الفَصل الرَّابع: ذَبيحَةُ الخَطيئَة

الفَصل الرَّابع
ذَبيحَةُ الخَطيئَة
4 : 1 – 5 : 13

أ- مقدّمة
إنّ الذبائح التي ترتبط بالخطيئة والإثم (4: 1-6: 7) تشكّل قلب النظام الذبائحيّ في سفر اللاويين. بما أنّ الأمّة استحقّت العقاب الإلهيّ لعصيانها وصايا الربّ، فعليها أن تقدّمٍ هذه الذبائح، لتعود علاقتها بالله الى ما كانت عليه في الماضي، وتبقى هذه العلاقةُ طيّبة في المستقبل. من أجل كلّ هذا شدّد التقليد الكهنوتيّ على أهميّة هذه الذبائح في زمن الجلاء وبعدَه، فوسعّ مداها إذ جعلها تشمل كلّ ظروف الحياة، وبدّل محتواها إذ جعل الخطيئة نصب عيني الشعب. ولكنّ القديس بولس لن ينظر الى الخطيئة إلاّ على ضوء الخلاص الآتي بالمسيح. "فكما أنّ خطيئة إنسان واحد قادت البشر جميعًا الى الهلاك، فكذلك بِرُّ إنسان واحد يبرّر البشر جميعًا، فينالون الحياة. وكما أنه بمعصية إنسان واحد صار البشر خاطئين، فكذلك بطاعة إنسان واحد صار البشر أبرارًا" (روم 18:5-19)
لا يريد سفر اللاويّين أن يميّز بين ذبيحة الخطيئة وذبيحة الإثم، ولهذا يزيد تعليماتٍ خاصّةً بالكهنة. غير أنّه رغم هذه المحاولة لتوحيد الطقوس، لا شيء يمنعنا من تمييز طابع وهدف كلِّ من هاتين الذبيحتين.
نقرأ عن ذبيحة الخطيئة في 4: 1-13:5. في الجزء الأوّل (ف 4) نتطرّق الى قضية الخطإ سَهوًا (4: 2)؛ وفي الجزء الثاني (5: 1-13) نتطرّق الى الخطإ الذي بدأ سهوًا، ثم عرف به صاحبه.
ونقرأ عن ذبيحة الإثم في 5: 14-26. بعد أن يتطرّق الكاتب إلى خطايا السهو (5: 14-19)، يعود إلى جرائمَ اجتماعيّةٍ متعدّدة (5: 20-26).
إنّ ذبائح الخطيئة والإثم ذبائحُ قديمة العهد، ولا يكفَّر عنها إلاّ بالدم. وقوّة الدم هذه تكفّر عن نجاسات الاشخاص والأشياء، وعن الخطايا التي اقتُرفت سهوًا، ولكنّ نتائجها كانت خطيرة. ركّز اللاهوتُ الكهنوتيّ على الخطيئة، فلعبت ذبيحةُ الخطيئة دورًا في مراسيم العبادة بعد الجلاء، وسيأتي يومٌ تصبح فيه ذبيحة الخطيئة جزءًا لا يتجزّأ من أعياد بني إسرائيلَ الكبرى (عد 28: 15، 22، 30؛ 29: 26-38).
أمّا ذبيحة الإثم فقد احتفظت بالكثير من سمِاتها الأصليّة، إلا أنّ أهمّيتها خفّت كثيرًا، ثمّ اقتصرت على التكفير عن الخطايا الفرديّة، بانتظار أن يتغيّر مضمونُها فتُبَدَّل بتقدمة ماليّة تشبه الى حدّ كبير الغَراماتِ الماليّةَ التي يفرضها القاضي على المذنب في أيّامنا.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
(آ 1-2) إن خطىء أحدٌ سهوًا... إن خطىء أحدٌ سهوًا، أي من دون انتباه، أو عن جهل وضلال، أو بلا تعمّد (عد 15: 30- 31). فلسنا فقط أمام خطايا كبيرة اقترفها الإنسان وهو جاهل لما فعَل، بل أمام مخالفات طفيفةٍ لا تجعل الانسان خارجًا على عهد الله مرفوضًا من الجماعة.
الحديث عن خطيئة غيرِ متعمَّدة يدلّ على اهتمام المشترعِ بنيّة الفاعل، وبنتائج أعماله الظاهرة. فالخطيئة اللاّمتعمَّدة تترك هي أيضًا وراءها الكثيرَ من الفوضى. لهذا لا بدَّ من التكفير عنها بالذبائح والطقوس.
نقرأ الآية الثانية: وصايا الرب التي لا تُعمل... فنفهم أنّ هناك وصايا إيجابيّة: قدِّسْ يوم الرب، أكرم أباك وأمّك، ووصايا سلبيّة: لا تقتل، لا تزنِ (خر 12:20-13).
يوضح سفرُ اللاويّين أنّ نظام الذبائح قد فرضه الربّ على شعبه في سيناء، فمن جعل نفسه خارجَ العهد لا تنفعه ذبائحُ التكفير.
(آ 3-12) خطيئة رئيس الكهنة: في عهد المَلَكيّة كان "أوّل الكهنة" في أورشليم يسمّى الكاهن (2 مل 16: 10)، وبعد الجلاء سيسمّى "رئيسَ الكهنة" (2 اخ 26: 20) أو " الكاهنَ الأعظم " (زك 3: 1). في زمن الملكية كان رئيسُ الدولة مسؤولاً عن الطقوس، ولمّا زالت الملكية صار رئيس الكهنة رئيسَ الدولة ، وكما كان يُمسح الملِك بالزيت المقدّس سيمسح رئيسُ الكهنة، بعد أن صار الملكَ الفعليّ. وسيأتي وقت يُمسح فيه بالزيت كلُّ الكهنة أبناءِ هارون (7: 36)، وهي عادة انتقلت إلى الكنيسة.
كان الملك يحتوي الأمّةَ كلّها في شخصه. إن كان الملك بارًّا سَعِدت الأمّة، وإنّ كان خاطئًا شَقِيَت الأمّة (2 مل 23: 26-27). وعندما انتقلت امتيازات الملك الى رئيس الكهنة، انتقلت معها مسؤوليّته ، فصارت خطيئته تؤثّر على سعادة الشعب أو شقائِه لأنّه يمثّل الشعب أمام الله.
يضع الكاهن يده على رأس العجل فيحمّله خطيئته. حينئذ يصبح الحيوان نجسًا فيؤخذ خارج المحلَّة لئلاّ ينجّس المحلّة. لا يقدَّم للرب على المذبح إلاّ الدمُ والشحم. تجَاه هذا الرأي نجد رأيًا آخرَ يبدو أصحَّ من الأول، وهو أنّ الخطيئة لا تمرّ من الإنسان إلى الحيوان ، وإلاّ استحال على الإنسان أن يأكل لحمًا يحمل خطيئة (6: 18-19) ، أو أن يقدّمه لله (16: 21). إذا حمَلت الضحيّة خطايا الشعب، فلا تعود تستعمل في الذبيحة، بل ترسل الى البريّة، الى حيث يقيم الشيطان عَزازيل مع قوى الشر. إنّ وضع اليد على الضحيّة هو قسمٍ من مراسيم الذبيحة المحرقة (1: 4)، وبهذه الحركة يعلن مقدِّم الضحية أنّه يقرّب نفسه إلى الله عبرَ الضحيّة التي يرفعها إليه.
يذكر الحجاب (آ 6) الذي يفصل أقدسَ مكان في الخيمة ، بين قدس الأقداس الذي يحوي الأشياء المقدّسة، وسائرِ الخيمة.
أين تمام الحفلة؟ إن كان الخاطىء كاهنًا، فكلّ شيء يتم داخل الخيمة ، قرب المكان الذي ظهر فيه الله، ويبقى سائرُ الأشخاص خارجًا. يُرَشّ الدم أمام الحجاب سبعَ مرّات، والعدد 7 عددٌ مقدّس.
كان البابليّون يمارسون العِرافة، فيستقرئون كبِدَ الحيوان. لهذا طلب المشترعُ أن يكون الكبد لله، فمنع مثلَ هذا العادة في بني إسرائيل.
إنّ أقسام الضحيّة التي لم تؤكل ولم تحرق، لا ترمى في أيّ مكان، لأنّها تقدّست بفعل الذبيحة. لذلك تُجعل في موضع طاهر نظيف، لا تصل إليه يد إنسان (6: 4) وهناك تُحرق.
(آ 13- 21) خطيئة الجماعة: المراسيم المتعلّقة برئيس الكهنة هي ذاتُها المتعلّقة بالجماعة، ورئيس الكهنة يمثّل الجماعة أمام الله، ويمثّل الله أمام الجماعة. هذا ما تقوله آ 20: ذبيحة الخطيئة أي ذبيحة خطيئة الكاهن الأعظم.
ثمّ عُرفت الخطيئة... لا بدّ من الإقرار بالخطيئة والقَبول بنتائجها، قبل تقدمة الذبيحة. شيوخ الجماعة هم رؤساء القبائل (خر 27:22)، وهم أيضا رؤساء يهوذا بعد الرجوع من الجلاء (عز 5: 5، 9). أمّا الرئيس الذي تذكره آ 21 فهو الملك المثاليّ في ثيوقراطيّة حزقيال (45: 1 ي ) التي يدير شؤونها الكهنة.
لا يكون للعجل المذبوح عمل سحريّ. فالتقدمة علامة استعداد القلب، والربّ يسامح مقدِّمَ التقدمة.
(آ 22-26) خطيئة الرئيس: الرئيس (نشيا. راجع في العربية نسا، بمعنى قاد وكلأ، ونشأ بمعنى ارتفع)، هو لقب لرؤساء القبائل المجاورة لبني إسرائيل (تك 16:25 ؛ عد 25: 18)، وفي إسرائيل (عد 7: 2؛ 13: 2).
عندما نتحدّث عن خطايا الرئيس يكون اللحم من حصّة الكهنة، أمّا عندما نتحدّث عن خطايا الكهنة، فاللحم يحرق لأنّه لا يحقّ للكاهن أن يأكل من ذبيحة خطيئته.
(آ 27-35) خطيئة واحدٍ من عامّة الناس: لا يفرض هنا أن تكون الضحيّةُ ذكرًا، بل تكون أُنثى، وهذا يدلّ على أنّ خطيئته العامّة ليست خطيرةً كخطيئة رئيس الكهنة أو رئيس المملكة.
لا يحقّ لأحد من عامّة الشعب أن يدخل إلى القدس، إلى المعبد، لأنّه لا يملك درجةً كافية من القداسة، ولهذا يحتاج الى خدمة الكهنة.
يبدو أنّ (آ 23-35) هي أقدم عهدًا من (آ 3- 21) التي جاءت نتيجةَ ما توسعّ فيه الكهنةُ من شروح في زمن الجلاء.
(آ 5: 1-6) ستّ حالات تَفرض ذبيحةَ الخطيئة: من مسَّ نجسًا، من حلَفَ من غيرِ رويّة.... يتحمّلُ عاقبة ذنبه، يعني أنّه يكون مسؤولاً عن النتائج التي تترتّب على عمله.
(آ 7-13) التساهل مع الفقراء: حسَبَ التشريع حسابَ الفقراء، فطلب منهم ذبيحةً أقلَّ ثمنًا من سائر الذبائح. وهذا يدلّ أيضًا على أنّ الطقوس ليست ما يسبّب التطهير، وإلاّ فُرض تقديمُ ذبيحة مهما كان الأمر، بل هي تعبير عن التطهير بلغة رمزيّة (رج 8:12؛ 14: 21؛ 8:27).

ج- بعض الملاحظات حولَ الفصل الرابع
الملاحظة الأولى تتعلّق بالعدد 07 العدد 7 عدد ذو طابع سحريّ، بمعنى أنّه عددٌ مقدّس وفاعل. أمّا أصلُه فيرجع الى الزمن السحيق. كانت بلاد الرافدَين تذكر في عبادتها الكواكبَ السبعة، أي الشمسَ والقمرَ وخمسة نجوم. ونُظّم الأسبوع على سبعة أيّام دون أيّ اعتبار لمراحل القمر. والى العدد 7 ترجع أهميّة الأيام السبعة الأولى بعد الولادة، ثم يأتي الختان، أي اليومُ الأوّل من حياة الطفل الجديدة (تك 17: 12). واليه ترجع أهميَّة الأيام السبعة الأولى بعد الزواج (تك 29: 27) أو بعد الوفاة (تك 50: 10). هذه الأيّام هي زمن عُبور، وفيها ينتقل الإنسان من بيت يعيش فيه إلى بيت آخر، وهي مناسبة يكون الشيطان فيها نشيطًا. يَرِدُ العدد 7 مرّاتٍ كثيرةً عند العبرانيّين: دارَ العبرانيّون سبعَ مرات حول أسوار أريحا. هناك سبعةُ أجواق من الملائكة، يرشّون الدمَ سبعَ مرّات على المذبح.
الملاحظة الثانية تتطرّق إلى حجاب الهيكل، إلى ستار الهيكل. بحسب سفر الخروج (33:26)، هذا الحجاب يفصل بين القدس، أو المكان المقدّس والمخصّص للكهنة، وبين قُدس الأقداس، أي المكانِ المقدّس كلَّ التقديس، والمخصّصِ لرئيس الكهنة. ولكنّ الفصل لم يكن واضحًا في سفر اللاويّين، فكان المكان المقدّس قسمًا من المكان المقدّس الكليِّ التقديس، بحيث لا تكون مسافة بين الكهنة ورئيس الكهنة. قال بعض المعلّمين بوجود حجابين. كان رئيس الكهنة يدخل عند آخر الحجاب الجنوبيّ الأوّل، ويسير بين الحجابين، ثم يدور شمالاً الى آخر الحجاب الشماليّ، قبل أن يصل إلى الحجاب الثاني. ولكنّ بعضهم الآخر عارضَ هذا القول وأكّد وجود حجاب واحد. هذا الحجاب انشقّ شطرين من أعلى الى أسفل ساعةَ مات يسوع المسيح (مت 27: 51). فقال الشراح إنّه الحجاب الذي يفصل بين الرواق والهيكل، وقالوا أيضًا إنّه الحجاب الذي يفصل بين القُدس وقدس الأقداس. إذا أخذنا بالرأي الأول نفهم أنّ موت يسوع أعطى للوثنيين أن يقتربوا من الله، (كان الوثنيّون يقفون في الرِواق)، وإذا أخذنا بالرأي الثاني نفهم أنّ موت يسوع يدلّ على نهاية كهنوت العهد القديم (عب 9:6 ؛ 20:10).
الملاحظة الثالثة تذكر قرون المذبح. قرون المذبح هي أقدس جزء في المذبح. في الهيكل الثاني كانت هذه القرون أربعة، وكانت على زوايا المذبح الأربع مُنَمنمةً ومزخرفة. أمْا الهياكل القديمة فكانت قرونها كبيرة. في عهد سليمان، من أمسك بقرون المذبح يكون طالبًا رحمةَ الرب ملتمسًا حمايته (1 مل 23:2)، ولكنّ الاقتراب من المذبح سيكون محظورًا على كلّ فرد من أفراد الشعب، ليس بكاهن. من أجل ذلك نُظمت مدن الملجإ في أرض إسرائيل. على هذه القرون كان يُرشّ دم الذبائح. بعضهم يقول إنّ قرون المذبح تمثّل قرون الضحيّة، وبعضهم يقول إنّها تمثّل النُصُب أي التمثالَ المنصوب، وهي شعارُ الإله. كانوا يقولون إنّ أطراف المذبح تدلّ على قداسة المذبح، وهي مثلُ أطراف جسم الكاهن التي يصل إليها دم الذبيحة (خر 29: 20؛ لا 8: 23). وكما أنّ الكاهن عندما تتقدّس أطرافه يصبح كلّه مقدّسًا، كذلك المذبحِ عندما تتقدّس قرونه. وهناك تفسيرٌ آخر يربط كل هذه الطقوس بعبادة الإله العليّ في كنعان، الإلهِ العجل (إيل ثور) الذي نقرأ عنه في وُيحات أوغاريت: كان قرناه علامةَ الخصب والقوّة.
الملاحظة الرابعة: يذكر الكتاب "الكاهنَ المسيح" أي الكاهنَ الممسوح أو المكرّسَ بالزيت المقدّس. هذا اللقب يدلّ على الكاهن الأعظم الذي يمسح بالزيت فيكرّس للرب (12:8). تَروي الليتورجيَّا كيف يكرَّس الكاهن الأعظم: يُغسَل بالماء، يعطى الملابسَ الحبريّة، يُصَبّ على رأسه دهنُ المسح ويُمسح (خر 29: 1-8). في الأصل كان دهنُ الزيت خاصًّا بالملوك (1 صم 10: 1؛ 16: 2-13) ثم أُدخل في طقوس تكريس رئيس الكهنة. لقد أعطى العهد الجديد يسوعَ لقبَ الكاهن الأعظم. هذا ما نقرأه في الرسالة الى العبرانيّين (ف 9-10) التي تجعلنا نكتشف في المسيح الممجّد كمالَ الكهنوت. إنّ المسيح الممجّد الذي هو ابن الله وأخو البشر يؤمّن للبشر الاقترابَ من الله. هو من سلالة هارون، ولكنّه يتجاوز هارون، لأنّه أيضًا الكاهن على رتبة ملكيصادق. إنّ موت يسوع سيكون الذبيحة الحقّة التي تحِل محلّ الذبائح القديمة. لم تكن ذبائحُ العهد القديم تستطيع أن تنقّي نوايانا من الخطيئة وترفعَنا إلى الله. أمّا يسوع فصار حَبْرًا سماويًّا. طهرّنا من خطايانا وأسسّ عهدًا جديدًا، وأدخلنا بدمه الى حفرة الآب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM