الفصل العشرون: البعد الكنسي في تعليم الأناجيل الازائية
 

الفصل العشرون
البعد الكنسي في تعليم الأناجيل الازائية
الأب كميل وليم سمعان

أولاً: إنجيل متّى
يقدّم إنجيل متّى نظرةً لاهوتية للتاريخ: يتدخل الله بطريقةٍ فريدة وقاطعة في تاريخ البشر في شخص يسوع، مسيحه وإبنه. ولقد أتمّ يسوع العهد بخضوعه التام لإرادة الآب وبذلك فتح الباب أمام مستقبل الكنيسة والعالم لتحقيق الوعود القديمة، وفتح باب الرجاء والأمل أمام حاضر ومستقبل البشرية كلها.
وتتشابك في إنجيل متّى مسيرة يسوع الأرضية- التي تتكشف رويداً رويداً للجموع وتكوّن رسله- مع تأسيس الكنيسة المتواصل. فالكنيسة هي الشاهد على ملكوت السموات. إنها كنيسة الرب يسوع.
ترسم خطب المسيح الكبرى ملامح الكنيسة: فهو الذي يجمعها (10: 1) ويؤسسها (16: 18) ويرسلها (28: 19- 20). إن إدراج هذه الخطب في إطار حياة يسوع العملية التاريخية يثبت أن يسوع هو قاعدة سلوك التلاميذ الوحيدة الحية.

أ- روح الجماعة:
يجب على المسيحيين أن يظهروا فرحهم. إنهم مدعوون لاكتشاف ملء المسيح الذي عاشه ونقله لهم. هذه هي رسالة التطويبات الأولى (5: 3- 10). إنها دعوة مسيرة وليست مجرد نداء بالإستسلام. ويتعلق الوعد الذي يصاحب كل واحدة منها بملكوت الله الذي بدأ بوجود يسوع (35- 10) والذي يجب أن يستمر ويكتمل نهائيا (4:5-9).
ويقوم "البر" الذي يطالب به يسوع (5: 20 و 47) في إتمام ما تقتضيه الشريعة من إقامة علاقة أخوية جديدة داخل الجماعة. ينادي يسوع بالكمال الصعب: حسن مقابلة واستقبال الآخرين والأمانة الزوجية والمغفرة والصراحة والمصارحة في الحوار وحسن معاملة المرء لمن يستغله ويسيء إليه ومحبة الأعداء. إنه يدعو للتشبّه بكمال الآب السماوي.
وأهم ما يميّز دستور الحياة هذا هو شخص يسوع وما يكشفه ويعلنه عن الله: طريقة تعامل مع أبيه، الذي يصبح أباً لنا، هي مثال لتصرفنا. ونحن لا نستطيع ذلك إلا إذا سمحت لنا به قوة الله. ولا يقلِّل هذا من مسؤوليتنا الشخصية التي على أساسها سننال جزاءنا أو عقابنا (12: 32؛ 23:7؛ 25: 40 و 45). فالآب هو مبدأ وغاية كل تصرف.
وتظل الصدقة والصلاة والصوم (6: 1- 18) التي كان يمارسها اليهود ملزمةً للمسيحيين ولكن "في الخفاء أمام الآب" وليس تظاهراً أمام الناس لنوال إستحسانهم. في هذا الإطار يضع إنجيل متّى الصلاة الربية لأنه يرى أن العلاقة الحميمة بين التلميذ والآب هي التي تقود إلى هذا البر.
ويقتضي بر الملكوت إلتزاماً حقيقيا صادقاً بخدمة الله: فإذا كانت الشركة الأخويّة تقوم على العلاقة بالآب، فإن صدقها يقاس بالأعمال. ويصبح الإنسان أمام إختيار نهائي بالتخلي عن الكنوز الخادعة (6: 19 - 21) في سبيل خدمة واثقة مجردة من أية مصلحة (25:6- 34). ويحدّد هذا الالتزامُ تجاه الله نوعيةَ السلوك المتحلي بالاحترام والصبر مع الآخرين. "فكل ما أردتم أن يفعل الناس لكم إفعلوه أنتم لهم" (7: 12). إنها القاعدة الذهبية للعلاقات الإنسانية.
ويتخذ ذلك في تعليم يسوع شكل دعوة دائمة التفوق. ولا يقوم هذا التفوق على توازنات بشرية أو حسابات العدالة الإجتماعية بقدر ما يقوم على سخاء الحب الإلهي الخلاّق. وعلى المرء الذي يريد أن يصل إلى ذلك أن يُحسن دائماً الاختيار: إن ما تتطلبه الصلاة من أعمال تكشف للإنسان عن حقيقته.

ب- الخدمة الرسولية:
إن جماعة يسوع هي جماعة ذات نشاط رسولي، لأن الرسالة هي مشاركة التلميذ في أعمال معلمه (24:10- 25). وترتبط شروط الشهادة التي يؤديها المرسلون إرتباطاً وثيقاً بتعليم التطويبات: يجب على التلميذ أن يتألم مثل معلمه. ولكن يسوع يعد بأن يرسل روحه ليشدّد من عزائم المضطهَدين (10: 20 قارن 28:12). والمرسل هو رسول سلام، ولكن رسالته ستُقابَل بالمعارضة والرفض. إن الحروب التي تواجه الأخوة باسم المسيح وبسببه (10: 35- 36) تُعلن وتَقود الى سلام أسمى يتحقق بالآلام خلال تاريخ الصراع والمواجهة بين الحريات البشرية (24: 8).

ج- التمييز والنمو الروحي:
ويُجلي حديث يسوع بالأمثال (فصل 13) عن قلب المستمع كل غموض وذلك بمجرد قبوله الرسالة كما يوضح مثل الزارع (13: 3- 9 و 18- 23)0 إن المثل هر إعلان واضح للمستمع. وهذا هو ما يجذب الجموع لأن تستمع للتلميذ. إن الحياة المسيحية هي المكان الذي تتم فيه مُسبقاً الدينونة الأخيرة، وذلك فيما يخص الحرية الشخصية للإنسان.

د- الخدمة الراعوية:
إن علامة التعرف إلى الجماعة المسيحية هي مدى اهتمامها "بالصغار" ليس كفئة اجتماعية فحسب بل في فرادتهم الشخصية أيضاً. وذلك لأن كلا منهم هو التجسيد الحي والملموس لوجود يسوع "في وسطهم" (18: 5 و 20). وهؤلاء الصغار هم الأطفال (18: 2- 5) والخطأة الضعاف. فقبول هؤلاء الأطفال هو شرط لدخول ملكوت السموات اي الإشتراك في الحياة المسيحية. ويتطلب مثل هذا التصرف توبة باطنية وتواضعاً عميقاً وقرارات شجاعة ومسؤولية خاصة تجاه الضالين.
إن الإهتمام المتبادل بالإخوة يستمر: فالصبر والرحمة هما القانون. فلا يجب التسرع بتوقيع الحرم أو القطع من الجماعة على من يرتكب ذنباً أو خطأً، بل يجب تقديم الدليل على أن الجماعة هي شاهد ودليل وخادمة الصفح الإلهي (18: 18): ولا يجب إكراه المخطئ العنيد على التوبة إنما يجب أن يعهد به للنعمة الإلهية. لأن الرحمة اللامحدودة (18: 22) هي الأساس الحقيقي للجماعة: فكما تنال الجماعة مغفرة الله مجاناً، عليها أن تُظهر أنها قادرة على إفاضتها على الإخوة.
يقوم جوهر الخدمة الراعوية في كنيسة يسوع في هذا: الجميع مدعوون- كخطأة تائبين نالوا المغفرة وفي نفس الوقت كحراس ومؤتمنين على الرحمة الإلهية- لإتباع المعلم باهتمام شديد مليء بالعطف على الجميع وخاصة على الصغار.

هـ- الشرط الأساسي:
يُعَد الحديث عن "مجيء ابن الإنسان" (فصلا 24- 25 يضاف إليهما توبيخ ودينونة يسوع في فصل 23) نوعاً من الكشف: لقد بدأت دينونة الله للعالم وتصل إلى قمتها في موت وقيامة يسوع. لم يفضح متّى رياء وعمى الكتبة والفريسيين وحسب، إنما أيضاً قادة الجماعة المسيحية الأولى. فيجب على الجماعة المسيحية أن تتحاشى إنحرافات الفريسيين. ويرد المضمون الإيجابي لهذا التوبيخ في حديث يسوع على الجبل في شكل إعلان وتعليم. أما هنا فنجد حكماً ودينونة تتناسب شدتهما مع إحترام يسوع للكتاب المقدس (38:23- 39) = (ار 22: 5 ومز 118: 26).
ويتبع متّى في ذلك التقليد الرؤيوي اليهودي وخاصة رؤية أخنوخ. فيرى في يسوع محقّق رؤية دانيال "شبه ابن الإنسان آتياً على سحاب السموات" (دا 7: 13- 14). إنه الوحيد الذي يتكلّم عن المجيء الثاني ليسوع. وهذا المجيء هو حكم الخلاص الذي يدعو الإنسان إلى الإلتزام العملي. فموت وقيامة يسوع يدخلان ملكوت السموات مرحلته الأخيرة، أي زمن حكم وسيادة ابن الإنسان. وآخر مراحل ملكوت السموات هي دخول البشرية في ملكوت الآب.
يعود ابن الإنسان إلى هذا العالم وتتعرّض وحدة الجماعة لعدة تهديدات: مسحاء كذبة، أخبار مؤسفة، شكوك، خيانات، أنبياء كذبة وإزدياد الإثم. وتتخلّل هذه التهديدات جميع مراحل حياة الكنيسة. ويتطلب هذا ثباتاً في التجربة ومواصلة إعلان الخبر السار. إن يسوع القائم من بين الأموات يعطي معنى وقيمة لوجود الإنسان ويجمع الشعوب ويفتتح الخليقة الجديدة.
يتم مجيء ابن الإنسان في التاريخ (24: 42 و 46). ولذلك يصبح السهر العلامة المميزة للذين ينتظرونه، وأساس الجديّة التامة في الإضطلاع بمسؤولياتنا وتغذية حبنا وأستثمار الوزنات التي نلناها. ولقد ركَّز مثل العذارى والعبيد الذين أُعطوا الوزنات (فصل 25) على هذه المفاهيم. وتتعلق هذه المفاهيم بزمن الكنيسة، الزمن الذي يعود فيه يسوع الذي عهد للبشر بمواصلة رسالته. لقد كان متّى مدركاً لأخطار التراخي في انتظار مجيء المسيح. إنه يريد أن يحذّر المؤمنين مسبقاً من التخاذل واليأس والإهمال والفتور والنوم.
إن الإختبار الحاسم- في الإنتماء لملكوت الله- هو ممارسة أعمال الرحمة ليس فقط تجاه الأخوة بل تجاه جميع البشر الذين يتعرضون للصعوبات.

و- اسرائيل والكنيسة والملكوت:
يختم متّى إنجيله بوصية حمل وإعلان الرسالة إلى العالم أجمع (28: 16- 20) وهي تحقيق وعد الله لإبراهيم: "بك تتبارك جميع أمم الأرض" (تك 3:12)0 أصبحت هذه الوعود بقدرة الله في متناول الجميع حتى نهاية العالم. لأن المسيح، متمّم هذا الوعد، غير خاضع للزمان ولا للمكان. فهو ابن الله المتأنّس والقادر على تحقيق هذه الوعود للجميع.
وتقوم الكنيسة- في نظر متّى- بإعلان يسوع الذي يقبل الجميع في العماد لكي يشركهم في حياة الآب والروح القدس. فكيان الكنيسة قائم على وجود المسيح سيدها (18: 2 و 20) في وسطها. وهي تتطور وتنمو عنى أمل أن تلتقي وتتحد به في ملكوت الآب. إن الإفخارستيا هي التصوير المسبق لهذا الإتحاد. وتصبح الكنيسة شعب الموعد بقدر ما تثبت أن المواعيد قد إكتملت في المسيح.
لقد كانت رسالة شعب الموعد تقوم في الإشارة لمجيء المسيح ابن داود وفي الإعداد لتجسد ابن الله. وتظل هذه الرسالة قائمة إلى أن يبلغ مجيءُ المسيح وتجسدُه غايتهما وإكتمالهما التاريخي (قارن مت 10: 23) أي إلى إنقضاء الدهور (28: 20). ولا تختلف رسالة الكنيسة عن رسالة شعب الموعد لأن خطة الله الخلاصية واحدة لا تتغيّر وتكتمل في موت يسوع وقيامته.
لقد تحقّق ملكوت السموات في المسيح ونما في البشرية؛ أي شعب اسرائيل الذي حافظ على رسالته. وهذا يذكِّر الكنيسة أنها لا تستطيع أن تسترخي في العالم كما لو كانت قد أتمت تعاليم المسيح وأصبحت تعيش التطويبات وتعيش البر الكامل. لقد أسبغ متّى على الجماعة المسيحيّة مفهوماً مثالياً. إنه لا يوحِّد بينها وبين ملكوت الله بل يدعو قرّاءه للتوبة والتوجه إلى الله الحيّ، أي إنه يدعوهم لأن يكونوا أطفالاً (18: 3- 4) ليدخلوا ملكوت السموات ويدعوهم لإكتشاف ضعف إيمان الكنيسة الذي يكتمل فقط بالإعتماد التام على المسيح.

ثانياً: انجيل مرقس:
نشأ إنجيل مرقس في حضن الكنيسة. لقد أعلنت بعض المجموعات المسيحية إيمانها الجديد ورغبتها في إتباع يسوع. ويقوم مرقس بجمع تقاليد هذه الجماعات. وقد عاش مرقس نفسه في إحداها وشاركها أفراحها وآلامها وآمالها. ويُظهر نصُّ مرقس بعضَ هذه المظاهر الغنية، فيدل كم تتفاعل كل جماعة مع الظروف الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسية والثقافية التي تحيط بها.

أ- دعوة الجماعة للإعتراف بيسوع:
إن ما يحيي الجماعة ويوحّدها هو البحث المستمر عن يسوع. وتجد الجماعة هويتها باكتشاف ماهية يسوع. ولذلك فإن "عدم فهم التلاميذ" يمثّل إحدى الصعوبات التي واجهتهم. فالتلمذة تعني إتباع يسوع بالرغم من كل الصعوبات بالاعتماد على بعض العوامل المساعدة التي تضيء الطريق. وتقدّم الجماعة بعض الوسائل التي فيها يتمّ هذا "التعرف" نذكر اثنتين منها:
1- العبادة: لقد نشأت قصص تكثير الخبز في حضن جماعات كانت تحتفل بالإفخارستيا. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك مفترضين أن أصل قصة آلام يسوع هو الإحتفال السنوي بالفصح بأورشليم الذي يضم ثلاثة أحداث رئيسيّة: تذكار ليلة يسوع الأخيرة، صلاة يسوع عشية الجمعة العظيمة وزيارة القبر.
كما إفترض آخرون أن إنجيل مرقس ما هو إلا نصّ تحضيري كان يُقرأ بالكامل على مسامع المعتمدين الجدد ليلة عيد الفصح. وهذا يقتضي إجتماع "الجماعة" للإحتفال بالعماد وبالدخول في الديانة المسيحيّة.
2- التعليم: الجماعة التي تحتفل هي جماعة تعلِّم. فاذا كان نص إنجيل مرقس هو نص "إعداد" فهو أيضاً كتاب تكوين المسيحي.
ولا ترقى تعاليم إنجيل مرقس في العدد إلى مثيلتها في إنجيلَي متّى ولوقا، ولكنها تعطي الإجابة على سؤالين اساسيين لمن يريد الدخول أو التعمق في الدين المسيحي: من هو يسوع؟ ماذا تعني الحياة المسيحية؟
ولذلك يركّز الإنجيل بطريقة خاصة على موضوع التعليم: ففيه يرد فعل "علّم" 17 مرّة (1: 21 و 22؛ 13:2؛ 4: 1 و2؛ 2:6 و6 و30 و34؛ 7:7؛ 31:8؛ 31:9؛ 10: 1؛ 71:11؛ 14:12 - 25؛ 49:14) بينما يرد هذا الفعل 14 مرّة في إنجيل متّى و 17 مرّة في إنجيل لوقا. والمقصود بلفظة "تعليم" في إنجيل مرقس هو تعليم يسوع.
كما ترد كلمة تعليم 5 مرّات في إنجيل مرقس (22:1 و 27؛ 4: 1؛ 11: 18؛ 12: 38) بينما ترد 3 مرّات في متّى ومرّة واحدة في لوقا.
وينسب مرقس لقب "معلم" إلى يسوع 12 مرّة (38:4؛ 5: 35؛ 17:9 و 38؛ 10: 17 و 20 و 35؛ 12: 14 و19 و32؛13: 1؛ 14: 14) و 12 مرّة في متّى و 17 في لوقا. بالإضافة إلى ذلك ينسب مرقس إلى يسوع لقب "رابي" (9: 5؛ 11: 21؛ 14: 45) و "رابوني" (10: 51).

ب- جماعة مرسلة لضمّ الوثنيين:
لقد عانت الجماعة المسيحيّة الأولى كثيراً من مشاكل الإنفتاح على الأمم وجمع اليهود والأمم في جماعة واحدة كما يشهد بذلك كتاب أعمال الرسل (10- 11 و 15) ورسائل بولس (غل 1-2: أف 3).
لقد حثّ مرقس جماعته، وشجَّعها على الإنفتاح على الأمم، مستنداً في ذلك إلى تصرف يسوع نفسه: فقد إجتمعت إليه جموع من كل البلاد (7:3- 8) وذهب هو نفسه إلى بلاد الوثنيين (5: 1 - 20؛ 7: 24). وأجرى معجزة تكثير الخبز لليهود (4 : 34- 44) ولغير اليهود (8: 1-10). وبين هذين الحادثين هاجم يسوع العادات اليهودية (7: 1- 23)، وقبل لا بل امتدح ايمان المرأة الكنعانية (7: 24- 30). كما أن أول من إعترف بيسوع ابن الله هو قائد المئة الروماني عندما إنشق حجاب الهيكل (38:15- 39). وهكذا يتضح أن جماعة مرقس تميل إلى المسيحيين من أصل وثني.

ج- تنظيم الجماعة:
إن سبب قيام الجماعة في إنجيل مرقس هو مساعدة المؤمنين على "التعرّف" إلى يسوع وإعلانه للذين لا يعرفونه. وتقوم الجماعة بذلك بعدة طرق: إعلان الإنجيل، تعليم المؤمنين، الإحتفال بكسر الخبز والإجتماع للصلاة. ولا تهتم الجماعة بتنظيم نفسها إهتمامها بالعمل. إلا أنه يمكن التعرّف إلى بعض الفئات البارزة في الجماعة.
1- التلاميذ: يرد ذكرهم 43 مرّة. نجهم الذين صاحبوا يسوع في رسالته على الأرض، كما أنهم المسيحيون الذين يريدون إتمام ما بدأه التلاميذ وربما هم المسيحيون المعاصرون لمرقس سواء كانوا الجماعة كلها أو المسؤولين عنها.
2- الإثنا عشر: يرد ذكرهم في إنجيل مرقس 11 مرة (3: 14 و 16؛ 4: 10؛ 7:6؛ 35:9؛ 10: 32؛ 11: 11؛ 14: 10 و17 و20 و43) بينما يرد ذكرهم 8 مرّات في إنجيل متّى و 7 مرّات في إنجيل لوقا. والإثنا عشر هم جماعة متميّزة، أقامها يسوع لتكون معه وترتكز رسالتها على رسالته ذاتها: فهو الذي أقامهم (3: 14 و 16) وأرسلهم (7: 7) ليعلموا ويشفوا من الأمراض ويطردو الشياطين ويدهنوا بالزيت (7:6- 13 و 30). ويشارك الإثنا عشر يسوع عشاءه الأخير (14: 17). وإن كان دورهم التاريخي محدوداً إلا أنه يستمر في التلاميذ (3: 14؛ 6: 30)، وهكذا تتكوّن الجماعة.
وتبرز داخل هذه الجماعة بعض الشخصيات: بطرس ويعقوب ويوحنّا (5: 37؛ 9: 2؛ 14: 33) والثلاثة يكوّنون مع أندراوس (1: 16 - 20؛ 1: 29؛ 3:13)، الأشخاص الرئيسيين الذين يصف مرقس أعمالهم وطريقة حياتهم وإنفتاحهم على الروح لقبول مساعدين آخرين (5: 18- 20 قارن 9: 38- 41). وفوق هؤلاء جميعاً نجد يسوع الذي يعطي القاعدة الذهبية: تواضع الخدمة وبذل الذات على مثال ابن الإنسان "الذي جاء ليخدم ويفدي بنفسه كثيرين" (35:9 و 37؛ 10 : 35 و 45 ).

ثالثاً: إنجيل لوقا:
لم يكن إهتمام لوقا في المكان الأول لاهوتياً. إنه إهتمام تاريخي دفاعي تضاف إليه الغيرة الرسولية والإتجاه الراعوي.
يتم ميلاد الكنيسة على مرحلتين: فهي كانت قائمة في فكر المسيح لحظة إختيار الإثني عشر. ولكنها ظهرت ككيان بعد موت المسيح وعلى ضوء القيامة وبقوة حلول الروح القدس. وليست الكنيسة خلقاً من العدم إذ إنها تقوم على بقايا شعب العهد بعد تجديده.

كيف يظهر تنظيم الكنيسة؟
يسوع هو مسيّا هذا الشعب وإلهه. ولكنه بالقيامة والصعود أصبح -مؤقتاً- غائباً عن الأرض ولذلك يتحوّل الإثنا عشر-المساعدون- إلى شهود. فهم يشهدون لصحّة تعاليمه ورسالته التي بدأت بعماده على يد يوحنا. إنهم شهود عيان وخدام الكلمة. ويتجهون بشهادتهم أولا إلى شعب الله المختار ولذلك يقيمون في أورشليم.
ولا نجد في إنجيل لوقا تعاليم عن سلطة الرسل وخلفائهم، حتى وإن تميّز الإثنا عشر- وبطرس المتحدّث بإسمهم- ببعض السلطة. فالروح القدس هو الذي يقوم بتوحيد رأي المؤمنين مع المسؤولين، إذا اقتضى الأمر إتخاذ قرار.
وتظهر من خلال إنجيل لوقا بعض الخلافات أساسها اليونانيون والفريسيون المهتدون إلى المسيحية.
ويركز لوقا على ثلاثة أمور أساسيّة:
1- تقوم السلطة في الكنيسة على الخدمة (لو 24:21- 27).
2- تحتل مصلحة الكنيسة المكانة الأولى في خيارات المؤمنين (أع 8:21- 14). فالله الغائب الحاضر يعلن للرسل والمؤمنين في حالة بحثهم كجماعة عن الخير العام في الصلاة.
3- لا يمارس الرسل سلطتهم بالإكراه إنما بالإقناع.
فلوقا لا يعارض ولا يؤيد قيام سلطة الأساقفة. فهو يذكر وجود الشيوخ في الكنيسة ولكنه لا يهتم بإبراز دور ومكانة شيوخ أورشليم (أع 11: 30). ويذكر عرضاً أن بولس أقام مسؤولين في الكنائس التي أنشأها (أع 23:14). وبولس نفسه لا يتحدّث عن الشيوخ حتى وإن كان قد أقام في كل مكان بنية إدارية. ويبدو أن هذا النظام قد تقارب مع نظام الشيوخ في الجماعات المسيحيّة من أصل يهودي في زمن لوقا. لذلك يطلق على شيوخ أفسس (أع 20: 17) إسم أساقفة (أع 28:20). إنهم رعاة القطيع المحليون. ولا يشغل هذا الأمر إهتمام لوقا لأن هدفه إرسالي أكثر ممّا هو كنسيّ: على الرسل الإهتمام بالكرازة والهداية أكثر من بناء الجماعة. يعهد برعاة العهد إلى الربّ وذلك بالصوم والصلاة. ومن الممكن إفتراض وضع اليد. فبالإضافة إلى العماد كانت توضع اليد للشفاء (أع 17:9) ولإرسال شخص في مهمة (أع 3:13).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM