الفَصل التَاسع: كِتَابُ العَهْد بَينَ الله وَشَعبِه

الفَصل التَاسع
كِتَابُ العَهْد بَينَ الله وَشَعبِه
20 : 22 – 24 : 18

أ- مقدّمة
بعد إعلان الوصايا العشر التي تمثّل شريعة العهد الأولى في سيناء، نجد أنفسنا أمام مجموعة قانونيّة سمّيت "كتاب العهد" (أو قانون العهد)، على أساس ما نقرأ في الآية 24: 8. "هذا هو دم العهد الذي عاهدكم الربّ به على جميع هذه الأقوال ". لا شكّ في أنَّ كتاب العهد كان يشكّل، كالوصايا العشْر، مجموعةً من الشرائع مفصولةً ومستقلّة في ذاتها. أدخلها الكاتب في ما بعد في إطار وحي سيناء، يوم امتزج التقليد الإلوهيميّ بالتقليد اليَهْوَهيّ. نجد هذه الشرائع في 20: 22-23: 19، ثم زاد الكاتب عليها خاتمة تتحدّث عن الانطلاق من سيناء، والاستعداد للدخول الى أرض كنعان. هذه الزيادة لم تكن أصلاً في مجموعة الشرائع، ولكنّها جعلت هنا فيتقبّل الشعب شرائع تواكب شروط الحياة الجديدة في كنعان، معتبرًا إيّاها مرتبطةً بوحي سيناء.
يفترق كتاب العهد عن الوصايا العشْر بأسلوبه ومضمونه. الوصايا قصيرة وموجزة، كتاب العهد موسعّ، وهو يحدّد ما يجب عمله في الحالات الخاصّة. كتاب العهد يشير الى العقوبات فيبدأ كلامه عادة: إن سرق أحد، إن استعار أحد... أمّا الوصايا فتتوجّه الى المؤمن في صيغة المخاطب: لا تقتل، لا تسرق.
إن كتاب العهد يمثّل مختصرًا للشرائع، وهو يساعد الشيوخ للقيام بأعمال القضاء في جماعة بني إسرائيل. هناك بعض الآيات تتعلّق بالطقوس وشعائر العبادة (20: 22-26؛ 13:23-19). وما تبقّى يتعلّق بالحياة الأخلاقيّة والاجتماعيّة، فنجد مثلَه الكثيرَ في شرائع وقوانين الشرق القديم. نذكر مثلاً في بابل قانونَ حمورابي (حوالي سنة 1700 ق. م) وقانونَ سومر (شرائع أشنونه حوالي السنة 2000 ق. م) وقوانينَ الأشوريّين والحثّيين. هذه القوانين المعروفة في كلّ الشرق القديم، قد أخذ بها المشترع ونظّمها في مختصر يكون نَموذجًا لممارسة القضاء في جماعات بني إسرائيل، المقيمين في طول أرض كنعان وعرضها.
متى دُوّن كتاب العهد؟ نقول أوّلاً إنّه كتب قبل القانون الاشتراعيّ (الذي أعلن سنة 621) الذي حاول إعادة النظر في قوانين كتاب العهد، وتكييفها حسب الظروف الجديدة في حياة الشعب. ونقول ثانيًا إنّ المشترع بدأ بجمع قوانين كتاب العهد، في نهاية القرن الثالثَ عشر، بدليل أنّنا لا نجد أيَّ تلميح إلى الحالة السياسيّة المستجدّة بوجود الملك، ولا الى مسؤوليّة الملك وموظّفيه في أعمال القضاء. إذاً ظهر كتاب العَهد بوجهه الحاليّ قُبَيل عهد داود الذي حكم حوالي السنة 1000، أي بين سنة 1200 و1100؛ ولكنّ هذا لا ينفي الزيادات والتنقيحات اللاحقة، كما حصل لسائر القوانين.
أين دوّن كتاب العهد؟ يبدو أنّه دوّن في أرض أفرائيم، حول معبد شكيم، ومن هناك انطلق لينسّق أمور القضاء، فيجعلها على نمط واحد داخل القبائل المتعدّدة التي تؤلف جماعة بني إسرائيل.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- شرائع وعقوبات (20: 22-22: 16)

أولاً: شريعة المذبح (20: 22-26)
نجد في هذه المقدّمة لكتاب العهد الفرائض المتعلّقة بالمعابد التي يؤمّها بنو إسرائيل. إنّ العبادة هي أوّل واجب في بني إسرائيل، وكل واجب يتفرّع منها. واجب الإنسان نحو قريبه مؤسسّ على واجب الإنسان نحو إلهه، وهذا ما سيدعم شريعة العدالة التي لا تحابي أحدًا.
(آ 22- 23) من السماء خاطبتكم. الله ينزل من السماء إلى الجبل (18:19-20).
لا تصنعوا لكم آلهة. نحن هنا في صيغة الجمع. لا تصنعوا تماثيل من فضّة أو ذهب (تث 4: 9-24). كانت التماثيلُ تنقش بالفضة والذهب (اش 46: 56؛ ار 10: 4). هل قبل المشترع أولاً بتماثيل الحجارة والخشب، وهي تتوافق ببساطتها مع عقليّة البدو العبرانيّة البدائيّة البعيدة عن كل غنى، أم إنّنا أمام رفض لأيّ تمثال أو صورة منحوتة؟
(آ 24-26) لا تصنع. نحن هنا في صيغة المفرد... هي فرائض عن المذابح التي تقرّب عليها التقادم. يكون المذبح بسيطًا فيُبنى من تراب، وسيكون من حجارة عندما يدخل بنو إسرائيل أرضَ كنعان، شرط أن لا يمسَّ الحديدُ الحجر، بل يؤخذ الحجر كما تجدونه في الطبيعة. أمّا هيكل سليمان فقد بُني بالحجارة المنحوتة (1 مل 5: 31). ولكنّ الأنبياء لا يقبلون بالمعابد الفخمة، بسبب ما ينتج عن مثل هذا البناء من زيادة في الضرائب، وفي أعمال السُخرة كما فعل سليمان (رج عا 5: 11؛ اش 9: 9).
تذكر هذه الآيات نوعين من الذبائح: المحرقاتِ (عله في العبريّة. راجع في العربية علا)، وفيها يُحرق الشحم فيرتفع دخانه ويصعد الى فوق ؛ وذبائحَ السلامة (سلّم في العربيّة) وهي تجعلنا في سلام مع الله بعد أن نهدّىء غضبه، أو ذبائحَ اتّحاد واتّفاق: يأكل المشتركون قسمًا من الذبيحة، فيتّحدون مع الله وبعضُهم ببعض.
نلاحظ أنّ هذا التشريع قديم في شعب إسرائيل. فنحن أمام مذابحَ عديدة، لا مذبحٍ واحد، كما سيكون زمنَ إصلاح يوشيّا (622 ق. م). كما لا نجد ذكرًا للكهنة، لأنّ كل ربّ أسرة يقوم بعمل الكاهن، فيقدّم الذبيحة عن أهل بيته. تورد هذه الآيات الذبائحَ الدمويّة وحدَها، وبنو إسرائيل رعاة مواشٍ . وعندما يأخذون بعادات الكنعانيّين، سيقدّمون الحنطة وثمار الارض إكرامًا للرب.

ثانيًا: شريعة العبيد (21: 1- 11)
الرِقّ قسمٌ من النظام الاجتماعيّ القديم. إعترف سفر الخروج بأنّه نظام جائر، ولكنّه لم يُلغِه كنظام معمول به. غير أن العبيد لم يكونوا محرومين من كل الحقوق، ولهذا كانت الشرائع التي تحميهم من نزَوات أسيادهم. العبد الرقيق على نوعين، إمّا أسير الحرب، وإما الإسرائيليّ الذي باع نفسه وفاءً لديونه (2 مل 4: 1) . الى هذه الحالة الأخيرة ينظر التشريع الذي نحن الآن بصدَده.
نقرأ هنا قسمًا من الأحكام (مشفط في العبرية) التي تحوي شرائع مدنيّة وجزائيّة بأسلوب خاصّ. يورد النصّ الحالة العامّة، ثم الحالات الخاصّة، ويقدّم لها الحلول المناسبة. الحالة العامّة: إذا اقتنيت عبدًا عبرانيًّا.. الحالات الخاصّة: إن دخل وحدَه ليخرج وحدَه، وإن دخل مع امرأته...
(آ 2-6) قضيّة العبيد الذكور. الحالة العامّة في الآية 2: إذا ابتعتَ. الحالات الخاصّة في 3-6: ان... ان.
(آ 7- 11) قضيّة الإماء الإناث. الحالة العامّة في الآية 7: إن باع رجل ابنته. الحالات الخاصّة في 8- 11: إن كرهها سيّدُها، وإن تزوّج بامرأة أخرى.
هذا التشريع سيتطوّر في ما بعد، فتُخفّف قساوة الأسياد في معاملة عبيدهم. فنقرأ مثلاً في سفر التثنية (15: 12-18) "إذا أطلقت العبد الذي خدمك حُرًّا، فلا تطلقه فارغَ اليدين، بل زوّده من غنمك وبيدرك... ". ونقرأ في سفر اللاويّين (39:25-46): "إذا رقّت حال أخيك معك ، فباع نفسه لك، فلا تستخدمه كالعبيد.. "

ثالثًا: الحالات التي تستوجب عقاب الموت (21: 12-17)
الحالات هي القتل، الخطف، ضرب الوالدين وإهانتهم.
(آ 12-14) من ضرب إنسانًا فمات، فليقتل. هذه هي شريعة المِثل. إن قتله عن غير عَمْد، فليهرب الى مدن الملجإ، إلى معبد محليّ أو إلى أحد الأماكن التي عينّها الرب في ما بعد لشعبه (تث 4:19 ي ؛ عد 9:35 ي).
(آ 15، 17) من ضرب أباه... من لعن أباه... فليقتل. مثل هذا الخطإ يستوجب عقاب الموت، والأسرة هي الخليّة الأولى في المجتمع، وحمايتها جزء من نظام الله في حياة البشر.
(آ 16) من خطف أحدًا فباعه، يكون خطأه كبيرًا ويستوجب عقاب الموت.

رابعًا: شرائع تتعلّق بأضرار الجسم (21: 18-36)
تتطرّق هذه الآيات الى الأضرار التي تلحق بالجسم، دون أن تؤدّي الى الموت. يدفع المذنب غرامةً يحدّدها القانون. وسنلاحظ أن القانون بدأ يشرّع من أجل العبيد: إن ضرب أحد عين عبده، فليحرّره بدل عينه.
(آ 18-19) إذا اختصم رجلان وتضاربا...
(آ 20- 21) إذا ضرب أحد عبده...
(آ 22) إذا صدم أحد امرأة حبلى فعليه التعويض.
(آ 23-25) نقرأ هنا شريعة المعاملة بالمِثل. سِنٌّ بسِنّ وعين بعين. هذه الشريعة القديمة قد عرفها قانون حَمورابي وشرائعُ المصريّين والحثّيين واليونان والرومان، كما نقرأها في سفر اللاويّين (24: 19- 20) وسفر التثنية (19: 21). إذا طبّق الإنسان بنفسه هذه الشريعة، فهو لا يعرف أن يضع حدودًا لرغبة الانتقام المتأجّجة في قلبه. أمّا إن طبّقها القاضي، فما عليه إلاّ أن يقرأ الشريعة: سنٌّ بسنّ. ونقول أيضًا إنّ المال كان يَحُلّ الكثير من المشاكل: يدفع فاعل الضرر مالاً فيعوّض عن الضرر الذي أنتجه.
(آ 26-27) تطبيق شريعة المعاملة بالمثل على العبيد.
(آ 28-32) أضرار تحدثها البهائم لإنسان من الناس؛ إن نطحَ ثورٌ رجلاً أو امرأة... ومسؤوليّة صاحب البهيمة.
(آ 34-36) أضرار تحدثها البهائم لبهيمة من البهائم ومسألة التعويضات المفروضة.

خامسًا: شرائع تتعلق بالأضرار في الممتلكات (21: 37-22: 16)
في هذه الحالات تدع غرامة ماليّة.
(آ 37:21 -3:22) إذا سرق أحد ثورًا، فليعوّض...
(آ 4- 5) إذا رعى في حقل... فليعوّض.
(آ 6-14) إذا سلّم أحد وديعة (فضة أو متاع) إلى صاحبه وضاعت... إذا سلّم أحد بهيمة الى صاحبه وتضرّرت أو ماتت...
(آ 15-16) إن أغرى رجل فتاة بِكرا يدفعُ مَهْرها..
نلاحظ في هذه الشرائع أهميّة مُرامِ الشخص ونيّتَه لنقرّر هل هناك من خطإ أم لا.
2- شرائع متعدّدة على الحياة الأدبيّة والدينيّة
(17:22-19:23)

في مجموعة أولى (17:22-30) نقرأ شرائع متنوّعة لا رابطَ بينها. ويبدو أنّ هذه المجموعة المستقلّة بذاتها، قد أُدخلت في ما بعد في كتاب العهد ليشمل القانونُ الإسرائيليّ مُجْملَ حياة الجماعة.
في مجموعة ثانية (23: 1-9) نقرأ شرائع أخلاقيّة تعلّم المُواطن كيف يعيش في مدينته أو قريته، حتى ولو غاب القاضي.
وفي مجموعة ثالثة (23: 10-19) نقرأ شرائع تتعلّق بالعبادة والمحافظة على الأعياد والأزمنة المقدّسة: السبت والسنة السبتيّة (آ 10-13)، أعياد السنة التي فيها يحجّ بنو إسرائيل ويقدّمون فيها ا للرب تقادمهم (آ 14-19).
(آ 22: 17) الساحرة تقتل.
(آ 18-19) من ضاجع بهيمة، من ذبح للآلهة، فليقتل.
(آ 20-26) نقرأ هنا فرائض إنسانيّة تهتمّ بالأشخاص الذين يهملهم المجتمع، أو يحتقرهم أو يضايقهم ويذلّهم. الغريب (جر في العبرية أي اللاجىء والمهجّر والنزيل) كان عرضة للسُخرة والاحتقار (تث 5: 15 ؛ 15: 15؛ 16: 12؛ 8:24)0 الأرملة واليتيم كانا عُرضةً لقساوة الناس وظلمهم؛ ولكنّ الله يحامي عنهما وينتقم لهما (مز 68: 6؛ 146: 9)0 الفقير والمسكين (عنه في العبريّة، العافي في العربيّة أي الخاضع والذليل) كانا يعاملان بالجَور في قضايا المال والبيع والشراء. ولكنّ الله رؤوف رحيم، وهو يطلب من الناس أن يتشبهّوا به.
(آ 27-30) لا تلعن الله ولا تشتم (نأر في العبريّة راجع ناوره في العربيّة أي شتمه) رئيسَ شعبك. قدِّم بواكير غلالك من العنب والزيت ولا تتأخرّ (أحرّ في العبريّة تعني أيضا أعطى لآخر، أي لإله غير الإله الواحد). لا تنسَ بواكير بقرك وغنمك (13: 1، 11-16). كونوا أناسًا مقدّسين لي.
(آ 23: 1-9) نجد هنا سلسلة من العبارات تبدأ بحرف النفي، على مثال الوصايا العشْر: لا تنقل خبرًا كاذبًا، لا تتبع الكثرة الى السوء؛ لا تضايق الغريب.
(آ 10-19) نجد هنا الفرائض المتعلّقة بإقامة الطقوس وشعائر العبادة: السبت، السنة السبتيّة أي تلك التي يحتفل بها المؤمنون مرّة كل سبع سنوات، والأعياد (18:34-6؛ تث 16: 1-17؛ لا 23: 1-44).
في السنة السبتيّة يترك المؤمن أرضه بورًا فلا يفلحها ولا يزرعها ولا يحصدها، لأنّ الأرض تحتاج إلى راحة، هذا هو السبب الطبيعيّ. أمّا السبب الدينيّ والإنسانيّ، فلكي يستتفيد منها البائس الذي لا أرض له، ووحش البرّ الذي يهتمّ الرب به. السنة السبتيّة هي بالنسبة إلى السنين، كيوم السبت بالنسبة إلى أيّام الأسبوع (لا 25: 1-7).
راحة السبت أمر مهمّ. يستريح ثورك وحمارك، يستريح كلّ من تسخّره سواءٌ أكان عبدًا رقيقًا أم مهجّرًا لاجئًا. يلتقي هذا النصّ ما يقوله سفر التثنية (5: 13) ، ولكنّه يلمّح الى نصّ سفر التكوين (2: 1-4) الذي يربط راحة السبت براحة الله، عندما انتهى من عمل الخلق (8:20- 11).
ونقرأ في (آ 14-19) عن الأعياد السنويّة الكبرى وكانت ثلاثة. أعياد زراعيّة يحتفل بها المؤمنون في الأوقات الكبرى من السنة: عيدُ الخبز الفطير يقع يومَ يحصدون أولى سَبَلاتِ الشعير، وعيدُ الحَصاد يقع عندما ينتهي موسم الحصاد، وعيد القِطاف يقع بعد قِطاف العنب والزيتون،. أي في أوّل الخريف.
ولكنّ هذه الأعياد الزراعيّة ستأخذ طابعًا تاريخيًّا، فيرتبط عيدُ الخبز الفطير بعيد الفصح، ويذكّر المؤمنين بالخروج من مصر (تث 16: 1-8؛ لا 23: 5-8) ويرتبط عيدُ الحَصاد (أو عيد الأسابيع السبعة التي تلي عيدَ الفطير) بعيد العنصرة (تث 16: 9-12؛ لا 23: 15 -22)، ويذكّر المؤمنين بالشريعة التي أعطيت لهم على جبل سيناء. أمّا عيد القِطاف فيرتبط بعيد المَظالّ، ويذكّر الشعب بوقت عاشوا فيه في البريّة تحت المَظالّ والخِيام (لا 23: 42-43؛ تث 16: 13-15؛ نح 8: 13-17).
في هذه الأعياد يحُجّ المؤمنون المعبدَ المقدّس، يزورون الربّ ويحضرون أمامه، كما يحضر الأميرُ الى مليكه، يحملون إليه هداياهم ويستمعون الى وصاياه.
وهكذا تنتهي كلماتُ كتاب العهد؛ أمّا الآيات اللاحقة فسنقرأ فيها وعد الله لشعبه إن حفظ هذه الوصايا، ووعيده له إن تعدّاها (تث 28: 1 ي): إذا سمعت للربِّ إلهِك تحلُّ عليك جميعُ البركات. وإن لم تسمع... فتكونُ ملعونًا في المدينة...
3- العهد قبلَ دخول كنعان (23: 20-18:24)

أولاً: قبل دخول أرض كنعان (23: 20-33)
إعتاد الكاتب أن ينهي لائحة القوانين ومجموعة الفرائض بكلمات يَعِد فيها حافظي هذه القوانين بالبركات، ويتوعّد من يرفض العمل بها. إن سلكتم بحسب رسومي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أنزلت المطر في أوانه، وأخرجتِ الأرضُ غلالَها (لا 26: 1). أمّا موضوع وعد الله في هذا النصّ فهو هديّة أرض الموعد. في هذه الحرب التي سيخوضها الشعب، سيكون الرب رفيقهم، فيعادي من يعاديهم ويخاصمُ من يخاصمهم، يحارب بنفسه معهم، فيرسل ملاكه ليُلقيَ الرعب على الأعداء، فيفتك بهم أو يطردهم. تلك هي الحرب المقدّسة التي سيتوسعّ سفرُ التثنية (20: 1 ي) في الحديث عنها، ويطبّق سفرا يشوع والقضاة بعضًا من مبادئها.
الملاك (ملاك في العبرية) هو ممثّل الله وسطَ شعبه، أو في البشر، يرسله الله إليهم ليبلّغهم كلامه. أمّا دوره هنا فدور المحامي والقائد... يحمي الشعب في طريقه، ويقوده الى غايته. هو قريب من الله وهو "يحمل " اسم الله لأنّه يدلّ على حضور الله. هذا الملاك يدخل العبرانيّين في أرض القبائل المقيمة بكنعان (الأموريّين، الحثّييّن...)، ولكنّه يطلب الى شعب الله ألاّ يسجدَ للآلهة الغريبة ولا يعبدها، أن يبيد تماثيل هذه الآلهة ويحطّمها، أن لا يقيم عَهْدًا مع سكّان تلك الأرض لئلاّ ينجرَّ الى عباداتهم.
يذكر هذا النصّ الحدود التي ستكون لبني إسرائيل: من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسّط، ومن بريّة سيناء إلى النهر، نهرِ الفُرات. هذه الحدود لم يعرفها بنو إسرائيل حتى في أيّام داود وسليمان. هي حدود مثاليّة (تث 11: 24، يش 1: 4) تدلّ على كرَم الله وسخائه من أجل شعبه.

ثانيًا: الربّ يقطع عهدًا مع شعبه (24: 1-18)
يحتلّ هذا الفصل مركِزَ الصدارة في سفر الخروج، لأنّه يشكّل خاتمة القسم المتعلّق بالعهد في سيناء، وبداية القسم المتعلّق بتنظيم شعائر العبادة في البرّية (ف 25- 31؛ 35-40). أمّا أهميّته فمرتبطةٌ بأهميّة العهد الذي أقامه الله مع شعبه بواسطة موسى عبدِه. الله وشعبه سيوافقون على العهد بينهم، ويُمْضون الاتّفاق خلال وليمة مقدّسة يحضرها موسى وشيوخُ بني إسرائيل ويشاركون فيها. سيقف الشيوخ مع موسى بحضرة الله، وهذه نعمةٌ فريدة أن يشاهدوا عرش الله في السماء. وإذ يأكلون في الوليمة المقدّسة، فهم يعلنون أنّهم يقبلون بما تفرضه عليهم الشريعةُ المكتوبة في هذا الكتاب. وهكذا يدخلون في العهد، بحيث إنّ أيَّ نَقْض للشريعة يعتبر نقضًا للعهد.
نقسم هذا الفصل الى قسمين: في القسم الأول (آ 1- 11) نقرأ خبرًا عن عهد الله مع شعبه، وفي القسم الثاني (آ 12-18) نقرأ خبرًا عن بداية وحي عظيم سينعم به موسى، عندما يقيم على الجبل أربعين يومًا وأربعين ليلةً.
(آ 24: 1-2، 9- 11) نجد هنا خبرًا بحسب التقليد اليَهْوَهيّ. دعا الله موسى وهارون، وناداب وأبيهو (إبني هارون. رج 6: 23 ؛ لا 10: 1-2) وسبعين من شيوخ بني إسرائيل، ليمثّلوا الشعب في العهد مع الربّ. هناك على الجبل شاهدوا مجد الله وسجدوا من بعيد، بينما اقترب موسى إلى قِمّة الجبل. اشترك الجميع في الطعام المقدّس، فأكلوا مع الله وشردوا.
(آ 3-8) تَروي الخبرَ ذاتَه بحسب التقليد الإلوهيميّ. نحن عند أسفل الجبل. يلقي موسى على مسامع الشعب (ثلاث كلمات: "سفر" أي كشفَ الشيء وأخبر به، "كتب "، "قرأ" ما كتبه، تلاه على مسامع الشعب) كلام الله.
يذكر النصّ "كتاب العهد"، فيُلمّح إلى الوصايا العشر، أو إلى الأحكام والفرائض اللاحقة. فالعهد يفترض وصايا يعطيها الله، فيُلْزم شعبَه بأن يحفظها ويخضع لها. وهذا الالتزام يرافقه فعلُ عبادة: بنى موسى مذبحًا من اثني عشر حجرًا على عدد أسباط بني إسرائيل، وقدّم بنفسه الذبيحة، فعاونه في تقديمها شبّانٌ من بني إسرائيل.
كانت العادة في تقدمة الذبيحة أن تُشْطَر الحيوانات شَطرين (رج تك 15: 9- 11، 17؛ ار 34: 18). يمرّ المتعاقدون بين الأشطار (من هنا نقول قطع العهد راجع "كرت " العبريّة وتقابلها في العربية قرط أي قطع الشيء قِطعًا صغارًا، وانكرت الحبل أي انقطع) فيُلزِم الواحدُ نفسَه بالآخر، وإن أخْلَف يُقطَّع مثلَ هذه الحيوانات المشطورة.
إنّ كلمات موسى (آ 8) "هوذا دمُ العهد"، هي التعبير عن معاهدة واتّفاق بين الله وشعبه، والتعبيرُ عمّا يوحّد بينهما. هذه الكلمات قالها يسوع ليلةَ العشاء السريّ، وهدفُه أن يوحّد بينه وبين المؤمنين. هذا هو دمي، دمُ العهد الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا (مت 26: 28؛ مر 14: 24؛ لو 22: 20؛ 1كور 11 :23-25). في العهد الجديد يكون دمُ المسيح أساسَ العهد الجديد الأبديّ الذي يوحِّد بين الله وبني إسرائيلَ الجديدِ أي الكنيسة.
(آ 12-18) ترجع هذه الآيات الى التقليد الإلوهيميّ، وهي تَروي كيف أنّ الله دعا موسى الى الجبل، ليعطيه الوصايا التي كتبها الربّ لتعليم الشعب. صعد موسى برفقة يشوع خادمه ومعاونه، وطلب إلى هارون وحور أن يهتمّا بالشعب ريثما يرجع. وهكذا نستعدّ في هذه الآيات لقراءة قصّة العجل الذهبي (ف 32-34) وما سيليها من أحداث.
(آ 15-18) ترجع هذه الآيات الى التقليد الكهنوتيّ، وهي تبدو كمقدّمة لما سنقرأه عن بناء المعبد وصُنع الآنية اللازمة للعبادة. صعد موسى الى الجبل فغطّى السحابُ الجبل، وحلَّ مجدُ الربّ على جبل سيناء. وفي اليوم السابع دعا الله موسى من وسَط السحاب... وبعد هذا يحدّثنا النصّ الكهنوتيّ عن كلّ ما يتعلّق بتنظيم الطقوس وشعائر العبادة التي هي دليلٌ على أنّ الشعب يحترم حضور الله وسْطَهم.

ج- أعياد بني إسرائيل
قلنا إنّ أعياد بني إسرائيل الكبرى هي ثلاثة: عيدُ الفصح، عيد العنصرة، وعيد المَظالّ.
1- عيد الفصح

في زمن يسوع كان الفصح يجمع في أورشليم المؤمنين، ليذبحوا خروف الفصح ويأكلوه، فيتذكّروا تحريرهم من العبوديّة.
في القديم كان عيد الفصح عيدًا عائليًّا يحتفلون به في ليلة بَدْر شهر السنابل (أبيب أو نيسان). يقدّمون للرب حمَلاً حَوْليًّا، أي ابنَ سنة، فيستجلبون عليهم وعلى قطيعهم بركاتِ الرب. هذا هو عيد الربيع.
هذا العيد العائليّ سيرتبط في بني إسرائيل بتحرّرهم من بلاد مصر. يتذكّرون كيف ضربَ الربّ أبكار مصر وأبقى أبكارَ شعبه. ذاك هو المعنى الجديدُ لعيد الفصح. ومع الزمن سينضمّ عيدُ الفصح إلى عيد آخَر هو عيدُ الفطير، والعيدان قريبان. الأوّل يعيّد في 14 نيسان، والثاني بين 15 و21 نيسان.
وعندما يتمّ إصلاحُ يوشيّا المبنيُّ على سفر التثنية، سيحتفل الشعب بعيد الفصح، لا في البيوت بل في الهيكل. وبعد الجلاء سيصبح عيد الفصح أهمَّ عيد عند الشعب، بحيث إنّ من يهملُ الاحتفال به يُقطعُ من شعب الله (عد 13:9)
2- عيد العنصرة

يقع هذا العيد خمسين يومًا بعد عيد الفصح. أمّا موضوعُه فهو عيدٌ زراعيّ، ثمّ تذكارٌ لعهد الربّ مع شعبه.
في هذا العيد مع عيدِ الفصح وعيدِ المَظالّ يحُجّ بنو إسرائيل هيكلَ أورشليم، المكانَ الذي اختاره الربّ ليقيم فيه اسمه.
هذا العيد هو أصلاً عيدُ الحَصاد، عيد الفرح والشكر (6:23؛ عد 28: 26 ؛ لا 16:23 ي)، وفيه يقدّمون لله بواكيرَ غلالهم (22:34).
ثم صار هذا العيد تذكارًا للعهد. لقد قطع الله عهدًا مع شعبه بعد عيد الفصح بخمسين يومًا تقريبًا (19: 1-6)، وهكذا يصبح عيدُ العنصرة عيدَ العهد، عيدَ إعطاء الشريعة على جبل سيناء.
3- عيد المَظالّ

كان الكنعانيّون يحتفلون بقِطاف العنب في الشهر السابع من السنة، يومَ دخل العبرانيّون أرض الموعد (قض 9: 25-49؛ 21: 19-23). فلم يعتِّم بنو إسرائيل أن أخذوا بهذا العيد يومَ بدأوا بامتلاك الأرض وزراعتها (23: 14-16؛ 34: 22). كانت العادة أن يُقيم المعيّدون تحتَ الخيام المصنوعة من أغصان الشجر.
ولكنّ بني إسرائيل سيغيّرون اسمَ العيد، ويتذكّرون فيه أيام إقامتهم في الصحراء تحتَ خيامٍ من وبَر المَعِز والجمال، لا تحت خيام من أغصان الشجر. وهكذا ربطوا هذا العيد بجُذورهم يومَ كانوا لا يزالون بدوًا بقيادة موسى (تث 13:16-16؛ لا 23: 41-43). وهكذا سيتخلى هذا العيدُ عن معناه المرتبط بالطبيعة ليأخذ معنًى مرتبطًا بالتاريخ. وهذا الرجوع الى البريّة سيدع المؤمنين الى تذكّر العهد مع الربّ والى تلاوة شرائعه (تث 31: 9-13). ولكنّ عيد تجديد العهد سيرتبط نهائيًّا بعيد العنصرة، تاركًا لعيد المَظالّ تذكارَ الحياةِ في البريّة مع الربّ، وهي حياة من السعادة تشبه حياةَ العَروسَين في أحلى أيّامهما، حياةٌ كان فرثا الربّ يكلّم شعبه موجّهًا الكلامَ إلى قلبه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM