الفصل الخامس والعشرين نكتشف شيئًا من أهداف "ناشر" شريعة القداسة وأسلوبِه في العمل. هو يجمع شرائع تُعنى بالعلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فينسّقها ويعطيها تفسيرًا جديدًا، ثم يبيّن لنا كيف تطوّرت خلال مسيرة تاريخ شعب الله. أمّا أحد أهداف الكاتب المُلهم فهو الحِفاظُ على عوائدَ قديمة عرفها بنو إسرائيل في أيّام إقامتهم الأولى بأرض كنعان، ولكنّها كادت تسقط ي سلّة الإهمال حين جاءت الملكيّة بنظام اجتماعيّ جديد، وكادت تزول بفعل الاجتياح البابليّ. وكان له هدف آخر هو إحياء هذه العوائد كأساس عمليّ للأمّة التي ستُبنى بعد الرجوع من الجلاء، والتي لأجلها دوّنت شريعة القداسة.
إذًا إنّ أساليب الفصل 25 موادُّ تشريعيّةٌ تنظّم مُلْكيّة الأرض والعلاقاتِ بين الناس في إطار العمل (آ 23-55). ولكن بما أنّ الشرائع تعتمد إلى حدّ كبير على سنة اليوبيل، فقد شرِع الكاتب يحدّثنا عن هذه السنة (آ 8-17). وبما أنّ سنة اليوبيل تتضمّن سمِاتٍ مشتركةَ بينها وبين السنة السابعة أو السنةِ السبتيّة، فقد بدأ المشترع بمقدّمة (آ 2-7) عن هذه السنة السابعة تتصدّر مجموعته التشريعيّةَ كلّها.
ونتساءل: هل مارس شعب الله حقًّا السنةَ السبتيّة وسنة اليوبيل؟ من المؤكّد أنّ الشعب مارس السنة السبتيّة (23: 11) التي تبقى فيها الحقول بُورًا، فيأكل منها مساكين الشعب، وما تبقّى يأكله حيوان البريّة. ولقد عاهد الشعب ربّه في زمن عزْرا (نح 15: 31) على ترك غلّة السنة السابعة وعدم المطالبة بالديون. ويشهد يوسيفوس المؤرّخ أنّ الشعب عمِل بموجب السنة السبتيّة في عهد الإسكندر الكبير (رج 1 مك 49:6-53) وهيرودس.
السنة السبتيّة نظام قديم جدًا، ويمكن ممارستُه على الأقلّ في إعادة الأرض الى صاحبها، وترك الديون وتحرير العبيد، وكلُّها أمورٌ ترتبط أيضًا بالسنة اليوبيليّة، كما ترتبط بالسنة السبتيّة (خر 21: 2 ؛ تث 15: 1-15؛ ار 13: 13-16). أمّا سنة اليوبيل فلا نقرأ عنها إلاّ في هذا المكان من سفر اللاويّين، وفي سفر العدد (36: 4 كتب في وقت متأخر)، ولهذا جاءت تنظيمًا متأخرًّ لتكيّف التشريع القديم وظروفًا اجتماعيّة واقتصاديّة أكثرَ تطورًّا.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
(آ 25: 1- 7) السنة السبتيّة أو السنة السابعة: سميّت سبتيّةً نسبةً إلى السبت الذي يَعني الراحة. تَسبت الأرض أي تستريح، فلا تُفْلح ولا تُحصد، وسميّت السابعةَ لأنّها تقع مرّةً كل سبع سنوات (والعدد 7 عدد مقدّس).
يعود نظام السنة السبتيّة الى زمن كان الغنى يقوم بالمُقتَنيات من المواشي. بينما كانت الأرض المملوكة غنىً من الدرجة الثانية. وكان المؤمن في هذه السنة يتخلّى عن الأرض وغلالها، فيكون ذلك بمثابة جزْية يعترف فيها المؤمن أنّ كل خصب مصدرُه الله. وكان الله بدوره يعطي هذه الغلال للفقراء من شعبه. وسيتوسعّ سفر التثنية (15: 1 ي ) في هذا التشريع، فيطلب الى المؤمن إعفاء قريبه من الديون. وسيزيد سفر الخروج (21: 2 ي) فيطلب إليه أن يحرِّر العبيد من بني قومه.
(آ 8-17) سنة اليوبيل: اليوبيل (في العبرانيّة يوبل) يرجع الى كلمة "يبل" التي تعني الكبْشَ وقرنَ الكبش، وكلَّ قرن يُنفَخ فيه. في البوق تعلن سنة اليوبيل التي قال فيها أشعيا (61: 1-2): إن روح السيّد الربّ عليّ، لأنّ الرب مسحَني ملكًا وأرسلني لأبشر المساكين وأجبُرَ منكسري القلوب، وأناديَ بعُتْق المَسبيّين وتحرير الأسرى، لأناديَ بسَنةِ الربّ (أي سنةِ اليوبيل).
لقد أخذت الكنيسة الكاثوليكيّة بهذه التسمية منذ البابا بونيفاسيوس الثامن (1294-1303) فنظّمت سنةً مقدّسة أو سنة يوبيليّة مرّةً كل 25 سنة، يحصل فيها المسيحيّون على غفران كامل لخطاياهم ان هم عادوا الى ربّهم بتوبة صادقة.
يبدو أنّ التشريع المتعلّق بسنة اليوبيل لم يطبَّق أبدًا في بني إسرائيل. كل ما نجده هو محاولةٌ ظهرت في عهد يوشيّا، ولكنّها فشِلت لاعتبارات ماديّة. في هذا السبيل يقول النبي إرميا (34: 13-17): "قطعتُ عهدًا مع آبائكم.. قلت: كلَّ سبع سنين أَطلِقوا كلُّ واحد أخاه العبرانيَّ حُرًا... واليومَ ناديتم بتحرير عبيدكم.. ثم عدتم فأعدتم عبيدَكم الذين أطلقتموهم أحرارًا فاستعبدتموهم... لذلك، لأنّكم لم تسمعوا ندائي بأن يحرّر كلّ واحد عبدَه الذي من إخوانه بني قومه، فها أنا... "
لقد كانت سنة اليوبيل محاولةً محليّة لإعطاء المَوالي، أي العبيدِ المعتَقين، بعضَ الحريّة: وإذ لم يكن من الممكن أن يعودوا الى أرضهم التي باعوها قبل أن يبيعوا نفوسهم نُظِّمت السنةُ اليوبيليّة أي تلك التي تأتي مرّةً كلَّ 50 سنة. وقد كان من صفات سنة اليوبيل تنبيهُ الأغنياء، فيعدُلون في معاملتهم للناس، ولا يظلمون المساكين، ولا يكدّسون الأراضي. هم يَقرِنون بيتًا ببيت ، ويصِلون حقلاً بحقل، حتى لم يدعوا مكانًا لغيرهم (اش 8:5)، هم يشدون حقولاً فيغتصبونها، وبيوتًا فيستولون عليها، ويظلمون الرجلَ وبيتَه والإنسان ومُلكه (مي 2: 2).
وكانت سنةُ اليوبيل تذكّر الشعبَ باثنين. تذكّرهم بالحرية التي حصلوا عليها عندما خرجوا من مصر، والتي يجب أن تكون لجميع بني إسرائيل: الله حرّرَ فكيف يستعبد الإنسانُ من حرّره الله؟! وتذكّرهم أنّ الأَملاك التي حصل كلُّ فرد من أفراد الشعب على حصّته منها يومَ الدخول إلى أرض كنعان، لا يمكن أن يُحرَم منها ويخسرَها إلى الأبد. الله أعطى فكيف يتجاسر الإنسان أن يأخذ من أخيه ما أعطاه الله إيّاه؟
(آ 18-22) صعوبات العمل بأَحكام السنة السابعة: كيف يتمكّن الشعب من العيش سنتين أو ثلاثَ سنوات من دون أن يقطُف غلّة أرضه؟ إذا استراحت الأرض في السنة السبتيّة، ثم في سنة اليوبيل، وإذا لم يكن للفلاّح بِذارٌ يبذُره، فمن الذي يزرعه وكيف تكون حاله؟
لم تُجب شريعة القداسة الى هذه الصعوبة، بل اكتفت بالقول: لا تهتمّوا بما تأكلون لا في السنة السابعة، ولا في سنة اليوبيل، لأنّ الرب يبارك لكم الأرضَ في السنة السادسة (آ 21).
(آ 23-34) أحكامٌ تتعلّق باسترجاع الأرض: الأرض مُلك الرب، وبنو إسرائيل مقيمون بأرض لا تخصّهم بل تخصّ الرب. فكيف يَسلب الإنسان أخاه ما يملُكه من قِبل الربّ؟ ان الشعب يحقّ له فقط أن يستعمل الحقل وقتًا محدّدًا، وبعدَها يعود المُلك للربّ.
وهناك فكرة لاهوتيّة ثانية تنبعُ من فكرة الوليّ، أي صاحبِ حقّ القَرابة، وكان عليه أن يطالب بأملاك أهله الأقرَبين وشخصِهم، إن هم خسروا أملاكهم أو حريّتهم (خر 6: 6). وبما أنّ الله وليُّ كلِّ فردٍ من بني إسرائيل (راجع كلمة "جأل " في العبرانيّة)، فعليه أن يُعتق من استعبَد من بني إسرائيل، وأن يعيد المُلك إلى مَن خسره.
يميّز المشترع بين أرض يملُكها فلاحّ، وبيت يسكنه إنسان في المدينة (آ 29). إن لم يعُد الانسان مالكًا لبيته، فهو لن يموت جوعًا؛ أمّا إذا خسِر أرضه، فقد خسِر ما به يقوم بأَوَدِ حياته. وهنا نلاحظ الروح الإنسانيّة التي نستشفّها من هذه الأَحكام.
نظر المشترع بصورة خاصّة الى اللاويّين، وهم لا يملكون أرضًا على غِرار سائر أبناء إسرائيل، بل مدنًا تقوم فلا بيوتهم. لذلك تُعامَل بيوت اللاويّين في المدن كما تعامل الأراضي التي يملِكها الأفراد. وكما أنّ الأرض تعود إلى مالكها بعد حين، كذلك يعود إلى اللاوي البيتُ الذي اجبر على بيعه لسبب من الأسباب. فأرض الشعب كبيت اللاوي ملكٌ للربِّ. هذا التشريع عن اللاويّين نقرأه في سفر العدد (35: 1-8) ويشوع (21: 1-42) وحزْقِيال (48: 13-14) وأخبار الأيّام الأولى (6: 39-66)، وفيها يشدّد الكتابُ على حقّ اللاويّين في مدنهم مُلكًا مؤبّدًا لهم.
(آ 35-55) أَحكام عن الفقراء وديونهم والعبيدِ وتحريرهم: نلاحظ في آ 35 أنّه يجب معاملةُ الغريب والمقيمِ كمعاملة الأخ. هذا ما سبق لنا وقرأناه (19: 33-34): "إذا نزل بكم غريب فلا تُرهِقوه، وليكن الغريب والنزيلُ في ما بينَكم كالأصيل منكم. أحِبّوه مثلَما تحبّون نفوسكم"
كانت شريعة العهد قد سمحت للفرد بأن يستعبد إنسانًا ستَّ سنوات، ثم يحرّرَه في السنة السابعة. أمّا الكاتب الكهنوتيّ (آ 39)، وهو يكتب لزمن مختلف ولبيئة اجتماعيّة متطوّرة، فهو يرفض الاستعباد أصلاً، لكنّه يشرِّع للعمل المأجور الذي يمكن أن يدوم إلى سنة اليوبيل. إذًا بالنسبة إلى العبيد من بني إسرائيل، تبدّل التشريعُ، ولم تتبدّل حالة المساكين المستعبدين.
وسيميّز التشريع بين عبيد مأخوذين من بني إسرائيل، وعبيد من سائر الأمم: هؤلاء يكونون لكم مُلكًا تجعلونهم إرثًا لبنيكم من بعدكم على مدى الأيام.
وإذا كان لغريب عبد من بني إسرائيل، فهذا الغريبُ يعامل عبدَه كما يعامله بنو إسرائيل. وهذا يَعني أنّه يُفدى في أيّ وقت كان (آ 48-52) أو يُعتقُ في سنة اليوبيل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM