إنجيل يوحنا: كتاب الالآم والمجد: خيانة يهوذا

خيانة يهوذا
13: 21- 30

تناول يهوذا اللقمة وخرج في الحال، وكان ليلاً.
كان لفعلة غسل الارجل ثلاثة تفاسير، يربط الواحد بالآخر. هناك إشارة إلى موت يسوع عبر هذا العمل الذي يرمز إلى عبوره في الموت. هناك تطبيق على العماد كتطهير من الخطايا ودخول في جماعة المؤمنين المدعوين لكي يتبعوا يسوع. هناك نداء لاقتداء بالمعلّم في حبه وخدمته المتواضعة للاخوة. وما يبدو مؤلماً في نظر البشر صار في نظر يسوع ينبوع سعادة للتلميذ. "إذا ما عرفتم هذا وعملتم به، فطوبى لكم" (13: 17).
وبعد الفعلة النبوية (غسل الارجل)، جاءت الكلمة النبوية حول خيانة يهوذا. "اضطرب" يسوع (آ 21) فارتبط اضطرابه بالختانة، وبسلطان الشيطان الذي تكشفه هذه الخيانة. ومشهد اضطراب التلاميذ نقرأه أيضاً لدى الازائيين. أما يوحنا فيصوّره بشكل مليء بالحياة، فيدلّ على كل شخص بمفرده: بطرس، يهوذا، التلميذ الذي يحبّه يسوع. نحن نرى هنا للمرة الأولى هذا التلميذ في إنجيل يوحنا. إنه في علاقة حميمة مع يسوع. إتكأ في حضن يسوع، على صدر يسوع.
هنا نتذكر العبارة التي تصوّر علاقة يسوع بأبيه في 1: 18: "الإبن الوحيد الذي في حضن الآب".
لاحظنا يهوذا وبطرس (13: 18) اللذين عارضا يسوع. غير أن معارضة يهوذا كانت جذرية. فهو يسير في خطّ مأساوي لم تنفع فيه كل محاولات يسوع. أما بطرس فما أراد أن يغسل له يسوع قدميه، فدلّ هكذا على رفض بأن يرافقه في الموت. وأتمّ يهوذا الكتاب "فرفع رجله" (عقبه)، أي إتخذ المبادرة فأسلمه إلى الموت.
ومرور بطرس بواسطة التلميذ الحبيب لكي يصل إلى يسوع (سله عمّن يتكلّم)، قد يدلّ على قرب التلميذ من يسوع قرباً "جغرافياً". ولكن إنجيل يوحنا يدعونا إلى قراءة رمزية: على بطرس أن يمرّ مراراً بواسطة التلميذ الحبيب (18: 15؛ 20: 3؛ 21: 7).
إن يهوذا والتلميذ الحبيب يعبّران عن موقفين متعارضين في استقبال يسوع. فالأول خانه وما تاب عن عمله، وما قال كلمة واحدة. كانت فعلة يسوع بالنسبة إليه علامة احترام ومحبة يحتفظ بها المضيف لمدعوّيه المختارين. غير أن قبول هذه الفعلة بقلب خبيث يدلّ على أن يهوذا اختار حزب إبليس لا حزب يسوع. غاض "في الليل" (آ 20) الذي تحدّث يسوع عن مجيئه: "سيأتي الليل حيث لا يستطيع أحد عملاً" (9: 4). أما التلميذ الحبيب فرافق يسوع في موته حتى النهاية. فكان صورة عن التلميذ الحقيقي (19: 26). كان بطرس بين يهوذا والتلميذ الحبيب، فخان ولكنه تاب فيما بعد.
ونبدأ بالحديث عن الفصح اليهودي الذي يبدو بشكل عشاء يشارك فيه أهل البيت. كان الفصح يذكّر اليهود بالخروج من مصر. وكانوا يحتفلون به لا كذكرى من الماضي، بل كواقع حاضر الآن. هذا ما يشهد له النص التالي: "ليحسب الانسان نفسه في كل جيل وكأنه هو بذاته قد خرج من مصر. فقد كُتب: حينئذٍ تقول لابنك: بسبب ما فعله الرب من أجلي حين خرجت من مصر". وهذا ما يدفع المؤمنين في انتظارهم لليوم الذي فيه يحرّر الله شعبه بشكل نهائي.
لم يتبدّل الفصح مدى الأجيال. وهو يتمّ في المساء خلال عشاء عائلي وبدر الربيع في تمامه. نظّفوا البيت بعناية وتخلّصوا من كل طحين فدلّوا على أنهم يريدون أن يتجدّدوا ويتنقّوا.
تتألف "الوليمة" من أطعمة لها رمزها: فالمدعوون يأكلون حمل الفصح. وهناك الأعشاب المرة التي تشير إلى الآلام التي تحمّلها الشعب في مصر. وهناك البقدونس المغمّس في المياه المالحة أو في الخلّ، وهو يذكرهم بالعرق والدموع. ومزيج من الثمار والمتبّلات يرمز إلى الطين الذي يهيّأ في الاشغال الشاقة. وبيضة مسلوقة في الرماد ترمز إلى الحداد بعد دمار الهيكل. وخبز "فطير"، خبز بدون خمير، يذكّرهم بخبز الشقاء الذي أكله آباؤهم في مصر بانتظار أن يأكلوا خبز الحرية. ويشرب الحاضرون على أربع دفعات كأساً من الخمر ليشكروا الله الذي حرّرهم: هي كؤوس "البركة". وتهيّأ كأس خامسة لا تُشرب: فالتحرير النهائي لم يتمّ بعد.
وخلال الطعام تقرأ أخبار مفسرّة عن خروج مصر، ويستعيد المشاركون مزامير التهليل (هلل، مز 113- 118). ويحتلّ الاولاد في هذه العشية مكانة هامة. فيسأل أصغرهم الوالدين تفسيراً لهذا العيد: "بما تختلف هذه الليلة عن الليالي الأخرى"؟ وتبقى المائدة ممدودة لكي تستقبل من لا مكان له لكي يحتفل بالعيد.
وإذ يحتفل المشاركون بهذا التحرير الذي منحه الله لشعبه يتساءلون: كيف يعملون ليستقبلوه اليوم؟ كيف يعملون لكي يتحقق حقاً في حياة الفرد وفي حياة الشعب؟ كيف يواصلون عبورهم من عالم الاستعباد إلى عالم الحرّية الحقة؟
إن خيانة يهوذا التي أشار إليها المقطع السابق طبعت التلاميذ بطابعها. فبحثوا طويلاً في الكتب المقدسة وفي أقوال يسوع عمّا يساعدهم على فهمها. كانت "وصمة أهلية" إستصعبت حملها مجموعةُ الاثني عشر. قال يوحنا في 13: 18- 19 إن يسوع كان عارفاً كل المعرفة بما يهيّأ له، وأنه نبّه تلاميذه مسبقاً.
"بعد أن تكلّم يسوع هكذا، اضطرب في أعماق نفسه". نجد هنا اللفظة عينها والشعور العميق الذي كان له أمام قبر لعازر واخته الباكية (11: 33)، امام ساعة موته هو (12: 27) أو من أجل أصدقائه حين علموا بأنه سيتركهم (14: 1- 27: لا تضطرب قلوبكم). "واحد منكم سيسلمني". سيرفضه واحد من الذين أعطاهم كل شيء. صار يسوع موضوع بغض. فيهوذا يريد أن يدمّره وهو سينجح في مهمته.
كان يوحنا قاسياً جداً ضدّ يهوذا على مدّ إنجيله. فيفهمنا أنه لم يتعلّق يوماً تعلقاً تاماً كالآخرين بالمسيح. ولكن هذا لم يدركه أحد إلا المسيح. قال بعد تكثير الارغفة: "غير أن فيكم من لا يؤمنون" (6: 64). فزاد يوحنا: "كان يتكلّم عن يهوذا بن سمعان الاسخريوطي، أحد الاثني عشر، الذي كان مزمعاً أن يسلمه" (6: 71). تكلّم يسوع بشكل خفي، وها هو يتكلّم الآن بشكل واضح. صُعق التلاميذ. وأراد بطرس أن يعرف.
في ولائم العيد، كان المدعوون يستلقون على أسرّة ويستند الواحد إلى كوعه الايسر ويأكل باليد اليمنى. والذي كان قريباً جداً من يسوع (متكئاً في حضن يسوع) سمّي "التلميذ الذي كان يسوع يحبّه". لا يذكر الإنجيل اسمه. يظهر هذا التلميذ في أماكن عديدة (19: 26؛ 20: 2؛ 21: 7، 20) على أنه التلميذ التلميذ، على أنه صورة عن الجماعة المؤمنة. ورأى فيه عدد كبير من الشرّاح يوحنا "أب" الجماعة التي وُلد فيها الإنجيل الرابع: وهذا ما يجعلنا نفهم التشديد على دوره وعلى علاقاته مع بطرس.
إن لقب "التلميذ الذي كان يسوع يحبّه" هو في خطّ الافكار الرئيسية في نص الإنجيل. فالميزة الجوهرية للتلميذ والتي منها تتفرّع سائر الميزات هي حاضرة في 15: 8- 9: "تكونون لي تلاميذ. كما أحبني الآب أحببتكم أنا أيضاً. فأثبتوا في محبتي". فكما يحب الآب الابن، وكما يحب الابن الآب، هكذا يحب المسيح تلاميذه وهم يحبونه. وبين يسوع والتلميذ نجد ذات الخط من العلاقات، ذات الحركة المتبادلة بين الآب ويسوع. وعبارة "في حضن يسوع" هي تلك التي نجدها في 1: 18 عن الابن الوحيد، ولا نجدها في مكان آخر. فالتلميذ هو كله تقبّل وجواب لكلمة المسيح وحبّه. إيمانه يجعله يفهم حالاً وبدون تأخر، يفهم بدقة وملء الفهم هذه المواقف أو هذه الكلمات التي تبقى مغلقة على الآخرين. في الصيد العجيب، عرف أن الواقف هناك "هو الربّ"، (21: 7). فإيمانه وتعلّقه بيسوع يعطيانه ما يسمى "الحاسة السادسة".
ولكن المدلول الرمزي لهذا التلميذ لا يمنع من أن يكون التلميذ شخصاً حقيقياً عاش برفقة يسوع، وكان قريباً جداً من يسوع. ولماذا لا يكون يوحنا قريب يسوع والمؤتمن على أمه بعد موته؟
ويريد بطرس أن يعرف. هو لا يقبل أن يبقى في الغموض بعد مثل هذا الاعلان الخطير الذي لا يفهمه. "واحد منكم سيسلمني". طلب من الذي هو بقرب يسوع لكي يستعلم. ما تكلّم بل أومأ إيماء. وأعطى يسوع جواباً خفراً لمن هو "على صدره"
إختار يسوع فعلة صداقة لا تشي بيهوذا أمام المجموعة. لم يفعل شيئاً يحكم به عليه. لم يضغط عليه، بل تركه حراً. ما أراد أن يدافع عن نفسه، بل نظر إلى البعيد. أما كان باستطاعته أن يقول كلمة ليهوذا، للمجموعة؟ هذا يبقى سرّ الله.
ويتحدّث النص اربع مرات عن "اللقمة" (آ 26، 27، 30): هي طعام المشاركة مع يسوع، وحبّ يقدَّم للتلميذ ويُعاد تقديمه مراراً. وحين أخذ يهوذا اللقمة انغلق بشكل نهائي واتجه نحو سلطان الظلمة.
كيف اختار يسوع يهوذا؟ هذا ما نستصعب فهمه حين ننظر إلى المشهد من وجهة يسوع ومن وجهة الذين معه. ولكن الأمور هي هكذا. لقد انطلق يهوذا في طريق آخر. خرج من هذا المكان الذي يضيئه نور المسيح وحبّه. لا يتكلّم الإنجيل عن البواعث الذاتية والسيكولوجية التي دفعته إلى مثل هذا العمل. قالت إن يهوذا ترك الشيطان يدخل فيه، استسلم لسلطان الظلمة الذي يريد موت المسيح.
حين نقرأ آ 29 نعود إلى 12: 5- 6 الذي يتحدّث عن مسؤولية الاهتمامات المادية التي سلّمت إلى يهوذا. اذن، لقد ذهب ليشتري ما تحتاج إليه المجموعة من أجل العيد، من أجل وليمة الفصح. ولكن ما هو ضروري من أجل الفصح الجديد لا يشترى في السوق. فحمل الفصح هو هنا. إنه يسوع مرسل الآب بجسده الذي يعطى لحياة العالم (6: 51). نستطيع أن نفكّر هنا بسؤال اسحق لأبيه إبراهيم (تك 22: 7- 8): "اين الحمل للذبيحة"؟ فجاء جواب إبراهيم: "الرب يهتمّ بالمحرقة... الرب يهتمّ على الجبل" (تك 22: 13- 14).
ما سوف يحدث يدعو إلى القرف، إلى الخوف. ولكن يسوع بقي هادئاً، بقي حرّاً. هو لا يخاف وهو عارف إلى أين يذهب. قال نعم لأبيه، وها هو يبذل حياته من أجل خرافه، من أجل شعبه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM