الفصل السادس عشر
ألتَوَجّه الى الفقراء
في
إنجيل القديس لوقا
الاخت جهاد الأشقر
انجيل القديس لوقا هو انجيل الفقراء والبسطاء وذلك لسببين رئيسين، اولهما ان لوقا يكتب الى الوثنيين، وبتعبير آخر الى الذين لا يعرفون يسوع المسيح ولا تراث العهد القديم. وثانيهما لتركيز بشارته على هذه العلاقة الناجحة جداً بين يسوع وبين وجوه الفقراء، هذه الوجوه التي تملأ صفحات الانجيل الثالث.
لماذا هذه "الشَرَفية" للفقراء؟ من هم الفقراء؟ وكيف بُنيت العلاقة معهم وألغيت الحواجز؟ سرّ هذه العبَّارة التي نقلت المتروكين والمساكين والمعوزين والمشوهين والخاطئين الى شاطئ البشارة، سرّ هذه العبّارة هو يسوع.
يسوع جاء اليهم، تكلّم لغتهم، استعمل صُورَهم وجعل من نفسه، في سرّ صليبه، سلَّماً يَرقوَن به اليه.
هذا الموضوع الذي ندرسه اليوم: التوّجه الى الفقراء، هو مكان الوجع في بشارتنا وشهادتنا وهمسة من همسات "ما يقوله الروح للكنائس".
ندرس ما يقدّمه القديس لوقا لنقارب عيشنا الكنسي ونكتشف من جديد ان وجه الفقراء نعمة: نعمة المرآة، تعكس لنا صورتنا وتدلّنا على فقرنا وغنانا.
تندرج هذه القراءة في قسمين:
القسم الاول: وجه يسوع الغني، الفقير والداعي الى الفقر.
القسم الثاني: الفقراء. من هم؟ كيف تَعامل الرب معهم؟
خاتمة: التوّجه الى الفقراء اليوم.
القسم الاول: وجه يسوع: الفني، الفقير والداعي الى الفقر.
لما شاء يسوع المسيح، المعلّم والقدوة لإيماننا، لَمَا شاءَ بمحبته اللامحدودة لبشرّيتنا، ان يمدّ لنا يد الآب ويعطينا قوة الروح، إتخذ الفقر تعبيراً لهذا الحب. طاعتهُ للآب، وهو المساوي له في الجوهر، ومحبته له انجذبا نحو المكان الاخير، نحو الامحّاء. وكأن هذا المكان الاخير هو المرآة الصافية والعميقة التي وحدها تقدر ان تعكس هذا البهاء الذي لا يُرى، وتجُسّد هذه الطاعة والمحبة.
وهذا طبعاً يعزّي ضعفنا ويشجّعه ويعطيه اكبر قيمة، لأن هذا الضعف بالذات هو مركز التجلّي "لصورة الآب... الذي تجرّد من ذاته، واتخذ صورة العبد، وصار شبيهاً بالبشر" (فيليبي 2/ 6-7).
واختيار يسوع للفقر كتعبير لكيانه المتجسّد هو في مستوى الأساس والجوهر. من هذا المنطلق، ليس الفقر عَرَضاً أو صِفَة أو قيمة أو حتى مَسلكاً نادى به المعلّم. الفقر هو حالة، هو تجسّدٌ لَبِسَه المعلم لَمَا لبس جسدنا. فصار بالتالي جزءاً من كيانه البشري لا ينفصل عن لاهوته. الفقر نقيض الألوهة التي من فيضها يُخلق الكون. فما كان من محبة يسوع العظيمة لطبعنا، ألاّ أنه رمى بنفسه على النقيض.
وانطلاقاً من هذا الموقف الوجودي الذي اختاره الرب والمعلّم تأتي كل النتائج الاخرى: مواقفه وتعليمه ومبادرته الى لقاء الاضعف والأعزل.
نحن اذن امام وجه يسوع الفقير: هذه هي الإيقونة. وإيقونَتُه تتضاعف في ايقوناتٍ بشرية هي على شِبْهِهِ فقيرة.
يطلّ علينا وجه يسوع في انجيل القديس لوقا، بالبساطة الوديعة والقريبة من الناس، ولكنّها محمولة بضياء الالوهة المحتجب بالتواضع. منذ الآيات الاولى في تقديم الكتاب، يوضح لوقا انه يكتب عن "الكلمة" من خلال "شهود عيان" لهذه الكلمة "وعاملين لها" (1/ 2)، ويصل بسلسلة النسب ليسوع الى: ابن آدم، ابن الله (3/ 38).
فيسوع ابن الناصرة وابن مريم ويوسف وصديق الخطأة والعشارين (7/ 34)، هو نفسه السيّد الذي يأمر والرب القائم من الموت والابن الذي يشهد له الآب مراراً: "انت ابني الحبيب بك رضيت" (3/ 22). هو الغني الذي لا حدّ لغناه، والعقي المساوي للعلّي في الجوهر، ينحني ويختار المكان الاخير.
لكنّ القديس لوقا يلقي الضوء على ايقونة السيد من وجهها الآخر: وجه الانسان المتجرّد البسيط والفقير، الذي يترك نفسَه يُلمس ويقْرَب من أَي كان. هذا السر العظيم، سرّ إمّحاء اللاهوت في مسكنة الناسوت، يكتبه القديس لوقا بسلاسة تنُسينا ما كَلَّف هذا الانحناء.
وهذا، فعلاً، هدف من اهداف البشارة التي ينقلها الينا: فيكون التركيز على ردّة فعل قارئ الكلمة وسامعها، لا على فعل الرب فيٍ ذاته. والمقصود هو ردّة فعل "ثيوفيلوس" (محب الله)- لا بحثاً لاهوتيا فلسفياً في تحليل فعل الإله المتجسّد. فغاية القديس لوقا- وكل الأناجيل بوجه عام- هي العلاقة الممكن تفعيلها في قلب المُبشَّر: فيقول: انا، الفقير والخاطي، اشعر بما فعل الرب الذي يحبّني واتى اليّ وتشبّه بي ورافقني. فِعْلُه يُطاولني ويستوقفني ويغيّرني.
من هنا، نرى في فصول الانجيل الاربعة والعشرين، سهولة القُربى من هذا الرب المتجسّد. نرى ان الفقراء والبسطاء والهامشيّين والمرذولين والذين لا اسم ولا صوت لهم، يجدون في يسوع الحلقة المفقودة، لاستعادة جوهر وجودهم الذي فككّه وبعثره حُكم التصنيف.
وهذا هو سر نجاح العلاقة بين يسوع وبينهم: إن فَقْرَ يسوع وبساطته كانا لهم كالعبَّارة لهذه القفزة النوعية، فجرؤوا على سماعه وعلى تصديق ما يَعِد به.
يسوع صار فقيراً حقاً ولم يُمثل دورَ الفقير. لذلك عندما يعلّم الفقر ويضع شرعيته فإن أذنَ السامع ترى المصداقية فَتشرّع باب القلب للكلمة. وُلد فقيراً في مذود (2/ 7) ولا احد سواه عاش هذا. قُدمت عنه تقدمةُ الفقراء (2/ 24)، تَعمّد وجُرّب وصلّى مع الشعب ولم يكن له موضع يُسند اليه رأسه (9/58). رفضه اهل السامرة (9/53)، وعُومل ظلماً وحوكم كالمجرمين الذي لا يستطيعون تكليف محامٍ ولا الضغط على القضاء...
مَثَلُهُ هذا هو الأمثولة- لذلك انا اسمع عندما يتكلم، ولا يثور في داخلي ايُّ صوتٍ ضدَه، كأن اقول مثلاً: الحكي هيّن، او يا طبيب طبّب نفسك. لا شيء مما قاله يسوع عن الفقر او عن غيره لم يعشه، لم يحمل ثِقله. مصداقيته أَلغَت كل الحواجز ومهّدت كلَ الوَعر وبالتالي صالحت ارادتي مع الذي يقترحه علّي. مصداقيته تجعلنا عُزّلاً امامه وامام متطلباته الصعبة.
ماذا يطلب يسوع؟
بالأختصار: هو يطلب الجنون.
يطلب ان نترك كل شيء (14/33)، وان ندخل من الباب الضيق (13/24)، وان نبيع كل ما نملك ونوزع ثمنه على الفقراء فيكون لنا كنز في السماوات (18/ 22)، وان نذهب مثل الخراف بين الذئاب ولا كيساً ولا حذاء (10/3-4)، وان نحبّه اكثر من حبّنا حتى لنفسنا (14/ 25)،.. وان نتزِّر للخدمة (الكبير فيكم فليكن لكم خادماً).
ويطلب الاعمق: يطلب فقر القلب وليس فقط فقر الجيب. يطلب ان نحب اعداءنا ونُحسن الى مبغضينا ونبارك لاعنينا ونصلي لأجل المسيئين الينا ونعطي من يسائلنا ولا نطالب بشيء (6/27- 30). فنكون كالطفل الذي يقبل الملكوت... وطوبى للصغار:
"لا تخف ايها القطيع الصغير، فأبوكم السماوي شاء ان يُنعم عليكم بالملكوت... فحيث يكون كنزكم، يكون قلبكم". (12/ 32 و 34).
لو لم يكن يسوع هو الذي يطلب، لكانت اولى ردّات فعلنا: هذا مستحيل! هذا ضدّ الفطنة والمنطق، وهذا تهوّر... لكنّ الضمانة الوحيدة والغالية هي انه هو الذي يطلب، اذن نحن نصدّق. نحن نصدّق ونقرّر التشبّه به رغم ضعفنا وعجزنا.
ونحن نحمده لأننا شاهدنا بأم العين انطونيوس وباسيليوس، وخوري أرسي وكوتولونجو وفرنسيس وشربل ومنصور دوبول، شارل دو فوكو والام تريزا دو كلكوتا. نحمده لأننا مسنودون في مسيرتنا بهذا التجلّي البشري الذي يُوقّع كلامه بعرقه ودمه.
القسم الثاني: الفقراء. من هم؟ كيف تعامل الرب معهم؟
ان نسمي عنوان هذا الدرس للانجيل: التوّجه الى الفقراء، هذا لا يعني ابداً تفضيل الفقراء. لأن الرب لا يفضّل أحداً على أحد. وهو كالغيث الذي يسقي الارض، يسقيها كلها ولا يستثني أحداً حتى ولا الحجارة.
التوّجه الى الفقراء، نعني به شيئين:
الاول: إن الرب حصّة الضعيف والمقهور والمظلوم والفقير من غير ان يضع القوّي والغنّي جانباً. كما يعبّر عن ذلك حزقيال النبي في فصله المشهور عن الرعاة: "انا ارعى غنمي وانا اربضها، يقول السيد الرب. فاتطلّب المفقودة وأردّ الشاردة وأجبر المكسورة واقوّي الضعيفة واحفظ السمينة والقوية وارعاها بعدل" (حزقيال 34/ 15-16).
والثاني: ان الفقراء يحتاجون الى كل شيء. هم اذن في حالة انتظار وقبول. فحيث الفراغ هناك مجال لملء النعمة. وهذا الفقر بكلّ معانيه يجعل الانسان في حالة انفتاح للآتي وغير المنتظر. كأنَّ مِحوَر الذات، صار بسبب التعرّي، خارج الذات. لهذا السبب نرى الفقراء لا يخجلون من المجيء اليه وطلب رؤيته، وسماع كلمته، والتغيير الجذري بسببه.
أ- من هم الفقراء؟
لائحة طويلة، عسانا نكملها نحن اليوم...
- تبدأ بـ "شهود عيان للكلمة" "والعاملين لها" (1/ 2)،
- ويأتي وجه مريم الفقيرة الاولى والخادمة الاولى التي تدهش لمفاجآت الرب وتضع كل برامجها جانباً لتقول: "انا خادمة الرب: فليكن لي كما تقول" (1/ 38). وتقوم وتُسرع الى اليصابات لا لتقبل منها التهاني بابنها أم ربّها، بل لتخدمها (1/ 39). وتختصر موقف فقرها بنَسْبِ كل الافعال للرب: تعظّم نفسي الرب... لأنه نظر.. لأنه صنع العظائم، قدوس اسمه... اظهر شدّة ساعده، بدّد المتكبرين، أنزل الجبابرة، رفع المتضعين. أشبع الجياع، صرف الاغنياء فارغين، اعان عبده وتذكّر رحمته كما وعد... (1/46- 55).
كل الافعال هي للرب، هو المبدأ، هو المُبادر. ومريم تعتزّ انها فقط خادمة له، فقيرة امامه، إناء فارغ ينتظر الامتلاء. ونحن نباركها لأنها صارت بيت القربان الحيّ وتابوت العهد الجديد.
- وجه يوسف النجّار- بيّ العيلة- الذي يشتغل ويحبّ ويعتني بصمت وانحجاب.
- وجه الرعاة: هم اول مَن بُشِّر مباشرة مِن فم السماء. طبعاً إن الرمز الكتابي مُهمّ وهو مولد راعي الرعاة: الفقر واليقظة. "وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البّرية، يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم" (2/ 8). ما يلفت النظر في هذه الآية هو التفصيل الدقيق الذي يورده القديس لوقا: عدا كونهم رعاة: فهم في البرية، وهم يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم. هم في عدم استقرار، في ظروف صعبة، غير مضمونة، مشّرعة لكل المستجدات والعوامل. هم في أمر مُهِمّة تقول: نحن جماعة، جماعة تسهر، ولأننا بَشَر، نحن نتناوب السهر.
- ويتبع وجه سمعان، الرجل التقي المُنتظِر الخلاص، هذا الفقير الشيخ الذي رأى وفهم وتمنّى الرحيل لأن الموعود به اتى. ومعه وجه حنّة النبيّة (2/25 - 38).
- ويختم هذه اللوحةَ لحياة يسوع المستترة وجهُ يوحنا المعمدان، العظيم في مواليد النساء والذي رأى نفسه فقط صوتاً يُبشّر "بالكلمة" الحاملة المعنى، والعائش في البّرية متجرّداً فقيراً (3/ 16).
هؤلاء هم الفوج الاول في موكب الفقراء. ومع ظهور يسوع، في حياته العلنية، في مجمع الناصرة، حيث نشأ، وقراءتِه لكتاب النبي اشعيا:، فتحَ يسوع صفحة جديدة فيها البرنامج المسيحاني: "روح الرب علّي، لأنه:
مسحني لأبشرّ المساكين،
أرسلني لأشفي المنكسري القلوب،
لأنادي للأسرى بالحريّة،
وللعميان بعودة البصر اليهم،
لأحرّر المظلومين،
وأعلن الوقت الذي فيه يقبل الرب شعبه (4/ 18-19).
هذا الطرح البرنامج فجّر الأطر التقليدية وأحيا آخر نَفَس في الفتيلة فاشتعلت.
وقام المساكين والمظلومون والمنكسرو القلوب، والأسرى، والعميان، وأتوا اليه.
وبدأ موكب الفقراء يتبع يسوع، ولما ينتهِ بعد.
- "وعند غروب الشمس، جاء الناس بمرضاهم الى يسوع وكانوا مصابين بعللِ مختلفة، فوضع يديه على كل واحد منهم وشفاه" (4/ 40)َ.
- "وبينما هو في إحدى المدن إذا برجل غطّى جسده البرص، فلما رأى يسوع ارتمى على وجهه وتوسّل إليه بقوله: يا سيدي، إن أردت طهرتني. فمد يسوع يده ولمسه وقال له: أريد فاطهر" (5/ 12 -13).
- "ورأى يسوع جابياً للضرائب اسمه لاوي، جالساً في بيت الجباية. فقال له: إتبعني". ودخل بيته وأكل مع جباة الضرائب ورافق الخاطئين ودافع عنهم: "لا يحتاج الأصحاء الى طبيب بل المرضى، ما جئت لأدعو الصالحين إلى التوبة، بل الخاطئين" (5/ 31- 32).
- ولحق به زكا الغنيّ الفقير وخاطر بكل الاعتبارات من أجل رؤيته. وجاءت إليه، إلى بيت سمعان الفريسي، امرأة خاطئة "ووقفت من خلف عند قدميه وهي تبكي، وأخذت تبلّ قدميه بدموعها، وتمسحهما بشعرها وتقبّلهما، وتدهنهما بالطيب" (7/ 38).
- ورافقته بعض النساء اللواتي شفاهن من الأرواح الشريرة والأمراض ... (8/ 2).
- واستقبله رجل من المدينة فيه شياطين، وكان لا يلبس ثياباً من زمن طويل، ولا يسكن في بيت، بل بين القبور (8/ 27).
- ورحّبت به الجموع لأنهم كانوا كلّهم ينتطرونه (8/ 40).
- صرخ له الأعمى: يا يسوع ابن داود، ارحمني (38:18).
- وبَسَط أمامه الناس ثيابهم على الطريق (19/ 36).
- وحمل الصليب معه رجل اسمه سمعان (23/ 26).
- ومجّد الله، قائد الحرس، لما رآه على الصليب وقال: بالحقيقة هذا الرجل كان صالحاً (23/437).
- وعارض رأي المجلس وتصرّفه بسببه رجل تقي اسمه يوسف (23/ 51).
- وأحبّه وآمن به في آخر لحظة لصّ على الصليب (23/ 42).
نلاحظ أن الأكثرية في موكب يسوع هم من الفقراء: منهم في وضع الخدمة، والمهنة الوضيعة، والمرض على اختلاف أنواعه. هم الهامشيون واللصوص والخارجون على القانون والشرائع، بالإِضافة إلى بعض الوجوه الغنيّة مثل زكا ويوسف الرامي. بشارة يسوع طالت بنوع ملفت الجموع والبسطاء والذين لا وزن لهم في الاعتبارات البشرية.
ب- طريقة معاملة يسوع للفقراء.
1- يسوع ينزل إلى الناس، يذهب إليهم حيث هم.
يصوّر لنا القديس لوقا في ثلاث آيات ملخّص هذه الإِستراتيجية في الفصل السادس:
"ثم نزل يسوع معهم (الإِثني عشر) فوقف في مكان سهل، وهناك جمهور من تلاميذه وجمع كبيرَ من الناس من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا. جاؤوا ليسمعوه وليشفيهم من أمراضهم. وكان الذين تعذّبهم الأرواح النجسة ينالون الشفاء أيضاً. وحاول جميع الناس أن يلمسوه؛ لأن قوة كانت تخرج منه وتشفيهم كلّهم" (6/ 17- 19).
في هذه اللوحة نرى مَثَلاً عن برنامج يسوع وطريقة معاملته.
يسوع ينزل من الجبل. هو يأخذ المبادرة في تسهيل اللقاء. الناس في السهل، وهذا واقعهم أبداً، يُحبّون السهل لأنه لا يكلّف كثيرَ العناء، ولأنهم رُبما لا يُحسنون أو لا يستطيعون الصعود. فينزل المعلم، ليلاقيهم حيث هم، ليسمح لهم بالتعرّف إليه. ويكلمهم بلغتهم. وهذه الاستراتيجية اسمها يسوع: الله معنا، جاء لعندنا لأنه عارف بجبلتنا وذاكرٌ أننا تراب (مز 103).
الطوباوي أنطوان شوفرييه كان حساساً جداً لهذا الموقف الرسولي الذي يمثّل نقطة الصفر، نقطة البدء. هو يقول: الناس لا يأتون، فلنذهب نحن إليهم ونرَ حالهم وضيقهم وصعوباتهم... كما فعل المعلم: نزل ورأى عن قُرب.. رأى أمّاً أرملة تبكي وحيدها الميت فأقامه (7/ 12)، وشفى امرأة منحنية الظهر (13/ 10)، ودُهش لسخاء أرملة فقيرة وضعت في صندوق الهيكل درهمين (21/ 1- 2).
2- يسوع يكلّمهم أولاً عن الملكوت.
نرى يسوع في مواقف كثيرة لا يبدأها بالشفاء أو بإطعام الجياع إلى الخبز، بل يبدأها بالكلمة. يُشبع القلب أولاً. وهذه الأولوية التي يُعطيها يسوع للكلمة هي مدرسة لنا في التعاطي مع الفقراء. هو يعطي خبز الكلمة، خبز الروح، وهذا الشبع ينعكس تلقائيّاً بعدها على حاجات الجسد فيعطي الشفاء والطعام واللباس...
ولما اعتزل مرة بتلاميذه في بيت صيدا بعد جولة رسولية متعبة، وتبعه الناس، "استقبلهم وكفمهم على ملكوت الله، وشفى المحتاجين منهم إلى الشفاء" (9/ 11).
هذا المبدأ الذي يقدّمه يسوع، نعارضه نحن أيضاً بمبادئنا البشريّة الفَطِنة والمبنيّة على سيكولوجية علم الاجتماع. فنقول إن لا مجال لأذن الفقير أن تسمع طالما أن بطنه يشكو من الجوع أو جسمه يشكو من المرض. يسوع قدّم الإِثنين ولكنّه أعطى الأولوية للكلمة، لأن الكلمة هي الأساس، وهي التي تعلّم سُبُلَ التعاطي مع حيثيّات وآنيّات الجسد. وعندها يستيقظ في قلب الاخر الشوق إلى المطلق ويرى حقيقته والنقص الوجودي الذي يعيش فيه، (وهو لا يدري)، فتبدأ مسيرة الإِيمان والحب.
3- يسوع يترك نفسه يُقْرَب ويُلمَس.
يبدأ لوقا الفصل الخامس عشر، الذي تفرَّد في كتابته، بهذه الآية التي سبَّبت الصراع بين يسوع والفرّيسيّين: "وكان جباة الضرائب والخاطئون يدنون من يسوع ليسمعوه" (15/ 1).
هذا الفصل "الجوهرة" كما يسمّيه النقّاد، هو ردّ وتفسير لهذه الآية من خلال الخروف الضائع والدرهم المفقود والابن الضال...
موقف جديد وفريد يتّخذه يسوع تجاه الفقراء: بينما الشريعة تحذّر من هذه القُربى تحاشياً للنجاسة، فهو يَقرب الأبرص، ويترك النازفة تلمسه (8/ 44)، والخطأة والعشارين يدنون منه. يسوع يختصر المسافة ويأتي لأنه الأقوى، ويعرف أن مرضنا وشريعتنا يمنعانا من المجيء. هو لا يخاف العدوى ولا النجاسة ولا تشويه صيته وصورته، وبالتالي فقدانَ الهالة والاحترام. مع أنه يعرف حقَّ المعرفة أن دنوّه من الفقراء ودنوّهم منه سيسبّب له الموت. بتصرّفه هذا علّمنا ولا يزال أن الموت أحبّ من الكبرياء والروح الفريسية.
4- يسوع يواجه أصعب الحالات.
يخبرنا لوقا أن يسوع ذهب إلى ناحية الجراسيّين- الوثنية- مقابل شاطئ الجليل. "ولما نزل يسوع إلى البَر، استقبله رجل من المدينة فيه شياطين، وكان لا يلبس ثياباً من زمن طويل، ولا يسكن في بيت بل بين القبور" (26/8- 27). يتفرّد لوقا بإعطاء هذه التفاصيل. لقاء عنيف مع رجل كهذا. فَقَد كل معالم الإنسانية وأصبح كسكّان القبور. فما من لغة تستطيع أن تُقرّب المسافة التي تفصله عن عالم الأحياء. لا الثياب (بكل معنى الثياب)، ولا العلاقات (لا يسكن في بيت)، ولا الإيمان (فيه شياطين). ونرى أن يسوع نجح معه لأنه جرؤ على لقائه وواجهه. فالحضور هو اللغة الوحيدة المتبقيّة لهذا الفقير، كالعبّارة فوق هاوية تقول له بمجرّد وجودها: هَلمَّ اعبُر، لا تخف.
5- يسوع يعطي وقته ويغيّر برامجه محبّة بالفقراء.
نحن نرى في موكب يسوع كل الفئات من الناس: تلاميذه، معجبين به، مراقبين له ليُحرجوه ويتّهموه، وُجَهَاء، فقراء، مرضى... والموكب كبير والضجة كبيرة والاهتمامات كثيرة. فكل واحد يطلب شيئاً، وينتظر شيئاً والرب حاضر لكل أحد.
وفي قلب هذا الموقف المتشعّب الحضور نرى يسوع يُوقف الموكبَ كلّه لأجل صوت استغاثة جاءه من برتيماوس الأعمى بينما "انتهره السائرون في المقدمة ليسكت" (18/ 39). سمع يسوع الاستغاثة رغم كل الضجة، ووقف وأوقف معه الذين حاولوا تسكيت برتيماوس. أعطاه وقته وحضوره واحترامه كإنسان: "ماذا تريد أن أعمل لك"؟ مَن منا لا يعرف ماذا يبغي أعمى من ابن داود؟ لكنَّ ابن داود يحترم حرّية خلقه إلى هذه الدرجة من السموّ.
ونرى يسوع مرة أخرى ذاهباً مع يائيروس ليشفي ابنته التي أشرفت على الموت (8/ 40)، وفي الطريق، تأتي من خلفه امرأة نازفة- إذن نجسة- وتلمس طرف ثوبه وتشُفى. وإذا بيسوع يوقف الموكب ويأخذ كل وقته معها ليسأل ويستجوب ويُكْبر إيمانها. وهذا الموقف الذي أعطاه كل وقته سبّب في تأخيره عن ابنة يائيروس وموتها.
نحن نلومه من منطلقنا البشري، نقول: إنه بعثر قوّته، إنه أضاعَ وقته. فلو لم يتوقف ويأخذ كل هذا الوقت، لكان شفى الإِثنتين بدون مشاكل. وندينه أحياناً: إنه مَوَاهبيّ لا يعرف كيف ينظّم وقته. ومنطقه عالم آخر... منطقه يعطي "الآن" آفاق الأبدية، يعيش اللحظة كأنها الوحيدة المعطاة، ويتعامل مع الآخر كأنه الإِبن الوحيد.
ونراه على الصليب، رغم آلامه وقرب موتِه، يسمع صوت اللص العائد إليه ويعطيه كل الوقت الباقي وكل الحب: "ستكون اليوم معي في الفردوس" (23/ 43).
6- هدف التوجّه إلى الفقراء
الهدف هو محور كل التصرّف، كما يقول الذهبي الفم. أنتَ تصوم وتصلي؟ لماذا؟ ما هو هدف صيامك وصلاتك؟ ما هي النية التي تدفعك إلى هذا الفعل؟ ما هو الدافع الذي يحرّك فعلك؟ فإمّا أن يكون الدافع طاهراً، مُحِبّاً لله وللفقير من أجله، وإمّا أن يكون ملوّثاً له أغراض ومصالح شخصيّة صغيرة. والفقير مرآة تعكس ما تقدّمه لها. هو يعرف عمق النية وأحياناً تراه لا يقبل بالمساعدة لأنها أهانته في كرامته، أو لأنك تنوي استعماله من جملة البراهين لتُظهر برارتك. وتراه أحياناً أخرى يتغيّر جذرياً من خلال تعبير بسيط للحب لأنه رأى صفاء النيّة. يسائلنا الفقير: لماذا تحاول التقرّب مني؟ وتساعدني؟ وجوابنا هو هويّة علاقتنا به. ولنا أمثلة عديدة عن خبرات حلوة عاشتها الكنيسة مع والفقراء وخبرات أقلّ حلاوة... يسوع أحب الفقراء فِعلاً وتوجّه إليهم فعلاً، ومن أجلهم هم. غايته واضحة: أن ينهضوا ويشفوا ويحقّقوا سعادتهم. والفقراء أدركوا صفاء موقفه فتركوا مواقعهم وخوفهم ومتاريسهم وجاؤوا إليه.
يذكّرنا هذا الموقف بثعلب الكاتب الفرنسي أنطوان دو سان اكسبري الذي يشرح لأميره الصغير عُمق تصرّفه: وَقْعُ خُطى الناس يجعلني أختبئ لأني أخاف من بنادقهم، أما وَقْعُ خطاك فيُخرجني من مخبأي وأعرف أنك آت لتحبّني لا لتصطادني....
خاتمة:
في نهاية هذا الدرس لإنجيل القديس لوقا، تتبادر إلى ذهننا أسئلة عديدة نختمها بخلاصتين.
أول هذه الأسئلة: من هم الفقراء اليوم وهل عندنا فقراء؟ هل نحن فقراء؟ يقول القديس أمبروسيوس: الغنيّ يرى دائماً ما ينقصه، ويتحسّر. أما الفقير فيرى الدنيا كلها له.
نحن محاطون بموكب من الفقراء ليس فقط على المستوى المادي وحسب، فهذه الحالة هي أبسط الحالات وأسهلها حلاَّ ربما. لكنّ فقراءنا الحقيقيين هم على مستوى الشهادة والمعنى ومعرفة يسوع المسيح. عالمنا اليوم يحاول أن يستغني عن الرب ويوهم نفسه أنه غني وسعيد. عالمنا اليوم غني بقدر ما يحتاج إلى أولوية شهادة الفقر.
هو يكدّس ويفتش عن الفعالية والانتاج ويتسابق في طريق الرخاء والتسهيلات، وحاجته الأولى الساكنة في عمق كيانه هي أن يرى أناساً لا يكدّسون ولا يأخذون بمقاييس الإنتاج. يحتاج إلى أناس يعملون بأيديهم "ويغبّرون" أرجلهم ويتكلون على العناية؛ يحتاج إلى أناس يجذّفون بعكس التيار. شعبنا الشرقي مجروح في صميم وجدانه الإِيماني، تارة بسبب وضعه الكنسي المكبوت وطوراً بسبب الشك الذي تسبّبه بعض المواقف الغنية في الكنيسة. مرة لأنه لا يُعطى الطعام الذي يحقّ له- خاصة على مستوى الروح- ومرة لأن أهدافنا في معاملته ملوّثة. وفي كل المرات لأنه ينتظر منّا، من الكنيسة "الأم والمعلمة" أن تكون تلميذة عند قدمي المعلم، ساجدة وفقيرة وخادمة وشاهدة بفقرها عن مصداقية بشارتها. هذا وجه من وجوه فقرائنا اليوم.
ونحن نشكر الرب بسبب ففرائنا لأنهم نعمة، لأنهم فرصة لنا في عيش بُعدين: بُعد التشبّه بالسيد الذي أخلى ذاته، وبُعد الوقفة الضميرية التي يضطرنا الفقير إلى وقوفها. الفقير صوتٌ صارخٌ، وموقفُ مواجهة يجرّدنا من كل أجوبتنا التقريبية أمام جذرية تعرّيه.
ونصل إلى الخلاصتين:
الأولى: إن الفقر أمّ الفضائل، وليس أختها وابنتها.. هو ليس مجرد فضيلة يمكننا أن نتحلى بها من كَرَمنا أولاً. هو رحم يلد الفضائل كلها، يلد التدرّج في الحياة المسيحية. الفقر يُلغي تلقائياً الحالات المناقضة له في جوهره كالكبرياء والاكتفاء والاستقرار والبذخ والسهولة والتحدّي وكل نتائجها... ويسهّل فضائل أخرى كالتواضع والتوبة والخدمة...
من هذا المنطلق هو يولّد السلام كما عبّر عن ذلك قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: "إذا أردت السلام فبادر إلى لقاء الفقراء".
الثانية: وجه الكنيسة. وجه الكنيسة الجوهري هو وجهٌ فقير لأنها للكل كما يقول بولس الرسول "صرت كلاً للكل لأربح الكل" (1 كور 9/ 19- 22).
وصرت للفقراء فقيراً لأربح الفقراء. عندما تكون الكنيسة كنيسةَ الفقراء تكون عند ذاك قد مرّت بالموت على شبه السيد وقامت معه لتقيم معها الكل.