الفصل السادس والعشرون الإنجيل والقرآن بطرس مراياتي

  الفصل السادس والعشرون
الإنجيل والقرآن
بطرس مراياتي
مطران حلب وتوابعها
للأرمن الكاثوليك

القسم الأول: العلاقة بين الإنجيل والقرآن.
إذا قرأت القرآن تجد فيه كلمة "إنجيل" إثنتي عشرة مرة في ست سور:
- "وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى الناس" (3 آل عمران 3).
- "ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (3 آل عمران 48).
- "يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بعده أفلا تعقلون" (3 آل عمران 65).
- "وقفينا على إثرهم بعيسى إبن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور" (5 المائدة 46).
- "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومز لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" (5 المائدة 47).
- "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" (5 المائدة/ 66).
- "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل اليكم من ربكم" (5 المائدة 68).
- "إذ قال الله يا عيسى إبن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلّم الناس في المهد وكهلاً وإذ علّمتك الكتابة والحكمة والتوراة والإنجيل" (5 المائدة 110).
- "الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر" (7 الأعراف 157).
- "وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله" (9 التوبة 111).
- "ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار" (48 الفتح 29).
- "وقفينا على إثرهم برسلنا، وقفّينا بعيسى إبن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعون رأفة ورحمة" (57 الحديد 27).
هذا وتجد في القرآن آيات عديدة في مختلف السور تشير إلى الإنجيل دون ذكر إسمه مباشرة. مثال على ذلك: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (2 البقرة 136).
وقد استخدم القرآن أكثر من خمسين مرة كلمة "كتاب" للدلالة على الإنجيل. "قال (عيسى): إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (19 مريم 30).
ويفسر المسلمون كلمة "إنجيل" كما يفسرها المسيحيون. فهي لفظ يوناني "ايفانغليون" معناه البشرى أو البشارة. ثم أطلقت الكلمة واستعملت للدلالة على كتاب المسيحيين المقدّس، وفي هذا المعنى وردت في القرآن لتدل على كتاب عيسى الذي أنزله الله عليه، كما أعطى موسى التوراة ومحمداً القرآن.
بعد هذه المقدمة نسعى إلى البحث عن مكانة الإنجيل في القرآن ثم نتطرق إلى موقف القرآن نفسه من الإنجيل، ومن ثمّ نعرض ملخصاً لمواقف المفسّرين المسلمين من الإنجيل، لكي نصل في نهاية القسم الأول من دراستنا إلى رسم لوحة موضوعية عن الإنجيل في عرف القرآن والمسلمين دون الدخول في بحث علمي أو نقاش ديني.

1- الإنجيل في القرآن
إليكم أهم ما يلفت إنتباه دارس الإنجيل وهو يطالع القرآن:
أ- إحتفظ القرآن بكلمة "إنجيل" بلفظها ومعناها الأجنبي اليوناني ولم يعرّبها، لأنها كانت مستعملة بشكل عام قبل نزول القرآن للدلالة على كتاب المسيحيين (دروزة القرآن ص 55).
2- جاء ذكر الإنجيل في معظم الآيات مرتبطاً بالتوراة التي تسبقه.
3- الإنجيل كما جاء ذكره في القرآن هو كتاب عيسى إبن مريم حصراً.
4- إنّ الله عز وجل هو الذي أنزل الإنجيل وفيه هدىً ونور.
5- غالباً ما يدعو القرآن اليهود والمسيحيين مجتمعين أو منفردين "بأهل الكتاب".
"لا تجادلوا أهِل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن" (29 العنكبوت 46).
6- سمّى القرآن المسيحيين خاصة بأهل الإنجيل.
7- يستخدم القرآن كلمة (الإنجيل) بصيغة المفرد ولا يذكر كلمة "أناجيل" بصيغة الجمع مطلقاً. ولا يتعرّف على سائر أسفار العهد الجديد.
8- لا يذكر القرآن الحواريين سوى خمس مرات ولا ينسب إليهم كتابة إنجيل أو أناجيل أو رسائل.
9- وردت في القرآن أسماء شخصيات إنجيلية وأسماء أشخاص من العهد القديم ذكرها الإنجيل، وأسماء مذكورة في الأناجيل المنحولة مثل:
زكريا- يحيى (يوحنّا) آل عمران (يواكيم)
مريم- عيسى- آدم- نوح
ابراهيم- اسحق- يعقوب- موسى
داوود- سليمان- الياس- يونس (يونان)- هارون- أيوب...
10- إن القرآن خصّ عناوين بعض السور بأسماء ومواضيع كتابية مثل: آل عمران- المائدة- مريم- القيامة- يونس- يوسف- إبراهيم- الأنبياء- التوبة- النور- الملك- نوح- الأعلى- الزلزلة...
11- يذكر القرآن أحداثاً إنجيلية مثل: بشارة زكريا بيحيى وبشارة مريم وميلاد عيسى وعجائب المسيح: "واتينا عيسى إبن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس" (2 البقرة 87 و 253) "وأُبرئ الأكمه والأبرص وأُحييي الموتى بإذن الله" (3 آل عمران 42- 64).
12- يتوسّع القرآن في عرض بعض الوقائع المذكورة في الأناجيل المنحولة مثل: قصة آل عمران وإمرأته (يواكيم وحنة)، وميلاد مريم البتول (إبنة عمران)، ويذكر معجزات عيسى "ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين... ورسولاً إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربّكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله... (13 آل عمران 42- 64).
13- نجد في القرآن بعض المصطلحات والتعابير الدينية المتشابهة مع النصوص الإنجيلية مثل: الملائكة- السماء- جهنم- الجحيم- الصلاة- الصدقة- الأجر- اليوم الأخير- الفصل بين الأبرار والأشرار...
14- ذكر القرآن مثلاً مأخوذاً عن الإنجيل وهو مثل حبة الخردل: "ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع" (48/ 29) ووجد الدارسون في القرآن أمثالاً وآيات أخرى متشابهة مع الإنجيل.
15- يرفض القرآن رفضاً قاطعاً المواضيع الإنجيلية المتعلقة بألوهية المسيح أو ببنوّته لله أو بصلبه.

2- موقف القرآن من الإنجيل
من يطالع القرآن يجد فيه موقفين مزدوجين:
أولاً: نلاحظ أنّ القرآن يطلب من أتباعه أن يؤمنوا بجميع الكتب التي نزلت قبله على أنبياء الله ورسله:
صحف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داوود، وإنجيل عيسى: "قل آمنّا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبّيون من ربهم لا نفرّق بين أحد ومنهم ونحن له مسلمون" (3 آل عمران 84، 2 البقرة 136 وأيضاً 2 البقرة 285 و 14 النساء 163).
ثانياً: يقابل هذا الموقف الإيجابي موقف آخر سلبي إذ إننا نقع على آيات عديدة يهاجم فيها أهل الكتاب فيقول: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" (5 المائدة 15).
وهناك آيات يوبّخ فيها اليهود والنصارى لأنهم حرّفوا وزوروا كتبهم المقدسة ملبسين الحقيقة ثوب الباطل: "لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" (2 البقرة 42 و 3 آل عمران 71).
كما أنّه يتهمهم بتحريف ألفاظ كلمات الكتاب ليوهنوا للناس أن ما يقولونه موجود حقيقة: "وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون" (3 آل عمران 78 وأيضاً 5 المائدة 14).
نكتفي بالإشارة إلى هذين الموقفين المتناقضين في القرآن وننتقل إلى موقف المسلمين من الإنجيل لنفهم أيضاً كيف يفسّرون هذا التناقض الظاهر في موقف القرآن.

3- موقف المسلمين من الإنجيل
مما لا شك فيه أن موقف المسلمين من الإنجيل لا يمكن أن يكون مخالفاً لموقف القرآن. ولكنّهم في معظم الأحيان يعتمدون على المفسرين الذين بدورهم يستندون إلى الأحاديث النبوية ومصادر أخرى لشرح هذه المواقف التي تتأرجح بين التشدّد والإعتدال، ولكنّها تلتقي في المواضيع الجوهرية.
نكتفي بعرض المبادئ دون الدخول في النقاش:
1- الإنجيل هو كتاب النصارى. ويفسّر المسلمون معنى كلمة "كتاب" شرعاً بأنه كلام من كلام الله تعالى فيه هدى ونور يوحي الله به إلى رسول من رسله ليبلّغه للناس. فكلمة كتاب تشمل إذن كل ما أوحى به الله لفظاً ومعنى وكتابة مهما اختلفت اللغات التي نزل فيها (حبنكة ج 2 صفحة 253).
2- إلاَّ أن جميع هذه الكتب كانت تستمدّ معلوماتها من نبع واحد هو الكتاب الكبير أو اللوح الكبير المحفوظ في السماء. وليس هذا اللوح المحفوظ في الحقيقة سوى القرآن ذاته: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ" (85 البروج 21- 22).
3- يميّز المسلمون بوضوح بين كتاب يسموّنه "إنجيل عيسى" والأناجيل الأربعة المتداولة في الأوساط المسيحية. فهم يؤكّدون بالإجماع أن هذا الإنجيل قد نزل على عيسى من عند الله، فهو كتاب الوحي الإلهي إذّ لا بدّ لكل مرسل أو نبيّ من كتاب: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" (2 البقرة 213).
4- ويؤكدون أيضاً أن إنجيل عيسى المذكور في القرآن، وهو الأصل الإلهي، قد ضاع وفُقد. أمّا الأناجيل المعتمدة من قبل المسيحيين فليست الإنجيل الذي يستشهد به القرآن، فهم يطالبون دائماً وتكراراً "بإنجيل عيسى". ولا يصحّ بنظرهم الإعتقاد بأي كتاب من العهدين القديم والجديد على أنه كتابٌ من عند الله أو أنه يحوي الوحي الإلهي.
5- يفهم المسلمون دعوة القرآن إلى الإيمان بالكتب التي سبقته فقط من حيث العقيدة ذاتها التي يعترف بها القرآن، وتلخص بتوحيد الله والإخلاص له وبآيات الأخلاق "فهذه الأسس لا تختلف باختلاف الرسل والأمم" (حبنكه ص 270).
6- أما سبب رفض المسلمين للأناجيل الأربعة فيستند على رأيهم بأنها غير منزلة من الله بل هي تأليف الحواريين. والحواريون هم الصالحون وأنصار المسيح ولكنّهم ليسوا من الأنبياء، لذلك فهم ليسوا بمعصومين وليسوا أيضاً رسل الرب، بل تلاميذ أرسلهم لكي يبشروا بما ورد في إنجيله. لذا فهذه الأناجيل هي عبارة عن ذكريات أو كتب تتحدث عن حياة وأعمال وتعاليم المسيح، فهي ليست سوى أعمال بشرية محضة، وليست كما يدّعي المسيحيون كتباً دوّنت بإلهام الله، ولا تحوي كل ما ورد في إنجيل عيسى.
7- كما يشكك معظم المسلمون بصحة وتاريخية الأناجيل الأربعة وخاصة إنجيل يوحنّا. وإذا اعتمدها بعضهم فما ذلك إلاّ للكشف عن الآيات التي بحسب رأيهم، تشير إلى أنّ المسيح ليس إلهاً، أو إلى أنّ الروح القدس "الفراقليط" هو محمد.
8- إن تشكيك المسلمين بالأناجيل الأربعة يستند أيضاً إلى إنقطاع التواتر بين الإنجيليين (مرقس ولوقا) والمسيح. وعلاوة على ذلك يقولون إن هذه الأناجيل ملأى بالإختلافات والتناقضات من حيث المكان والزمان ورواية الحدث الواحد وللبرهان على أقوالهم يعمدون إلى مقارنة النصوص الإنجيلية فيما بينها.
9- هذا ويتّهمون المسيحيين بأنهم حرّفوا وزوّروا وبدّلوا الكتب المقدسة كما يؤكّدون أنهم قد محوا وأخفوا وحوّروا كل ما يتعلق برسالة محمد: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا بيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" (5 المائدة 15).
ولكي تُعتبر هذه الكتب مقبولة، لا بدّ من أن تشمل نبوءة مجيء محمد المرسل إلى الناس كافة كما ذكر القرآن: "الذي تجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر". (7 الأعراف 157).
10- إنّ معظم المسلمين يثقون بإنجيل برنابا أكثر من الأناجيل الأخرى لأنه يذكر محمداً ويتماشى مع الأفكار الواردة في القراّن.
11- ولكننا نجد بعض المسلمين المعتدلين الذين قبلوا تاريخية الأناجيل واعتمدوا النصوص باحترام بالغ، ولكنّهم ظلّوا في نطاق علم التاريخ أو التأمل الشخصي، ولم يقبلوا بأنها ملهمة أو أنّها تحوي الوحي الإلهي. (أمثال عباس محمود العقاد وخالد محمد خالد).
12- إن الكتّاب الروائيين المسلمين الذين كتبوا سيرة المسيح لجأوا إلى الأناجيل المحرّفة غير القانونية أيضاً، واعتبروها على قدم المساواة مع الأناجيل القانونية. (أمثال عبد الحميد السّحار).
13- إنّ جميع المفسرين المسلمين ينتهون إلى إعتبار القرآن الكتاب الأوحد لأنه يحوي الوحي الإلهي بأجمعه الذي أعطي إلى الأنبياء لأنّ دين الله واحد، وهو يفوق جميع الكتب السابقة، لا بل ينسخها لأنه "خاتم النبوة".
14- وبالنسبة لهم يبقى القرآن الميزان الثابت والمعيار الأوحد لقبول أو رفض أي نص من الكتاب المقدّس، وإليكم القاعدة التي يتبناها المسلمون: "إنّ مضمون كل نص من نصوص كتب أهل الكتاب الحالية سواء أكانت خبراً تاريخياً أو حقيقة علمية أو حكماً شرعياً، إن صدّقه القرآن أو صدّقته السنة فهو مقبول عندنا يقيناً، وإن كذّبه القرآن أو كذّبته السنّة فهو مردود عندنا يقيناً، وإن سكت القرآن وسكتت السنّة عن تصديقه أو تكذيبه فإننا نسكت عنه، فلا نصدّق ولا نكذّب لاحتمال الصدق والكذب فيه إلاّ إذا دلّت دلائل العقل أو دلائل الواقع على تصديقه أو تكذيبه فاننا نتبع حكم هذه الدلائل من تصديق أو تكذيب" (حبنكه ص 296).

4- موقف المسيحيين
بعد أن عرضنا مواقف القرآن والمسلمين من الإنجيل، والتي تتأرجح بين التشدّد والإعتدال، نتساءل عن ردة الفعل لدى المؤمنين المسيحيين.
من البديهي أن تكون ردة الفعل في الطرف المسيحي موازية من حيث التشدّد والإعتدال. ونستطيع أن نلخص المواقف المتعلّقة بدراسة الإنجيل والقرآن في ثلاثة تيارات:
1- تيار يدافع عن صحة الإنجيل وتاريخيته، ويدحض كل الإتهامات الموجهة ضد العقائد المسيحية فمثل الثالوث الأقدس والتجسد والفداء منزّهاً إياها من الشرك، ومؤكّداً وحدانية الله، لا بل يقدم براهين من القرآن نفسه تثبت ألوهية المسيح "كلمة الله وروح منه" (راجع كتابات دره الحداد وغيره).
2- تيار يشكك في تنزيل القرآن وأصالته، فيخضعه للنقد العلمي والأدبي واللغوي والتاريخي ويدرسه في إطار البيئة التي نشأ فيها، ويبحث عن مصادره على ضوء علوم مقارنة الأديان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى القول: إن الإسلام هرطقة مسيحية أو شيعة إبراهيمية. ومنهم من توصل إلى أبعد من ذلك فرأى القس (ورقة بن نوفل) وراء النبي (محمد)، والإنجيل العبراني (وسائر الكتب الدينية السابقة) وراء القرآن العربي، والنصرانية (الأيبيونية خاصة) وراء الإسلام. (راجع كتابات الحداد وأبو موسى الحريري وغيرهم).
3- تيار معتدل يتحاشى التجريح والتحدّي فيدرس نصوص القرآن والأحاديث النبوية باحترام ويعرض العقائد الإسلامية بشكل موضوعي تاريخي دون الدخول في نقد أو نقاش، وذلك بغية التقارب والحوار الإسلامي المسيحي. (راجع كتابات يواكيم مبارك- ميشال حايك- جورج قنواتي- منير خوام- وغيرهم). هذا لا يعني أنّهم يعترفون بوحي القرآن وتنزيله.
إنطلاقاً من هذا التيار الأخير ظهرت في السنوات الأخيرة مدرستان هدفهما البحث العلمي في تفسير الإنجيل والقرآن سعياً وراء فتح أبواب جديدة للدخول في حوار بين المسلمين والمسيحيين:
1- مدرسة تفسيرية بلاغية: لا تهدُف هذه المدرسة إلى المقارنة بين معاني النصوص المتنوعة الإنجيلية والقرآنية والنبوية، بقدر ما تهدف البحث عن مقومات بلاغية وتأليفية مشتركة في نصوص تنتمي كلّها إلى تراثٍ سامي أصيل واحد على مستوى الشكل والأسلوب. وقد حمل ذلك الباحثين على الإعتقاد أن ما يجمع بين هذه النصوص (الكتاب المقدّس والحديث النبوي الشريف) العائدة إلى أزمنة مختلفة هو نوع فريد ومبتكر من البلاغة تتميز إلى حد بعيد في أنماطها وأساليب تعبيرها عن البلاغة اليونانية/ اللاتينية التي يعتمد عليها معظم البحّاثة الغربيين. (راجع دراسات أهيف سنو ونائلة فاروقي ولويس بوزيه ورولان مينية من جامعة القديس يوسف، في "المشرق"، العام 1991- صفحة 283، و"المشرق"، العام 1992- صفحة 95).
2- مدرسة تفسيرية لاهوتية: لا تهدُف هذه المدرسة أيضاً إلى المقارنة بين الإنجيل والقرآن للبحث عن التشابه والتقارب والصلات والمصادر المشتركة، وإنما تهدف من خلال دراستها للنصوص الكتابية والقرآنية (خاصة القصص وسير الأنبياء)، الى إبراز البعد اللاهوتي الذي يقودها فيميّزها ويعطي لكل كتاب لحمته الداخلية وتماسكه، مما يظهر أصالته الفريدة (راجع كتابات "أرنلذز" ودراسة أنطوان اودو حول قصة يوسف في: PROCHE ORIENT CHRETIEN, T. XXXVII, 1987, P.268
ولما كنّا نعتقد أن هذه التجربة الأخيرة هي الأنجح وأن هذا الأسلوب هو الأنجع لدراسة قصص الإنجيل والقرآن، في سياق الكلام والإطار الديني الذي وجدت فيه، فإننا نحاول تقديم دراسة تحليلية لرواية بشارة مريم، من حيث الأبعاد اللاهوتية التي تخضع لها النصوص.

القسم الثاني: رواية بشارة مريم في الانجيل والقرآن
ينفرد القديس لوقا بالحديث عن البشارة نسبةً لبقية الانجيليين (لوقا 1/ 26-38)، أما القرآن فيروي لنا بشارة مريم العذراء بيسوع (عيسى) في سورتين هما 3 آل عمران (45-49) و 19 مريم (16- 21) ويبدو أن النص الثاني أي سورة مريم المكيّة هو أقدم من الأول.

أ- تشابه واختلاف
من يقرأ النصوص لأول وهلة يجَد تشابهاً كبيراً بينها:
1- الشخصيات الاساسية في الرواية واحدة:
أ- مريم: وهي فتاة اصطفاها الله فبقيت عذراء طاهرة لم يمسها رجل. ويرجح مفسرّو الإنجيل أن يكون معنى هذا الاسم "السيدة". اما مفسرو القرآن فيقولون: معناه: "العابدة"، هذا وقد ورد اسم مريم في أحداث إنجيلية أخرى من حياة يسوع، أمّا في القرآن فلا تُذكر إلاّ في روايات طفولته.
ب- الملاك جبرائيل: وهو المرسل من قبل الله ليخاطب مريم ويبشّرها بمهمّة سامية. وقد أجمع مفسرو القرآن على أن "الملائكة" و"الروح" الذي تمثّل بشراً ما هم إلاَّ الملاك جبرائيل نفسه.
2- الرسالة التي بلغها الملاك واحدة: إنّ مريم ستكون أم المسيح عيسى وذلك بصورة عجائبية دون تدخّل البشر.
3- تسلسل الرواية واحد:
أ- ظهور الملاك: الإنجيل لا يشير إلى ظهور جسماني للملاك، أمّا في سورة مريم القرآنية فهو على شكل البشر.
ب- اضطراب مريم: في الإنجيل سبب الاضطراب يعود إلى معنى السلام والكلام، أمّا في القرآن فهو مرتبط بحضور رجلٍ غريب.
ج- الملاك يبلّغها الرسالة: ولكن يسبق ذلك في سورة مريم القرآنية أنّ الملاك يعرّف بنفسه "أنا رسول ربّك".
د- استفسار مريم البتول عن كيفية الحبل: في الإنجيل استفسار يدّل على أنّها لم تكن تعتزم الزواج وأنها نذرت البتولية "لا أعرف رجلاً". أمّا في القرآن فالاعتراض يأتي من حيث الاخلاق والشرف "لم يمسني بشر ولم أك بغيا".
هـ- الحبل المعجزة: يشدّد الإنجيل على أصل يسوع الإلهي من خلال حبله وولادته العجائبية بينما القرآن يرى في ذلك قدرة الله فقط "لنجعله آية للعالمين".
4- الاسلوب الأدبي متشابه: من حيث سرد الحدث والتعبير، إلاّ أن الإنجيل يقدّم رواية البشارة متحدثاً عن الله بصيغة الغائب وكأنّه يحكي قصة عنه. أمّا في سورة آل عمران القرانية فالله هو يملي الحدث وهو الذي يبشّر. وفي سورة مريم، بالاضافة إلى كون الله هو المتكلم "اذكرْ في الكتاب... أرسلنا.."، تجدر الاشارة الى أسلوب السجع المقفّى الرائع الذي يمتاز به النص.
5- الفن القصصي متشابه أيضاً من حيث الشخصيّات والحوار، ولكن قد يختلف النّص القرآني عن الانجيل في سياق الرواية ليصبح أكثر شبهاً مع الأناجيل المنحولة: "الرزق في الهيكل- ملاك في هيئة بشير- يكلم الناس في المهد- يخلق من الطين كهيئة الطير..." هذا وإنّ الأحاديث النبوية التي تذكر رواية البشارة هي أقرب الى الأناجيل المنحولة. ولكننا في دراستنا لن نعتمد الأناجيل المنحولة او الأحاديث النبوية، إنما نكتفي بالنصوص الإنجيلية الرسمية والآيات القرآنية. نخلص الى القول بأن الشبّه واضح بين رواية البشارة في الإنجيل والقرآن بالرغم من الاختلافات الظاهرة البسيطة. ولكن لما كان هدفنا ليس مقارنة النصوص وإنما البحث عن النظرة اللاهوتية الكامنة وراء النصوص، فإننا ننتقل الآن إلى عرض هذه المفاهيم اللاهوتية التي تُظهر الاختلاف في الرؤية الدينية الجوهرية.

ب- الأبعاد اللاهوتية:
بعد أن قرأنا النصوص في بنيتها الخارجية من حيث الرواية ومضمونها وشخصياتها وفنّها الأدبي، نحاول الآن الدخول في عمق النص محافظين على وحدته وقرائنه مع سائر النصوص، ونهدف من ذلك استنباط الفكر اللاهوتي الخاص بكل كتاب.

1- هدف البشارة
أ- في الإنجيل
إذا سألنا النص الإنجيلي عن هدف البشارة: لماذا أرسل الله الملاك جبرائيل؟
يكون الجواب: لكي يبشر مريم بمجيء المخلص. ويتضح ذلك من أسم المبشَّر به: "يسوع" أي "الله يخلّص". ويؤكّد ذلك إنجيل متّى حيث جاء فيه: "سمِّه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم". والجميع يعلم أن الإسم الذي يعطيه الله لأيّ شخص في الكتاب المقدّس له أهمية كبيرة من حيث الرسالة الموكلة إليه. هذا وإنّ الأحداث التالية في الإنجيل تثبت هذا الهدف الخلاصي من مجيء يسوع.
وإذا تابعنا السؤال وقلنا: من هو هذا المخلص المبشَّر به؟
يجيب إنجيل البشارة: هو "ابن الله العلي". ويؤكّد ذلك متّى الإنجيلي: "تلد ابناً يدعي عمانوئيل أي الله معنا". وجاء في مطلع إنجيل مرقس: "بدء بشارة يسوع المسيح ابن الله" ويقول يوحنا الرسول: "فرأينا مجده، مجد الإبن الوحيد الذي أتى من لدن الآب" (يو 1/ 14).
ولا بد من متابعة سؤال نص البشارة الإنجيلي: كيف يولد ابن الله؟
ويأتي الجواب: لكونه ابن الله فسيولد بصورة عجائبية من فتاة عذراء التي ستحبل به دون رجل وبقوّة الروح القدس. ولذلك نالت مريم حظوّةً عند الله وكانت ممتلئة نعمة.
وهكذا يتضح لنا أن هذا النص هو ملخّص لأهم العقائد المسيحية: أسرار التجسد والفداء والثالوث الأقدس.
1- سر التجسد: "فلما تمّ الزمان أرسل الله وابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة" (غل 4/ 4). "ومع أنّه في صورة الله لم يعدّ مساواته لله غنيمة بل تجرّد من ذاته وصار على مثال البشر وظهر في هيئة انسان" (فل 2/ 8). "والكلمة صار بشراً وسكن بيننا" (يو 1/ 14)
"إنّ الله بعدما كلم الآباء قديماً بالأنبياء مرات كثيرة، كلمنّا في آخر الأيام هده بأبن جعله وارثاً لكل شيء وبه أنشأ العالمين" (عبرانين 1/ 1).
2- سر الفداء: "إن الله أحب العالم حتى إنّه جاد بأبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3/ 17). "فلا خلاص بأحد غيره. لأنه ما من أسم آخر تحت السماء أطلق على أحد الناس فنالت به الخلاص" (رسلٍ 4/ 12 ، 5/ 31، 13/ 23). "إن الذي أسلمه الى الموت من أجلنا جميعاً، كيف لا يهب لنا معه كل شيء" (راجع الرسالة الى أهل روما 8/ 31 الخ).
3- سر الثالوث الأقدس: في النص الإنجيلي إشارة واضحة الى الثالوث الأقدس: الله العلي- ابن الله- الروح القدس. وهذا التأكيد هو صدى لسائر النصوص في العهد الجديد. وجاء في آخر إنجيل متّى: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم بأسم الآب والإبن والروح القدس".
ب- في القرآن
إن سألنا نصوص القرآن: لماذا أرسل الله الملاك؟
يكون الجواب لكي يبشّر مريم بغلام زكي اسمه المسيح عيسى. فهو طفلٌ ذكر، ويكون زكياً أي طاهراً من كل الذنوب وصالحاً، أو نبياً، أو نامياً على الخير، يترقّى سنة بعد سنة على الخير والصلاح، لأن كلمة "زكياً" تشمل الزيادة الحسية والمعنوية. فلا نجد في رسالة المبشَّر به ما يشير الى الخلاص، حتى إن تعريب إسم "يسوع"، "بعيسى" أفقده معناه الخلاصي.
وإذا تابعنا السؤال وقلنا: من هو هذا الغلام الذكي المسيح عيسى ابن مريم؟
فيجيب القرآن: هو "كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم." ولكن عبارة "كلمة" بنظر المفسّرين لا تعني شخصية إلهية “LOGOS” وإنما سميّ المسيح "بالكلمة" لأنه كان بكلمةٍ من الله، أي بغير واسطة أب او مادة معتادة، وهو قوله: "كن فيكون". ويؤكّدون ذلك استناداً الى الآية: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (3/ 59). "فكلمة الله" هي كلمة "كن" الخالقة والمخلوقة.
وعبارة "روح منه" لا تعني ذات الله او الروح القدس، إنما المقصود من الروح في القرآن، كما يقول المفسرون، هو إحياء أو خلق الروح فيه، أي إن الله أعطاه الروح التي هي مُلك الله والتي لا يعرف كنهها سواه وذلك ليدل أنّه خلق مباشرة بدون واسطة أب. ومن هنا استخدم القرآن عبارة "نفخنا من روحنا" للدلالة على الإحياء وإفاضة الروح. "والنفخ" يشير دوماً الى الخلق كما نفخ الله في آدم.
في هذه الحال لا نستطيع أن نسأل القرآن: كيف يولد ابن الله، فهو يعترف بألوهية "الكلمة". "الله لم يلد ولم يولد..". ولذلك نسأله: لماذا الحبل المعجز والميلاد المعجزة واصطفاء مريم وعيسى اللذين لم يمسّهما الشيطان؟ ويكون الجواب: "لنجعله آيةً للناس ورحمةً منا". ولكي "يعلّمه الكتب والحكمة والتوراة والإنجيل" "ومصدّقاً لما بين يديه .."
ومن هذه النصوص المتعلقة بالبشارة، رغم قصرها، تتضح لنا النظرة اللاهوتية من حيث التجسد والفداء والثالوث الأقدس.
1- المسلمون لا يقبلون بتجسد الله، إذ انهم يرون في ذلك مسّاً لجلال ومهابة الله. فهو يحطّ من قدره ويعارض وحدته ووحدانيته وسموّه ويُدخل في كيانه التغيير والتبديل، فالله لم يتخذ ولداً من جوهره ليكون وريثه. وهذا ما ورد أيضاً في الآيات التي تنفي امكانية وجود ولد لله في المعنى المطلق إذ ليس له حاجة: "بديع السماوات والارض أنىّ يكون له ولد ولم تكن له حاجة وخلق كل شيء وهو لكل شيء عليم". (6 الانعام 101).
2- المسلمون لا يقبلون بحقيقة الخلاص عن طريق وسيط بين الله والانسان. فقد صفح الله عن آدم بسبب توبته وأصبح آدم نبياً، وبذلك أصبح المثال الذي يجب اتباعه، فإن أخطأ الانسان فعليه بالتوبة والعودة الى خالقه أن يطلب الصفح ولن يتأخر الله عن العفو لأنه الرحمن الرحيم- فلا وجود لخطيئة موروثة لأن الله صفح عن خطيئة آدم، وانما التشديد يأتي على المسؤولية الفردية أي إن كل إنسان مسؤول عن أعماله الخاصة وهو وحده يتحمّل نتائجها. وهكذا يقوم القرآن بدور المخلّص اذ يدعو الناس الى التوبة. ومن هنا رفضهم للصلب والفداء. "الا تزر وازرة وزر أخرى وان ليس للانسان الا ما سعى" (53 النجم 38-17 الاسراء15).
3- المسلمون يرفضون رفضاً قاطعاً كل ما يوحي بحقيقة الثالوث الاقدس ولا يعطون لعبارة "كلمة منه" "وروحاً منه" أبعاد الالوهية، فهم يرفضون ألوهية المسيح وبنوّتَه لله وألوهية الروح القدس (الذي يخلطونه أحياناً مع مريم أم المسيح). ويستشهدون بهذه الآيات القرآنية: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق.. لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله واحد" (4 النساء171). "لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة وما من إله الا إله واحد" (5 المائدة 73). وكذلك قوله: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميّ إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته" (5 المائدة 116).
وخلاصة القول إنّ هدف البشارة بالذات يختلف لاهوتياً في مفهوم الإنجيل والقرآن. فحيث الإنجيل يشير الى أنّ اصطفاء مريم وعصمتها عن الخطيئة وحبلها البتولي وولادتها المعجزة هي دليل على ألوهية المسيح، كلمة الله الازلي المتجسد بفعل الروح القدس، المولود غير المخلوق لأجل خلاص البشر، نجد القرآن لا يبتغي من عرض هذه الظواهر الخارقة سوى تأكيد وحدانية الله وقدرته المطلقة ورحمته الفائقة، ويختم الرواية بدعوة الانسان على لسان عيسى الى عبادة الله: "إنّ الله ربي وربّكم فأعبدوه هذا صراط مستقيم" (19/ 36).
هذه هي أهم الخلافات في المنظور اللاهوتي لرواية البشارة التي تظهر مباشرة من خلال مقارنة النصوص، ولكننا لا نكتفي بذلك، بل سننتقل الى خلافات أخرى ليست أقل أهمية، وهي تثبت أنّ لكل من الانجيل والقرآن مفاهيمه اللاهوتية الخاصة.

2- الزمان
أ- في الانجيل
1- يبدأ إنجيل البشارة بتحديد الزمان: "في الشهر السادس" أي الشهر السادس من حبل اليصابات بيوحنا. وكأنّ الله يدخل في تاريخ البشرية في زمان معروف وتوقيت محدد.
2- ويأتي نصّ البشارة مرتبطاً بالنص الذي يسبقه عن بشارة زكريا بيوحنا، وكأنيّ به همزة وصل بين الحدث السابق والحدث الذي سيتبع أَلا وهو مولد المسيح.
3- أضف الى ذلك أنّ ورود نص البشارة في بداية انجيل لوقا له أهميته فهي جزء من تاريخ زمني متسلسل ولا يجوز ايرادها في موضع متأخر.
4- وفي نصّ البشارة نفسه يظهر بوضوح الارتباط الزمني بين الماضي والحاضر والمستقبل:
- الماضي: مريم كسائر الشعب تنتظر ما تحدّث عنه الانبياء ولأجل ذلك نالت حظوة.
- الحاضر: يبشّرها الملاك ويحل عليها الروح القدس فتحبل.
- المستقبل: تلد ابناً- سيكون عظيماً- ويوليه الرب عرش أبيه داوود ولن يكون لملكه انقضاء.
فبالنسبة لإنجيل، الزمان المحدد والمتتالي له قيمة لاهوتية نابعة من سر التجسد، فلا عجب إذا وجدنا في الإنجيل او الرسائل التعابير التالية: لما تمَّ الزمان- "وفي تلك الأيام صدر أمر من اوغسطوس قيصر" "وجرى هذا الاحصاء إذ كان قيرينوس حاكم سوريا" "ولما انقضت ثمانية أيام" "وفي اليوم الخمسين...".

ب- في القرآن
أمّا في نصوص القرآن التي تتحدث عن البشارة فإننا لا نجد ما يشير الى الزمان. وكأنّ هذا الحدث لا علاقة له بزمن محدد. وحتى السورة التي ذُكرت فيها البشارة لا تشير الى علاقة زمنية مع السور السابقة او اللاحقة. فالمهم بالنسبة للقرآن هي الحقيقة، والحقيقة ليست في حاجة الى إطار زمني معيَّن لأنّ الله لا يحدّه زمان.
وثمة دراسة لأرنلدز يبيّن فيها أنّ أداة "إذ" الزمنية في القرآن "تكثّف الزمان في لحظة، وتفجّر خارج الزمان الحقيقة الدينية البحتة التي يريد الله أن يعلّمها".
ومن هنا يتضح لنا أنّ القرآن لا يعرف لاهوت الزمان من حيث الماضي والحاضر والمستقبل في مخطط الله، وإنما الزمان فيه هو ديمومة واستمرارية، هو زمان مطلق لا حدود له، فكيف يمكن للزمان أن يحد من أبدية الله.

3- المكان
أ- في الإنجيل
إنّ حدث البشارة كما يذكر انجيل لوقا، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمكان، فقد تمّ ليس فقط في زمن محدد وإنما أيضاً في موقع جغرافي محدّد، وهي الناصرة إحدى مدن الجليل. فعندما يتجسد الله بين الناس فإنه يتكيّف مع بيئة معينة في محيط معروف.
إن للمكان قيمة ومعنى في الانجيل، لأن فيه تتحقق الوعود وفيه يتجلى تدبير الله الخلاصي.
وهذا التدبير له سلسلة من الاستعدادات والتحضيرات قام بها الانبياء في انتظار مجيء المخلص. فلا عجب إذا قرأنا في الإنجيل استشهادات كثيرة من أسفار الانبياء تؤكد أهمية المكان: "واستخبرهم أين يولد المسيح فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، فقد أوحى الى النبي فكتب: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست أصغر ولايات يهوذا فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي اسرائيل" (متّى 2/ 5) "ليتم مما قال الرب على لسان النبي: من مصر دعوت ابني" (متىّ 2/ 15)، فتم ما قال الرب على لسان النبي ارميا: "صوت سمع في الرامة بكاء ونحيب شديد" (متّى 2/ 17) "وجاء مدينة يقال لها الناصرة فسكن فيها ليتم ما قيل على لسان الانبياء، انه يدعى ناصرياً" (متّى 2/ 23) "وصعد يوسف ايضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داوود التي يقال لها بيت لحم..." (لو 2/ 4). "وُلد لكم اليوم مخلص في مدينة داوود وهو المسيح الرب" (لو 2/ 11).

ب- القرآن
أمّا في القرآن فهذه النظرة اللاهوتية للمكان لا وجود لها. وكأن أسماء الأماكن والمدن والمعطيات الجغرافية غائبة تماماً. فالأحداث قد تحصل في كلّ مكان وفي أيّ مكان.
وهذا ما نكتشفه في نص البشارة القرآني، ففي سورة آل عمران لا ذكر للمكان مطلقاً، أما في نص سورة مريم فهناك إشارة واضحة الى "مكان شرقي"، ولكنّه يبقى مبهماً وليس له أي علاقة بموطن او ببلد معيّن، بل يشير الى مكان الصلاة باتجاه الشرق، أو المحراب، أو أنّها كانت في شرقي الدار او المحراب، وحتى حدث "تمثّل الروح بشراً" يبقى غير متمثل في مكان أو بيئة معينة والسبب في ذلك واضح أيضاً لأنّ الله أكبر من أنّ يحدّه مكان.

4- النَسَب
أ- في الإنجيل
تظهر في نص البشارة الإنجيلية شخصية هامة لا وجود لها في القرآن وهي شخصية يوسف. وهو عنصر الربط مع سلالة داوود. وهذا النسب ضروري وهام في الإنجيل لتحديد مولد المسيح في إطار مخطط الله الخلاصي، فهناك أحداث وشخصيات سبقته لا بل هيأت لمجيئه. وقد بدأ متّى إنجيله بوضع نسَب يسوع واصلاً اياه بداوود عن طريق يوسف.
وفي نص البشارة أيضاً نلاحظ أهمية النسب في رسالة المسيح المنتظر: "يوليه الرب الإله عرش ابيه داوود ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر".

ب- في القرآن
امّا في نص القرآن فلا وجود لمثل هذا اللاهوت المتعلق بالنسب والانتظار، وكأن المسيح يظهر فجأة، ولا نسب له سوى أنّه خلق من الله مباشرة مثله "كمثل آدم"، يظهر دون جذور أو تحضير لدخوله في تاريخ البشرية.
لا شك في أنّ سورة آل عمران تشير إلى نَسَب عيسى ابن مريم، فهو من ذرية اصطفاها الله ومنها آل ابراهيم ونوح الى آدم: "إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران: ذريّة بعضها من بعض... إذ قالت امرأة عمران (حنة امرأة يواكيم) ربّ إني نذرت لك ما في بطني" (3 آل عمران 33) ولكن هذا النَسَب ليس له أي معنى خلاصي. فالأشخاص ليس لهم أي دور في التدبير الالهي، وإن ذُكرت اسماؤهم أو سيرتهم فما ذلك الاّ لكي يكونوا "قدوة" أو "عبرة" "لقد كان في قصصهم عبرة". (12 يوسف 111).


5- النبوءات
أ- في الانجيل
إن للنبوءات دوراً هاماً في تحضير مجيء المسيح. ونلحظ في البشارة أنّ ولادة يسوع هي تحقيق لوعد وتكميل لمشروع بدأ من زمن بعيد.
فلا نستطيع أن نفهم الآية التالية: "ويوليه الرب الاله عرش أبيه داوود ويملك على بيت يعقوب..." إلا إذا قرأناها على ضوء خطبة بطرس الاولى متحدثاً عن يسوع الى الجموع: "أيها الاخوة إنّ أبانا داوود كان نبياً فعلم أنّ الله أقسم يميناً ليقيمّن ولداً من صلبه على عرشه..." (رسل 2/ 14-36). فالأنبياء حضّروا الطريق والآتي سيكون من السلالة الملكية الداؤودية.
وإنجيل الطفولة مليء بالأشارات الى تحقيق النبوءات كما ذكرنا في حديثنا عن أهمية المكان في الاستشهادات النبوية.

ب- في القرآن
امّا في النص القرآني فليس ما يشير الى ترابط مع نبوءات سابقة، فلكلّ نبي رسالته الخاصة وشخصيته المتميّزة ولا علاقة له بمن سبقه، ربما يمكن القول إن الغلام الذكي عيسى بن مريم المبشَّر به هو ايضاً نبي من سلالة آل عمران التي ضمّت انبياء آخرين مثل زكريا ويحيى، ولكن القرآن يؤكد أنّ لا علاقة لواحد مع الآخر من حيث النبوة والرسالة. كما أنّ الانبياء الأسبقين لم يبشّروا بقدوم عيسى، بل هو يسوع ذاته قد سبق فبشّر بمجيء محمد حسب قول القرآن: "واذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله اليكم مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين" (61 الصف 6).

6- الملوكية
أ- في الإنجيل
إنّ نص البشارة الإنجيلي يشدد على فكرة الملوكية. "يوليه على عرش ابيه داوود (الملك)، ويملك على بيت يعقوب، ولن يكون لملكه نهاية".
لن نتوغل في البحث عن لاهوت الملوكية في الإنجيل، ولكننا نشير في هذه العجالة الى ذلك الخيط الرفيع الذي يربط الأحداث منذ البشارة الى مجيء المجوس الى الصليب حيث كتب "يسوع الناصري ملك اليهود".

ب- في القرآن
إن النظرة الملوكية غير واردة مطلقاً في نص البشارة القرآني. وإذا ذكر القرآن كلمة "عرش" (22 مرة) فيعني بها دوماً عرش الله، وإذا قال: مَلِك يعني بها الله. "فتعالى الله المَلِك الحقّ لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم" (23 المؤمنون 116). وإذا قال: "مُلْك"، يريد ايضاً مُلْك الله: "تبارك الذي بيده المُلْك وهو على كل شيء قدير" (67 الملك 1). وإذا جاءت كلمة "ملكوت" فيعني بها ملكوت السموات والارض وكلّها بيد الله. "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون" (36 يس 82).

7- لاهوت التاريخ
من يقول زمان ومكان ونَسَب وملكية يقول أيضاً: تاريخ. ومن يقول نبوءات وتجسد وخلاص يقول: تاريخ مقدس.
والإنجيل هو شاهدٌ لأهمّ مرحلة من مراحل هذا التاريخ ألا وهو تجسدّ الإله في التاريخ البشري ومن هنا كانت قدسية هذا التاريخ، كما عبّر عن ذلك خير تعبير بولس الرسول: "إنّ الله، بعدما كلّم آباءنا قديماً مراتٍ كثيرة بلسان الانبياء كلاماً مختلف الوسائل، كلّمنا، في هذه الأيام وهي آخر الايام، بلسان الابن الذي جعله وارثاً لكل شيء وبه أنشأ العالمين" (عبر 1/ 1).
إن نصّ البشارة يدفعنا الى قراءة التاريخ قراءة لاهوتية:
- الله يتدخل مباشرة في التاريخ: "أرسل الله ليس فقط ملاكه وإنمّا ايضاً ابنه الوحيد"
- الله يوجد أميناً لوعوده السابقة: "يوليه الاله عرش ابيه داوود"
- الله يفتح صفحةً جديدة في تاريخ البشرية: "لن يكون لملكه انقضاء"
- الله يسخّر البشر في صنع التاريخ: "ها أنا أمة الرب"
- الله يتجاوز حدود التاريخ وقوانين الطبيعة: "فما من شيء يعجز الله"
- الله سيد التاريخ: "فليكن لي بحسب قولك"
ولكن إذا كان الله سيد التاريخ، فهذا لا يعني أنه يسيّره بشكل حتمي خاصة إذا كانت الامور تتعلق بالانسان. فهو الذي قد خلق الانسان حراً وترك له مجالاً واسعاً ليلعب دوره في هذا التاريخ سلباً او ايجاباً. ومن هنا كانت حكمته تعالى أن يترك للانسان حقّ المشاركة في صنع التارخ المقدّس.
ومن خلال نص البشارة نكتشف أيضاً دور الانسان في صنع التاريخ المقدّس:
- هو الإنسان الذي يكتب التاريخ ويحكي عن تدخل الله ويخبر بمحبته الفائقة ويسرد الوقائع.
- هو الانسان (مريم) التي يدعوها الله لرسالة تاريخية ويترك لها حرية الاختيار والحوار (كيف يكون هذا)
- هو الانسان (مريم) التي تقبل وتجيب والكلمة الاخيرة لها: "فليكن لي بحسب قولك"
- الله يعطي الانسان (مريم) آيةً ليعبّر عن صدقه ويساعدها على القبول: "ها إنّ اليصابات.."
وعندما نقول: الله سيد التاريخ وأنه يتحّكم به كما يشاء، نفهم بذلك التاريخ المقدّس من حيث خلق الانسان ورعايته وخلاصه وهذا ما نسميه بمخطط الله الخلاصي، وكل تدبير من قِبله يصدر عن محبته اللامحدودة.

ب- في القرآن
إنّ القرآن لا يتجاهل التاريخ، فالبشرية من آدم الى محمد الى القيامة، وهذه النظرة القرآنية الى التاريخ الديني نظرة طويلة مستقيمة في مداها لا دائرية وهي قريبة الى النظرة المسيحية. أضف الى ذلك أن أحداث التاريخ القرآني (القصص وسير الانبياء) تسير جنباً الى جنب مع أحداث الكتاب المقدّس، وإن اختلف المصدران في تأويلهما لهذه الأحداث.
وهنا تختلف القراءة اللاهوتية للتاريخ كما يبدو جلياً في نص البشارة القرآني:
- الله يتدخل في تاريخ البشرية فقط بواسطة رسله الانبياء ليوجهوا الناس.
- لا يوجد في التاريخ القرآني تطور تقدمي او مراحل تحضيرية فهو التاريخ المطلق.
- الله خلق البشرية بآدم وجدّدها بمحمد فلا وسيط بين الله والناس.
- الله هو الذي يوّجه التاريخ لا بل يسيّره حتميّاً والكل مسلمون.
- الله يتعدى التاريخ ولا شيء يعجزه ولكنه لم ينخرط في مصير الانسانية بالشكل التجسدي.
- الله سيد التاريخ المطلق والحتمي: يقول له كن فيكون.
من هذه الرؤية اللاهوتية للتاريخ يظهر بوضوح أنّ دور الانسان فيه يقتصر على الرضوخ "والاسلام" لله. واذا اختار الله بعض الاشخاص المرسلين والانبياء فدورهم يقتصر فقط على الارشاد والتوجيه ولا يتعدى حد المثل الصالح. فليس هم الذين يشاركون في تسيير التاريخ وإنما الله وحده يصنع التاريخ. وهذه الحدود التي لا يتجاوزها الانسان نجدها في نص البشارة القرآني:
- الانسان لا يكتب التاريخ بل هو الله الذي يمليه وهو المتكلم والفاعل: "أرسلنا روحنا".
- الانسان (مريم) لا تجد نفسها أمام دعوةٍ أو أمام الاختيار: "كان أمراً مقضياً"
- الانسان (مريم) لا تجيب بل تُسلم، كل شيء مقرَّر بدون إرادتها: "إذا قضى أمراً..."
فإنما يقول له "كن فيكون" فالكلمة الأخيرة هي لله. كلمة "كن" هي من خصائص الله وليست من جواب الانسان كما وردت في الإنجيل على لسان مريم "فليكن لي".
- ليس من الضروري أن يعطي الله آيةً ليعبّر عن مصداقية البشارة. ولذلك لا نجد في نص بشارة مريم "آية" كما هو الحال في نص بشارة زكريا: "قال ربّ اجعل لي آية"، قال: "آيتك ألا تكلّم الناس ثلاث ليال سوية".
نخلص إلى القول: إنّ القراءة اللاهوتية للتاريخ في القرآن تختلف عن الإنجيل. وإذا حاول بعض المسلمين إعادة النظر في قراءة القصص الديني (راجع محمود شحرور= الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) فإنّ ذلك يبقى ضمن إطار ربط القصص القرآني مع تاريخ البشرية. وهذه القراءات المعاصرة لا تتجاوز حدود النظرة القرآنية للتاريخ من حيث العلاقة بين الله والانسان: فهي لا تعترف بوجود تطور ديني ديناميكي، ولا تقبل بإعطاء الانبياء دوراً فعالاً في تحقيق مخطط الله ولا تعطي الانسان حرية كاملة في الاختيار الروحي، كما هو شأن اللاهوت المسيحي.
واليكم ما يقول في هذا الصدد الشيخ طبّارة: "التوراة قصدت الى التاريخ، اما القرآن فلم يقصد الاَّ العظة والعبرة، وإلى البشارة والانذار، والى الهداية والارشاد) (ص 27).

الخلاصة العامة
من خلال نص واحد في الانجيل، بشارة مريم، يظهر اللاهوت المسيحي بكامله: إنّ الله دخل التاريخ بشخص ابنه يسوع المسيح "الكلمة" فتجسّد مولوداً في عذراء بواسطة الروح القدس ليخلّص البشر من خطاياهم. كما ان الله كشف بذلك عن سرّه فهو محبة في ذاته: آب وابن وروح قدس، وهو محبة تجاه الانسان. وإذا خصّ مريم بميزات فريدة وحبل معجز فما ذلك إلاّ لأنها ستكون أماً لأبنه المنتظر المسيح الإله.
هذا وإن التاريخ المقدّس والكتب الملهمة تشهد على علاقة الانسان بخالقه عبر الزمن الماضي والحاضر والمستقبل.
بالمقابل يظهر لنا لاهوت مختلف في نصوص القرآن المتعلقة ببشارة مريم: إن الله يتعدى التاريخ ويتسامى فوق البشرية فلا يمكن أن يُصبح إنساناً أو أن يلد ابناً، وليس بحاجة الى وسيط ليخلّص البشر فقد خلصهم منذ عفوه عن آدم. وإنمّا يرسل أنبياء ليبلغوا الناس ما يجب ان يفعلوه وعلى الانسان ان يؤمن ويسلم. وإذا خصّ عيسى بمولد فريد فما ذلك الا ليكون آية بينة تشير الى قدرة الخالق، ومثله كمثل آدم الذي ولد بمعجزة ليس فقط من دون أب وإنمّا ايضاً من العدم. وإذا خصّ أيضاً مريم بأسمى الامتيازات فما ذلك الا لتكون آيةً للعالمين وقدوةً لسائر المؤمنات.
قراءتان مختلفتان لرواية واحدة. وكل قراءة تكشف لنا عن نظرة لاهوتية مختلفة ومتماسكة من حيث طبيعة الله العلي القدير، ومن حيث العلاقة بين الله عز وجل والانسان، ومن حيث دور المسيح وأمّه في تاريخ البشرية.
هذا ومن خلال رواية البشارة أيضاً نكتشف اللاهوت المريمي في الإنجيل والقرآن، إذا صح التعبير.
فنجد الإنجيل والقرآن يلتقيان من حيث اصطفاء مريم وطهارتها الرفيعة وبتوليتها الفريدة وحبلها العجائبي وكونها أم المسيح عيسى "كلمة الله وروح منه". وقد سميّ عيسى ابن مريم بخلاف التسميات السامية التي تنُسب الابن الى أبيه مما يدل على ولادته المعجزة بدون تدخل رجل.
ويلتقي الانجيل بالقران الذي يرفض تأليه مريم فهي مخلوق كسائر المخلوقات.
أضف الى ذلك أنّ مكانة مريم الخاصة في القرآن دفعته الى تبرئة طهارتها ضد اتهامات اليهود "وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً" (4/156) ولا ننسى أنّ مريم هي المرأة الوحيدة التي ذُكر اسمها في كل القرآن. ولا ننكر أيضاً أنّ اسم مريم ذُكر في القرآن مراراً (34 مرة)، أي أكثر مما ذكر في الإنجيل (17 مرة). هذا والحق يقال أنّ نظرة الاسلام الى مريم وفضائلها وبراءتها من كل خطيئة ومسٍّ من الشيطان ومثالها الفريد في تاريخ البشرية، هي أفضل بكثير من موقف بعض المذاهب المسيحية او الشيع التي تدعي المسيحية.
إلاّ أن الفكر اللاهوتي الاسلامي يرفض تسمية مريم "بوالدة الاله" لأنهم لا يعترفون بدور المسيح الخلاصي. أو أن تكون "شفيعة" لأن لا شفاعة إلاّ لله وحده. وإنما يجد القرآن فيها، قدرة للمسلمات وآية للعالمين، وجاء في الحديث أنّها "سيدة نساء أهل الجنة" (الترمذي)، "وخير نساء الارض" (مسلم)، و"كمال النساء" (البخاري).

الخاتمة
لقد قمنا بمحاولة متواضعة لقراءة نموذج من النصوص المتشابهة بين الانجيل والقرآن بمنظورٍ جديد. فقد سعينا الى إبراز الابعاد اللاهوتية التي تكمن وراء النصوص المقارنة، مع المحافظة على وحدة كلّ من الكتابين وأصالتهما المتميزة وتماسكهما الداخلي، كما أشرنا الى ذلك في بداية البحث.
وهذه المحاولة هي صدى لما يقوله يواكيم مبارك في كتابه عن "الاسلام" :
"فبالرغم من أهميّة النصوص التي تؤكّد وجود صلة قرابة بين القرآن والاسفار المقدسة اليهودية والمسيحية القانونية منها وغير القانونية يجب الاعتراف بأصالة النص القرآني القاطعة التي يستحيل ارجاعها جزئياً او كلّياً الى النصوص المذكورة.
إن أوجه الشبه الكثيرة او النقاط العديدة التي تدني القرآن من الانجيل او سائر الكتب المقدسة يجب أن تفصح عن شخصية القرآن ووجهه الصحيح. فهذه محاولة صادقة يتقبلها المسلمون اما البحث عن "مصادر" القرآن فيبقى عقيماً بلا جدوى في الحوار الاسلامي المسيحي" (ص 27 و 28).
كما ان هذه المحاولة تتماشى أيضاً مع فكرة "غارديه" الصائبة: إنّه من الخطأ أن نفرض على المسلمين أن يطبّقوا أساليب التفسير المسيحي على القرآن، كما لا يصح أن يُفرض على المسيحيين تفسيرٌ إسلامي للأناجيل. وإننا لا نستطيع ان نقرأ القرآن بروح الإنجيل، ولا الإنجيل بروح القرآن، قبل أن نقرأ القرآن بروح القرآن نفسه".
علّ هذه المحاولة، بالرغم من نقائصها، تكون لبنة في بناء صرح الحوار الاسلامي- المسيحي المنشود.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM