الفَصل الرَابع عَشَر: يَومُ الكَفّارَة العَظِيم

الفَصل الرَابع عَشَر
يَومُ الكَفّارَة العَظِيم
16 : 1 – 34

أ- المقدّمة
بعد تَعداد النجاسات يورد سفر اللاويّين المراسيم الدينيّة السنويّة التي تكفّر عن كل نجاسات الجماعة خلال السنة الفائتة. فيحدّثنا عن يوم الغفران العظيم، أو يوم الكفّارة (في العبرانيّة "يوم ها- كفوريم" أي يوم الكفّارات)، وهو عيد عظيم سيتّخذ أهميّة كبيرة، فيسمىّ في ما بعدُ "اليوم". غير أنّ هذا العيد دخل في الروزنامة الدينيّة متأخّرًا، أي بعد إصلاح عزْرا (القرن الخامس ق. م)، فكان وسيلة لإزالة كل النجاسات من إسرائيل: تلك المتأتّيةِ عن جهل أو سهو، وتلك المتأتّيةِ عن ظروف الحياة اليوميّة. ولقد تطوّر هذا العيد فعبّر فيه بنو إسرائيل عن حالتهم كشعب خاطىء، وعن إيمانهم بإله رؤوف غفور. غير أنّ التقليد اليهوديّ لم يعتبر يومًا أنّ الشعب سيحصل على هذا الغفران بصورة آليّة. لا يكفي أن تقدّم الذبيحة لتنقّى الجماعة. وعلى هذا تقول "المشناة": إذا قال أحد سأَخْطأ، ويوم الغفران العظيم سيكَفّر عن خطيئتي، فيومَ الغفران لن يكفّر عن هذه الخطيئة. إنّ يوم الغفران العظيم يغفر الذنوب التي بين الانسان والله. أمّا الذنوب التي بين الانسان والانسان، فيومَ الغفران العظيم لن يكفَّر عنها، ما لم يتصالح الإنسان مع أخيه.
من الوجهة الأدبية، يمكننا أن نقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام: الأول (آ 1- 10): مقدّمات الاحتفال، الثاني (آ 11-28): الاحتفال الرئيسيّ، الثالث: (آ 29-34) فريضة عيد التكفير. ويمكننا أيضا أن نميّز في هذا العيد ثلاثةَ ترتيبات طقسيّة، لكل منها أساسُه ومحتواه. الترتيب الأول يذكر السُنَن التي يتقيّد بها رئيس الكهنة قبل أن يدخل الى المَقدِس، الى داخل الحجاب (آ 2-4، 12-13)، الترتيب الثاني يذكر الذبائح والطقوس التطهيريّة، وهي تتبع نموذج التشريع الذبائحيّ كما نعرفه في سفر اللاويين (ف 1-7)، وتعكس اهتمام اللاهوت الكهنوتيّ بمكانة التكفير في حياة الشعب (آ 5-6 ، 11 ، 14-19 ، 23-25)، الترتيب الثالثْ يذكر الطقس الخاصّ بتيس المَعْز الذي يحمل خطايا بني إسرائيل بعيدًا عن المحلّة (آ 8-10 ، 20-22). كل هذا بقايا تقاليد أخذ بها الكهنة في أورشليم بعد الرجوع من الجلاء.
غير أنّ هذه العناصر امتزجت بعضها ببعض، فلا نستطيع أن نميّزها بسهولة. وهذا يدلّنا على أنّ تنظيم يوم الكفّارة جاء نتيجة تطوّر دام زمنًا طويلاً. لا شكّ في أنّ الاحتفال به كما نقرأه في هذا الفصل السادسَ عشرَ أخذ الشكلَ الذي وصل إليه في هيكل أورشليم بعد الرجوع من الجلاء، إلاّ أنّ له تاريخًا طويلاً. ففي سفر اللاويّين (23:23-36) سنكتشف ثلاثة احتفالات متنوّعة في الشهر السابع ويشكّل عيد الكفّارة احتفالاً من هذه الاحتفالات. غير أنّ كلّ هذه الاحتفالات كانت، قبل الجلاء، أقسامًا من عيد الخريف الكبير (23: 16؛ 25: 19)، فارتبط يوم الكفّارة بالسنة الجديدة.
وهكذا كان في عيد الخريف عنصرٌ واحد يُطلَب بموجبه الازدهارُ للسنة الجديدة، ثم ارتبط بعيد الكفّارة العظيم الذي يحرّر الجماعة من كل نجاسة علِقت بها خلال اثني عشرَ شهرًا.
لذلك فعيد الخريف الكبير لدى بني إسرائيل هو ذاتُه عيد السنة الجديدة الذي احتفلت به شعوب الشرق القديم. ويمكننا أن نقابل عيدَ الكفّارة العظيم في شعب إسرائيل بعيد السنة الجديدة في بابل: أيّامُ تهيئة عديدة يتمّ خلاطا عددٌ من الطقوس التكفيريّة والتطهيريّة تقام في المعبد، وهي تشبه الى حدّ بعيد ما يفعل في عيد الكفارة العظيم. ولمّا كانت طقوس الكفّارة تعني الشعبَ كلّه، فلقد كان الملك، وهو ممثّل الشعب، يلعب دورًا هامًّا، فيتكلّم باسم الجماعة. إلاّ أنّ عيد الكفّارة لم يعرف الملك، لهذا سيحلّ فيه رئيس الكهنة محلَّ الملك، بعد أن عظُم دوره الدينيّ والسياسيّ بعد الجلاء.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة

(آ 16: 1-2): المقدّمة: تَرتبط هذه المقدّمة بما أورده الكاتب عن مصير ناداب وأبيهو المأسويّ، لتوصلنا الى تعليمات خاصة بممارسة الكهنة لوظائفهم (رج 10: 1 ي ).
بماذا يأمر الرب؟ لا يدخل هارون كلّ وقت الى القدس، الى المكان المقدّس! بل يدخل يومًا واحدًا في السنة، يومَ الغفران العظيم. فإذا ظهر الربّ فوق الغطاء، يكون مصير هارون الموتَ كمصير ولديه اللذين لم يعملا بحسب أمر الرب.
(آ 3-4) دخول هارون الى القدس: يقدّم هارون العجل عنه وعن بيته، لأنّ عليه أن يكون طاهرًا قبل أن تبدأ مراسيم عيد الكفّارة، وأن ينقّي من كل نجاسة الشعبَ والمعبد.
لا يلبس الكاهن الأعظم كلّ ثيابه، وكان عددُها ثمانية، بل يكتفي بثوب الكتّان. وعليه أن يكون متجرّدًا من كل زينة، فيبدو أمام الرب عابدًا متواضعًا.
"يكون على بدنه". نحن هنا أمام تَورية، ولكن التلمود، سيفسر الآية كما وردت في حرفيّتها.
(آ 5 -10) التَيسان من المَعْز: يلقي القرعتين (آ 8). يعتبر المعلّمون اليهود أنّ الكاهن يحدّد بهاتين القرعتين مصير كلّ واحد من التيسين.
"عزازيل" (آ 10). ما معنى كلمة عزازيل؟ في الترجمة اليونانيّة: ذهب العنز بعيدًا فحمي الشعب من الضربة. في اللاتينية: تيس المحرقة أو التيس المبعوث. أمّا رابي راشي فعاد إلى جِذر الكلمة: عزّ أي القوي وإيل أي القدير. أمّا الترجمة السريانيّة فقد قالت فأصابت الهدف إنّ عزازيل هو اسم شيطان كان العبرانيّون خاصّة والكنعانيون عامّة، يعتبرونه ساكنًا في الصحراء، في تلك الأرض القاحلة التي لا يصل إليها عمل الله المُخصب (اش 13: 21 ؛ 34: 11؛ رج لو 8: 29؛ 11: 24). وقد كان عزازيل بشكل تَيس (راجع كلمة عنز)، وكان بعض الشعوب يعبدونه ويقدّمون له الذبائح (رج 7:17). من المهمّ أن نلاحظ أنّ النصّ في هذا الفصل لا يقول إنّ الشعب يقدّم ذبيحة لهذا الشيطان، بل يقول إنّه يرسل إليه تيسًا لم يذبحه.
هناك طقوس نجدها عند شعوب كثيرة، وهي تتضمّن عنصرين اثنين، الأول: نقل الخطايا والنَجاساتِ إلى شيء أو حيوان بطريقة رمزيّة؛ والثاني: فصل هذا الشيء أو الحيوان واستبعادُه. (رج آ 21-22)
(آ 11-28) طقسُ ذبح تيس الخطيئة: دخان البخور هو هنا ليغطّي بهاء حضور الله، لأنّه إذا رأى رئيس الكهنة مجدَ الله، فسوف يموت. هذا البخور يذكّر المؤمنين بالسحاب، حيث الله حاضر وخفيّ (خر 19: 9).
"على تابوت الشهادة" (آ 13). النصّ الأصليّ: على الشهادة. الكلمة العبرانيّة التي تترجم "شهادة" هي "عدوت"، وهي تدلّ على الكلمات العشْر التي كتبها الربّ بصورة احتفاليّة على لوحين قدّمهما لموسى (خر 31: 18؛ 32: 15؛ 34: 29). وهكذا عندما نقرأ عبارة تابوت الشهادة، نفهم أنّه الصندوق الحاوي لوحَي الوصايا العشْر (رج عد 9: 5 وكلمة خيمة الشهادة). "خيمة الاجتماع" (آ 17) وتسميّها كلّ من الترجمة اليونانيّة واللاتينيّة خيمةَ الشهادة، راجعةً بكلمة "موعد" الى الجِذْر "عد" أي الشاهد (الفعل الاسمي "عدد" يعني شهد)، لا إلى الجِذر "يعد" (راجع في العربيّة وعد) الذي يعني حدّد مكانًا والتقى واجتمع. تجدُر الإشارة أنّ التقليد الإلوهيميّ يجعل خيمة الاجتماع خارجًا عن المحلَّة، بعيدًا عنها (خر 7:33). ينظر إليها المؤمنون، ولا يقتربون منها، ويسجدون الى الارض في باب خيمتهم، وهم يتطلّعون الى السحاب ينزل عليها. أمّا التقليد الكهنوتيّ فيجعل الخيمة داخل المعبد المقدّس، وكان المعبد وسط المحلّة. وهكذا فالخيمة الموجودة "هنا" وسطَ نجاساتهم (آ 16) تنبّههم كلّ ساعة إلى واجب التأكّد أنّ كل شيء طاهر بحسب الشريعة.
يضع هارون يده على التيس الآخر (آ 21) فينقل إليه خطايا الشعب، حينئذ لا يعود جديرًا بأن يقدّم ذبيحة للرب، فيرسل إلى عزازيل، الى البريّة، حيث مساكنُ قوى الشرّ. وبما أنّ الكاهن الذي أرسل تيس الحز الى عزازيل قد لمس حيوانًا يحمل خطايا الشعب، فقد تنجّس. لذا عليه أن يغتسل قبل القيام بأيّ عمل طقسيّ.
(آ 29-34) يوم الكفّارة: تحدّد هذه الآيات متى يحتفل بالعيد، وتفرض على المؤمنين أن يصوموا وأن ينقطعوا عن العمل كما لو كان اليوم سبتًا.
الصوم في العبرانيّة "تعنو" (أي تُعَنّون نفوسكم وتُذلّونها وتخضعونها) لا يدلّ فقط على الامتناع عن الطعام والشراب وحسْب ، بل أيضًا عن لبس الحذاء والتعطّر بالعطور والاستحمام وممارسة الزواج.
في الشهر السابع أي شهرِ أيلول، تشرين الأول، أي في بداية السنة يبدأ العيد.
يشدّد الكاهن على أنّ هذا الاحتفال يكون للشعب "سنّة أبدية " ، وأنّ رئيس الكهنة يقوم به دون سائر الكهنة على مثال هارون. فالذيَ يختاره الرب ويمسحه كاهنًا بعد هارون هو الذي يقوم بهذا الاحتفال جيلاً بعد جيل.

ج- ملاحظات حول الطاهر والنجس ويوم التكفير.
في ختام هذا القسم الثالث المتعلّق بالطاهر والنجِس ، نودّ أن نتوقّف على موضوعين: الأولّ: موضوع الطاهر والنجس كما برز في العهد القديم، وكما أخذ به العهدُ الجديد.
الثاني: التكفير بصورة عامّة في الكتاب المقدّس، وعيد الكفّارة أو يومُ الغفران بصورة خاصّة.
1- الطاهر والنجِس حسب الشريعة

الطهارة هي فكرة مشتركة بين الديانات القديمة، وهي الاستعداد المطلوب للتقرّب من القدسيّات. هذا الاستعداد يقوم على أعمال أخلاقيّة، ولكنّه يتكوّن خصوصًا من أعمال طقسيّة.
أولاً: الطهارة الطقسيّة. هذه الطهارة لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأخلاقيّات، بل هي تؤكّد حقّ الإنسان في الاشتراك في أعمال العبادة، وفي حياة الجماعة المقدّسة، بفعل حضور الله فيها. هذه الطهارة تتضمّن الوُجهة الماديّة، أي النظافةَ والابتعاد عن كل الأوساخ (تث 23: 13 ي) والأمراض (ف 13-14؛ مل 7: 3) وكلّ فساد (عد 19: 11-14؛ 2 مل 13:23 ي). وتتضمّن كذلك حماية الجماعة من العادات الوثنيّة الكنعانيّة. وتُرتّب الحيوانات وتفرّق بين ما يؤكل وما لا يؤكل، كما تنظّم استعمال كل ما هو مقدّس. فكل ما يتعلّق بفعل العبادة يكون مقدّسًا. والاشياء المقدّسة محرّمة على الإنسان النجس الذي إن اقترب منها دون التهيئة الطقسيّة اللازمة يكون مصيره الموت. ولكن كيف تزول هذه النجاسات؟ إنّها تزول مع الوقت (11: 24 ي)، أو بالاستحمام وغسل الثياب (17: 15 ي؛ خر 19: 10)، أو بذبائح تكفيريّة (12: 6 ي)، وبالأخصّ في يوم الغفران العظيم.
ثانيًا: الطهارة الأخلاقيّة. ما انفكّ الأنبياء يعلنون أنّه لا ليلة للاغتسال والذبائح إن لم يتنقَّ الإنسان من خطاياه، إن لم يتطهّر من الداخل. يقول أشعيا (1: 15-16): "حين تبسطون أيديكم للصلاة، أحجُب عيني عنكم فلا أراكم ، وإن أكثرتم من الصلاة لا أستمع لكم. لأنّ أيديكم مملوءة من الدماء. فاغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عيني ، كفّوا عن الإساءة" (رج هو 6:6 ؛ عا 4: 1- 5). لا يُلغي الأنبياء الوجهة الطقسيّة للطهارة، ولكنّهم يشدّدون على القول إنّ النجاسة الحقيقيّة التي تلطّخ الإنسان تقوم في الخطيئة، بينما تبقى النجاسة بحسب الشريعة صورةً خارجيّة عن نجاسة الخطيئة. قال الرب لنبيّه حزقيال (16:36 ي) لمّا كان شعبي بعدُ في أرضه، نجّسوها بسلوكها وأعمالهم. صار سلوكهم نجسًا أمامي كنجاسة المرأة في طَمْثها. نجّسوا الأرض بالدم الذي سفكوه، وبالأصنام التي عبدوها، لذلك صبَبْت حنقي عليهمِ. أجل، إنّ الخطيئة تصل الى أعماق الإنسان، ومنها ينقّيه الله. وقد قال الرب أيضًا على لسان حزقيال (25:36-27): "أرُشّ عليكم ماء طاهرًا فتطهرون من جميع نجاستكم... وأعطيكم قلبًا جديدًا... وأجعلكم تسيرون في سُنَني وتحفظون أحكامي وتعملون بها".
وسيشدّد معلّمو الحكمة على القول إنّ الشرط المطلوب من الإنسان، لكي يرضي الله، هو نقاوة اليدين والقلب والوجه، أي حياةٌ أخلاقيّة لا عيب فيها (رج أي 11: 14 ي؛ ام 20 : 9). وسيعلن صاحب المزامير (73: 1) أنّ الله صالح للمستقيمين ولأصحاب القلوب البريئة، وأنّ بيته لا يدخله إلاّ النقيّ اليدين والبريء القلب الذي لا يميل الى السوء (مز 24: 4). الله يكافىء الإنسان لصدق أعماله، ويجازيه خيرًا لبراءة يديه (مز 18: 21).
ثالثًا: في عهد يسوع شدّد المعلّمون اليهود على أهميّة الشريعة، وزادوا عليها أحكامًا عديدة ليكون الإنسان طاهرًا، فأمروا الناس بإلاّ يأكلوا إلاّ بعد أن يغسلوا أيديهم جيّدًا (مت 7: 3)، وأن يطهّروا ظاهر الكأس والصحن (مت 23: 25)، وأن لا يؤاكلوا العشّارين والخطأة (مر 2: 16)، لئلا يتنجّسوا بالاقتراب منهم. أمّا يسوع فحافظ، على ما يبدو، على بعض ممارسات الشريعة في ما يتعلّق بالطهارة الطقسيّة (مر 1 :43: 44 عن الابرص). وهو إن شجبَ تصرّف الفريّسيّين، فلأنّهم يزيدون فرائض من تقاليد الشيوخ على شريعة الله (مر 6:7-13). بالإضافة إلى ذلك سينبّه تلاميذه الى أنّ الطهارة الحقّة تقوم بطهارة القلب. قال: ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجّسه، لأنّ من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة... هذه المفاسد كلّها تخرج من داخل الانسان وتنجّسه.
رابعًا: سيحافظ المسيحيّون الأوّلون على شريعة الطاهر والنجس، كما يحافظون على سائر أحكام الشريعة. ولكنّ الله سوف يتدخّل من السماء، فيفهم بطرس أنّ ما طهّره الله يجب ألاّ يعتبره الإنسان نجسًا (اع 15:10). حينئذ عرف بطرسُ أن لا يحسُب أحدًا من الناس نجسًا أو دنسًا (اع 28:15). واقتنع أنّ الرب لا يفرّق بين يهوديّ وغيرِ يهوديّ، لأنّ هذا لا يمارس الشريعة، بينما يمارسها ذاك. وفهم أنّ الرب يطهّر القلوب بالإيمان (اع 15: 9) لا بشعائر الطقوس. وانطلق القديس بولس من تعليم الربّ يسوع (مر 7: 6 ي) فأعلن أنْ في الربّ يسوع لا شيء نجسٌ في حدّ ذاته (روم 14: 14) ، وأنّه بعد أن تجاوز الزمنُ الشريعة القديمة، زالت ممارسات الطهارة الطقسيّة ، ولم يعد المؤمنون عبيدًا لقوى الكون الأوليّة (رج غل 3:4 ، 9) التي لا قوّةَ لها في ذاتها، وهي ظِلّ الأمور المستقبليّة، بينما الحقيقةُ هي في المسيح (كو 17:2).
لم تكن الطقوس تستطيع أن تنقّي كائنَنا الباطنيّ، فأحلَّ يسوع محلّها ذبيحتَه الفاعلة، ونقّانا من خطايانا. قال القديس يوحنا في رسالته الأولى (1: 7-9): "إنّ دم يسوع يطهّرنا من كل خطيئة... فإذا اعترفنا بخطايانا، فإنّه أمين عادل يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل إثم". وعندما نطْهر، نأمل أن نكون مع الذين غسلوا حُلَلهم وبيّضوها بدم الحمل (رؤ 7: 14). وهذ التنقية تتمّ بالنسبة إلينا في العِماد الذي يفعل فينا بفضل صليب المسيح الذي أحبّ كنيسته وضحّى بنفسه من أجلها، ليقدّسها ويطهّرها بماء الاستحمام (أف 5: 26). لم يكن للطقوس القديمة أن تحصل للمؤمنين إلاّ على طهارة خارجيّة، أمّا مياه المعموديّة فهي تحرّرنا من كل نجاسة، وتشركنا في قيامة يسوع المسيح (1 بط 3: 21 ي). أجل صِرْنا أطهارًا على مثال المسيح (1 يو 3:3)، صرنا أبرارًا كما هو بارّ لأنّنا من الله.
إنّ القديس بولس يدعو المؤمنين الى أن يَنزِعوا من حياتهم الخميرَ العتيق، وأن يجعلوا مكانه فطيرَ الطهارة والحقّ (1 كور 8:5). فعلى المسيحيّ أن يتنقّى جسدًا وروحًا ليتمّ تقديسَه في مخافة الله (2 كور 7: 1). ولقد توسّعت الرسائل الرعائيّة في الحديث عن الوُجهة الأخلاقيّة لهذه الطهارة، فقالت الرسالة إلى تيطس (1: 15): "كل شيء طاهر للأطهار، وأمّا الأنجاس والكفّار فما من شيء طاهر لهم، حتى إنّ أذهانهم وضمائرهم نجسة". وقالت الرسالة الأولى الى تيموثاوس (4: 4): "فكل ما خلق الله حسن. فما من طعام نجس إذا تناوله الإنسان وهو حامد، لأنّ كلام الله والصلاة يقدّسانه ".
2- عيد الكفّارة أو يومُ الغفران العظيم

كلمتان غنيّتان في المفهوم الدينيّ: الكفّارة والغفران. فالله يكفّر لنا عن ذنبنا، فيمحوه ويستره ويغطّيه فلا يعود يراه. ونحن عندما نكفّر عن إثمنا نعطي الكفّارة، أي نقدّم الذبيحة المطلوبة، أو نقوم بصوم أو صدقة طالبين من الرب أن يغفر لنا. والرب يغفر لنا ذنوبنا عندما يغطّيها ويعفو عنها. الرب يصفح عن ذنوبنا ويترك عقوبتها، لأنّه الغفور الرحيم.
أولاً: الكفّارة والخطيئة. عندما نذكر الكفّارة، إنّما نذكر منها الذنب والخطيئة. ونذكر أيضًا طهارة الأمكنة والأشياء والأشخاص. عمل الكفّارة هو أن يزيل الخطيئة عن الإنسان، أن يزيل النجاسة عن الأمكنة والأشياء لتليق بخدمة الله، وتخصَّص له بعد أن كانت في خدمة غيره. إذا كفّر الإنسانُ عن خطيئته أو قدّس الأمكنة والأشياء، رضي الله عنه، وإلاّ عوقب عقابًا قاسيًا. ونحن وإن كنّا لا نمزُج بين الكفّارة والعقاب، لا ننكر العلاقة بين الاثنين: إن لم يعمل الانسان ما يتوجّب عليه ليزيل خطيئته، فالربّ سيعاقبه عقابًا قد يصل به الى الموت أو لا يصل. هناك نجاسة ماديّة تحدَّثنا عنها، وهي تزول بفعل الوقت أو بعد أن نستحمَّ بالماء... ولكنّ هناك نجاسة أخرى نجاسة أخلاقيّة، هي الخطيئة وما يرتبط بها. هذه النجاسة لا يستطيع الإنسان أن يزيلها، لأنّها تمرّد الانسان على الله. فعلى الإنسان أن يجتمع بالله عبرَ الذبيحة ويكرّس له نفسه من جديد. إن الخطيئة تثير غضب الله على الإنسان، والكفّارةُ تضع حدًا لهذا الغضب. الذبيحة ترضي الله ، ولكنّ الصلاة الخارجة من قلب نقيّ تجعل الإنسان ينعم برضى الله، أكثر من الذبيحة.
ثانيًا: الكفّارة والشفاعة. لقد تشفّع موسى الى الربّ في شعبه، فقبل الرب طلبه. سعى إلى الرب وطلب عونه، فأعانه الرب وأعانهم على التخلّص من حالة الخطيئة التي يتخبّطون فيها. يقول الكتاب: تضرّع موسى الى الرب وقال: لِمَ يضطرم غضبك على شعبك... إرجع عن شدّة غضبك، لا تزِد عليهم إساءة على إساءة (خر 31: 11 ي). وتضرّع هارون، وهو رجل لا عيب فيه ، فبادر إلى حمايتهم. برز بسلاح خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور، أبعد غضبَك وأنهى الضربة. فعَلَ هذا، فتبيّن أنّه عبدك. إنتصر على كلّ الصعوبات ، لا بقوة الجسد ولا بالسلاح ، لكنّه أخذ بالصلاة فأوقف العقاب، وذكَّرك بما وعدت به الآباء. فإنّه إذ كان القتلى يتساقطون جماعاتٍ، وقف في الوسط بوجه الغضب، وقطع عليه الطريق الى الأحياء (حك 18: 21-23). إنّ هذا الرباط بيت الكفّارة والشفاعة واضح في التراجِم المتعدّدة التي تركها المعلّمون اليهود في الآراميّة عن النصوص المقدّسة. فقرأوا المزمور (106: 30): فقام فنحاس وقضى فكفّت الضربة عنهم. وجعلوا فنحاس يكفّر عن الشعب ويتشفع الى الرب. وقرأوا أشعيا 53: 4- 12 (عن عبد يهوه) فشدّدوا على دور الشفاعة عند ذلك الذي جُرح لأجل معاصينا وسُحق لأجل آثامنا. وسوف يترجم القديس إيرونيموس (من العبرانيّة الى اللاتينيّة) كلمة "كفر" الى تضرّع أو تشفعّ، فحيث نقول: ويكفّر عنهم الكاهن. (رج 4: 20، 29، 31) يقول: يتضرّع عنهم الكاهن فيسامحهم الربّ.
ثالثًا: وإن الرسالة الى العبرانيّين سوف تنطلق من التماثل بين الكفّارة والشفاعة، لتصوّر لنا المسيح الصاعد الى السماء، ليقوم بعمله الكهنوتيّ الأساسيّ بشكل تشفعّ وتضرّع. إنّ يسوع "قادر على أن يخلّص الذي يقْرَبون به إلى الله خلاصا تامًّا، لأنّه حيّ باقِ ليشفع لهم " (عب 7: 25). وإنّ عمل التشفع هذا يشبه إلى حدّ بعيد عمل رئيسَ الكهنة الذي يقوم برشّ الدم على الكفّارة من أجل خطايا شعبه. إنّ المسيح لم يدخل قدسًا صنعته الأيدي رمزًا للقُدس الحقيقيّ، بل دخل السماء عينَها ليمثُل الآنَ في حضرة الله منْ أجلنا (عب 9: 24). كان اليهود يحتفلون كلّ سنة بيوم الكفّارة العظيم، فيقدّمون الذبائح عن خطاياهم. ولكنّ كلّ هذه الذبائح والطقوس لم تكن قادرة على تطهير داخل الإنسان، لذلك جاء يسوع فدخل قدس الأقداس مرّةً واحدة، لا بدم التيوس والعجول، بل بدمه، فكسَب لنا الخلاص الأبديّ. "فإذا كان رشّ دم التيوس والثيران يقدّس المنجّسين ويطهّر جسدهم، فما أجدَرَ دمَ المسيح أن يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميْتة، لنعبد الله الحيّ " (عب 9: 12-14). وهكذا، بعد أن نقّانا يسوع بدمه من كل خطيئة وشرّ (1 يو 1 : 7-9) نرجو أن نشارك في سعادة الملكوت هؤلاءِ الذين غسَلوا ثيابهم، وقاموا امام عرش الله يعبدونه في هيكله ليلاً ونهارًا (رؤ 7: 14- 15).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM