الفصل الأول: مدخل عام

الفصل الأول
مدخل عام

الرسالة إلى رومة هي أهمّ رسائل مار بولس، كان لم تكن عرضاً كاملاً لتعليمه. بل هي أهمّ نصّ في العهد الجديد بعد الأناجيل. لا شكّ في أنّ فكر الرسول قد اغتنى فيما بعد وتوسّع في رسائل الأس، إلا أنه في روم قد وصل إلى درجة من العمق جعلت الشرّاح يسمّون هذه الرسالة "وصيّة بولس". قد نتشكّى بأن لا تعود هذه الرسالة إلاّ قليلاً إلى وضع جماعة رومة. فهي لا تتطرّق إلى الصعوبات الخاصة بهذه الجماعة، بل تعالج مسائل الحياة في الديانة المسيحية، بحيث لم يتجرّأ أحد بعد بولس للتصدّي لمسائل لها هذا البعد الواسع.
ونحن سنبدأ تعرّفنا إلى روم مع نظرة عامةْ إلى مكانة الرسالة في المجموعة البولسية، إلى فنّها الأدبي، إلى لغتها وأسلوبها، إلى تاريخ تفسيرها.

1- مكانة روم
حين نفتح العهد الجديد، نجد أن روم تتصدّر الرسائل البولسية. فقد جعل الجامعون رسائل بولس في ترتيب يبدأ بأطول رسالة فيصل إلى أقصر رسالة هي الرسالة إلى فيلمون. ولكن الوضع لم يكن دوماً هكذا.
إن "أبوستوليكون" مرقيون (حوالي سنة 150) الذي تضمّن فقط عشر رسائل، جعل روم في المقام الرابع بعد غل، 1 كور، 2 كور. وفي نهاية القرن الثاني، وزّع قانون موراتوري رسائل القديس بولس في مجموعتين: تلك التي تتوجّه إلى الكنائس، وتلك التي تتوجّه إلى الأفراد (لا سيما الرسائل الرعاوية). جاءت 1 كور في المقام الأول، واحتلّت روم المكان التاسع. ويتبع موراتوري كل من ترتليانس وقبريانس فيما يخصّ 1 كور وروم. ويبدو أن 1 كور قد جُعلت في رأس اللائحة لأن أول مجموعة بولسية ترتّبت في كورنتوس. ومهما يكن من أمر، فابتداء من القرن الثالث، وربّما بسبب كرامة كنيسة رومة، جُعلت روم في رأس الرسائل البولسية. يشهد على هذا الترتيب البردية 46 (تعود إلى سنة 200 تقريباً)، والمخطوط اللاتيني كلارومونتانس (القرن 5- 6)، والقديس اثناسيوس في رسالته الرعائية التي أرسلها سنة 367.
وهكذا هو الوضع اليوم في جميع النصوص القديمة منها والحديثة، حيث تبدأ روم اللائحة البولسية، وتتبعها 1 كور، 2 كور، غل...

2- الفن الأدبي في روم
أراد بعض الشرّاح أن يحددوا الفن الأدبي للرسائل البولسية، فانطلقوا من وثائق عرفها العالم الهلنستي (أي تحضر بحضارة اليونان بعد مجيء الإسكندر الكبير إلى الشرق)، وتساءلوا هل نحن أمام صحيفة أو رسالة؟ فالصحيفة هي عمل أدبي إعتنى به كاتبه من أجل نشره. أما الرسالة فكلام "عائلي" وغير معدّ للنشر. ولكن في الواقع، حتى الرسالة إلى فيلمون قد نشرت مع روم وغيرها من الرسائل.
واعتبر شرّاح آخرون انه يجب أن ننطلق من المحيط اليهودي الديني لكي نجد نصوصاً موازية للرسائل البولسية. مثلاً، الرسائل الدينية الرسمية المتبادلة بين الجماعات اليهودية ورؤسائها. في 2 مك 1: 1- 2: 18 نجد رسالة من هذا النوع وجّهها يهود فلسطين إلى إخوتهم في مصر، وحضّوهم على ممارسة الشريعة، وأكدوا لهم أنهم يصفون من أجلهم في ضيقهم. "الإخوة اليهود في أورشليم... يسلّمون على إخوتهم اليهود في مصر...". ونقرأ في إر 29: 4- 23 رسالة إرميا إلى اليهود المنفيين في بابل. "ابنوا بيوتاً واسكنوا فيها، تزوّجوا ولدوا بنين وبنات...". ظنّ المسبيون أنهم سيعودون قريباً إلى أرضهم، وجعلهم الأنبياء الكذبة يعيشون في هذا السراب. لهذا كتب إليهم إرميا بعد السبي الأول (597 ق. م.) بسنتين أو ثلاث سنين.
هذا يعني، إنطلاقاً مما ذكرنا، أنّ بولس حين كتب إلى الجماعات المسيحية، إستلهم عوائد عرفها في الأوساط اليهودية. ولكنه وعى بشكل خاص انه بهذه الطريق يقوم بدوره كرسول. هذا ما تدلّ عليه المقدّمات الإحتفالية للرسائل. "من بولس عبد يسوع المسيح ليكون رسولاً، إلى جميع أحبّاء الله الذين برومة" (روم 1: 1، 7). "من بولس المدعوّ ليكون رسولاً للمسيح يسوع ومن سستنيس الأخ إلى كنيسة الله في كورنتوس" (1 كور 1: 1). وهذه الرسائل يجب أن تُقرأ فتسمعها الجماعة كلها. قال بولس في 1 تس 5: 27: "أناشدكم بالربّ أن تُتلى هذه الرسالة على جميع الإخوة". هكذا يكون المسؤولون وسائر "القديسين" في جوّ كلمة الله كما كتبها الرسول. وتُقرأ الرسائل أيضاً في غير الجماعة التي أرسلت إليها. كتب بولس في كو 4: 16: "وبعد أن تُتلى هذه الرسالة عندكم، إعتنوا بأن تُتلى أيضاً في كنيسة لاودكية، وأن تتلوا أنتم أيضاً التي من لاودكية". هذا يدل على تبادل الرسائل بين الجماعات. وهكذا بدأت مجموعات الرسائل تتكوّن هنا وهناك. وقد نستطيع أن نشرح ما حدث لنصّ روم خلال انتقاله بين الكنائس.
تفوّقت روم على سائر رسائل بولس، فبدت مقالاً تعليمياً. ومع ذلك فهي رسالة حقيقية في المعنى الذي أشرنا إليه، أي كتاب يلعب فيه العنصر الشخصي والظرفي دوراً لا يُستهان به، ويتوجّه إلى مجموعة أناس محدّدين. غابت لفظة "برومة" من 1: 7، 15 في بعض المخطوطات (واحد يوناني، كودك اللاتينية الشعبية، أوريجانس)، ولكن هذا الغياب لا يؤثّر على أصالتها وصحة نسبتها. وقد نسب هذا الإلغاء (أُلغيت لفظة برومة) إلى مرقيون الذي أراد أن يشدّد على أن الرسالة لم تتوجّه إلى أهل رومة وحدهم، بل "إلى جميع القديسين". وبما أن روم هي وحدها بين الرسائل البولسية تمثّل هذه الشمولية، فهي قريبة جداً من الرسالة التعليمية أو ما سميناه "صحيفة". إذا كانت معرفة جماعة رومة تساعدنا بعض الشيء لكي نفهم هذه الرسالة، إلاّ أن بولس يتحدّث منطلقاً من وضعه الخاص لا من وجهة قرّائه "أحبّاء الله في رومة".

3- لغة روم وأسلوبها
حين نقرأ الأناجيل التي وصلتنا في اليونانية، نرى أنها تختلف اختلافاً كبيراً عن لغة بولس، بسبب الخلفية السامية التي فيها. لسنا هنا أمام نصّ أرامي نُقل إلى اليونانية، بل أمام لغة يونانية حقيقية بعيدة عن كل تصنّع وتكلّف، بعيدة عن كل سوقيّة في الكلام.
لا شك في أنّ هناك بعض التعابير السامية. مثلاً، يوضع الإسم موضع الصفة. يقول: جبل قدسه، بدل جبله المقدّس. وهناك الموازاة على اختلاف أنواعها، وهذا ما نكتشفه حيث نقرأ النصّ اليوناني. ونجد خاصيّة أسلوبيّة ترتبط بعض الإرتباط بالتوازي تسمّى: توسّع متقارب (مجمّع). هناك فكرة، ثم فكرتان، وثلاث فكرات أو أكثر تعود مرتين في الترتيب عينه. ففي ف 6، تتقابل آ 5، 6، 7 مع آ 8، 9، 10. "لأننا إذا كنا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بشبه قيامته، عالمين أن انساننا العتيق قد صُلب معه لكي يتلاشى جسد الخطيئة، بحيث لا نُستعبد بعد للخطيئة، لأن الذي مات قد تحرّر من الخطيئة". هذا في آ 5- 7. ونقرأ ما يقابله في 6: 8- 10: "فإن كنا قد متنا مع المسيح، نؤمن أيضاً أننا سنحيا أيضاً معه، عالمين أن المسيح، بعدما أُقيم من بين الأموات، لا يموت أيضاً. فالموت لا يسود عليه من بعد. فإنه بموته قد مات للخطيئة إلى الأبد، وبحياته يحيا لله". ونجد التقابل عينه في ف 7 بين آ 14- 15 أ وآ 15 ب، 16، 17 وبين آ 18 أ و18 ب، 19- 20. نحن هنا أمام لغة شفهية فيها التكرار لا أمام لغة أدبية. فبولس يملي رسائله إملاء.
بولس هو كاتمة كبير. ولكن بلاغته تنبع كلها من حبّه الحار للمسيح ومن غيرته الرسولية. وهذه العواطف جعلته يجد من وقت إلى آخر لهجة ونبرة صوت لا تُقلّد.
قد يقسو بعض الشرّاح على أسلوب بولس وما فيه من استرخاء وتباعد. ولكنهم لا يقدرون إلاّ أن يُثنوا على جمال بعض المقاطع التي أعادت إلى اللغة اليونانية قوة داخلية وحماساً خسرتهما منذ زمان بعيد. مثلاً، 8: 31- 39: "وماذا نزيد على ذلك؟ إذا كان الله لنا فمن علينا؟ هو الذي لم يشفق على ابنه الخاصّ، بل أسلمه عنا جميعاً، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء..." (رج 1 كور 13 ونشيد المحبة).
هل تأثَّر بولس بجوّ الجدال الذي عرفه الرواقيون والكلبيون في العالم اليوناني، هذا الجوّ الذي هو بين المقالة والحوار؟ لا شكّ بذلك. وهذا التأثّر قد ساعد الرسول على توضيح الغنى الروحي في المسيحية. وهكذا نرى كيف يتوسّع بولس في تفكيره المتدرّج بواسطة أسئلة تضع الحياة في عَرضه لفكره. مثلاً، في 3: 5: "ولكن، إن كان اثمنا يثبّت برّ الله، فماذا نقول؟ أفلا يكون الله ظالماً إذا ما أطلق السبيل لغضبه؟ إنما أتكلم بحسب البشر (بحسب منطق البشر)". وفي 4: 1: "ماذا نقول إذن؟ ما الذي ناله إبراهيم أبونا حسب الجسد"؟ وفي 7: 7: "فماذا نقول؟ أو يكون الناموس خطيئة" (رج 8: 31؛ 9: 14- 30)؟ كما يلجأ إلى الكلام اللاذع. حدّث اليهود قائلاً: "فلذلك لا معذرة لك أيها الإنسان الذي يدين، أيا كنت، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، بما أنك أنت الذي يدين، تفعل ذلك بعينه" (2: 1؛ رج آ 3، 17 ي؛ 9: 19- 20؛ 11: 19). في هذه الحالة يستعمل بولس الخدعة الأدبية فيجعل شخصاً من الأشخاص يتدخلّ، ليردّ عليه الرسول: "ولقد تقول: إنّ بعض الفروع قد نُزعت لأطعّم أنا! حسن! ولكنها لعدم الإيمان قد نُزعت، وأنت بالإيمان قد ثبتَّ. فلا تستكبر إذن، بل خف" (11: 19- 20).

4- تاريخ تفسير روم
كان للرسالة إلى رومة كما لسائر الرسائل البولسية، تأثير محدود على القرنين الأولين في المسيحية التي سيطر عليها تعليم يسوع، لا سيّما كما برز في إنجيل متى، الذي اعتبر منذ البداية إنجيل الكنيسة. قد يرد إسم بولس في الوثائق القديمة، ولكن مع التشديد على حياة أخلاقية تتوافق مع الديانة الجديدة التي ننتمي إليها. ولكن جاء الشرّاح الكبار أمثال أوريجانس الذي فسّر روم في عشر كتب (أي 455 صفحة في ترجمة روفينوس اللاتينية)، ويوحنا فم الذهب الذي ألقى 32 عظة عن روم (أي 301 من الصفحات) وأوغسطينس، فصار اللاهوت البولي بعدهم تقليدياً في الكنيسة.
عرفت الكنائس اليونانية واللاتينية والسريانية روم وفسّرتها من افرام إلى يوحنا الدمشقي في الشرق، وحتى بريماسيوس في الغرب. أما أوغسطينس فلم يفسّر إلا بعض المقاطع (ما يوازي 40 صفحة). ولكنه اكتنز التعليم البولسي اكتنازاً تاماً. وخبرة ارتداده الخاصّ جعلته يتعلّق بحماس بفكرة بولس حول مجانية الخلاص المطلقة. وهكذا أثّر، شأنه شأن بيلاجيوس والإمبروسياستر، على التفسير في القرون الوسطى في أوروبا. عرف الغرب توما الاكويني والعالم السرياني إيشوعداد المروزي وديونيسيوس الصليبي...
في زمن الإصلاح الأوروبي لعبت روم دوراً رئيسياً. ففي سنة 1515- 1516، وقبل قضيّة الغفرانات، وساعة كان لوثر بعد كاثوليكياً، كتب تفسيراً شكّل حدثاً هاماً في تاريخ الإصلاح. ففي روم إكتشف لوثر أساس تعليمه عن التبرير بالإيمان وحده. وسنة 1516- 1517، فسّر لوثر أيضاً الرسالة إلى غلاطية. تأثّر لوثر بهاتين الرسالتين فاكتشف العمق الروحي مركّزاً تفكيره على الوجود المسيحي. إستعاد التعليم عن التبرير وحجّره في حرب برزت في تفسير ثان للرسالة إلى غلاطية حول "الإيمان العامل بالمحبة" (غل 5: 6). وهكذا عارض معارضة تامة نظرية التبرير بالأعمال التي "تلغي نعمة يسوع المسيح" كما كان يقول. واهتمّ كالفين أيضاً بالرسالة إلى رومة بعد أن فسّرها فاكتشف فيها التعليم عن اختيار الله المسبق (قضى بأن يخلص فلان، ويهلك آخر) حين قرأ 9: 17- 18: "فإن الكتاب يقول لفرعون: إني لهذا أقمتك لكي أرى فيك قدرتي، ولكي يُشاد باسمي في جميع الأرض. فهو إذن يرحم من يشاء ويقسيّ من يشاء". نشير إلى أن بولس لا يشدّد هنا على خطأ فرعون الشخصي ولا على الحكم الأبدي من قِبَل الله له. بل يؤكّد على أن موقفه المضطهد للشعب هو جزء من مخطّط الله السامي. لقد احتوى الله هذا الواقع الذي يُسأل عنه فرعون (الذي قسّى قلبه، كما قال خر 8: 28) وعناده، من أجل تحقيق وعده.
إكتشفت الكنيسة في روم قيماً مسيحية أساسية مثل مجانية الخلاص المطلقة التي كادت تنسى في زمن الفلسفية الإسمية (المفاهيم هي مجرّد أسماء). واستخلص لوثر تعليم "التبرير بالإيمان وحده" من 3: 28: "نعتقد أن الإنسان يبرّر بالإيمان بدون أعمال الناموس". يرى بولس أن الطريق الوحيد إلى رحمة الله هو الإيمان. هذا ما لا شكّ فيه. ولكن لا بدّ من تجاوب الإنسان مع نداء الله. ثم إن أعمال الناموس تشير بشكل خاص إلى ما في الناموس الموسوي حيث لا يفيد الختان ولا الغرلة ولا سائر ممارسات الشعب اليهودي، بل الإيمان العامل بالمحبة.

خاتمة
إن التأمل في روم سيبقى للمسيحيين ينبوع نار وحقّ. كم من لاهوتي انطلق منها ليصل بالتعليم المسيحي إلى نقائه الأصلي. وحين يقرأ الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس هذه الرسالة بروح الكنيسة، سيعون بشكل هي ما الذي يوحّدهم. فحين أرادوا أن يقدّموا الترجمة الفرنسية للكتاب المقدّس في إطار مسكوني، قرّروا أن يبدأوا عملهم مع روم فيصبح النصّ الذي قسم الكنيسة إلى كاثوليك وبروتستانت هو النصّ الذي يجعل الجميع يلتفّون حول كلمة الله الواحدة في كنيسة المسح الواحدة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM