إنجيل يوحنا: كتاب الالآم والمجد : وصية جديدة

وصية جديدة
13: 31- 38

بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إذا كنتم تحبّون بعضكم بعضاً.
خرج الخائن فترك يسوع مع "أولاده الصغار" (آ 33). وجاءت لفظة "الآن" التي لا تعني فقط ذهاب يهوذا وحلول الساعة المرتبطة بالخيانة. فساعة يسوع تعني تمجيده (12: 23): على الصليب سيرتفع ويتمجّد. وسيستعمل فعل "مجّد" خمس مرات في آ 32- 33 ليدلّ على مسيرة يسوع التاريخية التي تجد ذروتها في الآلام. كما يدلّ على تمجيد يسوع في نهاية الأزمنة. لقد جمع الإنجيل مجد ابن الإنسان مع آلامه.
ويستعيد يسوع لتلاميذه كلاماً قاله مرَّتين لليهود: "حيث أذهب لا تستطيعون أن تأتوا" (7: 33- 34؛ 8: 21). ولكن سياق الكلام مختلف. فبالنسبة إلى اليهود، كان هذا الانفصال نهائياً بسبب خطيئتهم. أما بالنسبة إلى التلاميذ، فالغياب الضروري والذي يسبّبه ذهابه إلى الآب هو غياب موقت. قال لبطرس: "ستتبعني فيما بعد" (آ 36. هنا تلميح إلى موت بطرس). ويرافق هذا الغياب لفظة مليئة بالحبّ والعاطفة: "يا أبنائي الصغار". هناك وداع وهناك برنامج يجب أن ينفّذ: عليهم أن يحبّوا بعضهم بعضاً كما أحبّهم يسوع.
هو حبّ قوي لأن يسوع أحبّ حتى الغاية (13: 1). هو حبّ يتوجّه أولاً إلى المؤمنين. نلاحظ أن يسوع الذي أحبّ، عرض على تلاميذه تبادلاً لا بينه وبينهم (أحبوني كما أنا أحببتكم)، بل بين بعضهم بعضاً. نحن هنا على مستوى أفقي، لا عمودي: أحبّوا بعضكم بعضاً.
هو حبّ يتجذّر في حبّ الإبن للبشر. إنه حبّ يرتبط بالله، يكشف علاقة الحب بين الله الآب والابن، وهي علاقة نجدها في حياة يسوع وفي مواجهته للموت. وهو حبّ يكشف لنا سرّ يسوع الذي ما زال يحرّك الناس حتى بعد ذهابه: "بهذا يعرف الناس أنكم تلاميذي".
هي وصية جديدة. ليست بجديدة بمعنى أنها جاءت بعد سائر الوصايا. هي جديدة لأنها صفة الميثاق الجديد الذي يتكلّم عنه لوقا: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" (22: 40).
نحن هنا أمام خطبة وداع تتحدّث عن المجد، عن الوصية الجديدة، عن اتباع يسوع.
سمّيت ف 13- 17 مراراً "خطبة بعد العشاء السري". ولكن لا ننسَ أن يوحنا لا يورد خبر العشاء الأخير. انتمت هذه الفصول إلى فن أدبي معروف هو خطبة الوداع أو الوصية. نجد أمثلة عديدة عن هذا الفن في العهد القديم: وداع يعقوب لابنائه (تك 47: 29- 49: 33)، وداع موسى (سفر التثنية كله)، ويشوع (يش 23- 24) وصموئيل (1 صم 12). وفي الأسفار المنحولة: وصية ابراهيم، موسى، الاثني عشر... وفي العهد الجديد: لو 20: 31- 38 (يسوع وتلاميذه)؛ أع 20: 17- 38 (بولس وشيوخ أفسس).
تتضمّن كل هذه النصوص عناصر مشابهة. يحسّ شخص بموته القريب فيجمع أفراد عائلته أو أصدقاءه. يذكر أمامهم أحداثاً هامة حيّة، يعطي رأيه في ما حدث في زمانه، وفي طريقة تصرّف الناس شراً أو خيراً. ويقول إنه كان شاهداً لعمل الله وحضوره في التاريخ. ويدعو "أبناءه" لكي يتابعوا عمله ويمارسوا البر. ويحدّد عدداً من الترتيبات التي تساعد على المحافظة على عبادته الأخيرة. وفي نهاية هذه الأقوال نجد خبر موته ودفنه.
لماذا يدوّن التلاميذ خطبة معلّمهم الوداعية؟ هناك هدف عملي كاقتسام الخيرات التي تركها "الأب" بعد موته. وهناك أسلوب به يجعلون حضوره يمتدّ في وسطهم، فيجمعون تعليمه ويعلنون عن عزمهم بأن يتابعوا طريقة حياته. فبالنسبة إلى التلاميذ، ذاك الذي مضى يبقى حياً في وسطهم. هو يحيا من جديد في الذين جاؤوا بعده ووجدوا فيه ملهم حياتهم. وهم يجدون في هذه "الخطبة" كفالة بالمحافظة على وحدتهم تجاه الصراعات التي لا بدّ أن تولد، وبتجنّب الإنشقاقات في مجموعتهم.
كل هذا صحيح بشكل خاص بالنسبة إلى تلاميذ يسوع. فهم لا يكتفون بهذه الخطبة الوداعية بأن يذكروا التعليمات التي أعطاهم يسوع إياها. وهم لا يريدون فقط أن يعبّروا عن رغبتهم بأن يعيشوا الحب المتبادل والخدمة بعضهم لبعض ليتابعوا ما قام به يسوع. بل هم يؤكّدون إيمانهم: فيسوع يستمرّ حياً معهم بعطية الروح، وهو يعطيهم أن يحيوا ما تعبّر عنه هذه الكلمات.
لقد تمجّد ابن البشر، لقد ظهر مجده. فلكلمة مجد معنى غير الذي نعرفه في أيامنا. مجد الله هو جماله وغناه وسرّه العميق. وحين نمجّد شخصاً، نبرز جماله، نجعل الناس يعرفون قدره وكرامته الحقيقية وما يؤسّس شهرته.
المجد يدلّ على وزن الإنسان، على الاعتبار الذي يتمتع به. وتستعمل اللفظة في العهد القديم لتدلّ على الله وقدرته وحضوره الفاعل والناشط. قال أش 6: 3: "مجده يملأ السماء والأرض". وحين يتحدّث يوحنا عن مجد يسوع، فهو لا يعني "نجاحه" مهما كانت الظروف. فالمجد الذي يأتي من الناس غير ذاك الذي يأتي من الله (5: 41- 44؛ 12: 43). مجد يسوع هو موته وعودته إلى الآب. مجده هو ظهور حبه الذي يعيشه إلى الغاية.
"الآن" أظهر يسوع مجده. الآن أظهر آلامه وخدمته للبشر حين جعل نفسه في "الصفّ الأخير". وهكذا بانت هويته كابن الإنسان، بانت هوية الله الذي أوحى بذاته فيه. ومقابل هذا، سيكشف الله في يسوع ملء مجده فيقيمه من بين الأموات، ويجلسه فوق كل رئاسة وسلطان. وسيتمّ هذا في القريب العاجل. سيتمّ "الآن".
ولكن هذه النظرة إلى المجد وملء العطاء هي شكّ في عين العالم وجهالة للعقل البشري. فإن أردنا أن تكون هذه نظرتنا، وجب علينا أن نتبدّل جذرياً ونتعلّق تعلّق الإيمان التامّ بما يراه الله، وهذا ليس بالأمر السهل. هنا نتذكر ما قاله يوحنا في 12: 42- 43: "لم يجاهروا بإيمانهم، لأنهم فضّلوا مجد الناس على مجد الله".
وندخل في خطبة الوداع مع وآية المحبة. أرانا يوحنا يسوع كيف يعلن وصيته الأخيرة ويقوم ببعض الفعلات التي يريد أن يتذكّرها التلاميذ. فالانفصال يدعونا إلى البحث عن طريقة جديدة نرتبط فيها بيسوع ونحيا معه. الحلّ يكون بأن نتبع يسوع، نذهب معه. هذا ما أراده بطرس. ولكن ذهابه مستحيل الآن. سيذهب فيما بعد. أما الآن، فعليه أن يبقى هنا. والرباط الذي يعرضه يسوع عليهم هو: "كما أحببتكم أحبوا بعضكم بعضاً". هكذا يعرف الناس أنكم تلاميذه.
"كما أحببتكم، أنتم أيضاً أحبّوا بعضكم بعضاً". لسنا أمام اقتداء بسيط وخارجي. بل يجب أن نترك تيّار الحبّ يدركنا ويحوّلنا، هذا التيار الذي يأتي من الآب ويملأ المسيح وينعش حياة التلميذ. إنه تيار حيّ يعبر وينتشر ويحوّل العالم بعد أن يتجلّى الله فيه. "كما أحبّني الآب، أنا أيضاً أحببتكم" (15: 9). "كما أرسلني الآب، أنا أيضاً أرسلتكم" (20: 21). "كما أحببتكم أحبّوا أنتم أيضاً بعضكم بعضاً".
كما كانت الشريعة في العهد القديم علامة الميثاق، فهذه الوصية الجديدة، وصية الحبّ، هي علامة الشعب الجديد، وعلامة رباط التلاميذ بيسوع. فالحبّ هو رباطنا الوحيد معه، كما هو رباطه مع الآب. وهو يتضمّن تتميم إرادته. إذا أحببنا اتحدنا بيسوع، ثبتنا في الله لأن الله محبة (1 يو 4: 11- 16).
سيموت يسوع بعد أن قضى ثلاث سنوات مع تلاميذه. فعليهم أن يكتشفوا الكثير عنه. وعليهم أن ينظّموا الجماعة التي تدلّ على حضوره بعده. وستكون المشاكل عديدة. في البداية ينتظرون عودة الرب القريبة ولا يريدون تأخيراً. نحن نفهم موقفهم. ثمّ يكتشفون شيئاً فشيئاً أن يسوع يطلب منهم أن يتدبّروا أمورهم "معه وبدونه" خلال فترة طويلة من الزمن. وهو يعطيهم الوسائل بشكل يختلف عمّا كان يفعل حين كان معهم على الأرض. سيتحدّث يوحنا عن دور الروح القدس فيما بعد. أما الآن فهو يجمل كل شيء في وصية المحبة العظمى.
ليس الهدف أن يبقوا معه. إنهم تلاميذ من أجل العالم. هم يُرسلون كما أرسل يسوع ليعطوا الحياة للبشر ويكشفوا لهم وجه الآب. يجب أن يعيشوا الوصية الجديدة ليتقبل العالمُ المعلّم بواسطتهم (13: 20، 35). إن لم يكونوا وإياه جسداً واحداً، إن لم يثبتوا فيه، فماذا سوف يقدّمون للبشر؟ أي حب سيكون حبهم؟ أن عمل سيكون عملهم (1 يو 3: 18)؟
أراد بطرس منذ الآن أن يتبع يسوع، ورفض الانفصال الذي يفرضه يسوع عليه. أراد أن يتبعه حالاً، أن يتبعه وحده. لم يتخيّل أنه مدعوّ لكي يتبعه عبر الحياة في الجماعة وممارسة الوصية الجديدة.
هذا ما يدلّ على تعلّق كبير بيسوع. ولكنه يدلّ أيضاً على رفض بأن نكون قرب يسوع كما يريد هو. فالرغبة بأن نكون بكليتنا مع يسوع لا تكفي. يجب أن نتكيّف مع ما يعرضه يسوع علينا. وهذا يفترض عدداً من التنقيات والتضحيات.
يسوع وحده هو من يفتح الطريق، من يفتح للبشر أبواب الحياة وعطيّة الروح. إنه يؤكد على ضرورة التأخير لكي يتبعه الرسل بالجسد، يؤكد على المسافة وعلى الوساطة لكي يتبعوا يسوع الآن. فالتعلّق الحاضر بيسوع يمرّ عبر الجماعة التي يؤسّسها، يمرّ بالإيمان (عن بعد) بيسوع وبوصية المحبة.
كان يسوع بجسده هنا قرب بطرس، فاستطاع بطرس أن يتبعه دون أن يفهم، أن يتبعه بدافع الصداقة. وحين يبدأ زمن الانفصال، لن يستطيع أن يتهرّب من التزام الإيمان. وهو سيقوم بهذه الخطوة في الوقت المحدّد. سيتبع يسوع ولكنه كما سبق وقرّر بنفسه. متى شاخ سيمدّ يديه وآخر يمنطقه ويذهب به إلى حيث لا يشاء (21: 18). هذه هي الميتة التي بها سيمجّد بطرس الله (آ 19).
نستطيع أن نواصل دراسة ف 13 هذا، فنعيد قراءة ف 6، لأن هذين الفصلين يستضيئان الواحد بالآخر. فنحن هنا وهناك أمام عمل يرتبط بالفصح القديم، بالفصح اليهودي (6: 4؛ 13: 1). أمام عمل خدمة للناس لكي ينالوا الحياة. أمام خلق شعب الله الجديد والجماعة الجديدة. أجلسهم يسوع إلى المائدة وبدأ يخدمهم (6: 11، 33). خدمَهم وهو الذي جعل الآب في يديه كل شيء، وهو الذي جاء من الله (13: 3). ومن خلال هذين العملين، تكثير الأرغفة وغسل الأرجل، أعطى حياته لهم (6: 51- 54؛ 13: 1). وأعطى الوصية الجديدة التي هي طعام وكلمة، أعطى شرعة الجماعة الجديدة التي تحلّ محلّ شريعة سيناء (6: 63، 68؛ 13: 34- 35). يجب أن يعمل هذان العملان في الجماعة. من لا يقبل عطية الابن لا تكون له الحياة (6: 53- 54). من لا يقبل خدمة محبة المسيح لن يشاركه في الميراث. أما من يتبع مثاله فطوبى له (13: 8، 17). رفض يسوع أن يتجاوب مع رغبات البشر الذين يريدون أن يقيموه ملكاً. لقد أراد أن يكون العبد والخادم، وهذا ما يشكّك البشر (6: 15؛ 13: 7- 8). هذا ما يجب أن تتقبّله الجماعة. وسنجد تلاميذه الذين يفرّون ويتركونه (6؛ 60، 66؛ 13: 18، 21). لقد مرّ هؤلاء التلاميذ في المحنة لكي يستطيعوا أن يتبعوه (6: 60- 67؛ 13: 33- 36).
إن يسوع "سيترك" التلاميذ. وخلال غيابه دعاهم إلى لقائه في "الخدمة" وفي ممارسة وصيّة المحبّة. هكذا نكون مع شركة معه. هكذا نكون متحدين به. فماذا تعني لنا هذه الدعوة؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM